الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى خلق الخليقة وأرشدهم ودلهم, وجعل الله عز وجل وسائل للإرشاد في هذه الأرض, منهم ما دليله وإرشاده قائم في ذاته مع خلقته, ومنهم من كرمه الله سبحانه وتعالى وزاده قوة في ذلك؛ كما أكرم الله عز وجل الإنسان, أكرم بني آدم بالعقل, وجعل لهم من الإدراك ما يستوعبون فيه نعم الله عز وجل وآياته وآلائه.
وكذلك أيضاً يكرم الله سبحانه وتعالى الخلق بالوحي, ولهذا أرسل الله عز وجل الرسل, وأنزل الكتب, وأظهر البينات والحجج, وجعل الله عز وجل أيضاً مع الأنبياء من المعجزات ما يظهر بذلك الحق الذي يرشد الإنسان إلى ربه سبحانه وتعالى, ولهذا جعل الله عز وجل ما في الكون من آيات ومن دلالات وبراهين تدل على الخالق سبحانه وتعالى وترشد إليه, سواء استدل الإنسان بذلك بنظره وعقله المجرد أم دل على ذلك النص الظاهر من كلام الله سبحانه وتعالى, وكل ذلك يحتاج إلى تأمل وطول نظر, وكلما أمعن الإنسان وأدام النظر في ذلك؛ فإنه يخرج بنتائج تختلف عن غيرها, ولهذا أمر الله سبحانه وتعالى بالنظر إلى السماء, ليس كرة ولا كرتين؛ حتى يصل الإنسان في ذلك إلى معرفة الحقائق من آيات الله ودلائله وبراهينه التي تدل الإنسان إليه.
إن معرفة الله سبحانه وتعالى أمر واجب على الخليقة, وكذلك أيضاً معرفة آيات الله عز وجل ومعرفة مخلوقاته سبيل موصل إلى معرفة الله, ولهذا فإن الإنسان لا يعرف قيمة نفسه إلا بمعرفة خالقه, ولا يعرف قيمة المخلوقات إلا وقد عرف الخالق, وكلما ضعف الإنسان في معرفة الله سبحانه وتعالى فهذا أمارة على ضعفه في تأمل آيات الله عز وجل ومخلوقاته, ولهذا كثيراً في القرآن يأمر الله جل وعلا عباده أن ينظروا, وأن يتفكروا, وأن يعتبروا, وأن يستبصروا, وغير ذلك من المعاني والمترادفات في كلام الله سبحانه وتعالى, التي تأمر الإنسان أن يتأمل ويتفكر ويستبصر في آيات الله عز وجل ومخلوقاته, سواء ما قرب عنده أو ما كان بعيداً, ولهذا إنما يؤتى الناس حينما يعصون الله عز وجل بسبب عدم معرفتهم بحق الله عز وجل وقدره, ويضل في جانب حق الله عز وجل ويفرط ويضيع إذا لم يعرف مقدار حق الله جل وعلا على العبد، ولهذا إنما يضل المشركون في هذا الباب فيعبدون غير الله لاختلال توازن المعرفة بين الخالق والمخلوق, فإذا انشغلت أذهانهم بمعرفة صنم أو وثن عظموه في أنفسهم حتى سلبوا حق الله وجعلوه فيه, إذاً فثمة اختلال من جهة معرفة حقائق الأشياء, ولهذا بالعقل وبالشرع فإن المعرفة تكون على نوعين:
النوع الأول: معرفة الشيء بذاته, أن تعرفه بذاته منفرداً, لا عن غيره.
النوع الثاني: معرفة الشيء مقارنة بغيره, فإنك ربما تستعظم شيئاً, ولكن إذا عرفت غيره احتقرته؛ لماذا؟ لأنك ما عرفت إلا هو, ولهذا الله سبحانه وتعالى يجعل الإنسان يتحول من رأي إلى رأي؛ وذلك لتنوع المعرفة التي يؤتاها, يضل الناس في حق الله فيعصونه ويكفرون به، ويشركون مع الله عز وجل غيره؛ لأنهم جهلوا حق الله سبحانه وتعالى.
في هذه الكلمة التي نتكلم فيها على شيء من معرفة حق الله سبحانه وتعالى, وهذا يظهر في قول النبي صلى الله عليه وسلم لذلك الأعرابي الذي جاء إليه فقال: (أتدري ما الله؟), جاء في السنن من حديث محمد بن جبير عن أبيه عن جده: ( أن أعرابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله, هلكت الأموال وضاعت العيال وانقطعت السبل، فاستسق لنا فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك, قال: فاحمر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ويحك! أتدري ما الله؟ فأخذ يسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تغير وجهه وهو ينزه الله عز وجل مما قاله ذلك الأعرابي ).
النبي صلى الله عليه وسلم حينما جاءه ذلك الأعرابي وهو يريد أن يستغيث به على الله وأن يستغيث بالله عليه, أي: يريد أن يجعل الله عز وجل وسيلة توصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لينفع أو يضر, وهذا عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنه ما عرف الله, ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم ما قال له: ويحك! أتدري من أنا, وإنما قال له: (ويحك! أتدري ما الله؟), يعني: جهلت قيمة الله فضللت في حقه وأعطيت حق الله جل وعلا لغيره, ولهذا أراد من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل الغيث؛ بل أراد ما هو أشد من ذلك, أن يجعل الله عز وجل شفيعاً عند رسوله حتى ينزل الغيث.
هذا الاختلال في أمر المعرفة هو سبب ضلال البشرية في حق الله سبحانه وتعالى؛ أنهم عرفوا حقائق الأشياء وجهلوا غيرها، ونفس الإنسان تملؤها المعرفة, فإذا عرف حيواناً ولم يعرف غيره تعلق به, وإذا عرف مخلوقاً وكرمه تعلق به إذا لم يعرف من هو أكرم منه, وإذا عرف قوياً ولم يعرف من هو أقوى منه تعلق به وظن أنه أكرم الناس, ولهذا الله سبحانه وتعالى يعرف نفسه إلى عباده بذكر أسمائه وصفاته, وذكر حقه على عباده لازم لذلك, ويبين الله عز وجل أيضاً حقه على عباده بتعريف عباده بأنفسهم وبيان أيضاً ضعفهم وقصورهم, ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاءه ذلك الأعرابي واستشفع به على الله واستشفع بالله عليه؛ وقال له: ( ويحك! أتدري ما الله؟ وأخذ يسبح النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: إن الله فوق عرشه، وعرشه على سماواته، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم بيده هكذا وفرج بين أصابعه كالقبة ), والنبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يعرف الله عز وجل إلى ذلك الأعرابي بذكر شيء من مخلوقات الله وهي السماوات, وكذلك العرش, وأن يبين منزلة الله عز وجل ببيان منزلة بعض مخلوقاته التي هي أعظم من الإنسان, وهذا ما يستعمله النبي صلى الله عليه وسلم بالتعريف بالله, وبيان منزلته عند الناس, وذلك ببيان مخلوقاته وعظمها.
وقد جاء في ذلك أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على هذا المعنى أن بيان حق الله عز وجل يتضح ببيان مخلوقات الله عز وجل التي هي أعظم من الإنسان, وذلك أن الإنسان بحاجة إلى كسر نفسه وكسر المعظم عنده, وكسر نفسه ببيان جهله, وهذا ما يأمر الله عز وجل الإنسان به أن يتفكر وأن يتدبر بحاله ومنزلته وقصوره وضعفه, وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21], وكذلك بيان أن ما يدرك من حواس تخدعه ولا تدله إلى الحق دوماً, وإنما يكبو ويتعثر ويسقط, وكذلك أيضاً يخدع نفسه ويخطئه عقله كثيراً ويرديه, ولهذا جعل الله عز وجل في الإنسان نفسه وهواه تغالبه وتصارعه؛ حتى توقعه فيما يخالف أمر الله سبحانه وتعالى.
ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم يدلل كثيراً في ذكر بعض الأحوال من جهة معرفة الله سبحانه وتعالى بمعرفة مخلوقاته وتعظيمها، بالنسبة لضعف الإنسان وقصوره, ولهذا الله عز وجل يقول: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [غافر:57], يعني: أن الإنسان إذا كان يعظم نفسه عند نفسه ويرى أنه هو المعظم والسيد والآمر والناهي ليعلم أن خلق السموات والأرض أعظم وأكبر منه, ولكن جهله بذلك لا يعني أنه أعظم من غيره, وقد جاء في المسند وغيره من حديث عباس, وجاء أيضاً من حديث أبي هريرة عليه رضوان الله, وجاء أيضاً من حديث عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى موقوفاً: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى سحابة تمطر, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذه؟ (والنبي صلى الله عليه وسلم يعلم, ويعلم أنهم يعلمون ما هذه), فقالوا: السحاب, قال: والمزن؟ قالوا: والمزن, قال: والعنان؟ قالوا: والعنان, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتدرون كم بين السماء الدنيا وبين الأرض؟ قالوا: الله ورسوله أعلم, قال: ما بين السماء الدنيا والأرض مسيرة خمسمائة عام, وهل تعلمون ما بين السماء الدنيا إلى السماء التي تليها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم, قال: مسيرة خمسمائة عام, قال: وهل تعلمون ما بين أدنى السماء وأعلاه وسمك كل سماء؟ قالوا: الله ورسوله أعلم, قال: مسيرة خمسمائة عام ).
والنبي صلى الله عليه وسلم حينما أراد وبدأ هذا من تعريف المسافة التي تكون بين السماء وبين الأرض, والتي تكون بين السماء والتي تليها بدأ بها من سحابة تمطر, وأراد أن يعرف بهذا لأن ينتقل فيما وراءه, ( حتى بلغ النبي صلى الله عليه وسلم السماء السابعة, قال: وتعلمون ما فوق السماء؟ قالوا: الله ورسوله أعلم, قال: العرش, وما بين أدناه وأعلاه مسيرة خمسمائة عام ), وهذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يبين ضعف الإنسان ببيان قياس زمنه, من جهة مسيرة الإنسان وذهابه وضربه بأسفاره, أن يبين أن ما خلق الله عز وجل من المسافات الشاسعة ما يجب على الإنسان أن يعلمه, ومعرفته في ذلك ترجع إلى الإنسان بماذا؟ ترجع إلى الإنسان باستضعاف نفسه ومعرفة قيمة الخالق.
ولهذا إذا ضل الإنسان في معرفة الموازين والقوى فإنه يختل حينئذ من جهة التوكل, المحبة, الخوف, الرجاء, وما ينتج عن ذلك من بذل العبودية لله سبحانه وتعالى بعبادة الجوارح, السجود لغير الله, سؤال غير الله, التضرع لغير الله؛ كحال ذلك الأعرابي الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستشفع بالله عليه؛ لأنه عرف شيئاً وجهل أشياء فكفر بالله سبحانه وتعالى, ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام كان يعرف الله عز وجل للناس بتعريف مخلوقات الله عز وجل إليهم, وذلك أنهم يعلمون أن كل ما يرونه هو من خلق الله, فاعرف خلق الله غيرك تعلم ضعفك وتعلم مقدار الله سبحانه وتعالى, ولهذا ما وقع الناس في معصية, وما وقع الناس في كفر وفي شرك أو بدعة فيما يخالف أمر الله سبحانه وتعالى, أو غلب الهوى الإيمان, ما كان ذلك ليكون إلا بسبب ضعف الإنسان بمعرفة الله سبحانه وتعالى.
ولهذا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم يعرف الله للناس, والله جل وعلا في كتابه يعرف نفسه للناس بوسائل متعددة:
منها: تعريف الله عز وجل بنفسه لعباده بأسمائه, وذلك بذكر أسماء الله عز وجل التي تدل على قدرته, وكماله, وعزته, وضعف عباده, ولهذا الله عز وجل يذكر أسماءه؛ الأول, والآخر, والظاهر, والباطن, الرزاق, العظيم, الحليم, اللطيف, القوي, الجبار, وغير ذلك من أسماء الله سبحانه وتعالى, يعرف الله عز وجل ذلك لعباده حتى ينظروا في تصرف الكون فيكلوا الأمر إلى الله سبحانه وتعالى ويعظموه حق تعظيمه.
وبمقدار جهل الإنسان بالله يعصي الله, وبمقدار جهل الإنسان بالله يتعدى على الله, وبمقدار جهل الإنسان بالله يعبد غير الله ولو كان ضعيفاً, لهذا الله سبحانه وتعالى يبين هذا الأمر؛ كما في قول الله عز وجل: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ )), الله عز وجل يريد أن يبين هذا المعنى للناس, أنكم عبدتم غير الله؛ لأنكم جهلتم حق الله, يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج:73], ما هو السبب في الوثنية؟ ما هو السبب في الشرك؟ السبب في الوثنية والشرك أنهم ما قدروا الله حق قدره, ولهذا عبدوا غير الله؛ لأنهم جهلوا منزلة الله وعرفوا منزلة غيره, ولهذا إذا جهل الإنسان قدر الله سبحانه وتعالى ضل في العبودية والطاعة؛ فأشرك مع الله عز وجل غيره وتعلق بالوهم, ولهذا الله سبحانه وتعالى يبين قوته ليظهر ضعف غيره, ويبين عزته وتمكينه ليظهر ذلة غيره وهوانه, ويبين الله سبحانه وتعالى أيضاً كرمه ورزقه ليبين فقر غيره؛ لأن الإنسان إذا علم خزائن الله عز وجل فإنه يعرف ما عند الناس من قلة يد, وكذلك أيضاً ضعف في العطاء.
ولهذا كما جاء في حديث عبد الله بن عباس وغيره ذكر النبي عليه الصلاة والسلام شيئاً من هذا التعريف الذي يقرب الإنسان إلى الله ويعرفه ليجحد بغيره؛ من جهة بذل العبودية لغير الله سبحانه وتعالى, فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد، ما نقص ذلك من ملكي شيء, ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد..) يعني: عدد الناس من أولهم إلى آخرهم صلاحاً فإن هذا لا ينفع الله سبحانه وتعالى.
وكذلك أيضاً أن الناس لا يبلغون ضر الله عز وجل فيضروه, وإذا علموا ذلك؛ أن الإنسان يستطيع أن يضر غيره, أن يضر الصنم والوثن, وأن يضر أيضاً ما يتوهم أنه معبود أو غير ذلك, ولكن الله عز وجل لا يبلغه ضر أحد, ولهذا الإنسان لا يعرف قيمة الله سبحانه وتعالى إذا جهل آيات الله عز وجل وبراهينه التي جعلها ساطعة ظاهرة بينة.
ومن الوسائل أيضاً التي يعرف الله عز وجل ونبيه ربه سبحانه وتعالى للناس: معرفة صفات الله سبحانه وتعالى, ولهذا يذكر الله عز وجل صفاته في كتابه العظيم؛ ليعرف الإنسان حق الله عز وجل على العباد, وأثره في تدبير الكون وتصريفه, وكذلك أيضاً أثر الله عز وجل على الخليقة في تفريج الكربات, وتيسير الأمور, ورحمة الناس, واللطف بهم, وغير ذلك مما يتعلق بعلم الله سبحانه وتعالى وقوته وقدرته.
وكذلك أيضاً مما يعرف الله عز وجل نفسه لعباده, ويعرف النبي عليه الصلاة والسلام ربه للناس: أن يعرف الله عز وجل ببيان مخلوقاته ومنزلتها, ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يبين ثمة مخلوقات لله عز وجل لا يدركها الإنسان ولا يعلمها, وإن رأى شيئاً من أمر الدنيا فهو ينظر إلى الظاهر ولكن يخفى عليه الباطن, ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يذكر مخلوقات لا يراها الإنسان ولا يدركها, ويبين منزلتها وكثرتها, وهذا جاء في أحاديث كثيرة؛ من ذلك ما جاء في المسند وغيره من حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أترون ما أرى وتسمعون ما أسمع؟ أطت السماء وحق لها أن تئط, ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك ساجد أو راكع ), ومعنى أطيط السماء هو ما يحدث من حمل على الرحل, وهو شبيه بالصرير؛ لثقل من عليها, وذلك من أمور الملائكة وكثرتهم ووفرتهم, ( ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك ساجد أو راكع ), ولهذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام مبيناً ثمرة ذلك: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً, ولما تلذذتم بالنساء على الفرش, ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله).
وهذا الأمر من النبي عليه الصلاة والسلام بالتعريف بالله عز وجل ببيان مخلوقات الله غيرك؛ أن تعلم أنك لست شيئاً, سواء أطعت الله سبحانه وتعالى أو كفرت بالله لن تقدم شيئاً إلى الله سبحانه وتعالى تنفعه به, وإنما نفعك على نفسك, وضرك كذلك يكون عليك.
ولهذا نقول: إن الإنسان يعرف حق الله عز وجل بمعرفة مخلوقات الله, ولهذا أبو ذر وهو راوي الحديث والخبر لما سمع النبي عليه الصلاة والسلام وذكر من مخلوقات الله وذكر من قدرة الله عز وجل قال: ليتني شجرة تعضد, يعني: ليتني شجرة ثم تعضد، ولا أعرض على المساءلة فيما بعد ذلك لهذا العليم الخبير، الذي يحصي على العباد ما يفعلون من دقيق أمورهم وجليلها, من ظاهرها وباطنها يحاسب عليها الإنسان.
لهذا وجب على المؤمن أن يعرف حق الله بمعرفة صفاته ومعرفة أسمائه, والتعرف على الله عز وجل بمعرفة مخلوقاته سبحانه وتعالى, فإن الإنسان إذا عرفها عرف قدرة الله سبحانه وتعالى.
ولهذا نقول: إنما تضل البشرية وتبتعد عن الله بسبب جهلهم بأنفسهم وجهلهم بمخلوقات الله اللازم للجهل بالخالق سبحانه وتعالى, ولهذا يعرف الإنسان ربه سبحانه وتعالى إذا رآه, وإذا لم يره يعرف الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته, ويعرفه كذلك أيضاً بمخلوقاته سبحانه وتعالى, والله جل وعلا ما جعل في الإنسان قدرة أن يرى الله سبحانه وتعالى في دنياه في خلقه اليوم.
ولهذا موسى عليه السلام لما استأذن ربه أن ينظر إليه, أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:143], قال الله عز وجل له: لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ [الأعراف:143], يعني: إني سأتجلى للجبل, وهو أشد منك قوة ورسوخاً وثباتاً, فانظر إلى أثره بعد رؤيتي وتجليّ له فسترى قدرتك بعد ذلك, ولما تجلى الله سبحانه وتعالى للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً, ولهذا نقول: إن الإنسان في ذاته ما يؤتيه الله عز وجل من قدرة وما يؤتيه الله عز وجل من معرفة, وما يؤتيه الله عز وجل من حواس يستوعب الإنسان بها شيئاً ويجهل بها أشياء, ويظن أن المعرفة والعلم هو ما استوعبه, وأن ما جهل من أمور الكون إنما هو نزر يسير وقد بلغ مداه.
يكفي في جهل الإنسان أن الله سبحانه وتعالى منذ أن خلق البشرية والإنسان في كل لحظة أو في كل ساعة أو في كل يوم يزداد علماً جديداً, إذاً: المفقود من المعلومات لدى الإنسان شيء لا حصر له ولا حد, إذاً: فلا يتناهى جهل الإنسان, ولا حد لعلم الرحمن سبحانه وتعالى, وهذا يوجب على الإنسان أن يعلم مساحة جهله ليعلم مساحة علمه, ولهذا الله سبحانه وتعالى يقول: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85], لهذا يخبئ الله عز وجل أشياء للإنسان إما يخبئها بكاملها ليحير الإنسان ويبين ضعفه؛ كأمر الروح التي حيرت البشرية, كيف الإنسان حي الآن ثم يموت, ما الذي فقد من جسده؟ وأين الذي فقده؟ ما الذي جعله ينبض ويتحرك ويذهب ويجيء؟ وأنت ترى الحواس ظاهرة موجودة كاملة, قلبه موجود, ودمه موجود, وبصره موجود, وسمعه موجود, وغير ذلك من جسده تام, ما الذي سلب في هذه الدقيقة حتى أصبح جثة هامدة؟ هو أمر الروح التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى.
يظهر الله عز وجل للإنسان شيئاً من أمر الدنيا ويخفي عنه أشياء, ولهذا الله سبحانه وتعالى يقول: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الروم:7], ما سبب جهل الإنسان بالله سبحانه وتعالى وكفره وإنكاره لبعض أوامر الله سبحانه وتعالى غير أنه رأى الظواهر وخفيت عليه البواطن, ولما خفيت عليه البواطن حكم على البواطن بما يرى من الظواهر القليلة.
ولهذا الإنسان إذا لم يكن لديه علم بالمخلوقات يظن أنه هو الوحيد على هذه الأرض, وإذا لم يكن لديه معرفة بالكواكب ظن أنه هو الكوكب الوحيد, وظن أنه هو السعة والفضاء الوحيد, وكل ما جاء من أحاديث وأخبار بسعة الكون وفضائه هو ما تثبته العلوم البشرية اليوم؛ من سعة علم الله سبحانه وتعالى, والمسافات التي لا يمكن أن يدركها الإنسان ويحصيها إذا أراد أن يدونها حساباً ورقماً فضلاً عن أن يصل إليها بجسده وحسه, فهذا من الأمور المحالات التي لا تكون إلا بسلطان الله سبحانه وتعالى, ولهذا نقول: وجب على المؤمن أن يتفكر بالله سبحانه وتعالى, يتفكر في مخلوقات الله, وأن يتفكر أيضاً في آثار الله سبحانه وتعالى, فيما يجعله الله عز وجل في هذه الأرض, حتى يعظم الله عز وجل حق تعظيمه.
وعلى ما تقدم نقول: إن الإنسان إذا علم أن العلم على نوعين: علم الشيء بذاته, وعلم الشيء مع غيره, إذا علمت الذات وجهلت غيرها فإنك تعظمها؛ لأنك لا تعلم غيرها, فتحب هذا الشيء؛ لأنك لم تر غيره, وتحب هذا الجمال؛ لأنك لم تر أجمل منه, وتحب هذا الغنى؛ لأنك لم تر أغنى منه, وتحب هذه القوة؛ لأنك لم تر أقوى منها, ولو رأيت غيرها ورأيت أجمل منها ورأيت أغنى منها لاحتقرتها, ولهذا الإنسان يحكم على ذاته بما يؤتى من معرفة, ولكن الله عز وجل يأمر الإنسان أن يتأمل ويتدبر, تأمله في السماء يبين ضعفه, وتأمله في العظيم يبين ضعف ما دونه, وكذلك أيضاً كلما اتسع الإنسان معرفة وعلماً في مخلوقات الله عز وجل التي هي أعظم منه فإنه يرجع إلى نفسه حسيراً كسيراً عارفاً قدرة الله سبحانه وتعالى وتدبيره لمخلوقاته.
ولهذا الله سبحانه وتعالى يقول: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:191], ما هي النتيجة؟ ذكر الله, ثم تفكر في خلق السموات والأرض, ما هي النتيجة التي وصلت إليه؟ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ [آل عمران:191], يعني: هذه الأشياء التي يراها من بروج وأنهار وغير ذلك تدله إلى خالق عظيم, وأنه ما خلق هذه الأشياء إلا لحكمة, ومعنى الحكمة ومعنى الباطل المذكور في هذه الآية: (( مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ )), يعني: تتنزه عن أن تخلق ذلك باطلاً أن الشيء كلما كان محكماً من جهة الصنعة فإن الإنسان قصده بعينه, بخلاف الأشياء التي لا يظهر فيها الإبداع فإنه لا حكمة فيها.
الإنسان حينما يأتي إلى طريق, ويأتي إلى منزله مثلاً, ويرى الدنيا مرمية مثلاً, كأس الماء, ويرى أيضاً الأثاث, ويرى أيضاً المتاع والحذاء مرمي هنا وهنا وغير ذلك, هل هذا يعني أن هذا الذي فعل قصد من ذلك تنظيمه أو ترتيبه أم جاء عبثاً؟ لا شك أنه يوجد عبث, وكلما كان أظهر إتقاناً وأدق نظاماً فإنه مقصود عند فاعله أنه أراد به إحكاماً, وهذا هو المراد بالتفكر في خلق السماوات والأرض، أن الإنسان كلما تفكر في خلق الله عز وجل في سماواته وأرضه وما دونها من مخلوقات الله سبحانه وتعالى, إذا تفكر فيها وتدبر فإن هذا يدله على أن هذا الخالق خلق الخليقة بإحكام تام, والإحكام التام يلزم منه عدم العبثية.
ولهذا ننظر إلى الذين ينفون وجود خالق, سواء كانوا من الملاحدة، أو الذين ينفون وجود خالق واحد ويجعلون ثمة خالقين متعددين, أو غير ذلك, ولكن نقول: إن من ينفي وجود خالق لهذا الكون, هؤلاء من أضعف الناس عقولاً وأكثرهم سذاجة, الإنسان في ذاته, في مدنيته وغير ذلك, وهؤلاء في الغالب أنهم ماديون, ماديون من جهة النظر إلى الحياة, وحبها, وجمالها, والنظر إلى إبداعها وصنعتها, وينظرون إلى ذلك ويستلون من علم الله سبحانه وتعالى ويبدلون ويقدمون فيه ويؤخرون، ثم يصفون ذلك الإبداع لأنفسهم وجهلوا أنهم إنما أخذوا ذلك من علم الله عز وجل وإحسانه وقوة صنعته في خلقه جل وعلا وإحكامه لذلك.
الإنسان في كل ما يأخذه من علم وما يأخذه من معرفة إنما يستله من صنعة الله سبحانه وتعالى, حتى دقة الوقت والزمن, الإنسان صنع الساعة, ولكنها إذا ختلت ضبطها على الكواكب, إذا اختل ميزانها ضبطها على الكواكب, يكابر على الله سبحانه وتعالى؛ لأنه دقيق في الوقت, وصنع وقتاً زمنياً دقيقاً, أو عرف الثانية, وعرف الأجزاء من الثانية, وعرف أجزاء الأجزاء من الثانية وغير ذلك, وهو إنما عرفها وإذا أراد أن يضبطها عند اختلالها ضبطها على ميزان الكون الذي يصيره الله عز وجل منذ أن خلقه من غير أن يختل, وهذا هو الإبداع في الصنعة, فيرجع الإنسان في ذلك إلى خالقه سبحانه وتعالى.
وكذلك فإن الله عز وجل حينما يعرف نفسه لعباده يجعل من حال الإنسان أضعف من غيره ممن لم يؤته الله سبحانه وتعالى عقلاً وإدراكاً, لهذا آتى الله عز وجل الإنسان قوة, لكن جعل من الجمادات كحال الجبال والأشجار ما هي أشد قوة وبأساً منه, فإذا أراد الإنسان أن ينزعها ما استطاع أن يزيل الجبل من مكانه؛ والسبب في ذلك أن يبين الله سبحانه وتعالى له أني أوجدت قوة في شيء جماد من غير أن يكتسب شيئاً, وأن قوتك الموجودة في ذلك لا تعني أنك على قوة أو أنك اكتسبت ذلك من تلقاء عقلك.
كذلك ما يؤتاه الإنسان من معرفة وتدبير حاله وشأنه وغير ذلك, وما يبتكره الإنسان أيضاً من صناعة وحرف وغير ذلك، أن الله عز وجل جعل في خصائص مخلوقاته ما هو أدق من الإنسان, ولهذا الإنسان يأخذ علومه كلها من مخلوقات الله عز وجل الأخرى, فهو إنما عرف الطيران من الطيور التي تطير بلا عقل, وطيرها الله سبحانه وتعالى منذ أن خلقها, وجعل هذا قائماً ذاتياً فيها, فعرف هذا الشيء فيها ثم أوجده, ويكفي في ضعف الإنسان أنه ما استطاع أن يشابه الحيوان إلا بعد آلاف السنين, وهو حيوان لا يفكر ولا يعقل ولكن جعل الله عز وجل فيه ذلك ذاتياً,.
من الحيوان من بصره هو أدق من الإنسان بمراحل شديدة, ومنها ما هو سمعه أدق من الإنسان بمراحل, بل إذا أراد الإنسان أن يهتدي لشيء استفاد من سمع بعض البهائم أو بصر بعض البهائم, وهي بلا عقل, دليل على أن الإنسان في ذاته مما يستكشفه من وسائل اطلاع أو بصر أو معرفة الأمد أو معرفة أيضاً دقائق السماء أو غير ذلك؛ فإن الله عز وجل يوجده في البهائم من غير عقل, أوجده خصيصة ذاتية قائمة في ذاتها من غير اكتساب, وأنت إنما أوجدتها لأن الله عز وجل أوجد فيك عقلاً يجلب إليك المعارف؛ ليتمم النقص الموجود عندك والكامل عند البهائم, وهذا يبين ضعف الإنسان، وكمال علم الله سبحانه وتعالى.
ولهذا نقول: إن الإنسان لا يمكن أن يكون عارفاً لحق الله عز وجل إلا وقد عرف نفسه وعرف خالقه, وإذا اختل هذا الميزان ضل وغوى, ومن نظر إلى حال المشركين في كل زمن أو في كل حقبة يجد أنهم إنما يضلون في حق الله سبحانه وتعالى بسبب علمهم لمعظم وجهلهم للعظيم سبحانه وتعالى.
كفار قريش عبدوا الأصنام والأوثان, وعبدوا كذلك أيضاً الأشجار والأحجار من دون الله سبحانه وتعالى, هذه العبودية التي صرفوها لغير الله سبحانه وتعالى هل عظموا هؤلاء وهم يستحقون التعظيم من جهة الأصل؟ ربما انقدح في أذهانهم عظمة أو تخيلاً, أو ربما وجدوا مخلوقاً من مخلوقات الله عز وجل له تأثير؛ كحال الجن أو غير ذلك, فإنهم كانوا يستعيذون بهم إذا نزلوا وادياً من الأودية, ولكنهم لما جهلوا قدر الله سبحانه وتعالى ضلوا وتاهوا في تتبع أدنى الخلق قوة وتأثيراً, ولهذا نقول: إن مركز المعارف من جهة معرفة حقائق الأشياء هو أن يتعرف الإنسان إلى ربه سبحانه وتعالى بمعرفة أسمائه وصفاته ومعرفة آياته, وإذا اختل هذا الأصل فإن معرفة الأعظم يختل لدى الإنسان, ولهذا نجد في الناس من يعبد البقر؛ لماذا؟ لأن الإنسان معلق بتعظيم شيء, فلابد أن يعظم, فينظر في الكون فيما هو أعظم مخلوق لديه يؤثر عليه في حياته, ومنهم من يعبد الفأر, ومنهم من يعبد الكواكب والنجوم, ومنهم من يعبد أيضاً الجن والغول وغير ذلك من صرف العبودية لغير الله سبحانه وتعالى, هؤلاء يبحثون عن عظيم مؤثر, ولهذا يسألونهم ويدعونهم من دون الله سبحانه وتعالى, ولكن الله سبحانه وتعالى يريد أن يرشد عباده إلى جملة من الأشياء حتى يعرفوا بها ضعف أولئك؛ منها: أن يبين أن أولئك لا يملكون للمخلوقين نفعاً ولا ضراً, وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [يونس:106], ما لا ينفعك, يقدم إليك نفعاً, وذلك بجلب خير من رزق أو كذلك صحة وعافية, أو دفع ضر من مرض أو مصائب أو هموم أو فقر, أو غير ذلك مما يرجوه الإنسان, لا يملك لك شيئاً ولا يملك لذاته أيضاً نفعاً ولا ضراً, ولهذا نقول: إن الإنسان إذا عرف حقائق الأشياء وعرف قدر الله سبحانه وتعالى عرف أين توضع العبودية.
وأصل ضلال البشرية على ما تقدم الكلام عليه أنهم عرفوا شيئاً وجهلوا أشياء, وإذا أوغلوا في هذا الباب في أمر الجاهلية والجهل بحق الله سبحانه وتعالى، فبمقدار الجهل تضيق دائرة المعبود حتى يعبد التافهات, أهل الوثنية وكذلك الشرك من كفار قريش وغيرهم ابتدءوا من جهة الجهل بعظمة الله سبحانه وتعالى, أن جعلوا وسطاء من دون الله جل وعلا, فصوروا أقواماً وعظموهم من دون الله, وتخيلوا أنهم وسطاء, ويعلمون أن هذه الأحجار إنما هي نماذج لأولئك, ثم اعتقدوا شيئاً أن أولئك من جهة أرواحهم يتجسدون في هذه التماثيل, أو يأتيهم إيحاء أن هذه التماثيل تبلغ أرواح أولئك بما يحدث وبما يفعلون, وتنفعهم وتضرهم وغير ذلك, ولهذا عبدوها من دون الله سبحانه وتعالى, حتى عظم الخوف في قلوبهم فعبدوها حتى في حال الأسفار وفي حال الخفاء.
حتى كما جاء في الصحيح من حديث أبي رجاء قال: كنا في الجاهلية نعبد حجراً فإذا وجدنا حجراً أعظم منه رميناه وأخذنا حجراً آخر, فإذا لم نجد حجراً وكنا في فلاة احتلب أحدنا ضرع شاة على تراب ثم طاف عليه, يعني: أنه يحتاج إلى شيء قاس, انظروا إلى مراتب التحول في ذلك حتى عبد شيئاً من أضعف المخلوقات؛ وذلك لأنه جهل مراتب التعظيم؛ لأنه ما من شيء عظيم إلا وثمة أعظم منه, وأعظم شيء هو الله سبحانه وتعالى, وله المنتهى والكمال في ذلك, ولكن الإنسان بمقدار سقفه في باب العلم والمعرفة يضل في هذا الباب, ولهذا نقول: إن الإنسان كلما كان أعلم بصفات الله عز وجل وأسمائه فإنه أعظم من جهة توجه العبادة لله جل وعلا, وإفراده سبحانه وتعالى, والبراءة كذلك أيضاً من الشرك.
الإنسان إذا وجد عظيماً فإنه يزدريه بمعرفة من هو أعظم منه, فإذا وجد سيداً مطاعاً قوياً غنياً فليتذكر الله سبحانه وتعالى وقوته وعظمته, يضمحل عنده ويضعف من عظمه وهاب أو صرف له العبادة من دون الله سبحانه وتعالى, وهذا حينئذ يعرف مواضع الرجاء يرجو من, ومواضع الخوف يخاف ممن, وكذلك السؤال يسأل من, ويستغيث بمن, وغير ذلك, وإذا قصر وقصرت معرفته عن معرفة مراتب المعلومين من جهة أسمائهم وصفاتهم، فإنه يدنو في ذلك حتى يعبد الأوهام التي لا وجود لها, ولهذا نجد الذين ضلوا في تحديد إلههم الذي يتصرف فيهم؛ لأن الإنسان يعلم أن ثمة شيئاً هو أعظم منه, وهو الذي يقدر له الخير وهو الذي يقدر له الشر, لكن حقيقته وكنهه لا يدري من هو, وما هي صفاته, وما هي أسماؤه؛ فيتعلق بهذا يمنة ويسرة, ولهذا منهم من يجعل الأمر يتعلق مثلاً بالنور والظلمة فيعبدون أولئك من دون الله سبحانه وتعالى, فيجعل النور هي التي تقدر الخير, ويجعل الظلمة هي التي تقدر على الإنسان الشر, ويرى في نفسه أنه يحتاج إلى معين, ولهذا الذين يجحدون وجود الله, ووجود الخالق سبحانه وتعالى وتصرفه في الكون سبحانه لو لم يقروا به من جهة الطوع فهم يقرون بذلك من جهة الإكراه, يعني: أنك لابد أن تؤمن بالله سواء بلسانك وأنت طائع أو وأنت كاره.
ومعنى الطواعية هنا هو: الانقياد والاستسلام لله عز وجل رغبة, وأما الكراهية, فهو ما يغلب على الإنسان مما فطره الله عز وجل عليه, الإنسان مفطور على الإيمان بالله, ولهذا الإنسان حتى لو كان ملحداً لابد أن يلتجئ إلى الله ولو في المنام, إذا نزلت بك مصائب ثم لم تلتجئ إلى الله مكابرة وعناداً فإنه لابد أن يمر عليك في المنام من الأحلام ما تلتجئ به إلى القوي الجبار سبحانه وتعالى, مما يدل على أن النفس ولو كابرتها وعاندتها فإنها ترجع إلى حقيقتها حتى في زمن المنام في الأحلام؛ لماذا؟ لأن النفس مفطورة على الإيمان بالخالق سبحانه وتعالى, ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة), يولد على الفطرة؛ ما هذه الفطرة التي يولد عليها الإنسان؟ أعظم دلالات الفطرة وآثارها في الإنسان هي الإيمان بالخالق سبحانه وتعالى, وأنه هو المتصرف, وأنه جل وعلا هو المدبر للكون, وأنه الله سبحانه وتعالى هو القوي الذي يرزق الإنسان القوة, وهو المعطي الذي يرزق الإنسان مالاً ويكسبه بنيناً ويكسبه زوجة, ويكفيه ويقيه ويعينه ويسدده, وهذا لو كابر فيه الإنسان لابد أنه يجد في حواسه من الالتجاء إلى الخالق سبحانه وتعالى, ولكن الإنسان يكابر لأجل ماذا؟ يكابر الإنسان لأجل الشهوات وتحقيقها والنزوات والرغبات وغير ذلك؛ فيتجاهل حق الخالق ليمتع نفسه, وإذا ضعف بعد ذلك توجه إلى الخالق سبحانه وتعالى بطلب التوبة والمغفرة, ولهذا أضعف الناس عقلاً وأقلهم إدراكاً واستعمالاً للعقل أولئك الذين يجحدون وجود الخالق سبحانه وتعالى, الإنسان خلق بإحكام, وخلقه الله عز وجل في أحسن تقويم, لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4], أحسن تقويم من جهة نظامه وقوامه, وكذلك أيضاً دب الحياة فيه, واتساقها وانتظامها, وما جعل الله سبحانه وتعالى له من قدرة يؤتيها الله عز وجل إياه للاكتساب وجلب الخير, ودفع الضر الذي يلحق به, هذا من حسن خلق الله عز وجل وصنعه في الإنسان.
وأما إيكال ذلك أن هذا إنما خلق من آثار الطبيعة, الطبيعة إذا قيل أن هذا من خلقها أو من إيجادها أو من آثار انفجار الكون كما يزعمون، فإنه يلزم من ذلك ألا يكون ثمة دقة في الصنع, الإنسان إذا خلق شيئاً وأبدع فيه وقصده بالإبداع فإنه يتقن فيه ويجعل كل شيء من ذلك لحكمة يريدها يلتمسها الناظر في ذلك, ولهذا إذا أوجد الإنسان كالذي مثلاً يفجر شيئاً أو غير ذلك, كالذي يأتي مثلاً بحصاة أو يأتي بزجاجة ثم يرمي بها في الشارع, ويجدها منثورة, هل هذه تتسق على وفاق معين؟ وهل تستعمل لحاجة معينة؟ لا تستعمل لحاجة معينة ولو جمع أجزاءها وحاول أن يستفيد من واحدة منها على نحو صحيح فإنه لا يستفيد من ذلك, ولكن إذا أراد أن يستفيد منها كحجارة قام بنحتها وقصها وصنع منها مرآة, وصنع منها سكين, وغير ذلك مما يستفيد منه الإنسان, يعلم أن هذا الأمر من ذلك النتاج أنه ما كان إلا لحكمة صانع أوجدها, ولهذا الذين يقولون بعبثية الكون من جهة وجوده؛ هؤلاء أول ما يناقضون أنفسهم وذلك أن الإنسان بطبعه لا يؤمن بصحة العبثية في تصرفه, بل يذمها, وإذا وجد الإنسان تصرفاً عبثياً من جهة بنائه, وكذلك أيضاً إنشائه, أو صنعته أو حرفته فإنه يذم من فعل ذلك, يذم الإنسان العبثية التي تبدر منه, فكيف ما يتعلق بأمر الكون, يقول الإنسان: إنما في الكون إنما هو وجود عبثي, يعني: من الذي أوجده؟ من الذي أوجده بهذا النحو من الإبداع, وما أوجده من إدارة زمن, وكذلك تنوع مكان, وكذلك تنوع أجناس المخلوقات؟ لا شك أن ثمة خالقاً أوجد هذا, تناسل البشر وإيجادهم وتناكحهم وسلالاتهم وأمور العاطفة ودقة الجينات الموجودة في الإنسان وغير ذلك أوجده الله سبحانه وتعالى وهو اللطيف الخبير, أوجده الله سبحانه وتعالى لحكمة وغاية جعل منها انتظام الكون يحير الإنسان مهما بلغ من علوم, ينتهي الكون ولم يحصل من العلم في ذلك إلا شيئاً يسيراً.
إن الموفق في معرفة الله سبحانه وتعالى يوفق إلى عبادة الله جل وعلا وهي ثمرة التعظيم, يعرف الإنسان ربه حتى يعبده جل وعلا, يتعرف إلى الله سبحانه وتعالى بنفسه وعبادته, وذلك بعد معرفة الله عز وجل بأسمائه وصفاته, ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم لـعبد الله بن عباس: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة), يعني: إذا عرفت الله سبحانه وتعالى في رخائك عرفك الله جل وعلا بالإحسان إليك وإكرامك ودفع الضر عنك وتفريج الكربات في حال وجود الشدائد, وهذا من تمام الإحسان وكماله.
ولهذا أيضاً يسلم الإنسان من عصيان الله جل وعلا والجرأة على الله لماذا؟ لأنه إذا علم أن الله عز وجل يعلم ما في السماوات وما في الأرض, وأنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض, ويعلم أنه يعلم السر والنجوى, وأنه عالم الغيب والشهادة, يعلم هذه الأشياء ويعلم ما يسرون وما يعلنون, لا يبطن الإنسان حينئذ السوء, ولا يبطن الكيد, ولا أيضاً يعصي الله عز وجل في السر ولو خلا بنفسه؛ لأنه يعلم أن الله جل وعلا يراه, يراه في سره ولو لم يره أحد من المخلوقين؛ لأن علم الله عز وجل في ذلك كامل, لا يحول دون علمه سبحانه وتعالى حجب ولا دور ولا أرض ولا سماء, ولا رياح ولا سحاب ولا جبال, ولو كان في باطن الأرض يعلم الله عز وجل حال الإنسان كما لو كان في ظاهرها, أو كما لو كان عند الله عز وجل في السماء, علم الله عز وجل واحد في غيب أو شهادة, فإذا أدرك الإنسان في ذلك ازداد من هذا قوة.
كذلك أيضاً من آثار وثمار معرفة الله سبحانه وتعالى: أن الإنسان يرزق يقيناً وصبراً وثباتاً, وكذلك أيضاً طمأنينة في الحياة, أعظم الناس طمأنينة في الحياة الذين يعرفون الله جل وعلا, وذلك بمعرفة أسمائه وصفاته ومعرفة آياته سبحانه وتعالى, إذا نزل بهم ضر يعلمون أن الله عز وجل أراد بهم خيراً فيجب عليهم الصبر, وأن الله عز وجل أيضاً بين أنه ينزل الضر بعباده ليرفع عنهم السوء والسيئات, وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [المائدة:15], وكذلك يكفر الله عز وجل بها عن خطاياه ولو كانت شيئاً يسيراً, ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ما من مصيبة يصاب بها الإنسان حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله عز وجل بها من خطاياه), إذا نزلت به مصيبة يقول: الحمد لله, أراد الله عز وجل أن يكفر عني سيئة فيكون أطيب الناس نفساً, بخلاف الذي لا يعلم الحكم, فإنه ربما نزلت به مصيبة يسيرة فانتحر لأجلها؛ لماذا؟ لأنه يرى أنه لا يستحق الحياة؛ لأنه لا يعلم الأسباب, ولا يعلم الحكم, وحكمة الله عز وجل في إنزال البلاء وإنزال الخير على الإنسان, ولهذا الله عز وجل بين الحكم لعباده, وبين أيضاً آثارها عليه وذلك رحمة ولطفاً من الله سبحانه وتعالى بأولئك العباد, وليزدادوا يقيناً وثباتاً وصبراً.
كذلك أيضاً أن الإنسان عند نزول الفتن, وعند نزول البلاء وعند وجود البغي والظلم وغير ذلك يأخذ من أسماء الله عز وجل وصفاته ما يرزقه يقيناً, يرى الظلم والبطش والبغي ثم يعلم من إمهال الله عز وجل للظالم, ويعلم أيضاً من مكر الله عز وجل بعباده, وإنظاره لهم, وأن الله عز وجل لا يهمل عبداً ولكن يجعل ذلك إلى قدر وإلى حساب, فيؤاخذ الله عز وجل عبده متى شاء, وإذا علم سنة الإمهال وسنة الإنظار وسنة المكر بعباده؛ فإنه تطمئن نفسه حينئذ ويعلم أن ثمة نتيجة, وأن هذه النتيجة يجعلها الله عز وجل بحساب, بخلاف الإنسان الذي يرى الحوادث تحدث عن يمينه وشماله من ابتلاء واختبار وامتحان وفتن وظلم وبغي، ولا يجد لذلك تفسيراً فحاله كحال البهائم, ولهذا جاء عن سلمان الفارسي لما ذكر المرض ومعرفة الإنسان للحكمة قال: إن الكافر ينزل الله عز وجل به المصيبة ويكون كالراحلة عقله أهله ثم حلوه, ولا يدري لماذا عقلوه ولماذا حلوه, البهيمة تربط ثم تحل, الله عز وجل حينما يعيقك بمرض ليوم أو يومين تعلم الحكمة, ولكن إذا لم تكن مؤمناً بالله كحال البهائم, يأتي سيدها ويربطها وهي لا تدري لماذا ربطت, ثم تفك بعد يوم أو يومين ولا تدري لماذا فكت, فلا يعلم من ذلك حكمة, وهذا ما يدفع الإنسان إلى اليأس والقنوط من رحمة الله سبحانه وتعالى, وربما أيضاً إلى الخروج من الحياة بالانتحار وغير ذلك, ولهذا أضيق الناس نفساً وأشدهم يأساً هم الذين لا يعلمون الحكم من الكوارث والنوازل, ولهذا البيئات الكافرة التي لا تؤمن بخالق, أو تؤمن بخالق لكنها تجهل الحكم بمقدار جهلها بحكم الله عز وجل يكون فرارها من الحياة والهرب منها؛ لأنهم لا يعلمون ماذا ينتظرهم من مستقبلهم, وأما أهل الإيمان واليقين والصبر الذين يعلمون أمر الله سبحانه وتعالى وحكم الله جل وعلا في أمره ونهيه, منها ما يعلمه الإنسان، ومنه ما يدق ويلد عن علم الإنسان، فيكل الأمر إلى الله جل وعلا في حال جهله, فإنه إذا نزلت به مصيبة وكل الأمر إليه, ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام يشير إلى أمر اليقين بمعرفة الإنسان لربه في قوله عليه الصلاة والسلام: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير, إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له, وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له).
إذاً: يعلم العاقبة من الأمرين, الضر كفارة وطهور, والله عز وجل يريد له تمحيصاً وتمكيناً, وأعاقه الله عز وجل إن صبر عن شر ينزل به, أو عن خير في ظاهره رحمة وفي باطنه عذاب, وإن شكر الله عز وجل على ما آتاه الله سبحانه وتعالى من خير ونعمة، فإن الله عز وجل يزيده في ذلك, لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7], فيزيده الله عز وجل من تلك النعمة التي آتاه الله سبحانه وتعالى إياها.
أعظم مقام من حق الله سبحانه وتعالى على الإنسان أن يفرد الله عز وجل بالعبودية, وأعظم ظلم يظلم الإنسان به نفسه في حق الله جل وعلا هو الإشراك مع الله عز وجل غيره, ولهذا يقول الله جل وعلا على لسان العبد الصالح لابنه: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13], ويقول: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82], يعني: بشرك, أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82], يعني: يأمنون يوم القيامة من الفزع والكرب, ويعلم أن الإنسان إذا أدى حق الله إنما يكون ذلك لمعرفته بالله, وإذا لم يؤد حق الله فإنه يكون ذلك بمقدار جهله بحق الله جل وعلا حتى يعبد غير الله.
وأعظم المصائب والبلاء في التقصير في حق الله سبحانه وتعالى, وكذلك أيضاً تعدي الإنسان هو سب الله سبحانه وتعالى, والوقيعة في ذاته جل في علاه, وهذه تنتشر في كثير من بلدان المسلمين, وهي أعظم الفتن, وأعظم الظلم, وأعظم الكفر؛ لأن الإنسان ما عرف قدر الله عز وجل فكيف يتوجه إليه بهذا الخطاب؟ ولهذا نقول: إن سب الله سبحانه وتعالى لا يصدر من إنسان عرف الله وعرف منزلته وعرف قدره, وإلا لانعقد لسانه قبل أن يفكر بأمثال ذلك, فما عرف الله جل وعلا حق معرفته, وما قدر الله عز وجل حق قدره, فأنزل الله عز وجل على خلاف حقه سبحانه وتعالى, ولهذا نقول: إن سب الله جل وعلا به يصل الإنسان إلى أدنى دركات الكفر وأدنى دركات الظلم, فكيف بإنسان يسب خالقه ورازقه ومحييه ومميته ومدبر شأنه في هذه الأرض, ومصير أحواله من تقلب, من فرح وسرور وحزن, وكذلك من حياة وإماتة, وغير ذلك من تقلبات الإنسان ثم يتعدى على الله جل وعلا بالسب أو الشتم أو غير ذلك من الألفاظ التي تقشعر منها الأبدان؟ وهذا من أعظم الكفر بالله سبحانه وتعالى إن لم يكن أعظم الكفر, ولو كان الإنسان وثنياً أو كان الإنسان يهودياً أو كان نصرانياً لكان أقل شراً من أن يسب الله سبحانه وتعالى، أو يتعرض لذات الله عز وجل بالانتقاص أو الإساءة أو غير ذلك, ولهذا إن الله سبحانه وتعالى كلما علم الإنسان منزلته وعرف قدره؛ عظمه وأدى له وصرف له من العبادة, ولهذا نجد مقام العبودية عند الأنبياء أعظم من غيرهم؛ لماذا؟ لأنهم عرفوا من حق الله عز وجل وقدره ما لم يعرفه من دونهم, ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً), يعني: ما أعلم من خلق الله سبحانه وتعالى, وما أعلم من سعة علم الله عز وجل, النبي عليه الصلاة والسلام عرج به إلى السماء, أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى, ثم عرج به إلى السماء السابعة, وكلمه الله سبحانه وتعالى كفاحاً جل وعلا, وهذا به علم النبي صلى الله عليه وسلم من أمر الله وعظمته وعظمة خلقه سبحانه وتعالى ما لم يدركه غيره, فكان أعلم الناس بالله جل وعلا.
ولهذا نجد النبي صلى الله عليه وسلم أكثر البشر عبادة لله, فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعبد لله ويقوم الليل حتى تتفطر قدماه, ويقال له: (إنك شققت على نفسك والله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر, فيقول: ألا أكون عبداً شكوراً), يعني: النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ما آتاه الله عز وجل إياه, ووكله الله جل وعلا إلى ما يعلم من عظمة الله, فأخذ يصرف العبادة لله سبحانه وتعالى شكراً وبياناً للمنزلة, وهذا دليل على معرفة الله عز وجل وسعتها مما لا يكون إلا لمثله عليه الصلاة والسلام, ولهذا الملائكة يسجدون في السماء مع كثرتهم, ومنهم من يسجد عند العرش ولا يقوم من سجدته إلا يوم القيامة, والملائكة يطوفون على البيت المعمور, وفي طوافهم ذلك لا يخلو منهم منذ أن خلق الله عز وجل وخلق البيت المعمور, فإنهم يطوفون على ذلك ولا ينقضون, وذلك لبيان عظمة الله عز وجل وقدرته ومعرفته, واطلاعهم أيضاً على آيات الله عز وجل وخلقه في الكون, لهذا وجب على المؤمن أن يتعرف على الله, أن يتعرف على الله بمعرفة أسمائه, وذلك بالتماس مواضع التعظيم في كلام الله, التي عرف الله عز وجل نفسه للعباد, أن يعرف أيضاً صفات الله سبحانه وتعالى وأنواعها, وأن يعرف أيضاً آثارها في الكون من جهة القوة والقدرة, وكذلك رزق الله عز وجل لعباده, منعهم, الإعزاز والإذلال, تقليب الكون والممالك, ورفع الله عز وجل الوضيع, ووضع الله سبحانه وتعالى للرفيع, وغير ذلك مما يقلبه الله عز وجل في أمر الكون, يأخذ من ذلك معرفة بالخالق سبحانه وتعالى, فكلما كان الإنسان به أعرف فإنه يكون له أعبد وأكثر تضرعاً وتقرباً له جل وعلا, وإذا كان الإنسان به أجهل فإنه يكون في مهامه الأهواء والضلال والغي, حتى يصل إلى شيء من العبودية لغير الله, فيعبد ضعيفاً بعدما كان يعبد قوياً, ويعبد ذليلاً بعدما كان يعبد عزيزاً, ويعبد فقيراً بعدما كان يعبد رازقاً غنياً, ولهذا نقول: وجب على الإنسان أن يتعرف على الله, وأعظم ما يتعرف الإنسان به أن يتعرف على الله من كلامه جل وعلا, فيديم النظر في آيات الله, في كلامه سبحانه وتعالى.
أن ينظر أيضاً في سنة النبي صلى الله عليه وسلم, إما أن يكون فيما يعرف النبي صلى الله عليه وسلم للناس ربه, كذلك أيضاً أن ينظر في معجزات الأنبياء, وهي من خوارق العادات التي يعطيها الله عز وجل الأنبياء من الدلائل والبراهين التي تدل على قدرة الله عز وجل في إخراج ناموس الكون عن نسقه, وقدرته سبحانه وتعالى على ذلك, وهذا كثيراً ما يصنف فيه العلماء في أبواب المعجزات, وكذلك أيضاً في دلائل النبوة, وكذلك أيضاً في شعب الإيمان.
وكذلك أيضاً مما يعرف الإنسان فيه أن ينظر في تقلبات الكون وتغيراته, وسير الأمم السابقة وما حصل لهم من تغير وعاقبة ونتائج, الله عز وجل يأمر كثيراً في كتابه العظيم بالنظر إلى عواقب الأمم, قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [الأنعام:11]، فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ [النمل:69], الله سبحانه وتعالى يأمر العباد أن ينظروا وأن يتفقدوا أحوال عاقبة أولئك الذين عاقبهم الله جل وعلا, تورث الإنسان معرفة بشدة في عقاب الله عز وجل وانتقامه, وأن الله عز وجل يرى الظالم ويرى الباغي, وتركه له إمهال وليس إهمالاً, وأنه وإن تعدى على الله فالله عز وجل يريد من ذلك إمهالاً لعبده, ويأخذه بذلك بمقدار يجعله الله سبحانه وتعالى له أجلاً معلوماً لا يجاوزه إياه, ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول كما جاء في الصحيح: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته), والظلم بجميع أنواعه, منه ما يتعلق بظلم البشر الناس فيما بينهم, ومنه ما يتعلق بظلم الإنسان لنفسه, وأعظم من ذلك الشرك, والكفر بالله سبحانه وتعالى, يجعل الله عز وجل لذلك قدراً, ثم يأخذه الله عز وجل بحساب, والحساب في ذلك هو إلى الله وليس إلى البشر, فهو إلى الله عز وجل تقديره وتقدير عقابه بمقدار علم الإنسان بظلمه, وبمقدار حجم الظلم المعلوم الذي ينزله الإنسان، أو يصدر من الإنسان يكون في ذلك العقاب, ولهذا قد يعاقب الله عز وجل صاحب الظلم العظيم بعقاب يسير, ويعاقب الله عز وجل صاحب الظلم اليسير بعقاب عظيم؛ والسبب في ذلك أن الله عز وجل يعاقب عبده بمقدار علم العبد بالظلم, فإذا كان جاهلاً غافلاً أو لديه شطر العلم فيكون لديه شطر الظلم الذي لديه فيعاقبه الله عز وجل على الشطر, وهذا من الحكم في أن الله سبحانه وتعالى يعاقب أقواماً على ظلم, ويمهل أقواماً على ظلم أعظم من ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى يعاقب الظالم الأعلى؛ لماذا؟ لأنه أظهر في باب العناد, وأظهر في باب البغي, ولهذا إذا نظرنا إلى عقاب الله عز وجل للأمم الكافرة الخارجة عن أمر الله لا يعاقب الله أمة ويهلكها عن بكرة أبيها، ولو كانت كافرة معاندة حتى يبعث إليها رسولاً, وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15], فلابد من بعث رسول حتى ينزل الله عز وجل العقاب, فلو كانت أمة كافرة تعبد غير الله باقية على هذا الأمر؛ الله عز وجل لا يعاقبها حتى يأتيها بينة, وإن لم يأتها بينة فإن الله لا يهلكها, يجعلها تعيش في هذه الحياة ثم تموت كما تكون البهائم, ولا ينزل الله عز وجل عليها عقاباً لذاتها, فإن أنزل عليها عقاباً فلديها علم, والعلم إما بوحي وإما بفطرة, فكابروا على الفطرة فاستحقوا العقاب, وإما بوحي بلغهم, فكابروا في أمر ذلك الوحي.
ولهذا من أسباب قوة الإيمان وزيادته على ما تقدم هو: معرفة الله سبحانه وتعالى. ومن أسباب ضعفه هو: الإعراض عن معرفة الله جل وعلا, فهذا ما يؤدي بالإنسان ويهلكه.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من العارفين به, والمقدرين له حق قدره, والقائمين بحدوده, والممتثلين لأمره, المنتهين عن نهيه سبحانه وتعالى, أسأله جل وعلا أن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه, ويجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين, وأن يجعلنا من أهل الاتباع والاقتداء, وأن يسلك بنا المنهج القويم والصراط المستقيم, إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر