إسلام ويب

شرح متن الرحبية [1]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من العلوم المهمة، والتي تولى الله سبحانه وتعالى تفصيله في كتابه علم الفرائض، وهذا يدل على أهمية هذا العلم، والعناية به، وقد ورد تفصيله في أربع آيات من كتاب الله، وجاءت الأحاديث في فضله، وأنه أول علم ينسى، وقد اعتنى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلمه أصحابه، واشتهر منهم زيد بن ثابت، ولأهمية هذا العلم فقد أفرده العلماء بمصنفات مستقلة، وحكم تعلمه فرض كفاية.

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    أما بعد: فكان من خطة مركز تكوين العلماء أن تكون له دورات مفتوحة يشارك فيها طلابه وبعض أساتذته، وتكون مفتوحةً للمجتمع كذلك؛ للانتفاع العام في مختلف العلوم، وقد سبق أن ابتدأ دورتين تامتين، وجزءاً من دورة، وهو اليوم ينفذ دورته الرابعة على بركة الله، وهي في علم الفرائض، أي: علم التركات.

    أما طريقتنا في هذه الدورة فهي أننا نفضل دائماً في الدورات العلمية الارتباط بكتاب من الكتب يحفظه الطلاب، ويتنافسون في حفظه؛ ليكون أصلاً لديهم في هذا الفن، ويكون ما يسمعونه من خارجه شرحاً له وبياناً، فإذا طالعوا أي كتاب يتعلق بهذا العلم، كان بمثابة الشرح والتوسع في هذا الفن الذي يدرسونه، والكتاب الذي اختارته إدارة المركز هو منظومة الرحبية للشيخ: محمد بن علي بن محمد بن الحسن الرحبي الشافعي، وهو من فقهاء الشافعية، وهو نظم على مقتضى المذهب الشافعي؛ ولذلك لم يأت بفرائض الإقرار والإنكار، وهي مختصة بالمذهب المالكي تقريباً، ولم يأت أيضاً بميراث ذوي الأرحام، وترك مسائل من هذا الفن، لعلنا نعرج عليها ونكمل بها إن شاء الله تعالى، وطريقة الشرح لا تختص بالكتاب، بل ربما نعرج على غيره؛ لأننا ملزمون بالتحدث في المذاهب الأربعة كلها، وبيان ما نراه راجحاً مع الدليل، أو ذكر الدليل ولو لم نرجح.

    وهذا العلم هو من العلوم المهمة، فإن الله سبحانه وتعالى تولى تفصيله في كتابه، وأنتم تعرفون أن أهم فرائض الله سبحانه وتعالى وعباداته بعد التوحيد الصلاة، ولا تجدون أركانها مفصلةً في القرآن، كما لا تجدون أسماء الصلوات الخمس في القرآن، ومع ذلك تجدون تفاصيل أنصباء أهل الفرائض في كتاب الله مفصلة، وهذا يدل على أهمية هذا العلم، والعناية به، فقد أورد الله فيه -في كتابه- أربع آيات:

    الآية الأولى: جاءت في التقعيد له، وبيان أن الرجال والنساء فيه سواء، وهذا هو نظام الإرث الاجتماعي، وهو رد لنظام الجاهلية الذي كان يحرم النساء من الإرث، فقد قال الله في هذه الآية: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:7]، وهذه الآية تقعيد لهذا النظام، وبيان لأهميته، وإلغاء لحكم الجاهلية بالكلية، فأهل الجاهلية إنما كان الترابط بينهم على أساس المنافع والمصالح المشتركة؛ ولذلك يتقاتل فريقان من الأقارب لمدة طويلة تصل إلى أربعين سنة بسبب أن فرساً سبقت أخرى، كما هو الحال في حرب داحس والغبراء، كانت بين قبيلتين من غطفان -وهما: عبس وذُبيان- بسبب أن فرساً سبقت أخرى، ويقتتل الحيان أيضاً ثلاثين سنة بسبب أن ناقةً كسرت بيضةً، كما هو الحال في حرب البسوس التي دارت بين بني بكر بن وائل وتغلب لمدة ثلاثين سنة، وبكر بن وائل وتغلب بن وائل أخوان من بني ربيعة، وكان الأقارب تُقطع أرحامُهم وتُشج بسبب الاختلاف في المصالح، ومن أشهر ما حصل من ذلك في العصر السابق للتشريع، ما حصل لـعنبسة بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، فقد جاء يقود ولده الوحيد إلى إخوته العشرة في مجالسهم، وكل واحد منهم له عشرة من الولد، فعرض عليهم أن يكفلوا ولده هذا، ويترك لهم بطن مكة، فلم يجبه أحد منهم، فهام به على وجهه حتى مات، فكانت الأرحام تقطع، والصلات تنقطع بمجرد الاختلاف في المصالح، ولذلك قال الله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22-23]، ومن هنا شرع الله سبحانه وتعالى نظام الإرث، وهو نظام اجتماعي يقتضي الترابط، والتكافل، والتعاون، واستمرار الرحم في الحياة، وبعد الممات، وقد كنت قبيل أحداث الحادي عشر من سبتمبر زرت مدينة نيويورك، ودخلت في وقت العمل إلى برج التجارة العالمي، فرأيت كثرة الداخلين والخارجين، فاستغربت لما سمعت نتائج الحادث وعدد القتلى، فأخبرت أن الذين عرفت أعدادهم إنما هم الذين طالب بعض الناس بميراثهم، فليس لديهم نظام الإرث المعروف في الإسلام، وإنما يرث الزوج زوجته، والزوجة زوجها، ولا يرث الوالد ولده، ولا الأم ولدها، ولا الأخ أخاه، ولا الأخت أخاها، فليست بينهم تلك الصلات، فمن ليس له زوجة، أو من ليس لها زوج، فإنه لا يسأل عنه؛ لأن ماله يرثه بيت المال، فهذا هو النظام السائد لديهم؛ فلذلك لم يذكر في القتلى إلا من كان له مطالب بميراثه، كالمرأة إذا ماتت ولها زوج، أو الزوج إذا مات وله زوجة، فعرفت حكمة التشريع العظيمة، فما من أحد على وجه الدنيا من البشر إلا له وارث شرعاً، سواءً كان قريباً أو بعيداً، ولذلك يتوارث الناس بالقعدد على أساس القبائل التي جعلها الله أساساً للتعارف كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، وقد ذكر أهل التفسير وجهين في هذه الآية؛ أحدهما: لتعارفوا؛ أي: ليعرف بعضكم بعضاً بالانتساب، فيقال: فلان القرشي، أو فلان التميمي، حتى يعرف نسبه بذلك، أو لتعارفوا؛ أي: ليبذل بعضكم إلى بعض العرف، وهو العطاء والصلة، فذلك من أسباب إقامة النظام القبلي، وإقامة نظام التوارث، فلهذا قرر الله في هذه الآية أصل هذا النظام، فقال: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ [النساء:7]، وترون عموم الوارثين، وعموم الموروثين، فإنه قال: (للرجال) وهذا جمع معرف محلًى بـ(أل) الجنسية، فهو يشمل جميع الرجال، وكذلك النساء، فهو اسم جمع محلًى بـ(أل) الجنسية، فهو يشمل جميع النساء، لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ [النساء:7]، فالموروث أيضاً عام؛ لأنه قال: (والأقربون) زيادةً على الوالدين، وهذه القرابة نسبية تختلف باختلاف حال الإنسان الوارث والموروث، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر )، لأولى، أي: لأقربه ولايةً.

    وبعد ذلك جاءت الآية الثانية، وقد سمعتموها، وهي في ميراث الفروع والأصول، أي: في ميراث الأولاد والآباء والأمهات، فقد قال الله فيها: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ [النساء:11]، انتهى ما يتعلق بالفروع، وبدأ في الأصول، فقال: وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:11].

    والآية الثالثة ذكر الله فيها ميراث كل واحد من الزوجين من الآخر، وميراث الإخوة والأخوات لأم، فقال فيها: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:12]، وهذا ما يتعلق بميراث كل واحد من الزوجين من الآخر، ثم ذكر ميراث الإخوة والأخوات لأم، فقال: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّه [النساء:12]، فهذا ميراث الإخوة والأخوات لأم.

    ثم في الآية الرابعة ذكر ميراث الإخوة الأشقاء أو لأب سواءً كانوا ذكوراً أو إناثاً، فقال: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النساء:176].

    فاحتوت هذه الآيات الأربع على هذا النظام إجمالاً وتفصيلاً، ولم يبق من أحكامه إلا بعض الجزئيات التي تناولها بعض الآيات الأخر، أو بعض الأحاديث، فمن الآيات المكملات لهذه الآيات الأربع في تفصيل بعض الأحكام قوله تعالى: وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا [الأحزاب:6]، فقد كان المهاجري يرث الأنصاري، والأنصاري يرث المهاجري بأخوة الإسلام، حتى نزلت هذه الآية، فجعل الله حق الإسلام محصوراً في الوصية، وليس في الإرث، فجعل ذلك مختصاً.

    وكذلك من الآيات المكملة ما يتعلق بالولاء، فقد قال الله فيه: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [النساء:33]، (والذين عقدت أيمانكم)، في قراءة أخرى: (عاقدت أيمانكم) (فآتوهم نصيبهم)، فهم العتقاء من يعتقون إجماعاً، فالمولى الأعلى وارث من لا وارث له من الرحم، والمعتقون أيضاً على قول سنتعرض له إن شاء الله عند بعض الفقهاء أن العتيق، أي: المولى الأسفل يرث من معتقه إذا لم يكن له وارث سواه، والآية بأصل دلالتها تتناول الجميع، وَالَّذِينَ عَاقدت أَيْمانكُمْ [النساء:33]، هذا يشمل المعتِق، والمعتَق.

    أما الأحاديث فمنها الحديث السابق الذي أخرجاه في الصحيحين، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر )، فالفرائض فصلت في القرآن، ولم يبق منها غير ما نص عليه في القرآن إلا ثلث الباقي، وسنذكره إن شاء الله وحده.

    ثم بعد ذلك قال: ( فما بقي فلأولى رجل ذكر )، وهذه الولاية تتسلسل حتى تصل إلى أقرب من هو حد من الأولياء ولو بَعُد، فقد وُرث بعض البطون من قريش، ومن الأنصار بالقعدد على أساس النسب، فآخر من مات من بني وبر ورث في القعدد في أيام عبد الملك بن مروان، وكذلك ما قيل في ذرية خالد بن الوليد فقد ورثوا بالقعدد، أي: ورثهم بنو عمهم بالقعدد حين انتفوا ولم يبق منهم أحد، فهذا الميراث بالقعدد، وقد حصل ذلك في ذرية صيفي بن هاشم، وهو أخو عبد المطلب، فقد انتفت ذريته فورثوا في القعدد، أي: يرثهم أكبر رجال بني هاشم الأحياء.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088546534

    عدد مرات الحفظ

    777248599