قال رحمه الله: باب: فضل الصلاة لوقتها:
عقد هذا الباب لفضل الصلاة في وقتها، ومعنى لوقتها؛ أي: عند دخول وقتها المشروع، والمقصود بذلك لأفضلية أول الوقت؛ ولأن الصلاة في أول وقتها من أفضل الأعمال والقربات التي يتقرب بها إلى الله تعالى.
فقال فيه: (وعنه رضي الله عنه)؛ أي: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ( سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قال: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين، قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قال: حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو استزدته لزادني )، هنا يسأل ابن مسعود رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ والمقصود بذلك: أيه أكثر ثوابًا عنده والأقرب إلى مرضاته؟ والمقصود بالعمل هنا: العمل الصالح الذي يبتغى به وجه الله.
والأعمال تنقسم إلى ثلاثة أقسام: إلى أعمال القلب، وأعمال اللسان، وأعمال الجوارح، والصلاة تجمع هذه الأعمال كلها؛ فلذلك كانت أفضل من غيرها من العبادات، ففرضها أفضل من فرضهن، ونفلها أفضل من نفلهن، وليس المقصود بالفضلية الإطلاق بأن يكون نفلها أفضل من فرض غيرها، بل المقصود أن كل جنس أفضل من جنسه فقط من أنواع القربات، فالصلوات الخمس أفضل من الفرائض الأخرى، ونوافل الصلاة أفضل من نوافل غيرها، والمقصود بذلك عندما لا يتحدد الوقت لنفل محدد، أما إذا حدد الوقت لنفل محدد فإنه يكون المطلوب فيه أفضل من غيره، كأذكار ما بعد الصلاة، إذا صليت صلاة من الفرائض فهذا الوقت الذي بعدها مخصص لنفل مخصوص، وهو أذكار ما بعد الصلاة، فالأفضل أن تأتي بهذه الأذكار، وهي أفضل من نفل الصلاة أن تقوم فتتطوع بنافلة، ومثل ذلك وقت أذكار الصباح والمساء وغير ذلك من الأوقات التي خصصها الشارع لنفل آخر؛ أي: لقربة أخرى، فتكون تلك القربة المخصصة أفضل من القربة العامة ولو كانت صلاة.
فلذلك سأل ابن مسعود هنا النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها؛ أي: أداء الصلاة على وقتها، وهذا مطابق للترجمة؛ فإن المؤلف ذكر فضل الصلاة لوقتها؛ أي: عند دخول وقتها، وقد سبق أن اللام تأتي بمعنى: (عند)، وتأتي للابتداء مثل قول الله تعالى: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1]؛ أي: عند استئناف عدتهن بأن يكون الطلاق في طهر لم يمسها فيه، فإذا كان في طهر قد مسها فيه أو في حيض فليس لعدتها؛ لأنها لا تبتدئ عدتها حينئذ، وهذا يدل على أن المقصود بها الفرض لا النفل؛ لأن النفل ليس له تحديد لهذا الوقت كأوقات الفرائض.
قال: ثم أي؟ أي: قال ابن مسعود لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ثم أي؟ أي: ثم أي القربات بعد أحب إلى الله تعالى بعد الصلاة؟ قال: ثم بر الوالدين، فبين أن أفضل العمل وأحبه إلى الله بعد الصلاة بر الوالدين، وبر الوالدين بمعنى الإحسان إليهما، وهي تشمل الإحسان بالقول، والإحسان بالعمل، فقد ذكرهما الله معًا في قوله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:23-24]، فقد فسر الإحسان هنا بخمسة أمور: أربعة أقوال وفعل واحد، فالأقوال الأربعة هي:
قوله: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء:23]، هذا قول وإن كان منفيًا، وَلا تَنْهَرْهُمَا [الإسراء:23]، وهذا كذلك المنفي هنا بالنهر، وهو بالقول أيضًا، وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا [الإسراء:23]، وهذا القول المثبت، والقول الكريم مقابل للنهر والتأفيف، وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24]، هذا القول الرابع، وهو الدعاء لهما سواء كانا حيين أو بعد موتهما.
وأما الفعل فهو قوله: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء:24]، فلابد أن يرحمهما الإنسان وأن يتواضع لهما، وهذا معنى خفض الجناح لهما، وأن يكون خفض الجناح لهما برحمته بهما وعنايته بشئونهما، ويتأكد ذلك عند كبرهما؛ لأنه قال: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا [الإسراء:23]؛ لأنه وقت حاجتهما، فما داما قويين قائمين بشأنهما فبرهما واجب، ولكن مع ذلك يزداد وجوبه ويزداد فضله عندما يضعفان عن أداء مهامهما، ويحتاجان إلى من يقويهما ويتولى بعناية شئونهما، فحينئذ يأتي وقت الحاجة إلى الأولاد، ووقت الحاجة إلى البر؛ فالوالد سعى للحصول على الولد من أجل الامتداد في عمره، ومن أجل عونه عندما يحتاج إليه، وإذا فرط في ذلك فقد خاب أمل الوالد الذي سعى إليه منذ زمن طويل؛ ومن هنا قال أمية بن الأسكر رضي الله عنه، وقد كان شيخًا كبير السن، فلما دعا أبو بكر رضي الله عنه لغزو الشام والعراق أرسل كبار المهاجرين يدورون في أحياء العرب، يجهزون الناس للجهاد ويحضونهم عليه؛ فخرج سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله إلى مكة والطائف، فشجعا كل من يستطيع الجهاد على أن يذهب إلى المدينة؛ ليلتحق بالجيوش التي يجهزها الصديق للغزو، فخرج ولدا أمية هذا، وهو شيخ كبير السن قد بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذا رعشة؛ أي: يرتعش في أطرافه من كبره، وكان أبر أولاده كلاب، هو أحبهم إليه، فخرج إلى الجهاد فقال أمية شعرًا يقول فيه:
يا أم هيثم ماذا قلت أبلاني ريب الزمانِ وهذان الجديدان
إما تري حجري قد رك جانبه فقد يسرك صلبًا غير كذان
أو ما تريني لا أمضي إلى سفر إلا معي واحد منكم أو اثنان
ولست أهدي بلادًا كنت أسكنها قد كنت أهدي بها نفسي وصحباني
يا ابني أمية إني عنكما غاني وما الغنى غير أني مرعش فاني
يا ابني أمية إلا تشهدا كبري فإن نأيكما والثكل مثلان
إذ يحمل الفرس الأحوى ثلاثتنا وإذ فراقكما والنأي سيان
أمسيت هزءًا لراعي الضأن أعجبه ماذا يريبك مني راعي الضان
انعق بضأنك في نجم تحفره من المواضع واحبسها بجمدان
إن ترعَ ضأنًا فإني قد رعيتهم بيض الوجود بني عمي وإخواني
فبلغ هذا الشعر عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته- في أول خلافته- فأرسل فجيء بـأمية- وهو شيخ كبير- فسأله: ماذا كان يصنع بك ابنك كلاب؟ فقال: كان يغسل ضرع ناقة هي أحب إبلنا إليَّ، ويغسل الإناء ويحتلبها، ثم يمسكه علي حتى أشرب منه، فأرسل عمر فجيء بـكلاب من القادسية، فلما جيء به كتمه عن أبيه، وأمره أن يفعل ما كان يفعل، فغسل ضرع الناقة واحتلبها، فأمسك عمر الإناء على أمية حتى شرب منه، فلما ذاقه قال: حلب كلاب ورب الكعبة! فعرفه، فأمره عمر أن يلزمه حتى يموت وألا يفارقه.
فلذلك يحتاج الوالدان إلى معية أولادهما، وإلى العناية بهما عند كبر السن وتقدم العمر، وذلك هو البر المقصود هنا، وهذا البر أضافه إلى الوالدين وهو صريح فيهما، وهما اللذان يليان الإنسان؛ أي: أبوه وأمه، لكن مع ذلك قد يتعداهم البر كمن له أجداد، فالأجداد برهما أيضًا مثل بر الوالدين، والخال والخالة كلاهما والد أيضًا؛ ولذلك سمى الله الخالة بذلك في قصة يوسف عليه السلام: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا [يوسف:100]؛ أي: رفع أباه وخالته، وفي الحديث: ( الخال والد )؛ فلذلك يلزم برهما أيضًا، ومثل ذلك الأعمام؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبر العباس بن عبد المطلب ويقول: ( إن عم الرجل صنو أبيه )، والصنو معناه: الذي نبت مع غيره من أصل واحد، إن عم الرجل صنو أبيه، ويشمل ذلك الأقربين عمومًا، فقد أمر الله بإيتائهم كما قال تعالى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى [النحل:90]، فكل قرابات الإنسان يجب إيتاؤهم؛ أي: إعطاؤهم مما آتاه الله؛ ولذلك قال البخاري رحمه الله في تعريف صلة الأرحام، قال: صلة الرحم إشراك القرابات في كل ما أوتي من أنواع الخيرات، ولا شك أنهم متفاوتون بحسب القرب؛ لأن: ( النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله الرجل عن أحق الناس بحسن صحابته؟ فقال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أباك ثم أدناك فأدناك )، فالأدنى؛ أي: الأقرب فالذي يليه كل على حقه.
وهذا البر يشمل الوالدين المسلمين وغيرهما، لكن الوالدين المسلمين برهما آكد؛ لما لهما أيضًا من التقدم في الإسلام والحق فيه، والوالدان غير المسلمين يطاعان فيما يتعلق بشأنهما ومعاشهما، ولكن لا يدخل في ذلك طاعتهما إذا أمرا بمعصية؛ لأن الله تعالى يقول: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15]، وكذلك لو كانا فاسقين فإنهما يطاعان في ما ليس بفسق، فإذا طلبا من الإنسان أمرًا محرمًا لا يحل لهما تناوله فإنه لا يطيعهما في ذلك، ولكنه يتلطف بهما ويرفق بهما، ويحاول نصحهما بالمعروف كدعوة إبراهيم عليه السلام لأبيه؛ فإنه قال له: يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا [مريم:44-45]، وعندما أقام عليه الحجة قال: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا [مريم:43]، فلم يقل: يا أبت أنا نبي مكلم خليل، وأنت جاهل كافر، بل قال: إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ [مريم:43]، فلم ينف أن عنده علمًا: قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ [مريم:43].
وبر الوالدين من خصائصه في القربات أنه لا يدخله الرياء ولا التسميع؛ فالقربات أفضلها دائمًا ما كان يخفيه صاحبه ويخلص فيه لله، ولا يطلع عليه الناس، لكن بما أن بر الوالدين فيه حق للغير؛ أي: حق لغير الله سبحانه وتعالى وهو المخلوق وهما الوالدان؛ فلذلك اطلاعهما عليه، والتحبب إليهما والتقرب لا يفسد الإخلاص فيه لله سبحانه وتعالى، فهو ليس مثل الصدقة التي تخفيها حتى لا تعلم شمالك ما تنفق يمينك، ولا تريد أن يعلم حتى آخذها لا يعلم من الذي أعطاه، فذلك أفضل فيها، لكن بر الوالدين من المهم أن يعلما أنك أنت الذي فعلت ما يرضيهما، وأنك أنت الذي تقربت إليهما بهذا، ولا ينقص ذلك أجرك، فليس من الرياء، ولا من السمعة المذمومة.
وهنا أطلق لفظ (الوالدين) وهو تثنية (والد) وهو الفاعل، وفي الحياة الدنيا يقطع بأن الأم والدة، وأما الأب فقد لا يستطيع الإنسان القطع بذلك؛ لأن النسب مبني على الستر والدرء، ولكنه ينكشف يوم القيامة؛ ولذلك قال الله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ [البقرة:233]، فهنا قال: (والوالدات) للجزم بأنها هي التي ولدت ولدها، وقال: (وعلى المولود له) ولم يقل: وعلى الوالد، بالستر والدرء، لكنه في القيامة ينكشف الأمر، كما قال الله تعالى: يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا [لقمان:33]، فحينئذ ذكر أنه هو الوالد؛ لأن الأمر قد انكشف على حقيقته.
( قال: ثم أي؟ أي: قال ابن مسعود لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ثم أي؟ أي: ثم أي الأعمال أفضل بعد بر الوالدين؟ قال: الجهاد في سبيل الله )، فأفضل الأعمال بعد الصلاة وبر الوالدين وهما من النوع الأول من أنواع التكاليف الذي يبلى يوم تبلى السرائر والإنسان فيه على نفسه بصيرة الجهاد، وهو من النوع الثاني من التكاليف؛ فالتكاليف كلها تنقسم إلى قسمين: إلى تكاليف خاصة يؤديها الإنسان في خاصة نفسه وهو مسئول عنها تبلى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [الطارق:9]، والإنسان فيها على نفسه بصيرة كصلاته وصيامه وطهارته؛ ولذلك قال ابن عباس في تفسير قول الله تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [الطارق:9]، قال: هي الجنابات، فالجنابات؛ أي: الطهارة هي من السرائر التي تبلى يوم القيامة؛ لأن الإنسان هو المؤتمن عليها والمسئول عنها، فهذا القسم الأول من التكاليف ذكر منه مثالان هنا، وهما: الصلاة، وبر الوالدين، الصلاة على وقتها، وبر الوالدين.
والنوع الثاني من أنواع التكاليف هو: التكاليف العامة التي يقصد وقوعها بغض النظر عن موقعها، هذا الفرق، فالقسم الأول يقصد وقوعه، ويقصد أن يقع من كل أحد، كل أحد يطلب أن تقع منه الصلاة، وأن يقع منه بر والديه، وأن تقع من تكاليفه المختصة، لكن ما يتعلق بفروض الكفايات لا يطلب وقوعها من كل أحد، لكن يطلب أن تقع، فالمقصود وقوعها لذاتها، كما قال السيوطي رحمه الله:
فرض الكفاية مهم يقصد ونظر عن فاعل يجرد
معناه: المهم حصوله بغض النظر عن فاعله.
وهذا النوع منه الجهاد في سبيل الله، والجهاد معناه بذل الجهد لإعلاء كلمة الله، أن يبذل الإنسان جهده لإعلاء كلمة الله، والجهد معناه الطاقة، وكل إنسان له طاقة هي ما وهبه الله تعالى من التصرف، فقد يكون لدى الإنسان طاقة في جسمه، وقد يكون لديه طاقة في ماله، وقد يكون لديه طاقة في الرأي والعقل والتدبير، وقد يكون لديه طاقة في الإعلام والتعبير، وكل طاقة يجب بذلها في سبيل الله، فإذا بذلها الإنسان فذلك هو جهاده، وهو قطعًا من الجُهد لا من الجَهد؛ فالجَهد معناه: المشقة، وأما الجُهد: فمعناه الطاقة، وكثير من الناس لا يميز بين الجُهد والجَهد فيقول: بذلت جَهدي من أجل كذا، ومعنى هذا أنه بذل المشقة، والمشقة لا يبذلها أحد، فهذا من الغلط البين، فلابد من التفريق بين الجُهد والجَهد، فالجَهد مثل: انحباس المطر وحصول القحط في الأرض، كما في الحديث: ( إنكم شكوتم جدب دياركم واستئخار المطر عن إبان زمانه، وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم )، وفي حديث عائشة ثم قال: ( الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم، أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغًا إلى حين، اللهم، إن بالعباد والبلاد والخلائق والبهائم من اللأواء والجَهد والضنك ما لا نشكوه إلا إليك )، (من اللأواء والجهد والضنك ما لا نشكوه إلا إليك) وهو الضيق في المعاش، وغلاء الأسعار، وتوقف الأمطار، فكل ذلك داخل فيما ذكر من الجَهد؛ أي: المشقة.
وفعل الأول- أي: الجُهد- فعله (جهد فلان) في الأمر؛ أي: اجتهد فيه يجهد، فتقول: جهدت في أن أصل إلى المكان الفلاني معناه: بذلت كل جهدي وطاقتي من أجل الوصول إليه.
(فرأيتني أجهد أن أحمله) الحديث، أجهد معناه: أبذل كل جهدي وطاقتي من أجل أن أحمله، أما (جَهد) بالفتح فمعناها جهد غيره؛ أي: أتعبه وأثقل عليه، ومنه حديث الجنابة: ( إذا جلس بين شعبها الأربع وجهدها فقد وجب الغسل )، (وجَهدها) معناه: أتعبها؛ فهي من الجهد الذي هو الشدة.
والجهاد في سبيل الله حق لله سبحانه وتعالى على كل من آمن به، وهو مقتضى بيعته التي عقدها بينه وبين المؤمنين به، وهي بيعة أكدها في التوراة والإنجيل والقرآن، وقال فيها: إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111]، وقراءة الجمهور تقديم (فيقتلون) وبعدها (ويُقتلون)، وقراءة الكسائي بالعكس (فيُقتلون ويَقتلون)، والقراءتان تدلان على أن الشهادة في سبيل الله مقصودة بذاتها، وهي هدف من أهداف الجهاد؛ ولذلك قال الله تعالى: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140]، فإذًا ذلك هدف، فلا تظن أنه يقصد ألا يقتل أحد من المسلمين في سبيل الله، وأن يقتل الأعداء فقط دون مقابل، فليس ذلك هدفًا بل القصد: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140]؛ ولذلك قراءة الكسائي صريحة في هذا (فيُقتلون ويقتلون) فبدأ بقتلهم قبل قتلهم لغيرهم.
والجهاد في سبيل الله بالمعنى في ملته ودينه، فسبيل الله هو ملته ودينه ومنهاجه، فيشمل ذلك ما يتعلق بالإيمان به، كدعوة الكفار لإدخالهم في الدين وجهادهم على ذلك، ويشمل أيضًا ما دون ذلك: كجهاد أهل المعاصي بتغيير منكرهم ودعوتهم إلى الاستقامة، فكل ذلك داخل في الجهاد أيضًا لأنه من سبيل الله، فسبيل الله يشمل الإيمان به، ويشمل طاعته في ما دون ذلك.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تقسيم الجهاد إلى أربع عشرة درجة، أربع منها لجهاد النفس، واثنتان لجهاد الشيطان، وأربع لجهاد المنافقين، وأربع لجهاد الكافرين، فالأربع التي في جهاد النفس هي: جهادها أولًا على تعلم ما أمر الله به، فهو لا بد أن يقتضي من الإنسان أن يبذل جهدًا وأن يصبر، فإذًا هذا الجهاد على التعلم، ثم بعده مرتبة أخرى وهي: جهادها على العمل بما تعلمته، ثم بعد ذلك مرتبة ثالثة وهي: جهادها على الدعوة إلى ما تعلمته وعملت به، ثم بعد ذلك مرتبة رابعة وهي: جهادها على الصبر على طريق الحق حتى يلقى الإنسان ربه، فالإنسان مبتلًى على هذا الطريق من بنيات الطريق كما مثل النبي صلى الله عليه وسلم الطريق بلاحب بين سورين، وفي السورين أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور، وفوق السورين داعي الله، وفي كل باب داع يدعو إليه، وفوق السورين داعي الله ينادي: يا عبد الله، لا تلج الباب؛ فإنك إن تلجه لن تخرج منه، فالإنسان مبتلًى على طريق الحق بكثير من النكبات والأزمات التي يصرف الله بها من شاء صرفه، فلابد أن يصبر الإنسان، وأن يحتسب على ما يلقاه؛ ولذلك قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:1-3]، وفي هذه الآيات يقول الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ [العنكبوت:10]، فإذًا لا بد من جهادها على الصبر على طريق الحق، وهذه الأربع هي التي تضمنتها سورة العصر فقد قال فيها الشافعي: (لو لم ينزل من القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم إلا سورة العصر لكفت حجة على الناس) وهي أيضًا وصية لقمان لابنه، كما قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، وهذا تعليم، ثم قال: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ [لقمان:17]، وهذا العمل، ثم قال: وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ [لقمان:17]، وهذه الدعوة، ثم قال: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان:17]، وهذا الصبر على طريق الحق، وهذه أربع مراتب في جهاد النفس.
ثم جهاد الشيطان في مرتبتين:
المرتبة الأولى: جهاده فيما يلقيه من الشبهات، والمرتبة الثانية: جهاده فيما يلقيه من الشهوات، والشبهات تنقسم إلى قسمين: إلى شبهات في التعامل مع الله، وشبهات في التعامل مع الناس، فالشبهات في التعامل مع الله تنقسم إلى قسمين: إلى شبهات عقدية، وشبهات تعبدية، فالشبهات العقدية، ما يلقيه الشيطان من الوساوس على الإنسان كما في الحديث فيقول له: ( هذا خلقه الله فمن خلق الله؟ حتى يظل حائرًا )، فهذا من الوسواس في العقيدة، والنوع الثاني من الشبهات في التعامل مع الله هو الشبهات في العبادات، كما يلقيه الشيطان على الإنسان من الوساوس في طهارته وصلاته، وغير ذلك من القربات، فهو لا ييئس منه، يسعى أولًا لإدخاله في الشرك، فإذا عجز حاول معه ترك الفرائض، فإذا عجز حاول معه الوقوع في الفواحش والكبائر، فإذا عجز حاول معه الانشغال ببعض الفرائض عن بعض، فإذا عجز عن ذلك حاول معه الاشتغال بالمندوبات والسنن عن الفرائض، فإذا عجز عن ذلك حاول معه ترك السنن والمندوبات، فإذا عجز حاول معه الاشتغال بالمكروهات، فإذا عجز حاول معه الاشتغال بخلاف الأولى، فإذا عجز عن ذلك حاول إعجابه بنفسه، فإذا عجز عن ذلك حاول احتقاره لنفسه؛ فإعجابه بنفسه مقتض لأمن مكر الله، واحتقاره لنفسه وعبادته مقتض لليأس من رحمة الله، وكلاهما مذموم شرعًا؛ فقد قال الله تعالى: وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87]، وقال تعالى: قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر:56]، وكذلك أمن مكر الله، كما قال الله تعالى: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99].
والنوع الثاني من أنواع الشبهات: الشبهات في التعامل مع الناس، وهي أيضًا تنقسم إلى قسمين: إلى إفراط وتفريط، فالإفراط هو: المبالغة في تقديرهم حتى يعطيهم ما ليس لهم من الحقوق، وترون بعض الناس يفرط في بعض الناس حتى في الأنبياء وفي غيرهم من الصالحين، فيعطيهم بعض الصفات الإلهية مثلًا، يعطيهم ما ليس لهم؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم )، فهذا النوع هو من الإفراط والمبالغة، وهي كلها من إلقاء الشيطان ومن شبهاته.
ثم النوع الثاني: هو بالتفريط في حقوقهم والتقصير فيها، ونقصهم وتبخيسهم، والطعن فيهم وذمهم واحتقارهم، وكل ذلك من التفريط فيهم، وهو أيضًا من إلقاء الشيطان، وهو من الشبهة في التعامل مع الناس، وهذا النوع من جند الشيطان- وهو الشبهات- لا يردها إلا جند من جنود الله هو الذي تجاهد به وهو اليقين، ومعنى اليقين: أن ينطلق الإنسان من الدليل، وأن يعتمد على الوحي، فإذا كان لا يتكلم إلا عن علم، ولا ينطلق في أي موقف إلا عن بينة فإنه لا تنطلي عليه هذه الشبهات كلها، فإذا ألقى عليه إبليس أي شبهة وجده منطلقًا من أرضية صلبة وهي الدليل: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111]، فحينئذ تتحطم الشبهات عنه بالكلية.
أما النوع الثاني أو المرتبة الثانية من جهاد إبليس فهي: جهاده فيما يلقيه من الشهوات، والشهوات قسمان: شهوات حسية، وشهوات معنوية، فالشهوات الحسية: كشهوة البطن، والفرج، ونحوهما، والشهوات المعنوية: كحب الظهور، وحب الرئاسة، وحب الانتقام، وحب الشهرة، وغير ذلك من الشهوات التي هي شهوات معنوية، وهذا الجند من جنود إبليس إنما يرده جند من جنود الله يجاهد به وهو الصبر، فمن تحلى بالصبر لم تقو عليه الشهوة؛ لأن الصبر ثلاث شعب هي: الصبر عن معصية الله، والصبر على طاعة الله، والصبر على قضاء الله وقدره، وإذا تحلى الإنسان بالصبر استطاع أن يكبح جماح نفسه باتباع الشهوات؛ ولذلك إذا جمع الإنسان بين الصبر واليقين نال الإمامة في الدين، قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].
وجهاد المنافقين أربع مراتب أيضًا؛ لأنه يشمل: جهادهم بالقلب ببغضهم والبراءة منهم ومما هم عليه، ويشمل: جهادهم باللسان برد أباطيلهم وافتراءاتهم وزخارفهم وشبهاتهم، وجهادهم بالمال بإنفاقه في سبيل ردهم إلى الدين، أو بإنفاقه في سبيل جهادهم ورد مؤامراتهم وكيدهم، وجهادهم باليد بتغيير منكراتهم.
وأما جهاد الكفار فهو أيضًا أربع مراتب هي: جهادهم بالقلب ببغضهم والبراءة منهم، وجهادهم باللسان برد افتراءاتهم ودعوتهم إلى الحق، كما قال الله تعالى في ذكر القرآن: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان:52]، (جاهدهم به)؛ أي: بالقرآن (جهادًا كبيرًا) وذلك برد أباطيلهم وافتراءاتهم وتكذيب مفترياتهم، فهذا من جهادهم باللسان، ثم جهادهم بالمال ببذله لهم لتأليفهم على الدين، وببذله أيضًا في سبيل جهادهم ورد باطلهم.
ثم جهادهم باليد بالغزو، وهو ينقسم إلى قسمين: إلى جهاد دفع، وجهاد طلب، فجهاد الدفع هو: ما إذا صال الكفار على المسلمين وغزوا بلدًا من بلدانهم؛ فيجب على المسلمين حينئذ دفعهم وردهم عن بيضة الإسلام، والوقوف في وجوههم، ومن جهاد الدفع أيضًا المرابطة في الثغور، فرباط الإنسان في الثغر هو من جهاد الدفع، أن يبقى دائمًا في وجوه العدو ينتظر مؤامراتهم، كالذي هو ممسك بعنان فرسه، كلما سمع هيعة طار إليها، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فضل الرباط في سبيل الله، فذكر أن المرابط لا يختم على عمله ويأمن الفتان: ( ما من ميت يموت إلا ويختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله؛ فإنه لا يختم على عمله، ويأمن الفتان )، (لا يختم على عمله) ما معناها؟ معناها أن كل عامل في الحياة بموته ينقطع تكليفه فلا يزداد عمله بعد موته إلا من خلال الوجوه القليلة المحصورة التي بينها في قوله: ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث )، أما المرابط في سبيل الله فإنه لا يختم على عمله، فإذا جاء وقت الصلاة كتب في المصلين، وإذا جاء وقت الصوم كتب في الصائمين، وإذا جاء وقت الإنفاق كتب في المنفقين، وإذا جاء وقت الذكر كتب في الذاكرين، وإذا جاء وقت التلاوة كتب في التالين، وهكذا فعمله لا يختم عليه أبدًا، (إلا المرابط في سبيل الله) (ويأمن الفتان) فإنه لا يفتن عند موته، أو لا يفتن أيضًا في قبره، فلا يسأله منكر ونكير، ولا يفتن عند الموت، وهي فتنة المحيا، وهي أن يأتيه الشياطين عند الموت فيقولون: مت على دين اليهودية، مت على دين النصرانية، مت على دين المجوسية، وهذه فتنة المحيا يتعرض لها الناس، والمرابط في سبيل الله لا يتعرض لها، فلا يفتن فتنة المحيا، ولا يفتن فتنة الممات؛ لأنه قال: ( ويأمن الفتان ).
وأما جهاد الطلب فهو: الغزو إلى الكفار في دارهم، وإذا كانت دولة الإسلام قائمة منتظمة فيجب مرتين في السنة؛ أي: يجب في الشتاء وفي الصيف، وتسمى الفرقة التي تخرج في الشتاء (شاتية)، والتي تخرج في الصيف (صائفة)، وتجدون ذلك في تاريخنا المجيد- تاريخ الإسلام- عندما كانت دولة الإسلام في أوجها وقوتها إذا ألف المؤلفون في التاريخ تجدون من قاد الشاتية ومن قاد الصائفة في هذا العام، ولترجعوا مثلًا إلى كتاب تاريخ خليفة بن خياط، وهو من أقدم التواريخ الموجودة لدينا الآن خليفة بن خياط وهو شباب وهو شيخ البخاري، وكتابه التاريخ مطبوع، وهو مجلد واحد، وفيه في كل عام يذكر من أقام الحج للناس من الأمراء، ومن قاد الشاتية، ومن قاد الصائفة في كل عام، فهذا هو جهاد الطلب؛ أي: الغزو لدعوة الناس إلى الإسلام، وقتال من امتنع وحال بينهم وبين الاستجابة للدعوة.
قال: (حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: قال ابن مسعود (حدثني بهن)؛ أي: بهذه الأمور الثلاثة أنها أفضل الأعمال وأحبها إلى الله (حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم) (ولو استزدته لزادني) لو استزدته معناه: لو طلبت منه الزيادة لزادني؛ أي: لبين لي ما بعدها في الفضل، وذلك يدل على أن السائل عليه ألا يلح؛ لئلا يضجر، فـابن مسعود سأل في المرة الأولى فأجابه، ثم قال: ثم أي؟ فأجابه، ثم قال: ثم أي؟ فأجابه، لكن لو زاد على ذلك لأدى هذا إلى الإضجار والملل؛ وذلك ليس من هدي طالب العلم، فمن شأنه إذا سأل أن يكتفي بالثلاث، وألا يتعدى ذلك؛ لئلا يضجر منه من يسأله، وكذلك يدل على أن من المعلوم من خلق النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يضجر بطلب العلم ولا بالسؤال عنه؛ ولذلك يندب أيضًا للعالم ألا يضجر عند الطلب كما كتب عمر بذلك إلى أبي موسى الأشعري فيما يتعلق بكلام الخصوم بين يديه ألا يضجر به، فكذلك العالم مطلقًا لا ينبغي أن يضجر بالطلب؛ لأنه يؤدي وظيفته، وهو يرجو الثواب في ذلك عند الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا قال: (ولو استزدته لزادني).
والحديث يدل على فضل الصلاة على وقتها، وأنها هي أحب الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى، وقد يكون ذلك في حق بعض الناس دون بعض، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سئل في كثير من المشاهد عن أفضل الأعمال فذكر بعض الأمور، ثم يسأل في موقف آخر عن أفضل الأعمال فيذكر غيره، والجمع بين ذلك أن هذا باختلاف الأشخاص والأحوال، فقد يكون الإنسان قويًّا يستطيع الجهاد، ويكون الوقت وقت هجمة على الإسلام؛ فيكون الجهاد أفضل في حقه: ( كما جاءه رجل فقال له: يا رسول الله، دلني على عمل يعدل الجهاد؟ قال: لا أجده )، (لا أجده)؛ أي: لا يوجد عمل يعدل الجهاد، ثم قال: ( أتستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا ترقد، وتصوم ولا تفطر؟! قال: قلت: ومن يستطيع ذلك؟ )، فهذا في حق ذلك القادر، وفي وقت الهجوم الشرس على الدين، ووقت إقامة الجهاد، فلا شيء يعدله، وكذلك: ( لما أتاه الآخر سأله عن أفضل الأعمال، قال: تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف )، وقد أتى به البخاري في كتاب الإيمان مرتين، فأتى به من روايته عن قتيبة بن سعيد، عن الليث بن سعد، عن يونس، عن أبي الخير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: ( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي الإيمان خير؟ قال: تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف )، وجاء به أيضًا من رواية عمرو بن خالد، عن الليث، عن يونس، عن أبي الخير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وكذلك ذكر الحج المبرور في بعض تلك المواقف قال: ( والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة )، وكذلك ذكر الصوم، فقال: ( يقول الله تعالى: كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها، إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي )، فهذا يقتضي فضل الصيام، فكان ذلك في وقته ووقت دخول شهر رمضان، وتهيئة الناس له وهكذا، مما يدلنا على كثرة أبواب الخير واتساعها ورواج سوق الآخرة، وأن الإنسان لن يقصد بابًا من أبواب الخير في وقت الحاجة إليه إلا ووجد فيه ربحًا طائلًا لا حدود له، وهذا يتفاوت باختلاف الأشخاص أيضًا، كما قال الله تعالى: وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة:261]، فقد يكون طلب العلم أفضل في حق بعض الناس من كل ما سواه من الأعمال، كما فضله الشافعي على صلاة النافلة، وفضله مالك على كل ما سواه من القربات لما سئل عن المقرب للقتل، الذي لم يبق من عمره إلا ساعة في أية طاعة يصرفها؟ قال: علم يتعلمه، فقيل: يا أبا عبد الله، إنه لا يعمل به! قال: تعلمه أفضل من العمل به، وهكذا في كل أنواع القربات والطاعات.
كذلك يدل الحديث على فضل بر الوالدين، وبرهما ينقسم إلى قسمين: إلى برهما في الحياة، وبرهما بعد الممات، فبر الوالدين في الحياة بإكرامهما والقيام بحقهما، وقد قال أحدهم:
بنيي إن البر شيء هين المنطق اللين والطعيم
أي: أن يطعمهما ويخاطبهما ويعاملهما معاملة لطيفة لينة، ومن برهما أيضًا طاعتهما في المعروف، فإذا أمراه بما هو طاعة لله فليبادر إليه، وإذا أمراه بما هو جائز بادر إليه أيضًا، وإذا أمراه بحرام لم يطعهما فيه، وبرهما بعد الممات يشمل الدعاء لهما، كما قال الله تعالى: وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24]، ويشمل إنجاز وعودهما، وصلة أرحامهما، ووصل ذوي قرابتهما وصداقتهما، كل ذلك من برهما بعد الممات.
ثم قال: باب: الصلوات الخمس كفارة:
فالباب هنا مفرد؛ أي: غير مضاف، وما بعده جملة وهي (الصلوات الخمس كفارة)، فالصلوات الخمس مبتدأ، وكفارة خبره، والمقصود بذلك أنها تكفير للمعاصي وإذهاب لأثرها، وقد سبق باب بهذا المعنى وهو باب: الصلاة كفارة، ولكنه هنا أراد تخصيص الصلوات الخمس، والتبويب على هذا الحديث بخصوصه، والفرق بين الترجمة والسابقة أن الأولى شاملة للنوافل؛ لأنه قال: باب الصلاة كفارة، فذلك يشمل الصلوات الخمس وغيرها، وهنا اختص هذا الباب بالصلوات الخمس، وهو بمثابة عطف الخاص على العام الذي يفيد مزية في الخاص، كقول الله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ [البقرة:238].
قال: عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسًا ما تقول ذلك يبقي من درنه؟ قالوا: لا يبقي من درنه شيئًا، قال: فذلك مثَل الصلوات.. )، أو: ( مثْل الصلوات الخمس يمحو الله بها الخطايا )، هذا الحديث يرويه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمعه يقوله فسمعه يقول: أرأيتم؟ يخاطب أصحابه، ومعنى أرأيتم: أخبروني (لو أن نهرًا بباب أحدكم). والنهر هو: الماء العذب الجاري، فالماء العذب الراكد يسمى غديرًا، والماء العذب الجاري يسمى نهرًا، (بباب أحدكم)؛ أي: بقربه لا يتعنى ولا يتكلف في الذهاب إليه؛ لأن النهر إذا كان بعيدًا من الإنسان يشق عليه أن يذهب إليه خمس مرات في اليوم والليلة، لكن إذا كان عند بابه مباشرة فيسهل عليه أن يغتسل فيه، قال: (يغتسل فيه كل يوم خمسًا) (كل يوم)؛ وهذا يشمل الليلة، فالمقصود باليوم النهار والليل (خمسًا)؛ أي: خمس مرات، (ما تقول) معناه: ما تظن، والقول يستعمل استعمال الظن إذا جاء بعد الاستفهام، في معرض الاستفهام كما هنا، مثل قول الشاعر:
علام تقول الرمح يثقل عاتقي إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرت
معناه:
علام تظن الرمح يثقل عاتقي إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرت
(وسليم)؛ أي: بنو سليم بن منصور يجعلون القول كالظن مطلقًا، فيستعملونه استعمال الظن، كما قال ابن مالك:
وكتظن اجعل تقول إن ولي مستفهمًا به ولم ينفصل
بغير ظرف أو كظرف أو عمل وإن ببعض ذي فصلت يحتمل
وأجري القول كظن مطلقًا عند سليم نحو قل ذا مشفقا
أي: ظن ذا مشفقًا، ظن هذا مشفقًا.
(وما تقول هنا) معناه: ما تظن ذلك، والخطاب ليس بواحد بعينه؛ لأنه في البداية قال: أرأيتم؟ وهو خطاب للجمع، ثم قال: (ما تقول)، وهو خطاب للمفرد، فدل ذلك على أنه لا يُقصد مفرد بعينه، والعرب تطلق هذا الأسلوب من الخطاب ولا يُقصد به واحد بعينه، بل يُقصد به السامع مطلقًا، وقد سبق الآن قول الله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا [الإسراء:23]، فهنا ليس الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله علم أن والديه لم يبلغا عنده الكبر، لا أحدهما ولا كلاهما، فقد مات أبوه وهو حمل، وماتت أمه وهو في الرابعة من عمره؛ فإذًا المعنى: وقضى ربك أيها المخاطب، أيها السامع: (( أَلَّا تَعْبُدُوا )) وجاء بصيغة الجمع هنا ليدل ذلك على أن الخطاب ليس لواحد بعينه (( إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ )) أيها المخاطب، أيها السامع (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا [الإسراء:23].. إلى آخر الكلام.
ونظير هذا في القرآن كثير، مثل قوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ [سبأ:51]، فلا يقصد: ولو ترى أيها النبي، إنه لا يمكن أن يرى ذلك، معناه: ولو ترى أيها الرائي إذ فزعوا فلا فوت وهكذا؛ فلذلك قال هنا: (ما تقول ذلك يبقي من درنه؟)؛ أي: ما تظن ذلك أي: الانغماس في النهر والاغتسال فيه في كل يوم خمس مرات يبقي من درنه؛ أي: من وسخه، وفي رواية: ( ما ترى ذلك يبقي من درنه شيئًا )؛ أي: إنك لا ترى ذلك يبقي من وسخه شيئًا، فإذا حذفت (شيئًا) كانت (ما) استفهامية ويكون المعنى: ما تظن ذلك يبقي من درنه؟ وإذا أثبت (شيئًا) كانت ما نافية معناه: فإنك لا ترى ذلك يبقي من درنه شيئًا.
قالوا: لا يبقي من درنه شيئًا؛ أي: أكدوا له ذلك فقالوا: إنه لا يبقي من وسخه شيئًا قطعًا، قال: ( فذلك مثَل الصلوات الخمس ) أو ( فذلك مثْل الصلوات الخمس ) فذلك؛ أي: ما ذكر من النهر والاغتسال فيه خمسًا في اليوم والليلة هو مثل الصلوات الخمس، ضُرب لهن المثل بذلك، والمثل ما يفهم منه حال الشيء ووصفه، ولا يقصد به المحاكاة والمماثلة في كل شيء؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم: ( ضرب له المثل ببانٍ بنى بيتًا فجمله وحسنه وكمله، إلا موضع حجر، فجعل الناس يطوفون به، ويقولون: لقد بنى هذا الباني هذا البيت فجمله وحسنه وكمله إلا موضع هذا الحجر، فكان الحجر رسول الله صلى الله عليه وسلم )، انتهى بناء الديانات والأنبياء جاءوا بما جاءوا به من عند الله، ولم يبق إلا موضع حجر، وهو الملة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك المؤمن ضُرب له كثير من الأمثال في القرآن، وكذلك المشرك أيضًا: ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:29]، وكذلك في السنة كثير من هذا النوع من ضرب الأمثال كقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن من الشجر شجرة لا يتحات ورقها، وإنها مثل المؤمن، فأخبروني ما هي؟ )، فالنخلة مثل مضروب للمؤمن؛ فلذلك قال: (فذلك مثل الصلوات الخمس)، وفسر هذا المثل بقوله: (يمحو الله بها الخطايا) يمحو الله بها؛ أي: بالصلوات الخمس الخطايا، أو به؛ أي: بالمثل المذكور وهو النهر، وإذا قلت: فذلك مِثْل الصلوات الخمس؛ أي: على التشبيه، لكن الرواية الأولى أبلغ؛ لأن التشبيه يقتضي أن المشبه أدنى درجة من المشبه به، والواقع هنا خلاف ذلك، فالصلوات أكثر تطهيرًا من هذا النهر؛ فلذلك قال: ( ذلك مَثل الصلوات الخمس، يمحو الله بها الخطايا ) أو ( به الخطايا )، والخطايا جمع (خطيئة)، وهي الذنب مطلقًا، فتشمل: الذنوب الفعلية، والذنوب القولية، والذنوب الاعتقادية، فكل أنواع الذنوب يشملها ذلك؛ لأن الله تعالى يقول: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114].
ودلالة الحديث على ما عقد له الباب واضحةٌ فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الصلوات تطهير للإنسان كالماء الذي ينغمس فيه، فيطهره من أدرانه وأوساخه، والذنوب هي بمثابة الأدران والأوساخ، ويزيلها غسلها بالماء، وذلك كالصلوات، ووجه هذا أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وفيها لقاء العبد لربه، وسجوده بين يديه، وتعظيمه لوجهه، وعرضه لحوائجه، واستقالة عثراته، وأيضًا فيها الخشوع الذي يقتضي رقة وبكاءً وخوفًا، وكل ذلك مما يقتضي تكفير السيئات والذنوب، ويقتضي الحيلولة بين الإنسان وبين الرجوع إليها، فالتوبة النصوح: هي التي تمنع الرجوع، فإذا كان الإنسان يخرج من الذنب ثم يعود إليه، ثم يخرج ثم يعود إليه، فتوبته غير نصوح؛ لأنها لم تمنعه الرجوع، ومن هنا فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، بالإضافة إلى التكفير لا محو الماضي تنهى عن اقترافه في المستقبل.
ثم قال: باب: المصلي يناجي ربه.
عقد هذا الباب لفضل من فضل الصلوات، وليس متعلقًا بالوقت؛ فالباب السابق- وهو الصلوات الخمس كفارة- وبمواقيت الصلاة؟ إنه قال: (في كل يوم خمسًا) فهذا هو وجه ارتباطه بمواقيت الصلاة، أنه يتكرر في كل يوم خمسًا، فذلك في أوقات الصلاة، أما هذا الباب وهو قوله: باب: المصلي يناجي ربه؛ فهذا الباب ظاهره أنه لا علاقة له بالمواقيت، وأنه إنما يتعلق بفضل الصلاة فقط، ولكن بما أنه يتعلق بالفرائض المكتوبة، وعرف من شأنها أن سببها هو الوقت، وأن الله تعالى يقول: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، فاقتضى ذلك أن كل فضل جاء في الصلاة، وجاء عامًّا فهو متعلق في الأصل بالمكتوبة حتى يأتي صارف، والمكتوبات كلها موقوتات، كما قال الله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، فقال: باب: المصلي يناجي ربه، معناه: حقيقة الصلاة أنها مناجاة، يناجي بها العبد ربه جل وعلا، وهذا تعريف بها مما يقتضي إجلالها وتوقيرها، وأن يرجو الإنسان فيها لله وقارًا، وأن يتأدب حين يناجي ربه، وهذا الذي يقتضي منه خشوعًا وحضورًا لما يقول؛ ولذلك ذكرنا أن عمل القلب في الصلاة ثلاثة أقسام: هي النية التي لا يكتب العمل إلا بها: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى )، ثم الحضور، أن يعرف الإنسان ما يقول ويفعل حتى لا يكون هازئًا عابثًا، ثم الخشوع، وهو الحال الذي يعتريه من الهيبة عند خطابه لله جل جلاله، وهو الخوف باستشعار الوقوف بين يدي الخالق كما قال ابن رشد في تعريفه، وقد نظم ذلك العلامة محمد مولود بقوله:
الخوف باستشعارك الوقوف بين يدي خالقك الرءوف
به ابن رشد الخشوع عرف وأي الاركان به كان كفى
وهذه الأعمال الثلاثة القلبية التي هي: النية، والحضور، والخشوع، تتكامل فيما بينها فبعضها يدعو إلى بعض، فإذا أحسن الإنسان نيته عند دخول الصلاة فذلك مدعاة لحضوره، وإذا حضر وأدرك أنه يناجي ربه فذلك مدعاة لخشوعه، والخشوع هو غايته ومنتهاها.
ومعنى المناجاة: المسارة؛ أي: أنه يرفع إليه حوائجه، ويطلب منه متطلباته، ويقدم بين يدي نجواه الثناء على ربه، والاستقالة من ذنبه، فهو يعذر إلى الله بالتوبة، ويثني على الله بما هو أهله، ويسبحه وينزهه، ثم بعد ذلك يسأله حوائجه، وتجدون ذلك في الفاتحة التي سميت صلاة بذاتها، وهي خلاصة القرآن وملخصه، فعلوم القرآن كلها مجتمعة في الفاتحة، ففيها ما يتعلق بتوحيد الألوهية، وما يتعلق بتوحيد الربوبية، وما يتعلق بتوحيد الأسماء والصفات، وما يتعلق بالعبادات، وما يتعلق بالمعاملات، وما يتعلق بالقصص والأخبار، ما كان منها صحيحًا، وما كان فاسدًا، وما يتعلق بالوعظ والإرشاد، وكل ذلك تناولته هذه السورة على قصرها، الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، هذا توحيد الربوبية، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3]، هذا توحيد الأسماء والصفات، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، هذا توحيد الألوهية، إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5]، هذه العبادات، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، هذه المعاملات، اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، هذا ذكر للمنهج عمومًا الشامل للأخلاق، والقيم، والعقائد، والعبادات، وكل شيء، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]، هذا من القصص المحمود المفضل، غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، هذا من القصص المذموم؛ لأنه ذكر لليهود والنصارى، فتناولت كل هذه العلوم باختصار وشملتها جميعًا، وهي صلاة لأنها تفتتح بها الصلاة، وتقرأ في كل ركعة منها؛ ولذلك ثبت في صحيح مسلم، والسنن الأربعة، والموطأ، والمسند، وغيرها، جميع الكتب ما عدا صحيح البخاري، والبخاري لم يخرج هذا الحديث في الصحيح، لكنه أخرجه في كتاب القراءة خلف الإمام، عن أبي هريرة رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال العبد: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال العبد: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، قال الله: مجدني عبدي.. )، وفي رواية: ( فوض إلي عبدي، هؤلاء لي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] قال الله: هذه بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7] قال الله: هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل )؛ فلذلك تتم المناجاة هنا، وقد قال ابن القيم رحمه الله: ينبغي للمصلي أن يقف على رأس كل آية من الفاتحة، ينتظر جواب الملك الديان، حتى تتحقق له لذة المناجاة، ويستشعر عظمة المقام، فأنت الآن إذا تذكرت أن موسى بن عمران عليه السلام كلمه الله كفاحًا دون ترجمان، وشرفه بسماع كلامه، وتلذذ موسى بالكلام والمحاورة، حتى أجاب بأكثر من طبق السؤال، لما قال الله له: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى [طه:17]، ماذا قال موسى؟ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا [طه:18]، كان الأصل أن يقول: عصًا، هذا المطابق لمقتضى السؤال أن يقول: عصًا فقط، لكن موسى شعر بنشوة المناجاة والتشريف العظيم فقال: (هي) فجاء بالمبتدأ أولًا (عصاي) وأتى بالإضافة، أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى [طه:18]، فأنت أيضًا عندما تقف بين يدي الله في الصلاة فأنت تناجي الله جل جلاله، وهو يجيبك؛ فلذلك لا بد أن تستشعر هذه النشوة العظيمة، وأيضًا تستشعر الهيبة والإجلال وأنت تخاطب الملك الديان كفاحًا دون ترجمان، وهو يجيبك ويستمع إليك، فلا يشغله مصل عن مصل، ولا تال عن تال، ولا ذاكر عن ذاكر، كما لا يشغله أيضًا عاص عن عاص، فهو يعلم السر وأخفى، وهو إلى كل واحد منا أقرب من حبل الوريد، فهو مطلع على خفايا القلوب وخطراتها، لا تحجب عنه سماء سماءً، ولا أرض أرضًا، ولا جبل ما في وعره، ولا بحر ما في قعره، وهو ينظر إلى المصلين جميعًا، ومحل النظر الإلهي منهم القلوب: ( إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم )، فبقدر خشوع الإنسان في صلاته يكون حظه من النظر الإلهي، ومن هذه المناجاة العظيمة، والتشريف الكبير.
وهنا قال: يناجي ربه، فلم يقل: يناجي الله، أو يناجي الملك الديان، أو نحو ذلك لماذا؟ لماذا أتى بلفظة (الرب) هنا؟ للدلالة على الرحمة واللطف، فهذا اللفظ مقتض لذلك؛ لأن الرب هو الذي يوصل المربوب إلى كماله بالتدريج شيئًا فشيئًا، ومعنى ذلك: أنه هو الذي خلق الإنسان، وهو الذي رباه، وكفله، وأنعم عليه، ودبر شئونه، وكل ذلك يقتضي ظهور لطفه وعطفه ورحمته به، و(الرب) فَعْلٌ بمعنى فاعل أو أصله فاعل، وحذفت منه الألف لأجل التضعيف، وذلك قليل في فاعل المضعف كما قال ابن مالك:
وينحذف بقلة مضاعفًا منه ألف
كـ(رب) و(شت) و(فذ) فأصلها (راب و(شات) و(فاذ)، والعرب تستعمل من هذه المادة أربعة أفعال فيقولون: ربه.. يربه، إذا أوصله إلى كماله بالتدريج، أو تملك عليه، ومن ذلك قول صفوان بن أمية بن خلف رضي الله عنه يوم حنين: (فلأن يربني رجل من قريش، خير من أن يربني رجل من هوازن) يَرُبني؛ أي: يتولى أمري رجل من قريش.
كما أنهم يقولون: رباه.. يربيه، ومنه قول الشاعر:
وربيته حتى إذا ما تركته أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه
وبالمحض حتى آض نهدًا عنطنطًا إذا قام ساوى غارب الفحل غاربه
ويقال أيضًا:
رببه.. يرببه، ومنه قول أمية بن أبي الصلت الثقفي:
بيضًا مرازبة غلبًا أساورة أسدًا ترببن في الغيضات أشبالا
(ترببن) معناه: تربين.
ويقال أيضًا: ربته.. يربته ومنه قول الشاعر:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بجمهور حزوى حيث ربتني أهلي
بلاد بها نيطت علي تمائمي ومزقن عني حين تم بها عقلي
هنا قال: (حيث ربتني أهلي) بمعنى: رباني أهلي.
فقال: عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ( اعتدلوا في السجود، ولا يبسط ذراعيه كالكلب، وإذا بزق فلا يبزقن بين يديه، ولا عن يمينه؛ فإنه يناجي ربه )، أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو حمزة، يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في تأديبه لأصحابه على الصلاة المرضية: ( اعتدلوا في السجود )؛ أي: ليعتدل كل واحد منكم في السجود، ومعنى ذلك أنه يطلب أن يحمل كل عضو من الأعضاء السبعة نصيبه من بدن الإنسان، فيكون اعتماده على ذلك معتدلًا متساويًا، فاليدان لهما حظهما، والجبهة لها حظها، والركبتان لهما حظهما، والرجلان لهما حظهما، فتكون الأعضاء السبعة التي أُمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسجود عليها، كل منها يحمل جزءًا من بدن الإنسان، وعليه ثقل من ثقله؛ ليكون بذلك صالحًا للمناجاة؛ لأنه إذا كان مشغولًا أو يرتعش أو كان سجوده غير متمكن فإنه لا يستطيع أن يحضر قلبه، ولا أن يثبت لسانه بما يقول، فتثبيت اللسان والجنان مطلوب عند المخاطبة؛ ولذلك لا بد أن يكون خطابه للرب جل جلاله بما هو مناسب من الأدب، فيبدأ أولًا بالتسبيح ثلاثًا، ثم بعد ذلك يدعو بما شاء، ويمزج الدعاء بالثناء، ويكون أيضًا في الدعاء مؤدبًا، فلا يسأل ما فيه اعتداء، لا يعتدي في الدعاء، فقال: ( اعتدلوا في السجود ).
والسجود في الأصل: هو الانكباب، إذا انكب الشيء أيًا كان عبر عن ذلك بأنه قد سجد، كما قال الشاعر:
وجيش تضل البلق في حجراته ترى الأكم منه سجدًا للحوافر
(ترى الأكم) وهي: جمع أكمة، وهي: الحجر (منه سجدًا للحوافر)؛ أي: تسقط الحجارة على وجوهها بسبب ضرب الحوافر لها، (ترى الأكم منه سجدًا للحوافر) فهذا السجود بمعنى الانكباب على الوجه.
وشرعًا هو: خفض الإنسان أعاليه ورفعه أسافله لقصد النسك؛ أي: العبادة المخصوصة، وذلك بمباشرته لأرضه بأعضائه السبعة (مباشرته لأرضه)؛ أي: بما يستقر عليه، فالأرض تطلق على السفل، كما أن السماء تطلق على العلو، ومن ذلك قول الشاعر في وصف فرس:
إذا ما استحمت أرضه من سمائه جرى وهو مودوع وواعد مصدق
(إذا ما استحمت أرضه)؛ أي: بطنه وأسفله، (من سمائه)؛ أي: من عرق ظهره (جرى وهو مودوع)؛ أي: متروك غير مسجون ولا مطرود (وواعد مصدق)؛ أي: يحقق صدق الوعد الذي عرف عنه بالسبق، فكذلك هنا المقصود بأرض المصلي حيث يضع رجليه، فلو كان في الطائرة أو كان في أي مكان في أدوار علوية فذلك أرضه، فهو المحل الذي يقوم عليه، فهو الذي يسجد عليه.
ثم قال: (ولا يبسط ذراعيه) وهنا جاء الالتفات في الخطاب؛ لأنه في البداية قال: (اعتدلوا في السجود) وهو كما ذكرنا خطاب لكل من يسمع ذلك، لكل من بلغ، ثم قال: (ولا يبسط)؛ أي: الساجد وهي مفهومة من السجود، فالمصدر يدل على اسم الفاعل، والسجود هنا مصدر؛ أي: في حال السجود، والسجود يدل على اسم الفاعل لأنه من مشتقاته؛ فلذلك رجع الضمير على اسم الفاعل وإن كان غير مذكور إلا أنه مفهوم من المصدر السابق، كما أن اسم الفاعل أيضًا يدل على المصدر، ويدل على المكان، كقول الله تعالى: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا [العاديات:1-4]، (به) الضمير هنا علام يعود؟ على المكان.
(أثرن به)؛ أي: بالمكان، (نقعًا) النقع: الغبار، الغبار إنما يثور بالمكان، والمكان لم يرد في الآيات السابقة، ولكنه مفهوم من العاديات؛ لأنها لا تعدو إلا في مكان، فالعاديات: اسم فاعل من العدو -وهو الجري- ولا يمكن أن تجري الخيل في غير مكان، ففهم المكان من العاديات، فأعيد إليه الضمير في قوله: فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا [العاديات:4]، فكذلك هنا قوله: (ولا يبسط ذراعيه)؛ أي: لا يبسط الساجد ذراعيه؛ أي: على الأرض، بل المطلوب أن يسجد على يديه؛ أي: على كفيه، فيباشر بكفيه وأصابعه الأرض، ولا يجعل ذراعيه منبسطتين مع كفيه، والذراعان تثنية ذراع، (كالكلب)؛ أي: كما يفعل الكلب في بروكه؛ فإن الكلب يبسط ذراعيه كما قال الراجز:
يبسط للأضياف وجهًا رحبًا بسط ذراعيه لعظم كلبا
وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [الكهف:18]، فهذه هيئة بروك الكلب دائمًا، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن محاكاة بعض الحيوانات في الصلاة، فنهى عن نقر الغراب، هو الركوع والسجود الخفيف جدًّا كنقر الغراب، ونهى عن بروك البعير؛ أي: ضرب الأرض بركبتيه كما يبرك البعير، ونهى عن بسط الذراعين كذراعي الكلب وهكذا، فهذه فيها تشبه ببعض الحيوانات في بعض أفعالها، وهو منهي عنه.
قال: (وإذا بزق فلا يبزقن بين يديه) إذا بزق معناه: إذا احتاج للبزاق، وهو أن يبصق، والبصاق هو البزاق؛ وذلك أن الزاي والصاد والسين هذه الحروف الثلاثة تسمى حروف الصفير، وهي مشتركة في صفة تسمى صفة الصفير، ولتقاربها في المخرج واشتراكها في عدد من الصفات كان بينها التكافؤ في الإبدال؛ ولذلك تقرءون في الفاتحة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:6-7]، وتقرءون أيضًا: (اهدنا السراط المستقيم، سراط الذين أنعمت عليهم) وتقرءون أيضًا: (اهدنا الزراط المستقيم، زراط الذين أنعمت عليهم) كما قال الشاطبي في الشاطبية:
................................... وعند سراط والسراط لقنبلا
بحيث أتى والصاد زايًا أشمها لدى خلف واشمم لخلاد الاولا
فكلها قراءات؛ وذلك بسبب التقارب في الصفات بين هذه الحروف الثلاثة، والتقارب في المخرج أيضًا، اتحاد في الصفات وتقارب في المخرج فيها.
كذلك قال: (وإذا بزق فلا يبزقن بين يديه)؛ أي: إذا احتاج إلى البزاق، بأن كثر الريق في فمه فأثر ذلك على قراءته، فله أن يبزق، لكن ليكن بزاقه ليس بين يديه؛ أي: أمامه، ولا عن يمينه، فإنه يناجي ربه، فينبغي أن يتأدب بذلك، وقد جاء في الحديث الآخر: ( فإن ربه وجاهه )، أي: في قبلته، وكذلك حديث القارئ: ( فإن الملك يضع فمه على فيه، فكلما نطق بحرف غرغر في جوف الملك )؛ أي: يدخل الحرف من القرآن في جوف الملك الذي يستقبله بفيه، وكل ذلك يقتضي من الإنسان أن يتأدب، وألا يبصق، وإن احتاج إلا البصاق فليبصق في ثوبه، وليثنه عليه كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن يساره؛ فلذلك قال: نهى أن يبصق بين يديه؛ أي: من أمامه، ولا عن يمينه كذلك، فلم يبق إلا أن يبصق عن يساره؛ لأنه إذا بصق وراءه قد تصل إلى ما لا يراه، فيمكن أن تؤذي مسلمًا أو محترمًا؛ فلذلك يبصق تحت رجله، أو في ثوبه، أو عن يساره.
(فإنه يناجي ربه) وعلة ذلك أنه يناجي ربه، فمناجاة ربه تقتضي أن يكون في أحسن الأوصاف، فبسطه لذراعيه كالكلب عيب، وليس وصفًا جميلًا، فلا ينبغي أن يكون هكذا وهو يناجي ربه، وكذلك بصاقه بين يديه، أو عن يمينه، هو أيضًا وصف قبيح، فلا ينبغي أن يقدم عليه؛ لأنه يناجي ربه.
ولا تبطل صلاته ما دامت رجلاه إلى القبلة، ما دام مستقبلًا القبلة بشيء منه، فإن التفاته لحاجة لا يبطل صلاته؛ فلذلك يبصق عن يساره مثل النفث عن يساره ثلاثًا أيضًا في حديث عثمان بن أبي العاص حال الوسواس ونحو ذلك.
بالنسبة للانحراف عن القبلة عمومًا إذا كان عرفه الإنسان بعد الصلاة بعد نهايتها، يفرق بين الانحراف الكثير واليسير، وبين من هو أعمى وغيره، وكذلك الانحراف في أثنائها إذا انكشف في أثناء الصلاة، أن الإنسان منحرف عن القبلة؟ أي: لا يصلي إلى القبلة، فإن كان أعمى فإنه يقوم إلى جهة القبلة ولو كان انحرافه شديدًا؛ لأن الله رفع عنه الحرج فقال: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ [النور:61]، وإن كان غير أعمى فإن كان انحرافه كثيرًا قطع وأحرم من جديد، وإن كان انحرافه يسيرًا فإنه يعدله، والانحراف اليسير كما هو داخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما بين هذين قبلة )، أو: ( ما بين هاتين قبلة )؛ أي: ما بين هذين؛ أي: المشرق والمغرب، وما بين هاتين؛ أي: يديه، قبلة، والمقصود بالقبلة أن الانحراف اليسير فيه مغتفر، لكن ليس معنى ذلك أن يتعمده الإنسان ويقصده من البداية، يتعمد أن يصلي إلى هذه الجهة أو هذه، فليس له ذلك؛ لأن الله أمره فقال: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144]، لكن إذا كان ذلك الانحراف يسيرًا وغير مقصود غير عمد فلا حرج فيه لهذا الحديث.
والحديث يدل على ما عقد له الباب، وهو أن المصلي يناجي ربه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فإنه يناجي ربه )، وقد جاء في ذلك حديث آخر، وقد أخرجه مالك في الموطأ: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أقيمت الصلاة وتقدم ليصلي للناس قال: إن المصلي يناجي ربه، فلينظر أحدكم بما يناجيه )، وهذا تذكير لهم بالخشوع والحضور قبل دخول الصلاة.
وكذلك يدل الحديث على مشروعية الاعتدال في السجود، ومع ذلك فهذا الاعتدال الذي ذكر غير واجب، بل كل ما يسمى سجودًا فهو مجزئ فيه، ولكنه سنة، وهو مطلوب ويزيد الأجر، وكذلك فيه النهي عن هذه الهيئة التي هي بسط الذراعين في حال السجود في الصلاة؛ وذلك لقبحها لتشبيهها بالكلب، وهو مذموم، فدل ذلك أيضًا على كراهتها في غير الصلاة إلا من حاجة، فتكون مكروهة مطلقًا وليست محرمة.
وكذلك في الحديث دليل على أن المصلي لا ينبغي أن يبزق إلا عند الحاجة إلى ذلك، ومثل ذلك التنحنح والامتخاط وغير ذلك من الأمور ينبغي أن يتقلل منها، وأن يمنع نفسه منها ما استطاع، وإذا حصل من ذلك شيء فليقتصر فيه على قدر حاجته، ثم البصاق يكون عن شماله أو تحت رجله أو في ثنايا ثوبه، ولا يكون بين يديه ولا عن يمينه، وكذلك لا يكون من خلفه لما ذكرنا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر