الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فنتكلم على شيء من الأحاديث التي يتكلم عليها النقاد في أبواب الصلاة.
وأول هذه الأحاديث: هو حديث عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى ( أنه كان يعجن إذا قام من الصلاة يعتمد على يديه فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله ).
هذا الحديث أخرجه الطبراني في كتابه المعجم، وكذلك أيضاً أخرجه أبو إسحاق الحربي في كتابه غريب الحديث يروونه من حديث يونس بن بكير عن الهيثم بن علقمة عن الأزرق بن قيس عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا الحديث فرد من هذا الوجه تفرد به يونس بن بكير به عن الهيثم بن علقمة عن الأزرق عن عبد الله بن عمر ولا يعرف بهذا اللفظ مرفوعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه.
والحديث معلول بعدة علل، فهو معلول بالوقف والرفع، ومعلول كذلك أيضاً بمتنه.
أما بالنسبة للعلة الإسنادية وهي ما يتعلق بالرفع والوقف، فقد اختلف في هذا الحديث على الأزرق بن قيس ، فيرويه الهيثم عن الأزرق بن قيس عن عبد الله بن عمر مرفوعاً وجعله من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخالفه في ذلك حماد بن سلمة يروي هذا الحديث عن الأزرق بن قيس عن عبد الله بن عمر من فعله، أخرجه هكذا ابن أبي شيبة في كتابه المصنف، وكذلك أيضاً البيهقي من حديث حماد بن سلمة عن الأزرق بن قيس عن عبد الله بن عمر أنه كان يعتمد في الصلاة على يديه، ولم يذكر أيضاً في هذا الحديث الموقوف أنه كان يعجن، ومعلوم أن ثمة اعتماداً وثمة قدراً زائد في ذلك، وصفة العجن الاعتماد بالقبضتين، وأما الاعتماد فهو على السعة، أن يعتمد الإنسان إما على كفيه أو على طريقة العجن أو على رؤوس أصابعه، كذلك أيضاً يكون الاعتماد على الركبتين فيعتمد الإنسان على الركبتين من غير أن يمس الأرض.
وحديث حماد بن سلمة في روايته عن الأزرق عن عبد الله بن عمر يقول: كان يعتمد على يديه ولم يذكر صفة العجن، الذي ذكر صفة العجن في هذا هو يونس بن بكير في روايته عن الهيثم فتفرد بهذه اللفظة.ءذء
أما بالنسبة للاختلاف في متن الحديث فتارةً يأتي الحديث بذكر العجن عند الاعتماد، وتارةً يروى الحديث باعتماد من غير ذكر صفة العجن، ذكر صفة العجن على ما تقدم يونس بن بكير في روايته عن الهيثم عن الأزرق بن قيس عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى فجعلها مرفوعة، وأما من لم يذكر صفة العجن فقد روى الطبراني في كتابه المعجم هذا الحديث من حديث الحماني وهو عبد الحميد يرويه عن الهيثم عن الأزرق عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يعتمد على يديه وما ذكر العجن، والحماني فيه ضعف، و يونس بن بكير أوثق منه إلا أنه أيضاً لديه بعض الوهم والغلط وقد أخرج له الإمام مسلم وكذلك أيضاً أخرج له البخاري تعليقاً، وهو أحسن حالاً من الحماني .
ولكن نقول: إن يونس بن بكير في روايته لهذا الحديث قد تفرد بذكر العجن فيه عن الهيثم ، والهيثم مستور قليل الحديث، وأحاديثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قليلة، وإن كان له حديث عن غير رسول الله صلى الله عليه وسلم معروف عند الدمشقيين، ولهذا يكثر الحديث عند ابن عساكر رحمه الله في كتابه تاريخ دمشق.
وعلى هذا نقول: إن تفرد يونس بن بكير في روايته عن الهيثم بهذا الحديث بذكر صفة العجن منكر ولا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعضد هذا أن الحديث إنما جاء موقوفاً وجاء بالاعتماد من غير ذكر العجن أن راويه هو عبد الله بن عمر عليه رضوان الله، ثبت أو جاء الحديث عنه من وجه آخر موقوفاً عليه ولم يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدل على أن الراجح في ذلك الوقف.
تقدم معنا فيما أخرجه ابن أبي شيبة وكذلك البيهقي في كتابه السنن من حديث حماد بن سلمة في روايته لهذا الحديث عن الأزرق عن عبد الله بن عمر أنه كان يعتمد على يديه فجعله موقوفاً من غير عجن ولم يرفعه، جاء عند ابن أبي شيبة في كتابه المصنف من حديث نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان يعتمد على يديه إذا قام من الصلاة، وهذا قد أخرجه عبد الرزاق في المصنف، وكذلك قد أخرجه ابن أبي شيبة أيضاً في مصنفه فذكر الاعتماد ولم يذكر العجن.
وهنا مسألة: هل ثمة فرق بين الاعتماد والعجن؟ نقول: العجن هو قدر زائد عن ذلك وهو شبيه بمسألتنا التي تقدم الكلام عليها معنا في مسألة القبض على الصدر قبض اليدين اليمين على الشمال، صح عن النبي صلى الله عليه وسلم القبض، وأما ذكر الصدر فهو قدر زائد عن ذلك، لا يلزم إذا قلنا بالقبض أن نقول على الصدر أو نقول على السرة أو نقول دون ذلك أو نقول على البطن وإنما هو أوسع من هذا، فالأمر في هذا على السعة، فإذا أثبتنا اعتماد النبي عليه الصلاة والسلام على يديه كما جاء في حديث مالك بن الحويرث وهو في البخاري ( أنه كان إذا قام في الصلاة اعتمد على يديه )، قد أخرجه البخاري من حديث أبي قلابة عن مالك بن الحويرث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك في تعليمه لهم لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الاعتماد نقول: جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام، فالصفة الزائدة في الاعتماد نقول: غير ثابتة، وعلى هذا لو اعتمد الإنسان على أصابعه أو اعتمد الإنسان على راحتيه أو اعتمد الإنسان وقبض على صفة العجن من غير تعبد على صفة معينة صح منه ذلك، فكما أننا نقول بعدم ثبوت الاعتماد على الأصابع أو على الراحتين أو كذلك أيضاً على القبضتين كذلك أيضاً نجعل الحكم فيها سوى، فأي اعتماد في هذا الأمر فيه على السعة، ولا نقول بتعبد صفة معينة، وذلك أن الصفة المعينة وهي صفة العجن غير ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهنا مسألة أيضاً وهي: أن النبي عليه الصلاة والسلام جاء عنه في البخاري الاعتماد على يديه عند القيام في الصلاة، وقع خلاف عند بعضهم في مسألة الاعتماد هل النبي عليه الصلاة والسلام كان يعتمد عند قيامه على الأرض أو يعتمد على فخذيه برؤوس قدميه! فمعلوم أن الإنسان إذا أراد أن يعتمد عند قيامه إما أن يعتمد على يديه وهذا هو الأغلب والأظهر، أو يعتمد على فخذيه وركبتيه لينهض جسمه في هذا، من العلماء من قال بالاعتماد على اليدين وهذا هو الأظهر في عمل السلف، وهذا الذي ذهب إليه عامة فقهائهم وقد نص عليه الإمام الشافعي رحمه الله في كتابه الأم، وذلك أنه لما أورد حديث الاعتماد على اليدين قال: وبهذا نفعل نأمر أن يعتمد الإنسان على يديه على الأرض عند قيامه في الصلاة.
بعض العلماء يقول: إن الاعتماد يكون على صدور القدمين ويضع اليدين على الفخذين، قالوا: لأن حديث مالك بن الحويرث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمد على يديه من غير ذكر الأرض فيه، فالاعتماد على اليدين إما أن يكون على الأرض وإما أن يكون على الفخذين، من العلماء من ينكر أن يكون الاعتماد على الفخذين وذلك أن الاعتماد إذا اعتمد الإنسان في صلاته على يديه يعتمد على ماذا! فإن فخذيه وركبتيه من جسمه تحتاج إلى اعتماد أيضاً، فالاعتماد بداهةً في هذا يكون على الأرض، يعني: على شيء خارج عنه، وهذا فيما يظهر هو الذي ذهب إليه عامة السلف خلافاً لمن نهى عن هذا كما جاء عن عبد الله بن مسعود وكذلك أيضاً بعض الفقهاء من أصحابه من أهل الكوفة الذين يرون الاعتماد على صدور القدمين، ويقولون: إن ما جاء في حديث مالك بن الحويرث وهو في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتمد على يديه قالوا: هو داخل في حديث صدور القدمين.
قد أخرج الطبراني في كتابه المعجم من حديث عبد الرحمن بن يزيد أن عبد الله بن مسعود كان إذا نهض في صلاته نهض على صدور قدميه، وبهذا يأخذ الحنفية يرون أن المصلي إذا قام في صلاته من ركعته الأولى إلى الثانية أو من الثالثة إلى الرابعة أن لا يعتمد على يديه ويعتمد على صدور قدميه لظاهر ما جاء من حديث عبد الله بن مسعود ، ويعارضون حديث مالك بن الحويرث وهو في البخاري بقولهم: إن فيه الاعتماد على اليدين، ونحن لا نقول بخلافه ولكن نقول: يضع يديه معتمداً على فخذيه وفخذيه وساقيه معتمدة على صدور قدميه، فيتأولون ذلك ويقولون بعدم معارضته.
وفي هذا نظر، وجماهير العلماء على الاعتماد على اليدين، وبهذا يأخذ فيما يظهر جماهير السلف، وبهذا أيضاً جمهور الأئمة الأربعة عليهم رحمة الله أن الاعتماد يكون على اليدين وإن وقع خلاف في مسألة العجن، ولا أعلم أحداً من السلف كان أو صح عنه العجن في صلاته يعني: القيام بقبض اليدين سواءً كان ذلك من الركعة الأولى إلى الثانية أو من الثالثة إلى الرابعة أو أيضاً من تشهد الإنسان الأول إلى الركعة الثالثة، فهذا لا يثبت عنهم فيه، وتقدم معنا ما جاء في حديث عبد الله بن عمر وهو حديث الباب وهو متكلم فيه، وعلى هذا نقول: إن الاعتماد الذي جاء في حديث مالك بن الحويرث إنما هو محمول على الاعتماد على الأرض، وأما ما جاء عن عبد الله بن مسعود في أنه كان يعتمد على صدور قدميه، نقول: إنما هو قول له واجتهاد منه وإن كان في ظاهر قوله أنه كان يعتمد على صدور قدميه أنه لا يعتمد على الأرض، لأنه لو كان يعتمد على الأرض ما أشار إلى صدور القدمين، يعني: أنه يكتفي بهذا.
إن الاعتماد على اليدين سنة لحديث مالك بن الحويرث ، وأي صفة زائدة في ذلك فمردها إلى الدليل والدليل في هذا لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغاية ما جاء في حديث عبد الله بن عمر أنه كان يعتمد على يديه من غير ذكر العجن فيه.
الحديث الثاني: هو حديث عبد الله بن عمر عليه رضوان الله ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يعتمد الرجل في صلاته على يديه إذا نهض ).
هذا الحديث أخرجه أبو داود في كتابه السنن من حديث محمد بن عبد الملك الغزال عن عبد الرزاق بن همام الصنعاني عن معمر عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ( نهى أن يعتمد الرجل على يديه في الصلاة إذا نهض )، وهذا الحديث بهذا اللفظ منكر، وذلك أن هذه اللفظة قد تفرد بها محمد بن عبد الملك الغزال فذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يعتمد الرجل في الصلاة على يديه إذ نهض، فقلب لفظه وغير معناه، ولا يعرف هذا الحديث عن عبد الرزاق إلا من طريقه بهذا اللفظ، وقد رواه الجماعة من أصحاب عبد الرزاق من الأئمة الحفاظ على غير لفظه، ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يعتمد الرجل على يديه في الصلاة وهو جالس، يعني: إذا كان جالساً في التشهد أو كان جالساً بين السجدتين فإنه لا يضع يديه معتمداً عليها، فليعتمد على جلسته، فهذا المعنى هو الذي أخرجه الإمام أحمد رحمه الله في كتابه المسند ورواه عنه أبو داود رحمه الله في كتابه السنن، أخرجه الإمام أحمد في المسند عن عبد الرزاق بن همام الصنعاني يرويه عن معمر عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن عبد الله بن عمر ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يعتمد الرجل على يديه في الصلاة وهو جالس )، ما قال: إذا نهض! فثمة فرق بين وهو جالس، يعني: لا يعتمد في جلوسه على يد واحدة أو بيدين وإنما يعتمد على نفسه على قدميه وذلك بصفة الجلوس إما أن يكون الإنسان في جلوسه مقعياً، والإقعاء في ذلك هو أن ينصب فخذيه ويجلس على إليتيه، أو يكون الإنسان مفترشاً أو يكون متوركاً، أو متربعاً في حكم مسألة صلاة المرأة وصلاة المريض، فهذه صفات الجلوس في الصلاة، أما الاعتماد على اليد فإن هذا هو الذي نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في رواية الإمام أحمد عن عبد الرزاق .
عبد الرزاق بن همام الصنعاني يروي هذا الحديث هذا الحديث عن معمر من هذا الوجه فجعل هذا الحديث من يرويه عنه على أنه في الجلوس إلا محمد بن عبد الملك الغزال فقد جعل هذا الحديث نهياً عن الاعتماد على اليد إذا نهض، رواه الإمام أحمد رحمه الله بهذا اللفظ، ورواه بنحوه جماعة من رواه من أصحاب عبد الرزاق ، توبع الإمام أحمد رحمه الله عليه مع جلالته وإمامته وكفايته في تفرده في هذا عن عبد الرزاق عند أبي داود في كتابه المصنف: محمد بن رافع و محمد بن شبوية كلاهما عن عبد الرزاق بنحو لفظ الإمام أحمد رحمه الله، وكذلك أخرجه الحاكم في كتابه المستدرك من حديث إسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزاق بنحو لفظ الإمام أحمد ، وكذلك أيضاً جاء من حديث أحمد بن يوسف السلمي عن عبد الرزاق به بنحو لفظ الإمام أحمد ، وقد أخرج هذا البيهقي رحمه الله في كتابه السنن، فمدار الطرق التي تروى عن عبد الرزاق في هذا الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام ينهى عن أن يعتمد الرجل في الصلاة أو في صلاته على يديه وهو جالس، إذاً الحكم متعلق بالجلوس فقط لا في النهوض من الصلاة والقيام فيها، و محمد بن عبد الملك الغزال الذي تفرد بهذا الحديث وجعله في النهوض متكلم فيه ويهم في حديثه.
ثم أيضاً إن هذا الحديث لو تفرد به محمد بن عبد الملك الغزال عن عبد الرزاق ولم يروه غيره ولم يتابع عليه ولم يخالف أيضاً لكان كافياً في رده، لأن محمد بن عبد الملك الغزال متأخر، وحديثه في ذلك عن عبد الرزاق مع شهرة الإمام عبد الرزاق وكثرة أصحابه ووفرتهم من الأئمة كالإمام أحمد رحمه الله ثم لا يروى هذا الحديث عنه، وهذا أمارة على نكارته.
ثم أيضاً من قرائن الإعلال عند العلماء: أن الراوي إذا كان في طبقة متأخرة فتفرد بحديث من الأحاديث الذي يتضمن معناً لم يرد إلا عنده فهذا أيضاً من قرائن الإعلال عنده وذلك أن القاعدة الغالبة أن الأحاديث أو أحاديث الأحكام التي تتعلق بأمور الديانة ويشتهر فيها العمل ينبغي أن يستفيض فيها العمل فقهاً وأن يستفيض فيها أيضاً رواية وكذلك أيضاً تستفيض فيها الفتيا، فأين النهي عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعتمد الإنسان على يديه إذا نهض؟
جاء نهي الأحاديث الآثار في هذا معلولة، ما جاء عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله أنه كان يعتمد على صدور قدميه هذا فعل وليس بنهي، ولا يلزم من ذلك أنه في حال اعتماده على صدور قدميه أن ينهى أن يعتمد الإنسان على يديه، ولهذا نقول: إن تفرد محمد بن عبد الملك الغزال بهذا الحديث من هذا الوجه دليل على نكارته ورده، كيف وقد خالفه الثقات من أصحاب عبد الرزاق كالإمام أحمد و محمد بن رافع و محمد بن شبوية وإسحاق بن إبراهيم و أحمد بن يوسف السلمي ، وغير هؤلاء يروونه عن عبد الرزاق بنحو متقارب أن النهي إنما هو على الاعتماد في الصلاة، يعني: في حال الجلوس، وأدق الألفاظ في هذا هو لفظ الإمام أحمد رحمه الله وذلك أنه بين موضع النهي وذلك أنه في جلوسه، وبعض الرواة الذين يروون هذا الحديث كـابن شبوية وغيره يقولون: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعتمد الرجل على يديه في الصلاة فذكر في الصلاة عموماً، وهذا فيما يظهر أنه يكون في حال الجلوس كما هو ظاهر النص عن الإمام أحمد رحمه الله.
الحديث الثالث: هو حديث معاذ بن جبل عليه رضوان الله ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمكن جبهته من الأرض، وإذا قام قام كالسهم )^ يعني: قياماً سريعاً.
هذا الحديث جاء من حديث الخصيب بن جحدر عن النعمان بن نعيم عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل ، الحديث تفرد به الخصيب بن جحدر وهو متهم بالكذب، اتهمه جماعة من الأئمة كـشعبة بن الحجاج و يحيى بن سعيد القطان و البخاري وغيرهم، تفرد بهذا الحديث وتفرده فيه دليل على أن الحديث في حكم الوضع، ولهذا حكم على هذا الحديث بالوضع غير واحد من العلماء.
ومن قرائن كذبه ورده: أنه مخالف لما جاء في الصحيح من اعتماد النبي صلى الله عليه وسلم على يديه أيضاً وما جاء في حديث مالك بن الحويرث في جلسة الاستراحة، فإذا قلنا: إنه يمكن جبهته من الأرض فإذا قام قام كالسهم، يعني: أنه لا يجلس فيقوم من سجوده إلى الركعة الثانية أو الركعة الثالثة، وهذا جاء خلافه في حديث مالك بن الحويرث وهو في الصحيح.
ولهذا نقول بأن هذا الحديث مطروح أو موضوع، وذلك لأنه قد تفرد به هذا الراوي الكذاب، وهو مخالف للأحاديث المعروفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً في الطمأنينة في الصلاة.
الحديث الرابع: هو حديث علي بن أبي طالب عليه رضوان الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا رفع أحدكم من صلاته فليمكن إليتيه من الأرض، ولا يفعل كما يفعل البعير فإن ذلك من وقار الصلاة ).
الحديث أخرجه العقيلي وغيره في كتابه الضعفاء من حديث أبي خالد القرشي عن علي بن الحزور عن أصبغ بن نباته عن علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث أيضاً منكر أو متروك موضوع وذلك لنكارة متنه، وكذلك أيضاً اطراح إسناده، فإن هذا الحديث أخرجه العقيلي من حديث أبي خالد القرشي وهو الواسطي الكذاب، يرويه عن علي بن الحزور ، وهذا قد اتهمه غير واحد وحرم الرواية عنه جماعة كـيحيى بن معين فإنه قال: لا تحل الرواية عنه، ويرويه أيضاً عن أصبغ بن نباته وهو أيضاً ممن يتهم في حديثه.
إذاً هذا الحديث مسلسل بالكذابين، ثم أيضاً إنه لو كان من حديث علي بن أبي طالب عليه رضوان الله لنقله خاصة أصحابه عنه، ولنقل ذلك من وجه يصح ولو موقوفاً، ثم أيضاً في نكارة متنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم في ظاهر هذا الحديث أنه يأمر أن الإنسان إذا رفع من صلاته أن يمس بإليتيه الأرض، وهذا منهي عنه وذلك أنه يشبه إقعاء الكلب، وأما بالنسبة لفعل الإبل فإن الإبل تقوم على قدميها، وكأن الحديث قد قلب معناه، فلهذا نقول: إن الحديث منكر من جهة المتن، وكذلك أيضاً مطروح من جهة الإسناد.
الحديث الخامس: هو حديث عبد الله بن عباس عليه رضوان الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تقبل صلاة لا تمس أو لا يمس الأنف ما تمس الجبهة من الأرض ).
هذا الحديث أخرجه الدارقطني و البيهقي من حديث عكرمة عن عبد الله بن عباس، واختلف فيه على عبد الله بن عباس من جهة وقفه ورفعه ووصله وإرساله، جاء من حديث عاصم عن عكرمة مرسلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء أيضاً من غير حديث عاصم عن عكرمة عن عبد الله بن عباس مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واختلف العلماء في ترجيح الوقف والرفع، وترجيح الوصل والإرسال، وعامة الحفاظ على ترجيح الإرسال في هذا الحديث وعدم صحته مرفوعاً، وأن الصواب في ذلك ما يرويه عاصم عن عكرمة مولى عبد الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير ذكر عبد الله بن عباس ، وهذا هو الأرجح، وقد صوبه الإمام أحمد و أبو داود و الدارقطني أن الصواب في ذلك الإرسال.
ومن قرائن ترجيح الإرسال: أن عكرمة جرى في روايته هذه على غير الجادة، والجادة في هذا أنه يروي عن عبد الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أرسل الحديث فقد خرج عن الجادة وهو أقرب إلى الحفظ والضبط، وأما من يرويه عن عكرمة عن عبد الله بن عباس فقد جرى على الجادة فيه.
ونقول: إن من القرائن عند العلماء ما يسمونه بالجادة وما يسمونه بالمجرة، والجادة هي الطريق المعتادة في الرواية أو كذلك أيضاً في السير، فإن الإنسان إذا غلط أو هم فإنه يجري لسانه على ما اعتاد عليه فإذا خالفه دليل على أنه مستحضر ويقظ، والصواب في هذا الحديث الإرسال، من العلماء من صحح الوصل وهو الحاكم رحمه الله فإنه يميل إلى تصحيح الوصل في هذا، و الحاكم رحمه الله مع جلالته وإمامته وفضله وحفظه إلا أنه في أبواب العلل لا يقارن بالصدر المتقدم من النقاد وذلك كـشعبة و ابن مهدي و ابن المبارك و ابن معين و أحمد و ابن المديني و أبي داود وغيرهم من الأئمة، وهو يجري في كثير من طرائقه في العلل مجرى أهل الظاهر، ومعلوم أن لدينا مدارس في العلل أو مدرستين من مدارس العلل:
المدرس الأولى: هي مدرسة الظاهرية، والمدرسة الظاهرية هي التي يجري عليها كثير من المتأخرين، ويسلك هذا المسلك أيضاً جماعة من المتقدمين كـالحاكم وكذلك أيضاً ابن حزم و ابن القطان الفاسي وغيرهم، فهؤلاء يأخذون مجرى الظاهر ولا يعملون القرائن.
والمدرسة الثانية: هي مدرسة النقاد المتقدمين الذين يأخذون بالقرائن ولا يجرون على الظواهر، وإنما يعملون جملة من القرائن التي تحتفظ بالحديث فيقولون بها، وعند النظر في تخاريج المتأخرين أو تخاريج من يسلك هذا المسلك من الظاهرية يجد أنهم يعتمدون على قواعد أهل الاصطلاح مجردة ولا يكون لديهم نفس من جهة تخريج أو النظر إلى قرائن العلل، وذلك أن القرائن إذا عدمت عند الناقد أو عند المخرج فإنه يقع لديه شيء من الخطأ في مخالفة كلام الأئمة.
ومن القرائن في رد هذا الحديث أيضاً: أن الإجماع قد حكي على صحة الصلاة فيمن سجد على جبهته ولم يمس أنفه الأرض، وهذا الحديث يقول: لا تقبل صلاة لا يمس الأنف ما تمسه الجبهة، يعني: أنه يجب أن يمس الأنف من الأرض ما تمسه الجبهة على حد سواء.
إذاً ضمّن هذا الحديث جملة من الأحكام منها: أن الجبهة إذا مست شيئاً يختلف عن الأنف كالذي يسجد مثلاً على طرف سجاد أو بساط حصير فتمس جبهته السجاد وأنفه يمس التراب أن هذا في ظاهره لا تصح صلاته، كذلك أيضاً فإنه يتضمن أن الجبهة إذا مست الأرض ولم يمس الأنف كان مرفوعاً فإنه حينئذ تبطل في هذا الصلاة.
حكي إجماع الصحابة عليهم رضوان الله على صحة الصلاة أو صحة السجود إذا مست الجبهة الأرض ولم يمس الأنف، قالوا: لأن المقصود من السجود هو وضع الجبهة لا وضع الأنف وهذا ظاهر في حديث النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال: ( أمرت أن أسجد على سبعة أعظم )، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( القدمان والركبتان والكفان )، قال: ( والجبهة وأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنفه )، مع أنه ذكر الجبهة وأشار إلى أنفه يعني: أن حكمهما سواء، يعني: أنهما كالعضو الواحد.
ونقول في هذا: إن ظاهر عمل الصحابة عليهم رضوان الله تعالى أنهم يجعلون الجبهة تجزئ عن الأنف، أما الأنف فلا يجزئ عن الجبهة في ظاهر فعلهم، لأن مس الأنف للجبهة لا يسمى سجوداً، وإنما يسمى نقراً، فمن وضع أنفه على الأرض فإنه ما سجد، هذا نقر، وإذا وضع جبهته ولم يضع أنفه سجد، ولهذا تجد العلماء عليهم رحمة الله ينهون أن يضع الإنسان جبهته عند تقبيل معظّم، كتقبيل يد والده أو شيخاً كبيراً، فلا يضع جبهته عليه لأن هذا سجود فينهى عنه، وإنما يقبل، فإذا قبل ربما مس أنفه الكف ولا يضر، لأنه لا يأخذ حكمه، كذلك أيضاً في مسألة الحجر الأسود في وضع الجبهة عليه، جاء هذا الحديث عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى يرويه محمد بن عباد بن جعفر عن عبد الله بن عباس عن عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا وإن كان ضعيفاً في المرفوع ولكنه جاء عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله أنه كان يضع جبهته على الحجر وهذا سجود فذكر الجبهة.
كذلك أيضاً أن الصحابة عليهم رضوان الله في ذكرهم للسجود لا يذكرون إلا الجبهة باعتبار أن الأنف تبع للجبهة وليست الجبهة تبعاً للأنف، ولهذا في حديثهم في الصلاة قالوا: كنا نضع ثيابنا يسترون جباههم من حر الأرض ورمضائها وذلك دليل على أن العبرة بالجبهة وليس العبرة بالأنف.
وعمل الصحابة عليهم رضوان الله تعالى له أثر في أبواب العلل، وهذا ما أشرنا إليها مراراً، وهو أنه ينبغي لطالب العلم إذا أراد أن يعرف مواضع العلل في الحديث أن يلتمس فتيا الصحابة عليهم رضوان الله تعالى، وفتيا الصحابة عليهم رضوان الله في الحديث منها ما يكون منصوصاً في الحديث المروي، مثلاً: في هذا الحديث نجد في حديث عبد الله بن عباس عليه رضوان الله أو فقه أصحابه، فـعكرمة من أصحاب عبد الله بن عباس ، وكذلك أيضاً ما جاء عن أقران عكرمة من أصحاب عبد الله بن عباس وذلك كـسعيد بن جبير وكذلك أيضاً مجاهد بن جبر وعطاء وغيرهم من الفقهاء الذين يأخذون عن عبد الله بن عباس ، هل روي عنهم مثل هذا القول؛ لأنه لو صح عن عبد الله بن عباس ذلك مرفوعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن السجود على الجبهة من غير أنف يبطل الصلاة ولم يكن ذلك موجوداً عندهم من جهة الفتيا دل على نكارته وعدم الاعتداد به، وآكد ذلك أن لا يوجد في كلام عكرمة مولى عبد الله بن عباس وهو راوي الحديث، وكذلك أيضاً مما يرجح الإرسال ولا يرجح الوصل من حديث عبد الله بن عباس أن هذا القول لا يعرف في فتوى عبد الله بن عباس في مسألة السجود على الأنف، لهذا كلما تمكن طالب العلم في فقه السالفين أصبح لديه بصيرة في أبواب العلل، وليس المراد بالفقه إذا ذكرنا في أبواب النقد أن طالب النقد وطالب الحديث إذا لم يكن بصيراً بالفقه أنه لا يكون بصيراً بالنقد ليس المراد بذلك هو فقه المتأخرين، والمتون الفقهية وآراء الفقهاء وهي الوجوه والروايات والأقوال والنصوص والتخاريج التي يخرج بها أقوال الأئمة ليس المراد ذلك وإنما المراد بذلك هو أقوال السلف، وأعظم أقوال السلف تأثيراً على العلل هي أقوال الحجازيين، وأعلى أقوال الحجازيين تأثيراً هي أقوال المدنيين، وأقوى تلك الأقوال هي الأقوال التي تنسب للرواة الذين جاءوا في ذات الإسناد، فمثلاً: في حديث عبد الله بن عباس نعلم أن عبد الله بن عباس رضي الله عنه من أئمة الفقه من الصحابة فله مرويات، كذلك عكرمة أيضاً من الفقهاء، فهو من فقهاء التابعين له مرويات في أبواب الفقه، ولأقرانه من أصحاب عبد الله بن عباس عليه رضوان الله أيضاً في هذا الباب، فإذا أردنا أن نبحث علةً للحديث من أثر الفقهاء في ذلك الزمن أن ننظر في فقه راوي الخبر، وأعلا ذلك هو فقه عبد الله بن عباس ، وإذا لم نجد في فقه عبد الله بن عباس شيئاً يؤيد أو يوافق ننظر في فقه تلاميذه لأن فقه الراوي لابد أن يوجد عند تلامذته، فـعبد الله بن عباس له تلامذة، فإذا وجدنا الحديث في إسناده تفرد وفيه لين ولكن نجد أنه جاء عن عبد الله بن عباس فهذا يؤيده، وإذا لم يأتي عن عبد الله بن عباس ننظر أيضاً في أقوال أصحاب عبد الله بن عباس إذا أجمعوا على قول يوافق المروي الذي يرويه عبد الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن هذا يرجح وهذا قرينة على التقوية، إذا وجدنا خلاف ذلك أنهم قد أجمعوا على خلافه وأفتوا بخلافه فهذا أيضاً يرجح على الإعلال، ومن الفقه ما يكون ظاهراً ومنه ما يكون خفياً، الأمر الظاهر في أمور الإعلال في الفقه أنه يروى من قول ذلك الإمام الذي جاء في الإسناد أقوال تؤيد ذلك فهذه ظاهرة لأي ناقد، أما ما كان باطلاً فلا يروى عنه شيء، فمثلاً في هذا الخبر عن عكرمة عن عبد الله بن عباس ننظر في أصحاب عبد الله بن عباس فلا نجد في روايات عكرمة، ولا في الروايات عن عبد الله بن عباس، فإذا وجدنا أصحاب عبد الله بن عباس وهم ليس لهم ذكر في الخبر فوجدناهم يفتون بخلاف هذا الحديث جميعاً ولو لم نجد لـعكرمة شيء ولكن الباقين من هؤلاء يروون أقوالاً وتنقل عنه فتيا وعمل يخالف ذلك، فهذا قرينة على الإعلال، ولهذا لا تجد الأئمة رحمهم الله من النقاد الأوائل ينصون على ذلك، ولكن لما استوعبوا هذا الفقه لديهم قاموا بإنكار هذا الحديث، ثم يأتي الناظر إلى كلامهم فيقول: إن هذا الحديث رواه عبد الله بن عباس، ويرويه عنه عكرمة مولى عبد الله بن عباس و عكرمة لم يرد عنه ما يخالف هذا الحديث، و عبد الله بن عباس لم يرد عنه شيء يخالف هذا الحديث فلماذا يضعف الخبر! هم ينظرون إلى ما هو أبعد من ذلك وهو القول الذي يقول به أصحاب ذلك الإمام.
وثمة مرتبة أخرى أيضاً غائبة في هذا أن فتيا أهل البلد التي فيها ذلك الحديث لها أثر في أبواب الإعلال، فتيا أهل البلد ومعنى فتيا أهل البلد: أنه ربما لا يكون هذا الحديث مثلاً: في حديث عكرمة عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله لا يكون لعبد الله بن عباس ولا يكون أيضاً لـعكرمة ، والمرحة الثانية: لأصحاب عبد الله بن عباس لا يكون لهم فتوى في هذا.
ننظر في بلد عبد الله بن عباس وبلد أصحابه، غالب أصحاب عبد الله بن عباس هم في الحجاز، في مكة والمدينة، فإذا نظرنا في فقه المكيين وفقه المدنيين عموماً ولو لم يكونوا أيضاً من أصحاب عبد الله بن عباس ولو في طبقة متأخرة ولا نجد لهذا القول ذكراً، وهذا قرائن الإعلال، لأن الحديث إذا وجد في بلد لابد أن يوجد له أثر، وآثار الأحاديث هي العمل بها والفتيا، فإذا وجدنا خلاف ذلك يفتي به أهل ذلك البلد هذا دليل على أن هذا الحديث ليس بشيء عندهم، كذلك أيضاً بالنسبة للكوفيين، والبصريين، والشاميين، والمصريين، والخراسانيين، واليمانيين، وغيرهم.
فننظر في ذلك الإسناد ثم ننظر في فقه هذا البلد، لهذا من الأمور المهمة أن يقوم طالب العلم بإخراج فقه كل بلد على سبيل الانفراد ثم يقوم بحفظه ومعرفته، بحيث إذا نظر في روايات الفقه عن التابعين عرف وميز هذا من البلد الفلاني وهذا من البلد الفلاني، يستطيع أن يعمل ذلك بسرعة، فيعرف أن ثمة فتيا.
وكذلك أيضاً يعرف الطبقات فوجد مثلاً فتيا أهل الحجاز ثم وجد فتيا بصري ولكن هذا البصري متأخر هذا البصري في المائتين، لماذا ما قبل المائتين لا يوجد فيه ما يخالف هذا القول! فيعطيه ذلك انقداحاً على ترجيح مسألة على مسألة، لهذا نقول: إن أظهر ما يغفل عنه المتأخرون في أبواب العلل هو غفلتهم عن فقه رواة الأحاديث، لأن هؤلاء الرواة ولو كانت أسماء يترجم فيها في كتب التراجم على سبيل الاختصار إلا أن كثيراً منهم فقهاء وفقههم في ذلك موجود وهو في متناول الأيدي في غالبه، وثمة مدونات في هذا كالمصنفات مصنف عبد الرزاق وابن أبي شيبة ، البيهقي ، كتب ابن عبد البر ، ابن المنذر ، الموطئ ، الإمام مالك ، كذلك أيضاً في كتب التفسير كـابن جرير ، الطبري ، وتفسير ابن المنذر ، وتفسير عبد بن حميد ، وتفسير البغوي وغير ذلك من كتب التفسير التي تعتني بتفسير الأثر وذكر أيضاً تفسير آيات الأحكام مما يقع في القرآن، فيوردون في ذلك جملة من أقوال السلف في هذا الباب، لهذا نقول: إن طالب العلم ما لم يجمع بين هذين الطريقين بمعرفة الرواية ومعرفة دراية الراوي فإنه يكون لديه قصور في هذا، وإذا أتم معرفة هذين البابين فإنه يكون من أهل النقد والإفصاح ببينة، لهذا أكثر الاستغلاق الموجود عند من يستعمل الحديث الفجوة التي تكون بينهم وبين فهم كلام النقاد الأوائل إنما تقع بهذا السبب، فتجد مثلاً كلام أبي حاتم أو كلام أبي زرعة أو كلام الإمام أحمد أو كلام مثلاً: يحيى بن معين وأضرابهم في حديثه ثم تلتمس في ظاهر أمرك سبباً للعلة فلا تجد سبباً، السبب، ففي هذا ثمة مساحة كبيرة هي مجهولة لديك ولكن هي محل اطلاع وهو جانب دراية الرواة وهو ما يلتمس من فقههم.
لهذا ينبغي لطالب العلم إذا وقف على إسناد من الأسانيد أن يقوم بمعرفة الرواة وطبقاتهم، ومعرفة كذلك أيضاً الفقه المروي عن هؤلاء، ومعرفة بلدانهم والمدارس الفقهية التي ينتمون لديها، هل هذا الحديث أعمل أثره فيها أو لم يعمل أثره فيها! إذا لم يعمل ذلك الأثر فهذا قرينة على أن هذا الحديث لم يعتد به ولا يأخذ به أحد، هذا كما أنه في المرفوعات، كذلك أيضاً في الموقوفات عن الصحابة عليهم رضوان الله، فنجد أهل الكوفة من جهة الآثار المروية عن عبد الله بن مسعود تعمل أثرها، فربما كان الأثر عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى ضعيفاً، ولكن نجد أن أهل الكوفة من أصحاب عبد الله بن مسعود على هذا القول، هذا قرينة على قوة وصحة ما جاء عن عبد الله بن مسعود، قرينة على قوته، فإذا أخذت بالظاهر حكمت عليه بالضعف فجردته من فقهه وإجماع أصحابه لأن هؤلاء أصحاب عبد الله بن مسعود كـعلقمة والأسود وأبي الأحوص وعبد الرحمن بن يزيد وغيرهم من الطبقة الأولى من طبقة الكوفيين هؤلاء لا يخرجون عن قول عبد الله بن مسعود في إجماعهم، ولكن إذا لم يكن ثمة أثر لـعبد الله بن مسعود وقع لديهم الاختلاف في هذا، فإذا أجمعوا على قول وجاء لدينا عن عبد الله بن مسعود قول ولكنه ضعيف هذا قرينة على تقويته، وإذا أخذنا بالظاهر ضعفناه وأهملنا الجانب المغيب في هذا، هذا كذلك أيضاً في أصحاب عبد الله بن عباس في حال الموقوف عليه.
كذلك أيضاً عن بعض الصحابة عليهم رضوان الله الذين لهم مدارس فقهية كبعض الخلفاء الراشدين كـعلي بن أبي طالب و عثمان ، وكذلك أيضاً لـعمر بن الخطاب ، وكلما ارتفع قلت المدرسة الفقهية، لقلة الرواية، فلو سألنا: لماذا قل الفقه عن أبي بكر الصديق ؟ قل الفقه عن أبي بكر الصديق عليه رضوان الله لأنه حديث عهد برسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعمر بعد النبي إلا سنتين، فلم يحتج إلى فقهه فلم يكن ثمة مساحة لحدوث نوازل يحتاج إليه فيها، ولو مكث ثلاث سنين لجاءت الرواية عنه أكثر، ولو مكث أربع لكثرت، ولو مكث خمساً لكثرت، ولهذا جاء عن عمر أكثر من أبي بكر ، وجاء لمن بعدهم في حال عثمان وكذلك أيضاً علي بن أبي طالب عليهم رضوان الله تعالى كذلك، فكلما تأخر جاء أكثر عنه، لهذا عبد الله بن عباس أكثر من الخلفاء الراشدين لكثرة فقهه، ومن نظر في كتب المصنفات يجد هذا كذلك.
كذلك أيضاً عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تجد أنه أقل من عبد الله بن عباس ، لأنه توفي قبل، مع أن ابن مسعود هو أفقه من عبد الله بن عباس عليه رضوان الله ولكنه توفي مبكراً فقلت الرواية عنه، وقد توفي في عام اثنين وثلاثين للهجرة بخلاف عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى فقد مكث بعده حوالي أربعين سنة، وهذا دليل على وفرة الفقه وحاجة الناس إليه وكثرتهم.
لهذا نقول وننبه ونؤكد أنه ينبغي لطالب العلم أن يعتني في هذا الباب حتى يجمع بين هاتين المدرستين فتتكون لديه آلة نقدية غائبة في مسلك الظاهريين في هذا، وبالله التوفيق، والإعانة، والسداد.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر