بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قال المؤلف رحمه الله:
(والثلث فرض الأم حيث لا ولد ولا من الإخوة جمع ذو عدد)
هذا هو الفرض الخامس من الفروض المقدرة في كتاب الله، وهو الثلث، وقد جاء ذكره في القرآن في موضعين: في موضع ذكر فريضة الأم، وفي موضع ذكر الإخوة لأم، ويرثه صنفان: الأم، والإخوة لأم إذا تعددوا.
والأم ترثه بثلاثة شروط:
الشرط الأول: ألا يكون للميت فرع وارث، فإن كان للميت فرع وارث كابن، أو ابن ابن، أو بنت، أو بنت ابن، فإن الأم ترث السدس كما سيأتي.
الشرط الثاني: ألا تكون المسألة إحدى العمريتين، وقد سبق ذكر العمريتين اللتين ترث الأم فيهما ثلث الباقي، وهي: أم وأب وزوج، والثانية: أم وأب وزوجة.
وسبق الخلاف في العمريتين على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنها ترث الثلث، وهذا مذهب عبد الله بن عباس وداود الظاهري.
القول الثاني: أنها ترث ثلث الباقي، وهذا مذهب الجمهور، المذاهب الأربعة.
القول الثالث: التفريق بين مسألة الزوج فترث الثلث، وفي مسألة الزوجة ترث ثلث الباقي وهذا مذهب محمد بن سيرين، والسبب لئلا يزيد حظها على حظ الأب.
الشرط الثالث من شروط ميراث الأم للثلث: ألا يكون للميت عدد من الإخوة، فإن كان للميت عدد من الإخوة، فإنهم يحجبون الأم حجب نقصان من الثلث إلى السدس، كما سيأتي في الحجب، وهذه المسألة اختلف فيها من جهتين:
الجهة الأولى: في جنس من يحجب الأم من الإخوة، فذهب جمهور أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم إلى أن الجنس لا اعتبار له في هذا الباب، سواء كان العدد من الإخوة ذكوراً، أو إناثاً، أو متنوعين، فإنهم يحجبون الأمة من الثلث إلى السدس.
القول الثاني: مذهب معاذ بن جبل: أن الإخوة الذين يحجبون الأم عند تعددهم من الثلث إلى السدس لا بد أن يكون فيهم ذكر، كأن يكونوا ذكرين، أو ثلاثة ذكور، أو أنثى وذكر، أو أنثى وذكرين مثلاً، لكن الإناث الخلص لا يحجبن الأم من الثلث إلى السدس عند معاذ بن جبل رضي الله عنه؛ وسبب ذلك: أن الجمع في أصله مذكر، فإطلاقه على الذكور نص، وإطلاقه على الإناث وحدهن مقابل للنص، فرأى معاذ أن قوله: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ [النساء:11]، يختص بالذكور؛ لأنه لو كان يشمل الإناث لقال: إن كان له إخوة أو أخوات، فلأمه السدس.
أما الموضع الثاني الذي فيه خلاف: فهو عدد الإخوة الذين يحجبون الأم من الثلث إلى السدس، وقد اختلف الناس في ذلك على قولين:
القول الأول: أن المقصود العدد، سواء كان اثنين، أو ثلاثةً، أو أكثر، وهذا مذهب جمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين، وهو مذهب المذاهب الأربعة، أن العدد يشمل اثنين فصاعداً، سواء كانا ذكرين، أو أنثيين، أو ذكراً وأنثى فصاعداً.
القول الثاني: مذهب عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فإنه يرى أن أقل الجمع ثلاثة، وأن ما كان أقل من ثلاثة لا يسمى عدداً، فلا يكون جمعاً، فيرى أن قوله تعالى: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ [النساء:11] لا يتناول إلا ثلاثةً فصاعداً، فيرى أن الأم إذا كان للميت أخوان، أو أخ وأخت، فإنها ترث الثلث حتى يكونوا ثلاثة إخوة؛ والسبب: هو الخلاف في أقل الجمع -أقل ما يطلق عليه لفظ الجمع- وقد سبقت الإشارة إلى هذا في ميراث البنتين، فقد سبق أن الله نص على ميراث ما كان فوق اثنتين، ولم ينص في القرآن على ميراث الاثنتين من البنات، فالجمهور قاسوا الاثنتين على ما فوق اثنتين، وابن عباس لم ير هذا القياس، الإخوة الذين يحجبون الأم من الثلث إلى السدس، سواء كانوا إخوةً أشقاء، أو إخوةً لأب، أو إخوةً لأم، أو منوعين، فإن كان للميت أخت لأب وأخ لأم، فإنهما يحجبان الأم من الثلث إلى السدس، وإن كان للميت أخت شقيقة، وأخت لأب، وأخت لأم مثلاً، فإن الحجب يحصل بذلك، فلا عبرة بجهة الإخوة، جهة الإخوة معناه: سواء كانت شقاقةً، أو لأب، أو لأم، فلا اعتبار لذلك؛ لأن الله أطلق فقال: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ [النساء:11].
لذلك قال المؤلف رحمه الله: (والثلث فرض الأم)، والأم هنا لا تدخل فيها الجدة، فالجدة لا ترث الثلث أبداً، سيأتي ذكرها فيمن يرثون السدس، وهي ترثه على اعتبار أنها أم؛ لأن الجدة لا ذكر لها في كتاب الله، لما وزع الله التركة لم يضع سهماً للجدة، فلا ذكر لها في كتاب الله، كما أنه لا ذكر للجد أيضاً في كتاب الله، ولكن الجد جعل مكان الأب، كما أن الجدة جعلت مكان الأم، ويستثنى من ذلك مواضع، ومنها: ميراث الثلث، فهو نصيب الأم دون الجدة، فالجدة لا ترث الثلث أبداً.
(والثلث فرض الأم حيث لا ولد)، معناه: الشرط الأول من شروط توريثها الثلث: ألا يكون للميت فرع وارث، قال: (حيث لا ولد، ولا من الإخوة جمع ذو عدد)، هذا الشرط الثاني: ألا يكون للميت عدد من الإخوة، ولما قال: (جمع) عرف أنه يمكن أن يرد الإشكال في أقل ما يطلق عليه الجمع؛ فلذلك قال: (ذو عدد)، فالمقصود: بالجمع التعدد مطلقاً، وهذا مذهب الجمهور خلافاً لـابن عباس، ولذلك فسر فقال: (كاثنين) سواء كانا ذكرين أو أنثيين، أو كان أحدهما ذكراً والأخرى أنثى، (أو ثنتين): كذلك لو انفرد الإناث وحدهن يحجبنها، خلافاً لـمعاذ بن جبل، أو (ثلاث)، وهذه من الإناث أيضاً، (حكم الذكور فيه كالإناث): فلا فرق بين انفراد الذكور، وانفراد الإناث، والاشتراك.
(ولا إبن ابن معها أو بنته): اضطر هنا لقطع همزة الوصل وهي همزة ابن، فابن من الأسماء العشرة التي همزتها همزة وصل، تذكرها؟ وفي اسم ابن ابن حذف، فالهمزة هنا همزة وصل، ولكن المؤلف اضطر لقطعها؛ أي: لجعلها همزة قطع، فقال: (ولا إبن ابن معها أو بنته) معناه: الشرط الثالث من شروط ميراث الأم للثلث: ألا يكون للميت فرع وارث، كابن، أو بنت، أو ابن ابن، أو بنت ابن، فهؤلاء فروع وارثون، فلا ترث الأم معهم الثلث، وإنما ترث السدس.
(ففرضها الثلث كما بينته): إذا اجتمعت الشروط الثلاثة.
الشرط الثالث هو: ألا تكون إحدى العمريتين، وهذا الذي أشار إليه بقوله: (وإن يكن زوج وأم وأب فثلث الباقي لها مرتب، وهكذا مع زوجةٍ)، هذه إذا كانت إحدى العمريتين، فإنها لا ترث ثلث المال، وإنما ترث ثلث الباقي، وذلك في فريضتين اشتهرتا بالعمريتين، لقضاء عمر بن الخطاب فيهما، وهما: زوج وأبوان، أو زوجة وأبوان، فزوج إذا لم يكن للميت فرع وارث كم نصيبه؟ النصف، والأبوان الأب والأم لهما النصف الباقي، فيرثانه للذكر مثل حظ الأنثيين، فللأب ثلثاه، وللأم ثلثه، فيكون نصيب الأم ثلث الباقي، وهو الربع في هذه الصورة.
الصورة الثانية: أن تكون الفريضة: زوجة وأبوان، فللزوجة الربع؛ لأنه ليس للميت فرع وارث، وللأبوين ما بقي للذكر مثل حظ الأنثيين، فللأب النصف، وللأم الربع، فالصورة الأولى: للأم فيها السدس؛ لأن الزوج أخذ ثلاثةً من ستة، والأبوان ورثا ثلاثةً، فللأب اثنان وللأم واحد، فللأب الثلث وللأم السدس، والصورة الثانية: الزوجة ترث الربع، فالمسألة من أربعة: أخذت الزوجة واحداً، وبقي ثلاثةٌ للأبوين؛ فيرثانها للذكر مثل حظ الأنثيين، فللأب اثنان، وللأم واحد، وهو ثلث الباقي؛ أي: الربع.
فلذلك قال: (وإن يكن زوج وأم وأب)؛ أي: إن يكن الوارث مطلقاً زوج وأم وأب (فثلث الباقي لها مرتب)؛ أي: ثلث الباقي للأم مرتب، والباقي معناه: بعد نصيب الزوج.
(وهكذا مع زوجة) معناه: لها أيضاً ثلث الباقي بعد نصيب الزوجة إذا ورث الأبوان والزوجة، (مع زوجة فصاعداً): طبعاً تعدد الزوجات لا أثر له في الميراث، أصناف تعددهم لا يؤثر في الميراث: بنت الابن، والأخت لأب حين وجود البنت والشقيقة، والزوجات مطلقاً، والجدات كذلك -الوارثات- فهذه الأجناس تعددها لا يزيدها، بخلاف البنتين، بنت الصلب مثلاً إذا تعددت، فنصيبها يزداد، والأخت الشقيقة إذا تعددت، فنصيبها يزداد، أو الأخت لأب مع عدم الشقيقة مثلاً، أو بنت الابن مع عدم الشقيقة وعدم المعصِّب، كذلك الإخوة لأم فنصيبهم يزداد مع التعدد؛ لأن الواحد منهم نصيبه السدس، فإذا كانوا عدداً ورثوا الثلث، لكن الزوجات لو كن أربعاً فنصيبهن إذا كان للميت فرع وارث هو الثمن، وإذا لم يكن للميت فرع وارث فهو الربع مطلقاً، كثرن أو كن واحدةً، وهكذا في البقية الذين لا يزدادون بالتعدد؛ فلذلك قال: (فلا تكن عن العلوم قاعدا): هذه نصيحة لك ألا تقعد عن العلوم، فالقعود عن العلوم، معناه: الانقطاع في الطريق، كالإنسان الذي كان سائراً في الطريق فقعد، فالعلم طريق وعر طويل، فيحتاج إلى الصبر عليه والمثابرة والمواصلة.
(وهو للاثنين أو اثنتين من ولد الأم بغير مين)
الصنف الثاني من الذين يرثون الثلث: الإخوة لأم، فقال: (وهو للاثنين أو اثنتين من ولد الأم بغير مين)، فهو للاثنين؛ أي: للعدد من أولاد الأم، سواء كانوا اثنين أو أكثر، أو اثنتين فأكثر؛ فنصيبهم الثلث؛ لقول الله تعالى: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ [النساء:12].
ويرثون الثلث بثلاثة شروط:
الشرط الأول: ألا يكون للميت أصل وارث من الذكور، فإن كان له أب أو جد، فإن الأب والجد يحجبان الإخوة لأم.
الشرط الثاني: ألا يكون للميت فرع وارث، فالفرع الوارث يحجب الإخوة لأم، مطلقاً، سواء كان ابناً، أو ابن ابن، أو بنتاً، أو بنت ابن، وإن نزلوا، فالفروع مطلقاً تحجب الإخوة لأم.
الشرط الثالث: التعدد، فإن كان أخ واحد لأم أو أخت واحدة لأم فله السدس، كما سيأتي في الذين يرثون السدس.
فإذاً شرط ميراث الإخوة لأم للثلث ثلاثة:
الأول: عدم وجود الأصل الوارث من الذكور.
الثاني: عدم وجود الفرع الوارث مطلقاً، سواء كان من الذكور أو من الإناث، وهذان الشرطان هما قول الله تعالى: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً [النساء:12]، فالكلالة معناه: من لا وارث له من الأصول الذكور، ولا وارث له من الفروع، الكلالة: هي ألا يكون للإنسان وارث من الأصول الذكور، وألا يكون له وارث من الفروع مطلقاً، سواء كان من الذكور، أو من الإناث، هذا هو الراجح في تفسير الكلالة.
الثالث: التعدد: فهو نص كتاب الله؛ لأن الله قال: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ [النساء:12]، والقرآن هنا صريح في التعدد مطلقاً، سواء كان اثنين أو أكثر؛ لأنه قال: فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ [النساء:12]، فهذا يشمل الاثنين وما زاد عليهما.
والإخوة لأم لهم خصائص في الميراث نحتاج إلى التعريج عليها قليلاً، فنذكر خمس خصائص من خصائص الإخوة لأم، خمسة أحكام تختص بالإخوة لأم، وهذا الاختصاص تقريبي، وإلا فسيأتي بعض الاستثناء فيه.
الأول: أنه لا فرق بين ذكرهم وأنثاهم إذا انفرد، فالذكر منهم يرث السدس إذا انفرد، والأنثى ترث السدس إذا انفردت؛ إذاً هذا الحكم الأول.
الثاني: أنه لا فرق بين الذكور والإناث منهم عند التعدد في الميراث، فإذا كان للميت أختان لأم فلهما الثلث، وإذا كان له أخوان لأم فلهما الثلث، وإن كان له أخت وأخ لأم فلهما الثلث؛ فإذاً لا فرق بين الذكور والإناث أيضاً عند التعدد وعند الانفراد، فهذان حكمان.
الثالث: أنهم يدلون بالأم، ومع ذلك يحجبونها حجب نقصان، وهذا الحكم يشتركون فيه مع الإخوة الأشقاء أيضاً أو لأب، لكن الإخوة الأشقاء هم الذين يدلون بالأم والأب معاً، فالإخوة لأم يدلون بالأم، ليس لهم علاقة بالميت إلا الأم، ومع ذلك يحجبونها من الثلث إلى السدس، وإن اشترك معهم الإخوة في الحجب، لكن الإخوة لأب يدلون بالأب، والإخوة الأشقاء يدلون بالأب والأم معاً، لكن الإخوة لأم لا يدلون إلا بالأم، وهم يحجبونها حجب نقصان من الثلث إلى السدس.
الرابع: أنهم يدلون بأنثى ويرثون، فالأصل أن الذكر المدلي بأنثى لا يرث، كابن البنت مثلاً، ابن البنت لا يرث، وابن الأخت لا يرث، وهؤلاء يدلون بأنثى، ومع ذلك يرثون، فعلاقتهم بالميت هي الأنثى، ومع ذلك يرثون، لكن يستثنى من هذا الجدة أم الأم، فهي أيضاً تدلي بأنثى، ومع ذلك ترث، الجدة أم الأم هي تدلي بأنثى، ومع ذلك ترث، فيمكن أن يقال: يختص هذا بذكورهم، فذكور الإخوة لأم رجال يدلون بامرأة، ومع ذلك يرثون، ويختص هذا بهم.
الخامس: أنهم يرثون مع من يدلون به، فأمهم لا تحجبهم، فالأب لا يرث معه أحد من الإخوة؛ لأنه حاجب لهم، والأم يرث معها أولادها الذين هم إخوة لأم، وهم يدلون بها، وهذا الحكم أغرب الأحكام الخمسة، أنهم يرثون مع من يدلون به، ابن الابن لا يرث مع وجود الابن، والجدة لا ترث مع وجود الأم، والإخوة لا يرثون مع وجود الأب، والجد لا يرث مع وجود الأب، والأعمام لا يرثون مع وجود الأب، لكن أولاد الأم يرثون مع وجودها هي، وبقي فيهم مسألة أخرى لا تختص بالإخوة لأم، ولكنها مسألة اختلاف في قضية الإخوة الذين يحجبون الأم حجب نقصان من الثلث إلى السدس، فمذهب الجمهور أنه بمجرد وجودهم -سواء كان الأب موجوداً أو غير موجود- فإنهم يحجبون الأم من الثلث إلى السدس، وذهب بعض المتأخرين من الحنابلة، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن الإخوة لا يحجبون الأم حجب نقصان إلا إذا كانوا وارثين، ومعنى ذلك: عدم وجود الأب، واستدل ابن تيمية بقول الله تعالى: وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ [النساء:11]، فلم يقل: ولأبيه الباقي، فلم يذكر الأب أصلاً؛ فدل ذلك على أن الفريضة ليس فيها أب؛ لأنه لو كان فيها أب لقال: فلأبيه كذا، أو فلأمه السدس والباقي لأبيه، فلما لم يذكر الله الأب في هذه الفريضة، دل ذلك على عدم وجوده أصلاً، وشيخ الإسلام ابن تيمية يرى أن الحجب -حجب الإخوة لأم- سببه مشاركتهم في الميراث، فإذا كانوا لا يشاركون في الميراث فما علة حجبهم لها؟ لماذا تنقص الأم وهم لا ينالون ما نقصوها؟ ( ومن قتل قتيلاً فله سلبه )، فهم قتلوها ولم ينالوا سلبها، واللغز الذي تعرفونه، وهو: وفيهم وفي الحجب أمر عجب؛ لأنهم قد حَجَبوا وحُجِبوا، أو قد حَجَبوا إذ حُجبوا، سيأتينا إن شاء الله.
مذهب الجمهور: أن الحجب حاصل، سواء ورثوا أو لم يرثوا، معناه: سواء كان الأب موجوداً أو غير موجود، فإذا مات ميت وترك أبوين وأخوين شقيقين، أو لأب، أو لأم، أو مختلفين، فإن الأم لا ترث إلا السدس، والباقي كله للأب فرضاً وتعصيباً، هذا مذهب الجمهور، ومذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وبعض المتأخرين من الحنابلة: أنه إذا كانت المسألة هكذا فإن الأم ترث الثلث، والأب يرث الثلثين، وليس للإخوة شيء، وإنما يحجبون الأم إذا كانوا يرثون، فيوفرون لأنفسهم شيئاً من نصيب الأم، كما إذا كان للميت أم وأخوان مثلاً، فالأم لها السدس، والأخوان يرثان الباقي، ولكن يجاب عما استدل به شيخ الإسلام ابن تيمية ومن معه: بأن الإخوة لأم يحجبونها قطعاً إجماعاً حجب نقصان، وهم مع ذلك لا يزداد نصيبهم، فنصيبهم لا يزداد عن الثلث أبداً، الإخوة لأم لا يزيدون عن الثلث إذا تعددوا، ومع ذلك يحجبون الأم قطعاً إلى السدس؛ فدل هذا على أن التوفير لا يقصد به زيادة نصيب الوارث، إذ لو كان كذلك لما نقصوا إلا قدر ما يستحقونه، فهمتم الاستدلال؟
شيخ الإسلام ابن تيمية قال: يقول الله تعالى: وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ [النساء:11]، (( وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ )) هذه فريضة يرث فيها الأبوان، فللأب الثلثان، وللأم الثلث، (( فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ )) يقول: معناه: إخوة وأم فقط من غير أب، (( فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ ))، فالأم لها السدس والباقي للإخوة؛ لأنهم يرثون ما بقي بعدها تعصيباً، وهي توفر عليهم من الثلث ما بقي، فهمت؟ ويجاب عن هذا الاستدلال بأنه لو كان كذلك لما حجبت بالإخوة لأم؛ لأن نصيبهم ثابت لا يزداد ولا ينقص، فالإخوة لأم عند العدد يحجبون الأم حجب نقصان من الثلث إلى السدس، وهم يرثون الثلث بالإجماع بين ابن تيمية وغيره؛ فلذلك قال:
(وهو للاثنين أو اثنتين من ولد الأم بغير مين)
(وهكذا إن كثروا أو زادوا فما لهم فيما سواه زاد )
(فما لهم فيما سواه زاد)، معناه: لو زاد عددهم وكثروا، فإنه لا يزداد نصيبهم عن الثلث، فنصيبهم الثلث دائماً، والزاد: هو ما يتزود به الإنسان؛ أي: يصحبه لعدة السفر، وقد قال الله تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:197].
(ويستوي الإناث والذكور فيه كما قد أوضح المسطور)
المسطور: هو القرآن، وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ [الطور:1-2].
وقد أوضح أن الذكر والأنثى من الإخوة لأم سواء؛ لأنه قال: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [النساء:12]، فهذا عند الانفراد ساواهما: فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ [النساء:12]، والأصل في الاشتراك: التساوي، فهذان حكمان نص الله عليهما في كتابه، فبين أنه لا فرق بين الذكر والأنثى من أولاد الأم؛ أي: من الإخوة لأم.
(ويستوي الإناث والذكور فيه كما قد أوضح المسطور).
ثم بدأ المؤلف رحمه الله فيمن يرثون السدس، وذكرنا أننا بالإمكان أن نعدهم سبعةً، إذا ساوينا بين الأخ لأم والأخت لأم، وبالإمكان أن نعدهم ثمانيةً على سبيل البسط، وهو العد العادي، فهؤلاء الثمانية هم: الأب عند وجود الفرع الوارث، وسيأتي شروط ذلك، والأم كذلك عند وجود الفرع الوارث أو العدد من الإخوة، وبنت الابن عند وجود البنت وعدم تعددها، وسيأتي شروط ذلك، والأخت لأب عند وجود الشقيقة مع الشروط التي سنذكرها، والجد إلا في بعض مسائل ميراثه مع الإخوة عند عدم وجود الأب، والجدة الوارثة، وسيأتي بيان الجدات، من يرث منهن، ومن لا يرث، والأخ لأم، والأخت لأم، فالجميع ثمانية، هم الذين يرثون السدس، وكل واحد منهم يشترط لميراثه للسدس شروط؛ فلذلك قال المؤلف رحمه الله: (والسدس فرض سبعة من العدد)، هذا على اعتبار أنه لا فرق بين الذكر والأنثى من الإخوة لأم.
من هم هؤلاء السبعة الذين يرثون السدس؟ (أب)، وقد سبق أن كل قرابة تذكر في التركة فالمقصود بها: للميت، إذا قيل: أب، معناه: للميت، وأم؛ أي: للميت، (أب وأم ثم بنت ابن)، فبنت الابن كذلك، (وجد)، وهو أبو الأب، وسنبين الفرق بين الجد الصالح والجد الفاسد، كما هو مصطلح أهل الفرائض.
(والأخت بنت الأب)، هنا خطأ مطبعي مكتوب: (بنت الابن) فبنت الابن قد سبق ذكرها؛ فإذاً المقصود هنا: والأخت بنت الأب؛ أي: الأخت التي هي لأب فقط مع وجود الشقيقة.
(ثم الجدة)، كذلك، وهي الجدة الصالحة بخلاف الجدة الفاسدة، وسيأتي الفرق، وسيأتي أيضاً الخلاف في عدد من يرث من الجدات، فلا خلاف تقريباً بين أهل السنة أن أم الأم ترث وأمهاتها، وأن أم الأب ترث وأمهاتها أيضاً، والخلاف في أم أب الأب، والدة والد الأب -الجد- ما شاء الله إذا كان القوم يعمرون، أو يسرعون في التوالد، كما رأى الشافعي رحمه الله، لما زار اليمن رأى بنتاً صغيرة تقف عند كتفي فتاة صغيرة، فتقول: يا جدتاه! فسأل عن عمر هذه الفتاة، فقيل له: هي ابنة إحدى وعشرين، فقال: وما عمر الصبية؟ فقيل له: ثلاث سنوات، فإذا هي جدة لها قد ولدت في التاسعة، إنها ولدت ابنتها في التاسعة، والبنت الآن أكملت ثلاث سنوات فأصبحت جدتها إحدى وعشرين سنة، ويقال: إن عمرو بن العاص أسن من ابنه عبد الله بن عمرو بن العاص بإحدى عشرة سنة، وأسلم عبد الله قبله بإحدى عشرة سنة.
(والأخت بنت الابن ثم الجده وولد الأم تمام العده)
وولد الأم هو الذي تتم به العَدة أو العِدة؛ أي: العدد، فإذا قلت: العَدة: فهي واحدة العد لمرة (فعلة)، وإذا قلت: العِدة؛ أي: العدد، فالعدة بمعنى: العدد، فولد الأم -سواء كان ذكراً أو أنثى- به يتم عدد الوارثين للسدس.
ثم بدأ في ذكر الشروط -شروط ميراث كل واحد من هؤلاء للسدس- فقال: (فالأب يستحقه مع الولد)، فالأب يرث السدس بشرط واحد وهو وجود الفرع الوارث، فإذا كان للميت فرع وارث، سواء كان ذكراً أو أنثى، مباشراً أو غير مباشر، فالمباشر ولد الصلب، وغير المباشر ولد الابن، أو ابن ابن الابن إلى آخره وإن نزلوا، فإن فرض الأب هو السدس حينئذ.
(وهكذا الأم بتنزيل الصمد)، كذلك الأم ترث السدس إذا كان للميت فرع وارث، أو كان له عدد من الإخوة؛ فإذاً ترثه بشرطين على سبيل البدلية:
الشرط الأول: أن يكون للميت فرع وارث، أو أن يكون له عدد من الإخوة، هو شرط في الحقيقة واقع واحد، ولكنه فيه ألف وباء في داخل الشرط، على سبيل البدلية إذا كان للميت فرع وارث فإن الأم لا ترث إلا السدس، وإذا لم يكن له فرع وارث ولكن له عدد من الإخوة فالأم ترث السدس أيضاً، وهذا: (بتنزيل الصمد)؛ لأن الله صرح بذلك في كتابه: وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ [النساء:11].
وقبل ذلك قال: وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [النساء:11]، فالأبوان مع الفرع الوارث لكل واحد منهما السدس كما صرح الله بذلك، والأم مع العدد من الإخوة قال: (( فَلأُمِّهِ السُّدُسُ )) أيضاً.
(وهكذا مع ولد الابن): طبعاً هذه يضاف إليها الشرط الآخر وهو: ألا تكون إحدى العمريتين أيضاً بالنسبة للأم.
(وهكذا مع ولد الابن الذي ما زال يقفو إثره ويحتذي)
لا فرق بين أن يكون الفرع الوارث مباشراً أو غير مباشر، وهو أن يكون ولداً للصلب، أو أن يكون ولد ابن غير مفصول إلا بذَكَر، سواء كان هو ذكراً أو أنثى، فإنه يحجب الأبوين حجب نقصان إلى السدس، ففرضهما السدس حينئذ مع وجود الفرع الوارث.
(ما زال يقفو إثره)؛ أي: ولد الابن يقفو الابن، فهو عند عدم الابن يحل محله تماماً؛ لذلك قال: (يقفو إثره ويحتذي)؛ أي: يحتذي به، والاحتذاء في الأصل معناه: قياس الحذاء على الحذاء، والعرب كانوا يحتذون النعال من الجلود أي: يقطعون النعل على النعل؛ لتكون محاذيةً لها ومساويةً لها؛ ولذلك قال الشاعر:
حذاني بعدما خذمت نعالي دبية إنه نعم الخليل
مقابلتين من صلوي مشب من الثيران وصلهما جميل
(حذاني) معناه: أعطاني حذاءً، (بعدما خذمت نعالي)؛ أي: تخرقت، (دبية إنه نعم الخليل) (مقابلتين): اليمنى واليسرى إذا أرخيت إحداهما على الأخرى صلح استعمالهما نعلين، (مقابلتين من صلوي مشب من الثيران)، (مشب): نشط.
والصلوين: هما جلدا الفخذين أو الوركين، ويطلقان على عرقين في الفخذين ينتصبان في القيام والركوع، ويميلان في حال الجلوس والسجود، وقيل: منهما اشتقاق الصلاة، قيل: اشتقاق الصلاة من الصلوين، وقيل: من المصلي الذي هو ثاني حلبة السباق، وقيل: من التصلية التي هي تقويم العود على النار، وقيل: من الصلة؛ لأنها صلة بين العبد وربه، وقيل: من الصلاة بمعنى الدعاء؛ لأنها موضع له ومحل له، وهذه الاشتقاقات هي اشتقاقات الفقهاء، وليست صالحةً للاشتقاق لدى أهل اللغة، والفقهاء يذكرون ذلك، كما قال أحدهم:
من المصلي والصلا والصلة أو الدعاء الصلاة والتصلية
هذه خمسة هي التي يذكرون اشتقاق الصلاة، (من المصلي): وهو ثاني حلبة السباق، المجلي الأول، والمصلي هو الذي بعده، والصلا: وهو هذا العرق، تثنيته: صلوان، (والصلة)؛ لأنها صلة بين العبد وربه، (أو الدعاء)؛ أي: الصلاة التي هي بمعنى الدعاء، (الصلاة) هي المبتدأ، وخبرها( من المصلي)، (والتصلية): معطوفة على السابق: وهي تسخين العود على النار ليقوم.
(دبية إنه نعم الخليل)، دبية: اسم رجل.
(وهو لها أيضاً مع الاثنين من إخوة الميت فقس هذين)
كذلك الأم ترث السدس إذا كان للميت عدد من الإخوة سواء كانوا لأب، أو لأم، أو متنوعين، وسواء كانوا ذكوراً أو إناثاً، وقد ذكرنا الخلاف في هذه المسألة، وسواء ورثوا أو حجبوا، وقد ذكرنا الخلاف في هذه المسألة أيضاً، هي ثلاث مسائل كلها فيها خلاف، الجنس الذي يحجب الأم من الإخوة: هل يشترط أن يكون فيه ذَكَر كما هو مذهب معاذ بن جبل، أو لا يشترط ذلك كما هو مذهب الجمهور؟ والعدد هل هو اثنان فصاعداً كما هو مذهب الجمهور، أو يختص بثلاثة فصاعداً كما هو مذهب ابن عباس؟ أو شرط ميراث الإخوة أن يكونوا وارثين كما هو مذهب ابن تيمية، أو لا يشترط ذلك كما هو مذهب الجمهور؟
ثم ذكر الثالث من الذين يرثون السدس، وليس ذلك حسب ترتيبه، فالترتيب لدى أهل البلاغة ثلاثة أقسام: لف ونشر مرتب، ولف ونشر معكوس، ولف ونشر مشوش، فاللف والنشر المرتب: أن يبدأ في الذكر بالأول فالأول، وفي التفصيل يراعى الترتيب السابق، وهذا يسمى: اللف والنشر المرتب، واللف والنشر المعكوس: هو أن يبدأ في التفصيل بآخر مذكور في الإجمال، ثم الذي يليه إلى نهايته، واللف والنشر المشوش معناه: أن يأتي الذكر في الإجمال، فإذا جاء التفصيل لم يراعى الترتيب فيه لا من الآخر ولا من الأول، وهو هنا أخذ باللف والنشر المشوش، فاللف هو الإجمال الذي سبق، والنشر هو الآن ما بدأ فيه، اللف مثل: لف الثوب، والنشر: بسطه، فاللف يطلق على الإجمال، والنشر هو التفصيل؛ لذلك قال: (والجد مثل الأب عند فقده) معناه: والجد يرث السدس كالأب بشرط وهو (عند فقده)، معناه: شرط ميراثه للسدس عدم وجود الأب، والمقصود هنا الجد الصالح لا الجد الفاسد، فالجد الفاسد هو: المفصول بأنثى، فكل جد بينه وبين الميت أنثى، كأبي الأم، وأبي أم الأب، ونحو ذلك فإنه لا يرث، فإذاً هو أبو الأب، ثم أبوه، ثم أبو أبيه، إلى نوح عليه السلام، فإنه يحجبه مَنْ دونه، فالجد المباشر يحجب أباه وجده هكذا، والأب يحجب كل جد، هذا الجد الصالح: هو من يدلي بذكر، الغير صالح: من يدلي بأنثى، كل جد مفصول عن الميت بأنثى فإنه لا يرث، كل جد مفصول يدلي للميت بذكر، فهذا الجد الوارث، جد ليس مفصولاً بأنثى.
(والجد مثل الأب عند فقده في حوز ما يصيبه ومده).
التشبيه للجد بالأب محله (في حوز)؛ أي: ملك (ما يصيبه)؛ أي: ما خصص له في القرآن، (ومده)؛ أي: زيادته، فإنه يرث بالفرض ويرث بالتعصيب، فإذا أنفرد أو كان معه من لا يستغرق المال من أصحاب الفروض فإنه يأخذ سهمه فرضاً، وهو السدس، ثم يأخذ ما زاد عليه تعصيباً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر )، فهو أولى رجل ذكر عند عدم الأب، وهذا معنى قوله: في مما يصيبه، أي: في الفرض، ومده، أي: في التعصيب، (إلا إذا كان هناك إخوة)، يستثنى من ميراث الجد للسدس إذا كان هناك إخوة؛ أي: كان للميت عدد من الإخوة، فإنهم يساوون الجد في القرابة، فالجد يدلي بولده الذي هو الأب، والإخوة يدلون بأبيهم الذي هو الأب أيضاً، فهم يدلون بشخص واحد، ونسبة الإدلاء متساوية، ليس أحد منهم أقرب، فالإخوة لا يفصلهم عن الميت إلا الأب، والجد لا يفصله عن الميت إلا الأب، فهم يدلون بشخص واحد؛ فاستووا، فسيأتي إن شاء الله ميراث الإخوة مع الجد والتفصيل فيه، وهي من المسائل التي فيها إشكال كبير لدى الصحابة رضوان الله عليهم، وقد قالوا: من سره أن يقتحم جراثيم جهنم فليحكم في مسألة الجد والإخوة؛ لأن هذه المسألة لم تحصل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في حياة أبي بكر، وإنما حصلت في أيام عمر وابتلي هو بها في بيته وأسرته، فقد مات عبد الرحمن بن عمر رضي الله عنه وكان له ثلاثة من الولد، فلما مات أحد أولاده أيضاً الثلاثة، فترك أخوين، فأراد عمر أن يحوز مال ذلك الولد دون أخويه، فخاصمه الصحابة في ذلك، فقال: كيف يكون لي ولد يرثني دون إخوتي، ولا أكون له أباً لا أرثه دون إخوته؟ لو مت أنا لورثني دون إخوتي؛ لأنه ابن ابن، فكيف يكون لي ولد ولا أكون له أب؟ فاصطلحوا على أن يقاسم الإخوة، فجعل نفسه كأحد الإخوة؛ فورث الثلث؛ لأن الولد له أخوان، فكان عمر كأخ ثالث، فورث الثلث، وورث الأخوان الثلثين الباقيين.
عبد الرحمن بن عمر أحد أولاده، ترك ثلاثة أولاد أحدهم المجبر الذي كثرت الرواية عنه في الموطأ وفي الصحيحين وغيرهما، المجبر هذا ابن عبد الرحمن بن عمر، وعمر له ثلاثة أولاد، كل واحد منهم اسمه: عبد الرحمن، وله ولدان كل واحد منهما اسمه زيد، وله غير ذلك من الولد عبد الله، وعبيد الله، وعاصم، وعياض، وهؤلاء هم أولاد عمر، أكبرهم عبد الله، ثم عبيد الله، وهذان شقيقان لـحفصة أم المؤمنين، وأمهم زينب بنت مظعون الجمحية، ثم بعد ذلك عاصم وأمه بنت عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح -شهيد بئر الرجيع- الذي قتل يوم بعث الرجيع، وعياض، وزيد الأكبر، أمهما أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، وتوفي -زيد- معها في وقت واحد، وصلي عليهما معاً، ولم يرث واحد منهما من الآخر، وزيد الأصغر وثلاثة كل واحد منهم اسمه عبد الرحمن، هؤلاء هم أولاد عمر بن الخطاب، كما قال البدوي رحمه الله في الأنساب:
أولاده عوابد الرحمن وعاصم زيد وزيد ثاني
وعبد الإله وعبيد الله عياض تاسع بني الأواه
فلذلك قال: (لكونهم في القرب وهو أسوة)، لكونهم مع الأب أسوةً؛ أي: يأتسون به في القرب، فلا يفصلهم عن الميت إلا شخص واحد وهو الأب، وهم يدلون به جميعاً، فلا فرق بينهم في نسبة الإدلاء وفي منزلة القرب.
(أو أبوان معهما زوج ورث فالأم للثلث مع الجد ترث)
كذلك إذا كانت المسألة جدّاً، وأماً، وزوجاً، وهذا المقصود بالأبوان هنا: الجد، والأم، (فالأم للثلث مع الجد ترث)، فالأم حينئذ ترث الثلث؛ لأنها لا يحجبها فرع وارث، ولا عدد من الإخوة، والجد حينئذ يرث ما بقي.
وليست إحدى العمريتين، لكنها تشبه عمريتان فيهما أبوان، وهذه المسألة فيها: جد، وأم، وزوج، فالزوج يرث النصف، والأم ترث الثلث، والجد يرث ما بقي، وهو السدس هنا في هذه المسألة.
ثلث الأصل طبعاً؛ لأنه ليس له عدد من الإخوة، فالمسألة تصحيحها من ستة، هي في الأصل من ستة، فالزوج له ثلاثة، والأم لها اثنان، والجد له واحد، فهذه المسألة ليس الجد فيها شبيهاً بالأب؛ لأنه ورثت الأم أكثر مما يرث، فلو كان في المسألة أب لورثت الأم ثلث الباقي ولم ترث الثلث مثل العمريتين السابقتين.
وليست من العمريتين، لو كانت من العمريتين لكانت الأم أقل نصيباً من الأب؛ لأنها ترث ثلث الباقي، وهي هنا ورثت ضعفي ما ورثه الجد، فهي ورثت الثلث كاملاً، والجد ورث السدس فقط.
(وهكذا ليس شبيهاً بالأب في زوجة الميت وأم وأب)
كذلك إذا مات ميت عن: زوجة، وجد، وأم، فالزوجة ترث الربع، والأم ترث الثلث، والجد يرث ما بقي، فليس شبيهاً بالأب هنا؛ لأنه لو كان شبيهاً بالأب لكانت هذه العمرية الثانية، وورثت الأم ثلث الباقي، وورث الأب ثلثي ما بقي.
(وحكمه وحكمهم سيأتي مكمل البيان في الحالات)
وحكمه؛ أي: الجد، وحكمهم؛ أي: في حال اجتماعهم معه؛ أي: الإخوة، وهي مسائل الجد والإخوة، سيأتي؛ أي: سيفصله المؤلف رحمه الله، (مكمل البيان في الحالات)؛ أي: في حالات الجد والإخوة.
ثم قال:
(وبنت الابن تأخذ السدس إذا كانت مع البنت مثالاً يحتذى)
معناه: الرابع من الذين يرثون السدس بنت الابن، وترثه بأربعة شروط:
الشرط الأول: ألا يكون للميت ولد ذكر، فإن كان له ولد ذكر، فإنها محجوبة به.
الشرط الثاني: أن يكون له بنت واحدة، فإن كان له عدد من البنات، فإنها لا ترث شيئاً.
الشرط الثالث: ألا يكون معها معصب لها، فإن كان معها معصب لها، فإنها ترث تعصيباً لا فرضاً، كما إذا كان لها أخ أو ابن عم مساو لها في الدرجة، فإنه يعصبها بنت الابن، إذا كان للميت بنت ابن وابن ابن، وقد مات أبواهما، وهما يرثان جدهما، فإنهما يرثانه كميراث الأولاد مباشرةً للذكر مثل حظ الأنثيين، فلا ترث السدس؛ إذاً من شرط ميراثها للسدس ألا يكون لها معصب.
الشرط الرابع من شروط ميراثها للسدس: عدم تعددها في حالة عدم وجود البنت، فإنه إذا لم يكن للميت بنت وورثه بنات ابنه، فلهن الثلثان، بنات الابن عند عدم البنات لهن الثلثان إذا تعددن، وإذا انفردت واحدة كان لها النصف، وهذه المسألة فيها ما يسمى بالقريب المبارك، والقريب المشئوم، عند أهل الفرائض، فالقريب المبارك: هو الذي لولاه لم ترث بنت الابن، أو الأخت لأب، والقريب المشئوم هو الذي لولاه لورثت، فهو معصب لها، قد يكون مباركاً عليها ترث به ولولاه ما ورثت، وقد يكون مشئوماً عليها لولاه لورثت، وسيأتي تفصيل ذلك؛ فلهذا قال:
(وبنت الابن تأخذ السدس إذا كانت مع البنت مثالاً يحتذى)
(إذا كانت مع البنت) معناه: الواحدة؛ فإذاً الشرط وجود بنت، والشرط الثاني: عدم تعدد البنات، والشرط الثالث: عدم وجود المعصب، والشرط الرابع: عدم وجود ذكر من الأولاد.
(وهكذا الأخت مع الأخت التي بالأبوين يا أخي أدلت)
كذلك الأخت لأب إذا كانت مع الأخت الشقيقة فإنها ترث السدس؛ بهذه الشروط:
الشرط الأول: ألا يكون للميت فرع وارث، فإذا كان للميت فرع وارث من الذكور فهي محجوبة مطلقاً، وإذا كان له فرع وارث من الإناث فهي معصبة مع الغير، كما سيأتي إن شاء الله في التعصيب.
الشرط الثاني: ألا يكون للميت شقيق ذكر أو عدد من الشقيقات، فإن كان له شقيق ذكر فإنه يحجبها، وإذا كان له شقيقتان فأكثر، فهي ساقطة لا ترث شيئاً.
الشرط الثالث: إذا كان للميت أختان شقيقتان، فإنها لا ترث شيئاً؛ لأن نصيب الأخوات أصلاً الثلثان، وقد استكملتهما الأختان الشقيقتان.
فإذا لم يكن للميت بنت أصلاً، وكان له أختان شقيقتان، وأخت لأب، فالأختان الشقيقتان ترثان نصيب الأخوات وهو الثلثان، والأخت لأب ليس لها شيء في هذه الصورة.
السؤال: ترتيب الأولويات: هل يبدأ بطلب العلم، أو بطلب الرزق؟ وما التوجيه لذلك؟
الجواب: أن طلب العلم هو طلب للرزق، فقد قال الله سبحانه وتعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132].
والشافعي رحمه الله يقول: العلم أولى من صلاة النافلة، فقد غدا الله طالبه، (غداه)؛ أي: تكفل له برزقه، إن الله تكفل لطالب العلم برزقه؛ ولهذا قال السيوطي رحمه الله:
والعلم خير من صلاة نافله فقد غدا الله برزق كافله
وأهل العلم يذكرون تسلسلاً عجيباً، فيقولون: جرت العادة في الأسر العلمية أن الفقر سبب لطلب العلم، فإذا افتقرت أسرة من الأسر فإن أولادها سيقبلون على طلب العلم، فيصلون إلى العلم، فيكون الفقر سبباً للعلم، والعلم سبب للغنى، والغنى سبب للجهل، والجهل سبب للفقر، فتعود الدائرة، فالعلماء أولادهم عادةً يكونون أغنياء، والأغنياء عادةً أولادهم يكونون جهالاً، والجهال عادةً أولادهم يكونون مشتغلين بالعلم، يكونون علماء، فتعود الدائرة.
السؤال: من مات عن زوجة وأم شقيقتين.
حرف أبوها أخوها من مهجنة وعمها خالها قوداء شمليل
هل يختص الإخوة للأم بخاصية حجب من يدلون به، أم هي غير مختصة بهم؟
الجواب: ذكرنا أنها مختصة بهم في الأصل، وإدلاء الإخوة الأشقاء يحجبون الأم أيضاً، لكنهم يدلون بها وبالأب، فليس إدلاؤهم متمحضاً بالأم، إذا كانت المسألة فيها زوج وجد وأم، فالزوج يرث النصف، والأم ترث الثلث، والجد يرث السدس الذي هو ما بقي، فهو عاصب، هنا يرث ما بقي بعد صاحبي الفرض.
والرد على استدلال ابن تيمية، فقد استدل ابن تيمية رحمه الله بأن الله لم يذكر الأب عند حجب الإخوة للأم، فقال: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ [النساء:11]، فلم يذكر الأب؛ فدل ذلك على أن المسألة ليس فيها أب؛ لأن الأب يحجب الإخوة، هذا استدلاله، والجواب عن هذا أن يقال: إن الإخوة لأم أيضاً يحجبونها، وهم لا يرثون مع الأب أصلاً، فلو كانت المسألة فيها أب ومعه إخوة لأم، فهم محجوبون قطعاً بالأب، وهم يحجبون الأم هذا الحجب، ونصيبهم لا يزيد ولا ينقص.
السؤال: من الفرع الذي يحجب الزوجة؟
الجواب: نعم بالنسبة للفرع الذي يحجب هو الفرع الوارث، فإذا كان الفرع غير وارث فلا.
السؤال: هل الحرة تلد مملوكاً مثلاً؟
الجواب: نعم، إذا أعتقت هي، وكان لها ولد، فبقي الولد لم يعتق، بقي الولد على الرق وأعتقت أمه، فهذه المرأة عتيقة حرة، وولدها مملوك، فهو لا يرثها؛ فلذلك لا يحجب زوجها حجب نقصان، إذا أعتقت بعد أن ولدت، هذا جواب السائل.
السؤال: ما هي شروط ميراث الأخت الشقيقة للنصف؟
الجواب: شروط ميراث الأخت الشقيقة للنصف: ألا يكون للميت أصل وارث من الذكور، وألا يكون له فرع وارث مطلقاً، سواء كان ذكراً أو أنثى، وأن تكون منفردةً غير متعددة، نعم، وألا يكون لها معصب، فهذه هي شروط ميراث الأخت الشقيقة.
السؤال: إذا كان الزوج والزوجة كل منهما ابن عم الآخر، ومات الجد الجامع بينهما، ألا يمكن أن يكون هذا اجتماع الزوجين في التركة الواحدة؟
الجواب: قد ذكرنا أن النسبة إنما هي إلى الميت، فلا يمكن أن يكون للميت زوج وزوجة في نفس التركة، قد يكون من الورثة زوجان، لكن ليسا زوجين للميت، كل علاقة نذكرها في التركة فهي إلى الميت.
السؤال: كيف نقسم مسألة زوج وأم وأختان؟
الجواب: المسألة في الأصل من ستة وعالت لتسعة، فالزوج له ثلاثة، والأختان لهما الثلثان، والأم لها السدس، والزوج له النصف، والأختان لهما الثلثان، فالمسألة عائلة، فالستة تعول ثلاث مرات، ولا عول إلا في ثلاثة أصول هي: ستة، واثنا عشر، وأربعة وعشرون، فأربعة وعشرون تعول مرةً واحدةً، واثنا عشر تعول ثلاث مرات، والستة تعول إلى أن تصل إلى العشرة.
السؤال: أرجو إعادة العمريتين؟
الجواب: العمريتان هما مسألتان: هلك فيهما في الأولى منهما رجل، وترك أبوين وزوجةً، وفي الثانية: ماتت امرأة، وتركت زوجاً وأبوين، فالزوج إذا لم يكن للميتة فرع وارث فرضه ما هو؟ النصف، والأبوان يرثان ما بقي للذكر مثل حظ الأنثيين على القاعدة؛ أي: إن الأب يرث ثلثي ما بقي، والأم ترث ثلث الباقي.. وهكذا في المسألة الثانية وهي: زوجة ترث الربع، وما بقي يرثه الأبوان، الأم لها ثلث الباقي، والأب له ثلثاه.
السؤال: ما نصيب زوجة وجدة وبنتان وأخ لأب؟
الجواب: بالنسبة للبنتين لهما الثلثان، والزوجة لها الثمن، والجدة لها السدس، وما بقي هو للأخ لأب؛ لأنه معصب، ونفس الشيء بالنسبة ل.. المشكلة أنه يكتب وابن شقيق، كيف يكون الابن شقيقاً؟ كل نسب ذكرناه إنما هو للميت، فلا بد أن تلاحظوا أن النسب إنما هو للميت، فلا يمكن أن يكون له ابن شقيق.
السؤال: هذا يقول: أنا شاب أبلغ من العمر ستاً وعشرين سنةً، تزوجت من ابنة عمي، وأمارس التجارة من خلال محل، ولكن أشتاق إلى طلب العلم، وهموم العمل وقضايا التجارة لا تسمح لي بذلك، كلما حاولت دراسة كتاب من كتب العلم، وخصصت له وقتاً من ساعات العمل سرعان ما يتوقف الطلب، والمتابعة في الكتاب؛ نتيجة تراكم الانشغالات، فهل أستجيب لنداء ضميري، وأتفرغ لطلب العلم، وأترك المجال التجاري وما فيه من عوائق، أو أبقى أسير في هذا العمل، مع أني عجزت عن تحصيل العلم؟
الجواب: أنه لا بد من التوازن، وأن يعرف الإنسان أنه موظف في وظيفتين، إحداهما: تحصيل حسنة المعاد، والأخرى: تحصيل درهم المعاش، والموازنة بينهما مقتضية لأن يجعل من وقته وقتاً للتعلم، ووقتاً للعمل، والعمل يشمل الجانب التعبدي الأخروي، والجانب الدنيوي، ولا تعارض بين هذه الأمور، فالجمع بينها ممكن جداً، ومن الأمثلة على هذا ما حصل لـحسن البنا رحمة الله عليه لما جاء إلى القاهرة من قريته، والتحق بمدرسة المعلمين، رأى أنه لا بد أن يدرس على المشايخ، ورأى أن الدراسة على المشايخ تقتضي أنه لا بد أن يكون له مصاريف للتنقل بين الحلقات، فذهب إلى صاحب بقالة، فكان يجلس عنده حتى تعرف عليه، وأعجب بخلقه وذكائه وتعامله مع الزملاء، فسأله صاحب البقالة أن يشتغل عنده في العمل، فشرط ألا يشتغل إلا ساعتين من اليوم، فجعل له مرتباً لمقابل ساعتين، فكان يعمل يومياً ساعتين في المحل التجاري، وباقي الوقت ما بين الدراسة في مدرسة المعلمين، والدراسة على المشايخ، يتنقل بينهم.
وقد أخذ بذلك في سنة الشافعي رحمه الله، فإنه لما أتى المدينة، ووجد حلقات العلم في المسجد النبوي، وفي مساجد المدينة الأخرى- احتاج إلى حمار يركبه، فتعب في النفقة على الحمار، فقال: كيف يقرأ من له حمار؟ فباعه، ثم تعب في السير على رجليه بين الحلقات، فقال: كيف يقرأ من لا حمار له؟ فعاد، فاشتراه مرةً أخرى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم..
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر