الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فالله سبحانه وتعالى قد أكرم الإنسان وعلمه, وهداه الله جل وعلا النجدين, والله سبحانه وتعالى ما خلق الخليقة إلا على نظام تسير عليه, وهدى الله سبحانه وتعالى السائلين إلى معرفة الحق من الباطل والصواب من الخطأ, وذلك بتمييز ذوات الناظرين بالعقل, وتمييز تلك الذوات المنظور إليها بعلامات يهتدى بها إلى معرفة الخير من الشر, وتمييز أحدهما عن الآخر, وذلك أن الله جل وعلا ما جعل مكلفاً في الأرض إلا وكان لتكليفه سبب يسير عليه الإنسان, وهذه المسيرة وهذا الطريق ثمة علامات متنوعة عن يمين الإنسان وعن شماله يهتدي بها الإنسان, ويعرف طريق الرشاد والهداية والسداد من طريق الغواية والضلال والعثرات التي يجدها الإنسان في أثناء طريقه, لهذا كان الإنسان بقدر وضوح الحق لديه بقدر ما تكون العقوبة عليه, وذلك أن الحجة كلما كانت ظاهرة على الإنسان كان العقاب عليه أشد, وإذا كانت الحجة ضعيفة في عقله وإدراكه كان العقاب أقل, وإذا انعدمت الحجة والبيان لم يكن ثمة عقاب, ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15].
والله جل وعلا خلق الخليقة وجعل لها طريقاً ومنهجاً تسير عليه, والنبي صلى الله عليه وسلم جعل للناس من يسوسهم كما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( كانت بنو إسرائيل تسوسهم أنبياؤهم, كلما ذهب نبي خلفه نبي آخر ), والمراد بذلك أن هداية الناس ودلالتهم لا بد أن تكون عن طريق الوحي من الله جل وعلا, وهذا الوحي لا بد أن يتركب على شيء وعلى إناء يحتويه, وهذا الإناء الذي يحتويه هو العقل, فالإنسان له مدارك وله عقل, ويعي به الخير من الشر والصواب من الخطأ, وهذا التمييز لا يمكن أن يكون إلا بدلالات يراها الإنسان ثم يميز الخبيث من الطيب.
وثمة أمر ينبغي أن يُدرك؛ وهو أن الله جل وعلا كما أنه أوجد الذوات وهذه المخلوقات من عدم, فكذلك الله جل وعلا أوجد كثيراً من المعلومات للإنسان من عدم, وكثير من الناس يظن أنه إذا أَلَّف بين معلومات ينطق بها ويتكلم بها فإنه يظن أنه قد جاء بشيء من المعلومات من عدم, وذلك من الخطأ المحض, فلا يمكن للإنسان أن يوجد معلوماً أو يوجد فكرة في عقله لم يسبق إليها, وإنما ذلك مؤلف من مجموعة أجزاء منثورة كما يؤلف الإنسان مواد الطبيعة, فيؤلف بينها على أشكال جديدة ويسميها ابتكاراً واختراعاً, وهذا الابتكار والاختراع هو من مادة أصلها موجود, لا يمكن أن يوجد أصل المادة من عدم, كذلك من جهة المعاني والأفكار فإنها لا يحصيه إلا الله سبحانه وتعالى، لكن يؤلف الإنسان بينها حتى يشكل كثيراً من المعاني والمعلومات والمدركات التي لم يسبق إليها على هذا التركيب, وأما من جهة أجزائها فإنه قد سبقه إليها الكثير, ولهذا من المحال أن الإنسان يوجد معلومة من عدم محض, فإن هذا لا يكون من أحد إلا لله جل وعلا, فالمعاني تخلق كما تخلق الذوات من الماديات وغيرها, إذا أدرك الإنسان ذلك فإنه يعلم مهمة العقل من جهة استيعاب الحقائق وإدراكها, ويعلم أيضاً أن عقله ما هو إلا إناء, وهذا الإناء هو الذي يستوعب تلك المواد في أي مادة وضعت فيه، يحكمه ما وهبه الله جل وعلا فيه من تمييز, ويحكمه ما غرسه الله جل وعلا فيه من فطرة, لهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين وغيرهما: ( ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ), فالله جل وعلا جعل الفطرة هي التي توجه الإنسان وتأطره على الحق, ولكن إذا قلبت الفطرة احتاج الإنسان إلى أن يُرجع إلى أصلها حتى يتميز ذلك الملقى إليه حقاً أو كان باطلاً, ولهذا قال الله جل وعلا: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30], وهذه الفطرة تخضع إلى نوع من التدليس والتلبيس, ويكون هذا التدليس والتلبيس إما بذات المعلومة، أو بفعل الفاعل لها من جهة ذاته لو كان فرداً كأن يكون رمزاً، أو كذلك بكثرة الفاعلين لها ولو لم يكونوا رموزاً, فالنفوس ميالة إلى الكثرة من جهة العدد, وتحب أن تنغمس مع الكثرة، ولا تحب في ذلك القلة, وأعظم الخصومات التي واجهت أنبياء الله سبحانه وتعالى في أقوامهم هي مخالفتهم للكثرة, وذلك أن المخالفين لهم قالوا: إنهم يتهمون الأنبياء بالقلة والندرة, وأن من خالفهم هم الأكثر والسواد الأعظم, وهذا لا قيمة له من جهة الحقائق والتأصيل.
والله سبحانه وتعالى جعل الحقائق في ذوات المعاني لا في ذوات حامليها, وهذا ينبغي أن يؤخذ بالاعتبار, فالله جل وعلا جعل الحق بالكلمات والألفاظ والمعاني، وما جعل الحق في ذوات حامليها, وإذا فهمنا هذا التأصيل عرفنا أن الذين يحملون الحق والباطل إنما هم أوعية جعلها الله جل وعلا حملة للحق والباطل, وأما ما يحملونه من معانٍ فهي التي يتميز بها الناس إلى الحق أو إلى الباطل, ولهذا الله جل وعلا جعل إحقاق الحق بالكلمات, وما جعل إحقاق الحق بالذوات, قال تعالى: يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ [الأنفال:7], لا بفلان وفلان, فهذه الكلمات التي أمر الله جل وعلا بلزومها هي المعاني التي أمر الله سبحانه وتعالى بإنزالها على أنبيائه, وقد أمر الله جل وعلا باتباع البينات وعدم اتباع الأولياء من دونه: وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ [الأعراف:3], فهؤلاء الأولياء هم الذين يتعصب عندهم الجهلة بالالتفاف حولهم ومحاولة التكاثر، حتى يجعلوا للقول الضعيف قوة وشوكة, فيغتر به الناس لقوتهم وشوكتهم, وكذلك نفوذ رأيهم وامتزاج ذلك بكثير من حضور المادة ومطامع الدنيا, فتنكسر كثير من القلوب عن إدراك ذلك الحق بذاته لهيبة حامله.
والإنسان -كما لا يخفى- من جهة إدراكه للمعاني, وكذلك من جهة إدراكه للمعلومات على سبيل العموم, فإنه كلما كان بعيداً عن الحقيقة صغرت لديه, وإذا دنا منها كبرت لديه, إلا شيئاً واحداً، وهذا هو الكذب والخديعة والبهتان, فإنه يكون عظيماً إذا كان بعيداً, فإذا دنا الإنسان منه وجده سراباً, لا شيء, ولهذا ينبغي للإنسان أن يقترب من الأشياء حتى تتميز لديه, وهذا القرب هو القرب من الذوات, وهذه الذوات هي التي عليها مدار الإدراك.
وإذا قلنا: إن الحقائق التي أمر الله جل وعلا باتباعها هي المعاني والكلمات حينئذٍ وجب على الإنسان أن يقرب من المعاني والكلمات لا أن يقرب من الذوات, والله جل وعلا ما جعل الحق والعصمة لأنبيائه عليهم الصلاة والسلام إلا ليبلغوا الحق للناس فيعتصب الحق مع الذات, وذلك أن كثيراً من الناس ينخدعون بالذوات أكثر من الألفاظ والمعاني, وجعل الله جل وعلا العصمة لأنبيائه من جهة القول والفعل إكمالاً للحق, ولهذا يضطرب كثير من الناس في اتباع الحق بالتمييز بين الذات والمعنى الذي تحمله.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه الله جل وعلا إلى الناس كافة, وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سبأ:28], أرسله الله جل وعلا إلى الناس كافة, منهم من شاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا دنا منه فرق بين بشرية النبي صلى الله عليه وسلم وبين الحق الذي يحمله, ومنهم من كان بعيداً، فحمل ذات رسول الله صلى الله عليه وسلم على سائر الذوات من أن التعظيم الذي لحق تلك الذات إنما هو لعظمتها في ذاتها, فكأن المعاني والألفاظ كانت تابعة للذات لا أن الذات تابعة للمعاني.
فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتد من ارتد من العرب, ولماذا كان ربط الارتداد بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم مجرداً، مع أن الأحكام والمعاني كانت موجودة قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده؟
ثم أيضاً لماذا كان الارتداد في الخارجين النائين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان في القريبين؟ لأن الأبعدين إنما تعلقوا بهيبة الذات أكثر من التعلق بهيبة المعاني, وكذلك فإن المنافقين في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم هم ممن كان في أطراف المدينة أكثر ممن كان مخالطاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم, والصحابة عليهم رضوان الله تعالى حرصوا على تصحيح الباطن أكثر من الظاهر، وذلك ليوافق من كان حول المدينة من كان داخلاً فيها، كما جاء عن أبي بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى, لما دفعوا الزكاة لـأبي بكر الصديق وخضع من خضع، قال: (والله لا نكف عن قتالهم حتى يؤمنوا أن قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار), والمراد بذلك أن ثمة إشارة إلى أن إيمانهم السابق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان متعلقاً بذاته, وخشية وهيبة, وذلك أن الله جل وعلا قد نصر نبيه عليه الصلاة والسلام بالرعب مسيرة شهر كامل, وهذا الرعب والانكسار الذي كان في قلوب كثير من الناس حمل القلوب على الإيمان والركون, وكذلك الانقياد لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع ضعف إيمان, كثير من الناس لديه شائبة في اتباع الذوات, ولا يخلو أحد من ذلك إلا النزر اليسير, ولهذا وجد عند خيرة الخلق من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الأنبياء شيء من ذلك, ولهذا لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وقع بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء من الخلاف اليسير, ووقع فيهم شيء من الفزع, فأنزر الله جل وعلا شيئاً يتعلق بذات رسول الله صلى الله عليه وسلم وفصلاً بين الذات والمعاني التي حملها رسول الله صلى الله عليه وسلم, وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران:144], الانقلاب على العقب إشارة إلى أن الإنسان كان متبعاً في السابق, فهو يسير في طريقه خلف من؟ إما أن يكون منساقاً خلف ذات أو منساقاً خلف معنى, والمعنى موجود والذات قد زالت, فإذا كان الله قد أخذ نبيه عليه الصلاة والسلام واختاره إليه، فمن نكص على عقبيه ممن كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو متعلق بذاته, ومن بقي ثابتاً فهو متعلق بالمعنى الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمته, وهذا الأمر زلزل بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم من العلية, وكان هذا الزلزال الذي وقع على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقع على الأمة جمعاء بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن مغيراً من طريقهم، ولكن هو نوع من الذهول, ولهذا وقع في هذا الأمر بعض الخاصة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولكنهم لم يدعوا اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم, الصفوة كـأبي بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى هو الذي قام في هذا الأمر، وثبت على ما هو عليه، وبين لمن حوله هذا الأمر أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءنا بالمعاني ما جاء بذاته عليه الصلاة والسلام, فذاته عليه الصلاة والسلام أوجدها الله جل وعلا، ويأخذها الله سبحانه وتعالى متى شاء أن يأخذها, ولا عذر لأحد بالانصراف عن ذلك المعنى الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يرفع الله جل وعلا العلم, فإذا رفع الله تلك المعاني التي أحق الحق بها؛ كما في قوله بما تعالى: يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ [الأنفال:7], لا بذات فلان وفلان, فإذا رفعت تلك المعاني والألفاظ والكلمات عذر الإنسان حينئذ عن اتباع الحق, ولهذا جاء في سنن ابن ماجه وعند الحاكم أيضاً من حديث حذيفة بن اليمان عليه رضوان الله تعالى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب)، والمراد بذلك هو اندفان الثوب بالرمال إذا سفت عليه الريح ونحو ذلك، (حتى لا يُدرى ما صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا نسك إلا أقوام يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقيل له: ما تغنيهم تلك؟ فقال: تنجيهم من النار، لا أبا لك! ), وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حتى لا يُدرى), إشارة إلى أن المعنى غاب عن الناس, بخلاف حامليه, ولكن لما كان الأصل أن المعاني لا تقوم إلا بالذاوات صعب على كثير من الناس أن يعلق ذهنه في حال الاتباع للمعنى بعيداً عن الذات, وذلك أن الفصل بينهما لا يكون إلا لمن وفقه الله جل وعلا, وذلك أن الإنسان يتابع المعلم له في حركاته وسكناته ونحو ذلك, فإذا زل الإنسان أو انصرف أو أنحرف عن طريق الحق لم يستطع الإنسان حينئذ أن يفصل بين المعاني التي يحملها وبين تلك الذات إذا انحرفت عن طريق الحق, فإذا كانت الذات في ذاتها تزول زوالاً تاماً؛ وذلك بوفاتها وموتها وفنائها ولا تغير من الحق شيئاً وهو باقٍ بتمامه كذلك، فإن انحراف الإنسان ببعض أجزائه يلحق به وفاة الإنسان بالكلية, فإذا زال الإنسان ببعضه فإنه لا يزيل الحق بكامله, فكيف إذا زال الإنسان بكله وانتكس عن طريق الحق.
وينبغي للإنسان أن يعلم أن أصل التكليف إنما جاء بالمعاني وجاء بكلمات الله سبحانه وتعالى, فالله جل وعلا قد أنزل كتابه العظيم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر الله جل وعلا بالاعتصام بكتابه سبحانه وتعالى, لهذا قال الله جل وعلا: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103], جاء عن غير واحد من المفسرين أن حبل الله هو القرآن, جاء ذلك عن عبد الله بن عباس و مجاهد بن جبر و عكرمة وغيرهم, وجاء أن المراد بذلك هو لا إله إلا الله محمداً رسول الله, فينبغي للإنسان أن يعلم أن الله جل وعلا جعل تلك الحقائق بين الناس والتكليف باق وقائم, ولكن لرحمة الله سبحانه وتعالى ولطفه لضعف الحملة في آخر الزمان، وكثير من الناس لا يملك السيطرة على الحقائق التي تصل إلى ذهنه واستيعاب التفريق بين المعاني، ولذلك كان من يأتي في آخر الزمان أعظم من جهة الأجر في تضعيف العبادة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, والصحابة عليهم رضوان الله تعالى أعظم, فمن يأتي بعدهم هم من جهة التضعيف أكثر, والصحابة عليهم رضوان الله تعالى من جهة التعظيم أكبر وأوفر؛ وذلك أن من جاء بعدهم في آخر الزمان إنما يؤمنون بصحف يقرئونها, يعني: أنها حقائق مجردة عن العامل بها أو ضعف الذي يعمل بها، فضعف الأخذ واستراب الإنسان من الأخذ بها؛ فعظم عند الله جل وعلا الأجر.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد حث على صلاح الذات لهذا الأصل؛ لأن كثيراً من العامة لا يستطيع الفصل بين حامل الحق والحق الذي يحمله, فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تصحيح الذوات, وذلك مهم عند العلماء لكونهم قدوة يراهم القريب والبعيد, ورسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بالأقربين إليه عليه الصلاة والسلام؛ وذلك لكون الأقربين هم أقرب هدياً للنبي عليه الصلاة والسلام من حملة الحق؛ كما جاء في حديث العرباض بن سارية كما في السنن وغيرها, قال عليه الصلاة والسلام: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ), في وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة إشارة إلى الاقتداء بالمعاني, وهذه المعاني لها حملة, وهؤلاء الحملة أولهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, وبعده عليه الصلاة والسلام أصحابه عليهم رضوان الله تعالى, وخص النبي صلى الله عليه وسلم الخلفاء الراشدين؛ لأنهم أقرب الناس إليه وأقل الناس مخالفة لقوله, مع ورود المخالفة؛ وذلك أننا في حال نفينا للمخالفة يلزم من ذلك تبعاً ورود العصمة التامة, وهذا فيه مشابهة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا منتفٍ, ولكن بمجموع الاقتداء فهم مقتدون برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم خير الخلق بعد أنبياء الله جل وعلا.
ويأتي بعد ذلك مرتبة من حملة الحق من كان قريباً من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كالصحابة عليهم رضوان الله تعالى على سبيل الإجمال؛ كما جاء في مسلم من حديث أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد, وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يوعدون, وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما توعد ), إشارة إلى أن حملة الحق فيهم أمان للذات ما استقاموا مع الحق الذي حملوه, فإذا استقاموا مع الحق الذي حملوا واحتاطوا لذلك القول اتبعهم الناس, والخطاب في كلامنا هنا يتوجه إلى العلماء وطلاب العلم وحملة الحق والرموز، ويتوجه أيضاً إلى العامة, وذلك أن العامي ينبغي عليه أن يربي نفسه وأن يأطر نفسه, وأنه كلما تأخر الزمن كثرت التقلبات في الذات.
والنبي صلى الله عليه وسلم جعل الخيرية والأفضلية كلما دنت من زمن النبي صلى الله عليه وسلم تعلقت الأفضلية بذوات أهل القرن بمجموعهم, لهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح من حديث عمران بن حصين قال: ( خير الناس قرني, ثم الذين يلونهم, ثم الذين يلونهم ), فذكر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة قرون ثم أمسك, وذلك أن الخيرية بعد ذلك تنتقل من ذات إلى ذات ومن بلد إلى بلد, لا تلتزم بزمن على سبيل التسلسل، كما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك, وفي هذا إشارة إلى قضية مهمة، وهي تتعلق بحملة الحق الذين يكونون في آخر الزمان، وهي أن التقلب يطرأ عليهم أكثر من غيرهم, كذلك المهمة عند حملة الحق, ينبغي أن يفصلوا بين ذواتهم وبين الحق الذي يحملوه, وكثير من الناس يحاول أن يجعل الحق متعلق بذاته.
ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مدرسة مع كونه معصوماً عليه الصلاة والسلام, كان مدرسة في الفصل بين تعظيم هديه وذاته؛ حتى لا يؤخذ بذاته عليه الصلاة والسلام ويجعل نفسه كسائر الناس من جهة التعامل, فلا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ملك, ولا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خارج عن نطاق البشرية, وإنما هو بشر عليه الصلاة والسلام, ولهذا كفار قريش لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم استنكروا عليه أموراً؛ من هذه الأمور: أن النبي صلى الله عليه وسلم يمشي في الأسواق, ويأكل الطعام, وذلك أنه قد انغرس في نفوسهم أن القدوة ينبغي ألا يكون من البشر, وله خصائص تنفرد عنه, فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعامل مع كفار قريش كما يتعاملون مع بعضهم, يمشي في الأسواق، ويأكل الطعام، ويفعل ما يفعلون، ويدع ما يدعون، ما كان موافقاً لأمر الله جل وعلا وترخيصه, وهذا فيه إشارة إلى أن نفوس الناس في قبولهم الحق تتعلق بالذات أكثر من الحق ذاته؛ كما كان كفار قريش, امتنع كفار قريش عن الحق فكانوا مترددين بين الحق الذي بين أيديهم من المعاني وبين حامل الحق, حامل الحق هو بشر, ولكن الحق الذي بين يديهم حق, فمنعهم من اتباع الحق نزول صاحبه عن الصفة الفوقية, إلى صفة البشر, فكان مساوياً لهم من جهة بشريتهم، فرفضوا الحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم, لهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج عن تعظيم نفسه كتعظيم القادة, ولا يحجب نفسه عن الناس ونحو ذلك؛ لماذا؟ حتى يؤخذ الحق منه لذات الحق لا لذاته, فكان النبي صلى الله عليه وسلم يوجه أصحابه وهو في وسطهم كما جاء عنه عليه الصلاة والسلام، وكثير ممن يأتي إليه ولم يره يظن أنه ملَك, والقادم إلى العالم أو إلى القدوة ونحو ذلك ينظر إلى ذاته من جهة التعظيم, فإذا كان على أُبَّهة وتعظيم وكبر وكذلك عدم تبسط مع الناس فإنه يتعلق التعظيم بذاته, فإذا انكسر انكسرت شوكة ما يحمله, فضعف في قلوب الناس فانهزموا, ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرص على بيان مستوى البشرية للناس ولو كانوا أبعدين, والبساطة, ولهذا كان الذي يستمسك بالحق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبع الحق الذي جاء به عليه الصلاة والسلام، ويعلم أن الذي بين يديه إنما هو بشر, وقد جاء عند ابن سعد في كتابه الطبقات وعند أبي نعيم في كتابه الحلية: ( أن عدي بن حاتم عليه رضوان الله تعالى لما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قال قبل ذلك: والله ما من أحد سمعت به أكره عندي من رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سمعت به ), وذلك أنهم ينقلون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوالاً، وإن كانت قد اندثرت عند المتأخرين، فكانوا ينشدون في النبي صلى الله عليه وسلم أشعاراً؛ وذلك أن الأشعار هي التي تحفظ, ولكن الله جل وعلا لم يبق من هذه الأشعار في أفواه الناس شيئاً, فشوهوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقي الحق الذي يحمله, ( قال: فأتيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده فلما صلى أتيته فقلت: إني أتيت إليك من جبال طي, قال: من أنت؟ قال: قلت: أنا عدي بن حاتم الطائي , قال: فقام بي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى داره فاكتنفته امرأة, قال: فوقف معها طويلاً ), النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاءه سيد من أسياد العرب, وهذا السيد من أسياد العرب عليه رضوان الله تعالى سيد في قومه, ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يبين أنه يحمل رسالة, وهذه الرسالة لهذا السيد وكذلك لتلك المرأة الضعيفة, ( قال: فقام معها النبي صلى الله عليه وسلم طويلاً ), يريد أن يشير أنه تركني وأنا السيد، ( قال: فقلت والله ما هذه بسيرة ملِك ), يعني: أن هذا ليس من ملوك الأرض, هذا صاحب رسالة, ملوك الأرض: الذين يهتمون بذاتهم أكثر من المعاني التي يرسلونها, فهم يصنعون أمجاداً للذات.
والنبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يكسر هذه الأمور يبين أنه يحمل معاني لا يحمل شيئاً لذاته, ( قال: فدخلت إلى داره, فعمد إلى وسادة محشوة من الليف, فرمى بها إلي فقال: اجلس عليها, فجلس على الأرض, قلا: فقلت: لتجلسن عليها, قال: فأبى, فجلست عليها, قال: فكان أحب الناس إلي ), هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم, يريد أن يبين النبي صلى الله عليه وسلم بذلك أنه لا يحمل شيئاً لذاته، حتى لا يمتزج بين الحق الذي معه وذاته وحظه عليه الصلاة والسلام, فكان النبي صلى الله عليه وسلم يبين صفة البشرية.
وهذا أيضاً في رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال: ( إني لا أنسى ولكني أُنسَّى لأسن ), يعني: لأسن للناس الشرائع والسنن, وبين النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً كما جاء في الصحيح من حديث علقمة عن عبد الله بن مسعود قال: ( صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة فزيد فيها أو نُقص, فقلنا: يا رسول الله, إنك صليت بنا كذا وكذا, فقام النبي صلى الله عليه وسلم فاستقبل القبلة وتوجه فركع ركعتين ثم انفتل إلينا فقال: إنما أنا بشر أنسى كما تنسون ), والمراد بذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كما أن الله عصمه من المخالفة لأمره الظاهر إلا أن الله جل وعلا جعل فيه بياناً للبشرية بورود النسيان عليه, وكذلك ما يطرأ على الإنسان من العوارض البشرية؛ وذلك حتى لا يمتزج بينه وما يحمله عليه الصلاة والسلام.
كان من إلغاء الذوات والتعلق بها أن الشارع جل وعلا أراد ألا يتعلق الناس بالذوات فلم ينجب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر ويبقى, وإنما أُنجب للنبي عليه الصلاة والسلام من البنات، ومعلوم لدى الناس أن الذكور ينسبون لآبائهم لا ينسبون لبناتهم, ولكن مع ذلك لتعلق الناس بالذوات نشأ من طوائف الإسلام من تعلق بأبناء البنات أكثر من التعلق بالحق, فكيف لو كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أبناء, فكان ثمة نسب يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلبه مباشرة؟ إذاً لكانت الفتنة في ذلك أعظم.
ولهذا الصحابة عليهم رضوان الله تعالى في كثير من الفتن التي تحدث في الأمة أعظم ما يعانون هو الفصل بين الذوات وبين المعاني, لما وقعت الفتنة بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روى الدينوري وغيره عن علي بن أبي طالب أن الحارث الأعور جاء إلى علي بن أبي طالب عليه رضوان الله قال: أتريد أن نظن أن الحق معك وأن طلحة و الزبير و عائشة على الباطل؟ فقال علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى: اعرف الحق تعرف أهله.
المراد بذلك أنه ينبغي للإنسان أن يعرف المعاني, وفي ذلك جملة من السلامات:
السلامة الأولى: أن يتحقق للإنسان الانقياد وعظم الأجر عند الله سبحانه وتعالى؛ وذلك أن الإنسان إذا كان منقاداً للمعنى كان أعظم أجراً مما إذا كان منقاداً لذات فوافقت هذه الذات الصواب؛ وذلك الذي ينقاد لذات اللفظ وذات المعنى ويؤمن به أعظم أجراً؛ لأنه آمن بحقيقة ذلك المعنى فانقاد له بذاته, سواء كان الذي يحمل ذلك المعنى ضعيفاً أو كان قوياً, وهذا له أثر بالإيمان الذي يقع في قلب الإنسان, وهذا الإيمان يتعلق بالإيمان بصدق المخبر لخبره الذي وافق الحقائق واستتم وكمل مع الفطرة بخلاف تعلق الإنسان بذاته, وهذا الذي كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاله مع الصحابة عليهم رضوان الله تعالى.
وكما تقدم الإشارة إليه أن الصحابة كانوا أعظم الناس إيماناً بعد أنبياء الله جل وعلا؛ لماذا؟ لتعلقهم بالحق, لهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينكر عليهم إذا ناقشوه في بعض المسائل، ولو كان النبي عليه الصلاة والسلام معصوماً؛ لماذا؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يريد تربيتهم على الحق, ولهذا ربما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بعض المعاني والأفعال التي يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لماذا؟ حتى يتمحض لديهم المعنى وتصح لديهم العلة التي لأجلها كان القول والفعل, جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقاص أنه قال: ( أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطاً, قال: وأنا جالس, وترك رجلاً منهم هو أعجبهم إلي, فقلت: يا رسول الله, مالك عن فلان؟ فإني لأظنه مؤمناً, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو مسلماً, قال: فعدت لمقالتي, فعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم لمثلها, قال: فعدت لمقالتي؛ يا رسول الله ), رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب حق ومعصوم عليه الصلاة والسلام بفعله, وسعد بن أبي وقاص يعلم هذا الأمر, ولكن أراد أن تتمحص لديه العلة, فيستقر في قلبه الإيمان بالعلة أكثر من حامل ذلك الحكم، مع أن العلة والانقياد إليها لا ينفي عدم انسياق الإنسان إلى ذلك الحكم؛ لأن الله جل وعلا بين درجة الذين يؤمنون بقوله سبحانه وتعالى وحكمه مع عدم إدراكهم للعلة الحكمية أو خفائها عليهم, لهذا قال الله جل وعلا في كتابه العظيم: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65], إشارة إلى أن الإنسان قد لا تتوافق علة الحكم مع إدراكه فيجب عليه أن ينقاد, ولكن هذا ليس نفياً للبحث عن العلة, بل هو إثبات لها حتى تتمحض لديه علة الحكم فيصح الحكم فيتبع العلة والمعنى والحكم الشرعي أكثر من اتباع الذات؛ لماذا؟ لأن الأحكام التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تتعلق بذات النبي صلى الله عليه وسلم, بل ستنتقل إلى غيره, فإذا انتقلت إلى غيره سيتعلق الأمر بالذات إذا انتقل الأمر من ذات إلى ذات, والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( العلماء ورثة الأنبياء, الأنبياء ورثوا العلم من أخذه أخذ بحظ وافر ), فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحمل العلم والأمر متعلق بعلمه الذي جاءه من الله والعصمة المقترنة بذلك العلم, ولكن النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته سينتقل ذلك الإرث إلى من جاء بعده, فينبغي أن يفصل بعده عليه الصلاة والسلام, فالنبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يهيئ من بعده إلى انفصال الذوات عن المعاني, مع كون النبي صلى الله عليه وسلم معصوماً, فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم يهيئ من بعده على هذا الأمر أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يقبل تعامل أصحابه وربما حثهم على شيء من الاستعلام لبعض علل أوامره عليه الصلاة والسلام, ( يقول النبي صلى الله عليه وسلم لـسعد بن أبي وقاص لما سأله ذلك السؤال, قال: إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكبه الله في النار ), المراد من ذلك أنني قد أترك الفاضل إلى المفضول, وإنما أعطي المفضول لأستميل قلبه, وذاك أكله إلى ما لديه من إيمان، فهو رجل لا يشترى إيمانه بالمال, فأشتري أولئك بالمال حتى ينساقوا باطناً وظاهراً، وهذا قد انساق باطناً وظاهراً, فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين لـسعد بن أبي وقاص أن العلة في ذلك باطنة ولا تدركها، وإنما أدركها بعلم الله جل وعلا؛ فهؤلاء ضعيفوا الإيمان من جهة الباطن؛ فوجب علي أن أحيي باطنهم كما حيا ظاهرهم, وأما ذاك فحيا باطنه فحيا كذلك ظاهره. وهذا أمر كثير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهنا ينبغي أن ننبه إلى أمر مهم, وهو أن القدوة والعالم الذي يهتدى به ونحو ذلك ينبغي أن يكون بين الناس على طبيعته من غير تكلف؛ وذلك حتى لا ينظر إليه إلى درجة الكمال فيتعلق تعظيماً في قلوب الناس, فتتعلق الناس بذاته أكثر من المعاني التي يحملها؛ لماذا؟ لأن الناس يحملون حملة الأفكار والمعاني والقادة والرموز من العلماء والمثقفين والمفكرين وغير ذلك على أحسن المحامل؛ لأنهم يحملون المعاني التي حملوها فيجعلون كلامهم موافقاً لذواتهم, وهذا لا يكون إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فينبغي أن يظهر العالم على حاله التي هو فيها من عدم التكلف والبساطة وذلك حتى يراه الناس من غير تكلف فيتوازنوا معه, لهذا حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهمية المخالطة.
والنبي صلى الله عليه وسلم أيضاً أظهر ربما بعضاً من حاجته لبعض أصحابه؛ كما كان النبي صلى الله عليه وسلم ربما احتاج وبين أنه إنما قام ببعض أصحابه فكان سبباً بعد عون الله جل وعلا إذ جعل الله بعض أصحابه عوناً وتسديداً له؛ كما جاء في الصحيح من حديث عائشة: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على المنبر قال: ما من أحد من أصحابي أمن علي بأهله وماله من أبي بكر الصديق ), عليه رضوان الله, وفي هذا إشارة؛ مع علو مقام النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه لم يمتنع من بيان فضل من دونه عليه، حتى عند الناس وأمام العامة، فبين أن هذا الرجل له فضل على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وفي هذا إشارة إلى توطين النفس, وكذلك حاجتها, وهذا ما ينبغي أن يكون عليه القدوة في الركون إلى أصحابه وكذلك بيان حاجته إلى من حوله ليمد له يد العون ونحو ذلك. والاستقلال بالذات والنفس إذا لم يكن منهجاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فينبغي ألا يكون منهجاً أيضاً لمن كان بعده من القادة ممن يهتدي بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك من الأمور المهمة في أهمية اتباع المعاني ومن ثمارها: أن الإنسان لا يقع في الخطأ والزلل إن وقع الناس, فإن أحسنوا أحسن وإن أساءوا أساء, التكليف من جهة الأصل يقع على الإنسان, يقع على كل أحد, سواء كان ضعيفاً أو قوياً, صغيراً أو كبيراً ما كان من أهل التكليف, لهذا النبي صلى الله عليه وسلم خاطب الناس كلهم, ووجه الخطاب إليهم, وما وجه الخطاب إلى القادة خاصة, ولكن لأثر القادة دعا النبي صلى الله عليه وسلم أولاً القادة ثم إن تبعهم قومهم على ذلك فحسن, وإن لم يتبعهم قومهم على ذلك تتبعهم بأعيانهم, ولهذا بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن وأبا موسى كذلك إلى اليمن, بعث النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً من رسائله إلى الرموز؛ لماذا؟ لأن نفوس الناس والأتباع تتشوف إلى اتباع أفعال الرموز حتى ينقادوا معهم؛ هل اتبعوا ذلك القول أو لم يتبعوه؟ إن اتبعوه انساقوا, وهذا لما وجد في النفوس دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الرموز ثم دعا الأفراد.
ولهذا قال الله عز وجل مبيناً دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأفراد: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6], وهذه الدعوة الفردية إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان أن يتوجه بدعوته إلى الأفراد سواء كانوا كباراً أو صغاراً, ولكن لما كانت النفوس البشرية تضعف عند القادة كانت لدعوة القادة أهمية أكثر من غيرهم, ولما كان انحراف القادة عن الحق مؤثراً في انحراف الناس عن طريق الحق كانت الحيطة في التعامل مع الكبار والرموز أكثر من غيرهم لماذا؟ حفاظاً على المعاني التي ربما يلبسون فيها على الناس, لهذا النبي صلى الله عليه وسلم دارى القادة أكثر من غيرهم؛ للطبيعة البشرية أن النفوس تتبع الأقوى, ولكن عند الله سبحانه وتعالى من جهة الحقيقة أن الله جل وعلا يخاطب كل أحد على حده: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الإسراء:15], إلا أن الله سبحانه وتعالى يجعل للذين اتُّبعوا من العذاب ما يلحق الأتباع؛ لأنهم غروهم, أما من جهة الأتباع فيلحقهم العقاب الذي كتبه الله سبحانه وتعالى عليهم, كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38], أما من جهة الوزر (( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى )), إلا من سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى قيام الساعة, لهذا بين الله جل وعلا أن الذين يدخلون النار الذين اتَّبعوا والذين اتُّبعوا والمستضعفين والكبراء, هؤلاء كلهم يدخلون النار؛ لماذا؟ لأنهم عند الله جل وعلا سواسية، لا يفرق بين هذا وهذا, كل إنسان يحاسب على ما كان عليه, لهذا ينبغي للإنسان أن يعلم أن تكليفه عند الله جل وعلا إنما هو بالعقل الذي لديه, فينبغي عليه أن يتبع الحق.
أما أثر القادة فالمنزلة لهم عند الله جل وعلا عظيمة إن اتبعوا؛ وذلك لأن الأجر يلحق أولئك, وأما بالنسبة للذين اتُّبعوا بالباطل فإن الإثم يلحقهم أيضاً أعظم من غيرهم؛ لماذا؟ لأنهم غروا الناس, أما الأتباع فيلحقهم العقاب إن خالفوا والثواب إن وافقوا, والإنسان في ذلك يستقل ويستكثر بالأتباع, وإنما عظم الأتباع على غيرهم؛ لأن الناس يتأثرون بهم أكثر من غيرهم, وهذا أمر ينبغي أن يحتاط فيه الإنسان, ومن مكن الله جل وعلا له في الناس فينبغي له أن يحتاط في هذا الأمر, وكذلك فيه تمحيص لكثير من الأقوال التي يقول بها الناس، أتبع قول فلان وأقول بقول فلان, وهذا مما نهى عنه عليه الصلاة والسلام كما جاء في المسند والسنن أنه قال عليه الصلاة والسلام: ( لا يكون أحدكم إمعة، يقول: إن أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسأت, وإنما إن أحسنوا أحسن, وإن أساءوا لم يسئ ), والمراد بذلك أنه ينبغي للإنسان إذا سلك الناس طريقاً من طرق الشر والغواية أن يخالفهم إلى طريق الحق، وإذا سلكوا الحق سلك الحق معهم؛ لماذا؟ تكثيراً للناس, ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم ما حث على المخالفة إلا في أمر المنكر والباطل, لهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن أحسن الناس أحسنت ), يعني: أحسن معهم وكن معهم, لا تكن شاذاً في الحق, وانضوِ تحت أولئك, وأما من جهة الباطل فينبغي للإنسان أن ينفرد بمخالفته للناس بباطلهم, وأن يتبع الحق؛ لماذا؟ لأن التكليف يقع عليه.
في الأزمنة المتأخرة يكثر تعلق الناس بالذاوات, وتعلقهم كذلك بشخوصهم, والإعجاب بهم وتعظيمهم ونحو ذلك, وهذا له ضرائب كثيرة جداً, وله أسباب كثيرة؛ منها ما تقدم الإشارة إليه؛ أن كثيراً من الناس وخاصة العامة لا يميزون بين المعاني وبين حملة المعاني, وبين ما جعله الله جل وعلا في الناس من حق, سواء كان على سبيل الكثرة أو على سبيل القلة.
كذلك لا يميز الإنسان من جهة التكليف الذي أناطه الله جل وعلا به، ويظن أنه بمجرد التقليد أنه بذلك يسلم من عقاب الله سبحانه وتعالى, بل العقاب يأتيه؛ لأن الله جل وعلا آتاه عقلاً وكلفه بذلك, لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286], والوسع كثير من الناس يحمله على الطاقة البدنية, لا, بل هو أبعد من ذلك، فيشمل أيضاً الطاقة الفكرية والعقلية, الإنسان إذا كان يدرك المعلوم لو أراد أن يباشره وجب عليه أن يباشر بنفسه, لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286], من جهة التكليف يجب عليك أن تدرك المعنى الذي أمرك الله جل وعلا به, وأن تعرف أمر الله سبحانه وتعالى وحدوده في ذلك, فتتبع على بصيرة وبينة, فتمحص الحق بذاته وتعرف دليله وتعليله, فتتبعه على هدى وبينة حتى يعظم الثواب لديك, وأما ما لا تكلف به فهو ما لا يمكن أن تتكلف به من جهة العقل والإدراك.
وكثير من الناس ضعيف الإدراك ونحو ذلك لا يميز الحق من الباطل، فهذا يقال له: إن الله جل وعلا لا يكلفه إلا بما يطيق, وما لا يطيقه فإنه يقلد فيه, والله جل وعلا يعلم عذر الإنسان في ذلك.
ومن أسبابها خاصة في زمننا: أن كثيراً من الناس الذين يقتدى بهم لا يظهر منهم إلا ما حسن عن الناس للبعد عن المخالطة, وقد تقدم معنا فيمن كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين ارتدوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، من هم؟ أكثرهم الذين بعدوا عن النبي صلى الله عليه وسلم, بل قيل: أهل المدينة لم يرتد أحد منهم؛ لماذا؟ لأنهم كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم, والنبي صلى الله عليه وسلم تمكن من الفصل بين ما يحمله عليه الصلاة والسلام وبين بشريته؛ لماذا؟ لأن عقول الناس لا تعي بالتمييز بين هذا وهذا, وأما الأبعدون فانضووا تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يدعو إليه بضعف, وكان لديهم هيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فيتعاملون معه ربما تارة بتعامل السلطان وصاحب القوة ونحو ذلك, فإذاً ضعف لديهم ذلك المعنى الذي كان في قلوبهم.
لهذا ارتد من ارتد من العرب ممن كان بعيداً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقاتلهم من قاتلهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهذا فيه إشارة إلى معانٍ كثيرة: منها أن الإنسان إذا لم يخالط القدوة الذي يقتدي به وكان نائياً عنه؛ فإن هذا مما يؤثر تعظيماً في قلب الإنسان له, لهذا ينبغي للعالم أن يخالط الناس في دواوينهم, وأن يروا حاله وبشريته وبساطته وتواضعه ونحو ذلك؛ لماذا؟ حتى يأخذوا قوله على نحو العدل من غير تعظيم ولا غلو ونحو ذلك, أما مخاطبة الناس عن بعد ونحو ذلك فإن هذا يورث غلواً وتعظيماً، وهذا على قدر الوسع والطاقة, ورسول الله صلى الله عليه وسلم بذل ما كلفه الله جل وعلا في ذلك, والإنسان في ذلك مكلف قدر إمكانه بمخالطة الناس, لهذا النبي صلى الله عليه وسلم بين أهمية مخالطة الناس وتحمل أذاهم, وذلك أن يكون الإنسان داعياً لهم بالحق والهدى, ونحن في هذا الزمن الدعوة تأتي إلى كثير من الناس عن بعد, سواء عن طريق القنوات الفضائية, فلا يُرى من الموجهين للناس ورموز الفكر وغير ذلك مما يدعونا إليه إلا أحسن ما يدعونا إليه ونحو ذلك, لهذا يقلدهم من كان بعيداً لهم, وهذا الأمر له وجهتين: ما يتعلق بذات الداعي أنه ينبغي له أن يحتاط في نفسه في قوله وفعله, وأنه إذا اتبعه الناس بالباطل فإن الإثم والتبعة في ذلك عليه عظيمة.
كذلك بالنسبة للذين يبتعدون عن أهل العلم والدراية والرموز ونحو ذلك، ينبغي أن يأطروا أنفسهم على بشرية القادة والرموز والعلماء ونحو ذلك, وأن العبرة بالمعاني ونحوها, وهذا أمر عسير؛ لأنه لا بد للإنسان أن يعظم القدوة وحامل الحق, وأنه إذا زال وانحرف أنه يزول معه, وأنه إذا انتهى وانتكس فكثير من الناس ينتكسون عن طريق الحق, فإذا كان بعضهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتبطت انتكاستهم بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوال ذاته؛ إشارة إلى أنهم تعلقوا بالذات وما تعلقوا بالمعنى الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهذا أمر يؤكد عليه أن الأمر الذي أمر الله جل وعلا باتباعه عليه هو اتباع الحق وعدم اتباع غيره, لهذا كان أئمة الإسلام يحثون على عدم تعظيم الذوات, وإنما تعظيم الحق, فإذا استكثر الإنسان أخذاً من تعظيم الحق فإنه أقرب الناس إلى الصواب, وأما إذا خالف الحق فبحسب بعده عن الحق بحسب ما يتحقق فيه الشر والبعد والتحذير منه.
كان الأئمة عليهم رحمة الله أئمة الإسلام يربطون الناس بالسنة ولا يربطونهم بأقوال الرجال وأفعالهم, ولهذا قد ذكر القاضي ابن أبي يعلى في كتاب الطبقات عن المستملي رحمه الله أن الإمام أحمد سأله رجل عن كتابة الرأي, فقال: اكتب القرآن والسنة, اكتب القرآن والحديث, فقال: إن عبد الله بن المبارك كان يكتبها, قال: عبد الله بن المبارك لم ينزل من السماء, اكتب القرآن والسنة, والمراد بذلك أنه ينبغي للإنسان ألا يربط الناس بقوله, وإنما يربطهم بالدليل, وهذه أيضاً رسالة لأهل العلم, وكذلك من وفقه الله جل وعلا أن يقتدي به أحد ولو كان واحداً, ألا يربطهم بقوله, لهذا التبعة في ذلك عظيمة.
فينبغي لمن أراد أن يبين الأحكام الشرعية أن يبينها بالدليل؛ لماذا؟ قد يقول قائل: هؤلاء يسمعون من المقلدة الذين لا يفقهون, نقول: هذا أمر يتعلق بتربية الناس وربطهم بالدليل ولو لم يعد دليلاً, وإذا ألقيت الأحكام على عواهنها مجردة من غير دليل تعلق الناس مع الزمن بالقائل, ولا يتعلقون بالدليل, ولهذا الذي يكثر قولاً وطرحاً بكلام إنشائي ومعانٍ وسياقات من غير تدليل من كلام الله جل وعلا ولا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا من أعظم ما يصرف الناس عن اتباع الأدلة والمعاني التي أمر الله جل وعلا أهل الإسلام بالانسياق إليها إلى اتباع الذوات, وهذا أمر خطير, فينبغي أن يربى الناس على اتباع الأدلة.
ولهذا كان الإمام أحمد عليه رحمة الله لا يكتب من رأيه شيئاً, وما كتب إلا السنة الواردة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, حتى قيل: إنه لم يكتب في ذلك حرفاً, وقد كان الأئمة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعدهم يدعون إلى اتباع الحق ممن جاء, اقتداء بمن؟ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم, والنبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح في قصة أبي هريرة حينما كان حارساً على الزكاة وجاءه الشيطان بصورة رجل, حينما قال له النبي صلى الله عليه وسلم في آية الكرسي, قال: ( صدقك وهو كذوب ), إشارة إلى تربية الناس إلى أن الحق ينبغي أن يؤخذ ممن جاء به, ولهذا يقول علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى, قال: اعرف الحق، ممن جاء به سواء كان شريفاً أو وضيعاً, أي: أن الإنسان ينبغي أن يأخذ الحق من صاحبه, سواء كان قوياً أو ضعيفاً, شريفاً أو وضيعاً, كثيراً الذين يقولون بالحق أو كانوا قليلاً, العبرة بذلك هي باتباع المعاني لا باتباع الذوات.
وأكثر الأزمنة خداعاً وتلبيساً على الناس هو الزمن الذي نعيش فيه؛ وذلك لكثرة آلات التلبيس والخداع, وذلك في زمن الإعلام, وأن الناس ينخدعون بعرض الصور, وكذلك المثاليات العظيمة ونحو ذلك, فأورث ذلك جملة من الاضطراب لدى كثير من الناس في معرفة الحق من الباطل, والخطأ من الصواب, والهداية من الغواية, وغير ذلك من طرق الخير والشر؛ كثير من الناس يضطرب في هذا الأمر؛ لماذا؟ لكثرة التلبيس والتدليس في هذا, فيسمع اليوم قولاً ويسمع من ذلك قولاً, فلا يستطيع الإنسان أن يعرف الحق لاختلاف الذوات وتعددها, وكذلك كثرة القائلين في ذلك؛ لأن النفوس تعلقت بالذوات أكثر من تعلقها بذلك المعنى الذي يحملونه, ولو ربى العلماء الناس على الحق الذي يحملونه لكان في ذلك خير عظيم.
كذلك ينبغي للناس عامة وخاصة أن يدركوا أنه كلما تأخر الزمن كلما فسدت طرائق العامة من جهة التقليد واتباعهم للذاوات, وعدم اتباعهم للمعاني, ولهذا من أظهر صور الفتن في آخر الزمان التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي افتتان الإنسان بالذوات, وانخداع الإنسان بحملة الأفكار وحملة الأقوال, ومن أعجب ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم, ما جاء في قوله عليه الصلاة والسلام في الفتن, قال: ( يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً, ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً, يبيع دينه بعرض من الدنيا ), إشارة إلى كثرة التقلبات, وهذه التقلبات لكثرة حملة الأقوال.
النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العبارة المختصرة التي ذكرها عليه الصلاة والسلام: ( يمسي الرجل مؤمناً ويصبح كافراً, ويصبح مؤمناً ويمسي كافراً, يبيع دينه بعرض من الدنيا ), النبي صلى الله عليه وسلم أشار للكفر والإيمان, أن الإنسان يتقلب بين الكفر والإيمان في ابتداء النهار ونهايته, إذا كان الكفر والإيمان جاء في نصف اليوم إذاً ما بينهما؟ الفسوق والأهواء والشهوات, كان الكفر والإيمان لا يتحصل للإنسان في الأزمنة الغابرة إلا بالأشهر, لا يكفر الإنسان في ساعة ودقيقة ثم يرجع إلى الإيمان, فما هذا التقلب السريع إلا لكثرة الخداع والمعروض أمامه, فيتقلب الإنسان؛ لأن الإنسان يرى انعكاساً للحقائق, سواء كانت صحيحة أو باطلة التي تكون بين عينيه, فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن كثرة الخداع الذي يُعرض على الناس بين أثره عليهم, وهو هذا التقلب.
كذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: ( ويمسي الرجل مؤمناً ويصبح كافراً ), عادة الإنسان في المساء أنه ينام, وليس موضعاً للتأمل والتفكير, ولكن النبي صلى الله عليه وسلم جعل أمر الناس في آخر الزمان ليلاً ونهاراً على السواء, وهذا إشارة إلى كثرة الفتن على أناس تتلقى الفتن حتى في الليل, وإشارة إلى أن الليل في آخر الزمان يصبح تتلقي فيه الفتن كما يتلقى الإنسان في النهار, ( يمسي الرجل مؤمناً ويصبح كافراً, ويصبح مؤمناً ويمسي كافراً ), إشارة إلى أن تقلب الناس على مدار الساعة, والله جل وعلا قد جعل الليل سكناً للإنسان وموضعاً للمبيت، ليس موضعاً للتفكر والتأمل والبحث عن الحقائق, ولكن إشارة إلى كثرة الفتن أنه يتصل ليلها بنهارها, وهذا فيما أرى أنه إشارة إلى وسائل الإعلام في زمننا, وكثرة الفتن التي تعرض للإنسان وتتبعه في كل موضع, الإنسان الآن لا يستطيع أن يحجب نفسه عن كثرة المعروض الذي يأتيه, حتى لو أدبر عن القنوات الفضائية أو عن بعض الوسائل الإعلامية أو الصحف, تجد وسائل الاتصال تتبعه في كل مكان, المذياع في السيارة, كذلك الجوال بين يديه وغير ذلك, كثرة مقابلة الناس ومخالطتهم ونحو ذلك تجعل الأخبار وتنتقل, وكذلك الأفكار يتأثر بها الناس, الناس في السابق الأخبار والأفكار لا تنقل إليهم, لو أراد الإنسان عالماً كان أو قائداً أو رمزاً أن يصل كلامه إلى أحد احتاج إلى أن يرتحل شهوراً وأسابيع حتى يوصل قوله, ولكن في هذه الأزمنة يتيسر للإنسان أن يسمع أقوال أهل الفكر والرأي في المشرق والمغرب على حد سواء, فيتقلب الإنسان بكثرة القائلين لهذا وذاك, لهذا ربط الناس بالحق هو منهج أهل الدراية, وكما تقدم معنا من نصوص وافرة في كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام السلف الصالح من الربط بالمعاني, الربط بالأدلة, وعدم الربط بالذوات, هذا هو موضع أهل العقل, ولهذا كان حتى العقلاء الذين يحكمون العقل ولم يكونوا على بينة وهداية لم يكونوا يتعلقون بذوات العظماء من المفكرين من أساتذتهم ونحو وذلك, ولهذا يقول أرسطو لما قيل له: إن خالفك أفلاطون في قول من الأقوال, قال: اختصم أفلاطون مع الحقيقة، فهو حبيب إلي، والحقيقة أحب منه في حال الخصومة, وهذا عند أهل العقل الذين ليس لديهم من وحي الله جل وعلا شيء, فعرفوا أن الحق إنما هو بمعرفة المعاني لا بتعلق الإنسان بالذوات, لهذا ينبغي للمؤمن أن يحفظ دينه, وذلك بتمييز الحق من الباطل بذات الحق, لا بتمييزه بحملة أصحابه, وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم حال الناس وكثرة انخداعهم كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو قال: ( كيف بك إذا كنت في أناس قد مرجت عهودهم؟ ), والمراد بالمرج هو: تداخل الأشياء وامتزاج بعضها مع بعض، حتى لا يستطيع الإنسان أن يميز هذا من هذا, كان الناس في الزمن السابق عصبة واحدة, أهل الإيمان عصبة, وأهل الباطل عصبة, ولكن في الأزمنة المتأخرة تجد مثل القنوات الفضائية يُعرض الخير ثم يعرض المناقض له بعده بساعة في وسائل الإعلام, فيتقلب الناس في هذا من جهة الاتباع, يقول عبد الله بن عمرو عليه رضوان الله تعالى: ( فقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا أصنع؟ قال: عليك بخاصة نفسك، ودع عنك العوام ).
في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( عليك بخاصة نفسك، ودع عنك العوام ), أن تأثر الإنسان بكثرة تقليد الناس وسوادهم واتباع السواد والدهماء من الناس، فاتباع هؤلاء من أعظم ما يصرف الإنسان عن اتباع الحق، فينبغي للإنسان أن يستقل بنظره وتمييزه للحق من الباطل أكثر من اتباعه للكثرة, فإن الكثرة من جهة الأصل إذا كانت ليست بمحمودة بمجموعها لأن أكثر الناس لا يعقلون, وأكثر الناس لا يعلمون وأكثر الناس لا يؤمنون؛ فكذلك في آخر الزمان فإن ذلك آكد وأحوط, لهذا كان من أعظم ما يسلم معه الإنسان في آخر الزمان أن يبتعد الإنسان عن تحليلات العامة ومداركهم, ومعنى الخطلة هنا بنوعيها؛ إما أن تكون خلطة بدنية, فلا يأمن الإنسان على منافذ العلم أن يقذف إليه شيء من المعلومات الخاطئة فيتلقفها بهوى, أو يكون إدراكه ضعيفاً فيمتنع عن مخالطة الناس, أما من أمن من نفسه وكان محصناً من جهة فكره، فينبغي له أن يخالط الناس فيصحح أفكارهم, وإذا كان يخالطهم، وهذا هو الأغلب أن الإنسان يلتزم بمخالطة الناس؛ وذلك لأن مصالح الإنسان في دينه ودنياه يلزم لها ذلك, لكن لا يثير معهم الأقوال والأفعال ونحو ذلك؛ لماذا؟ خاصة في مواضع الفتن والتباس الحق من الباطل لا يستطيع الإنسان أن يقنع الناس بهذا, فربما مع كثرة أقوالهم التي يسمعها ليلاً ونهاراً أن ذلك يؤثر على الحق الذي بين يديه, والطرق فإنه يؤثر على أصلب المواد, فإن الطرق في الحديد يؤثر فيه ويلينه، وكذلك الحقائق التي تكون في قلب الإنسان, لهذا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مخالطة الإنسان لغيره أنها تؤثر على الحقيقة التي لديه, لهذا بين النبي صلى الله عليه وسلم أن مخالطة الكفار والمشركين من الأمور المحرمة, كما جاء في السكنى بين ظهرانيهم على سبيل الدوام, أما المخالطة العارضة والتعامل العارض من تجارة ونحو ذلك, لهذا قال عليه الصلاة والسلام, قال: ( أنا بريء ممن يقيم بين ظهراني المشركين ), والله عز وجل بين ذلك أيضاً في قوله جل وعلا: فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ [النساء:140], والعلة في ذلك: إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء:140], أي: أن الأمر سيؤول بحالكم من جهة الاعتقاد والفكر كحالهم.
وكثير من الناس حينما يضعف تأصيله لهذا المعنى لا يدرك أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قصد بالمخالطة هي مخالطة المعاني, فلما كان يلزم من مخالطة الذوات التأثر بالمعاني نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المخالطة بالذوات, فكان مانعاً من ذلك.
وفي زمننا هذا كان الانفتاح والمخالطة قسرية, فوجب على الإنسان أن يحتاط من تلقي المعلومة ولو كان نائياً بجسده, حينما نهى الله جل وعلا ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مخالطة المشركين؛ المراد بذلك أن يبين عليه الصلاة والسلام أمرين:
الأمر الأول: أن للذوات تأثيراً على المعاني, وهذا أمر لا يمكن أن ينكر كما تقدم الإشارة إليه.
الأمر الثاني: أن هذه الخلطة التي تستمر مع الإنسان تذيب الحقائق التي في قلب الإنسان شيئاً فشيئاً من حيث لا يشعر, وكثير من الناس لضعف إدراكهم لمقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤصلون معنى من المعاني, وهذا يروج في هذا الزمن في تأصيل.
وقد سمعت كلاماً لأحدهم يقول: إن بعض الناس ينبغي له أن يخالط غيره حتى يتغير, أو أن مثلاً العالم الفلاني لو خالط البيئة الفلانية لتغير ونحو ذلك, وهذا ضعف في التأصيل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المخالطة أصلاً إقراراً بهذا التغير أصلاً, وليس المراد بذلك هو النفي, فالحيطة لهذا في مسألة المخالطة قد احتاط لها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذه المخالطة لها تأثير, والنبي صلى الله عليه وسلم وكذلك ظواهر النصوص من كلام الله جل وعلا تؤكد ضعف العقول البشرية عن تمييز الحق عن صاحبه, وكذلك الباطل عن صاحبه, فالإنسان يضعف في هذا الأمر إلا عند النفوس الزكية.
وينبغي للإنسان أولاً حتى يسلم له الدين أنه إذا علم من صاحب الباطل كثرة في طرحه للباطل أن يحصن نفسه من التقليل بالمخالطة, ونحن في هذا الزمن، وهذا أمر ينبغي أن يدرك؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( أنا بريء من مسلم يقيم بين ظهراني المشركين ), هذه البراءة بين ظهراني المشركين أراد بها النبي صلى الله عليه وسلم الإقامة الحسية, الآن في زمننا كثير من الناس يقيمون بين ظهراني المشركين إقامة معنوية وهو في أوساط المسلمين, بل تجد ربما من هو مجاور للمسجد الحرام في أوساط معقل الإسلام ومن لا يدخلها مشرك على الإطلاق، ولكن يقيم بين ظهراني المشركين بكثرة القراءة لمعانيهم, ويديم النظر في كتبهم وأقوالهم, وهؤلاء لو كانوا جثثاً هامدة أو خشباً مسندة ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن مخالطتهم؛ لأن العبرة ليست بمخالطة أولئك بذواتهم.
وكثير من الناس يظن أن المخالطة التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم أن يذهب بجسده فيقيم بين ظهراني اليهود وبين ظهراني النصارى فيستمر بذلك, وكثير من الناس لجهلهم بهذا الأمر يقرءون في كلام أهل الانحراف في أمور العقائد, في أمور الأفكار, ويديمون النظر بالسماع فيتحقق المقصد مما نهى عنه عليه الصلاة والسلام, فيقع التأثير لديهم من غير مخالطة, ولهذا ينبغي أن نفهم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه البراءة وظاهر الآية السابقة، وأنه ينبغي لمن أراد الحق ألا يجعل الباطل يعرض على أذهانه وفرة أكثر من الحق؛ وذلك لضعف العقول البشرية.
كذلك ينبغي للإنسان إذا ضعف من جهة تحصنه بالأدلة، ومعرفة الأصول والقواعد ومداخل أهل الأهواء والزيغ ينبغي أن يقلل من عرض الباطل أو يعدم ذلك حتى يتأصل عنه الحق.
وأكثر الناس الذين يتأثرون بالأقوال والأهواء والأفكار إنما تأثروا بسبب ضعف علمهم بكلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم, فخالطوا بعقولهم وبصرهم وأسماعهم، وإن كانوا قد بعدوا من جهة أجسادهم, لهذا النبي صلى الله عليه وسلم خاطب العقول وأقر بتأثرها بذوات حملة الأفكار وحملة العقائد, ونحن نجد أن سائر المذاهب وسائر أهل المدارك والعقول حتى الجاهليين الذين يسمعون بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانوا يسألون عن المعاني التي يقولها النبي صلى الله عليه وسلم مجردة, بل يسألون عن حال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كما في قصة أبي سفيان مع كسرى حينما سأله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن ذاته ومن الذي يتبعه الضعفاء أم الكبراء, وعن خُلقه عليه الصلاة والسلام, وعن أمانته وعن صدقه, فأشياء تتعلق بما يصدر من ذات رسول الله صلى الله عليه وسلم, وما سأل عن تلك الدعوة بذاتها مجردة ومنفكة عن ذات رسول الله صلى الله عليه وسلم, لهذا وجب على الإنسان من جهة ذاته أن يعلم أن العقول والمدارك تُغلب, وهذه الغلبة تكون بعدم إدراكها وفصلها -كما تقدم الإشارة إليه- أن يفصل، وأن يأطر النفس على تمييزها للحق إذا وجدت شبهة أو وجدت قولاً أن ينحي القائل بها وأن يميزها؛ يميز ذلك القول بذاته, خاصة في الأزمنة المتأخرة؛ لكثرة المتصدرين, وكثرة المنحرفين, وكثرة أيضاً المترددين في طرقهم عن اتباع الحق, فتارة على طريق وتارة على طريق وتارة على طريق, فتكثر الأهواء والتقلبات في الناس.
والنبي صلى الله عليه وسلم حينما بين أن الإنسان ينقلب من الحق إلى الباطل، من الكفر إلى الإيمان في الصباح ثم ينتكس إلى الجهة الأخرى معاكسة في المساء، إشارة إلى أن ما بينها من تقلبات الرأي وفروع الدين تكون أكثر من ذلك في ذات الإنسان.
ونحن في هذا الزمن نجد أن الشبهات قد طرأت على كثير من الناس؛ لماذا؟ لأن العالم الفلاني قال كذا, والقدوة الفلاني قال كذا, ولا نعلم خلفيات النفوس والقائلين بها وأحوالهم, وكذلك الرغبات والأطماع التي في النفوس والأهواء, ولا نميز تلك الأقوال التي جاءوا بها ونعرضها على أدلة القرآن والسنة, وتمييزها أيضاً بالفطرة وما يتوافق معها, وإنما ضل من ضل لعدم وزنهم ذلك بالحق الذي جاء الله جل وعلا به بميزانه الذي أراده الله سبحانه وتعالى, وإنما ميزوه وربطوه وجعلوه متشبثاً ومتعلقاً بذيول قائليه, لا ينفصل عنهم ولا ينفك, فانحرفوا, فإن أحسن الناس أحسنوا، وإن أساءوا أساءوا, وهذا كما تقدم الإشارة إليه يضعف أجر المتبع؛ لأن قلبه معلق بالمتبوع أكثر من قوله وفعله, وأما بالنسبة لمن قوي إيماناً فإنه يأتي بالعبادة أو يأتي بالقول ويأتي بالحقيقة منفصلة عن قائلها, مدللاً لها بأدلة الكتاب والسنة, وكذلك أدلة الرأي والتعليل في هذا, فكان أحصن من جهة القول, وهذا ينبغي أن يؤكد عليه وتقدم الإشارة إليه.
أن التدليل على الأقوال وربط الناس بالكتاب والسنة هذا من الأمور المهمة؛ وذلك لأنه في زمننا هذا ظهر الانفتاح على الناس, وأصبح كثير من الناس يقفون على الأدلة ويميزونها، ولكن لا يدركون الصحيح من الضعيف والخاص من العام والمطلق من المقيد والناسخ من المنسوخ, فأصبح لديهم لبس في هذا, فينبغي طرح الأدلة على الناس حتى لا تقع عليهم الشبهات, فرأينا أشد الناس بطلاناً وزيغاً يتشبث بالكتاب والسنة، وأكثر الناس اتباعاً للحق يتشبث بالكتاب والسنة, والعبرة في ذلك هي بالحق, بتمييز الحق من الباطل, ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصيته لمن كان قريباً منه في زمنه أن يتشبث بالأفراد, ولما كان الزمن المتأخر أمره بأن يتشبث بماذا؟ بالمعاني, نجد الذين كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ النبي صلى الله عليه وسلم يربطهم بالذوات؛ لماذا؟ لأن هذه الذوات هي أقرب إلى الحق وفيها نوع من العصمة, وإن كانت متباينة عن عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فالنبي صلى الله عليه وسلم حينما شهد لبعض الصحابة بالجنة هذا نوع عصمة بمعرفة الخاتمة التي هم عليها, وهذا نوع عصمة لا يكون لغيرهم, وأما غيرهم فتقل فيهم العصمة في ذلك بحسب مراد الله جل وعلا لهم من إصابتهم الخير والشر, فوجه النبي صلى الله عليه وسلم في الصدر الأول إلى اتباع الذوات مع اتباع المعاني, وربطت ذواتهم بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجموعهم, وأما في الزمن المتأخر فنجد أن النبي صلى الله عليه وسلم يربط بالحقائق؛ لماذا؟ لكثرة فساد الذوات؛ وذلك لالتباس الحق بالباطل, وكثرة حملة الحق في الظاهر وقلة حملته في الباطن, ولهذا يقول عبد الله بن مسعود كما روى الدارمي في كتابه السنن, قال: كيف بكم إذا ألبستم فتنة؟ وهذا له حكم الرفع، أشار إلى مسألة اللباس إلى أن الإنسان يتدثر بالفتنة ويلبسها كما يلبس الإنسان القميص؛ كيف بكم إذا ألبستم فتنة يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير, في قوله: يربو فيها الصغير, أي: أن الفتنة لا تنقطع, الفتن في الأزمنة الماضية تأتي على الناس لسنة وسنتين ثم تزول ويستقر أحوال الناس, ولكن أشار هنا إلى أن الفتنة يكبر فيها الصغير ببداية تمييزه ثم يشيب وهذه الفتنة قائمة, ويهرم فيها الكبير, أنها تطرأ على رجل كبير قد اكتهل بلغ الثلاثين من عمره ثم يهرم ويدركه الهرم في السبعين أو الثمانين والفتنة ما زالت قائمة, قال: كيف بكم إذا ألبستم فتنة يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير ويعمل فيها بغير السنة, فإذا تركت قالوا: تركت السنة, يعني: أنه انقلبت الموازين فظنوا أن البدعة سنة, فإذا تركت البدعة قاموا وثاروا قالوا: هذه السنة ينبغي أن نحييها, إشارة إلى انتكاس المعلوم, قالوا: متى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ انظروا إلى أن سبب قلب هذه الحقائق هو الذوات, سبب قلب هذه الحقائق هو ماذا؟ الذوات, قالوا: متى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: إذا كثر قراؤكم وقل فقهاؤكم, وكثر أمراؤكم وابتغيت الدنيا بعمل الآخرة, في قوله عليه رضوان الله تعالى عبد الله بن مسعود في هذا, قال: إذا كثر قراؤكم وقل فقهاؤكم, يعني: يتلبسون بالدليل والتعليل أكثر، يتشبثون بالدليل والتعليل ظاهراً وهم أبرأ ما يكونون منه باطناً, أما بالنسبة للناس فلم يستطيعوا أن يميزوا بين هذا وهذا, ونحن في هذا الزمن كثر فيه حملة الأقلام, وكذلك من يصعد على المنابر من أهل الجهل, فكنا أحوج ما نكون إلى تمييز الحقائق, النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى إشارة لطيفة كما جاء في عدة أحاديث في حديث أبي هريرة وغيره وأصله في الصحيح وبعضه في خارج الصحيح, قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تقوم الساعة حتى يظهر الجهل ويُقبض العلم ), جعل النبي صلى الله عليه وسلم ظهور الجهل متلازماً مع قبض العلم، وهذا أمر بديهي, لكن الأمر الذي قد يغفل عنه الناس قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ويفشو القلم ), ذكر ظهور الجهل وفشو القلم, والأصل أن القلم متلازم مع العلم؛ لأن الأمر السابق في الزمن السابق أنه لا يحمل القلم إلا أهل العلم, ولكن في زمننا كلٌ يستطيع أن يكتب, فأصبح القلم بالنسبة للناس في زمننا كحال اللسان بالنسبة للسابقين, كلٌ يستطيع أن يكتب, ولكن بين النبي صلى الله عليه وسلم لكثرة الأقلام, وهذا مقترن مع ظهور الجهل وقبض العلم, فنجد الكتابات الصحفية, الكتابات الإعلامية, كذلك ما يحدث مثلاً في وسائل الإعلام الأخرى المقروءة من الإنترنت وغير ذلك نجد ظهور القلم أن الإنسان يستطيع أن يكتب كتابة وأن يصوغ عبارة ما يصوغها العلماء الأفذاذ في السابق ولكن على خديعة وتلبيس وتشبث بأهداب أدلة ضعيفة, وهذا ما يخدع كثيراً من الناس, لهذا ينبغي للناس أن يفصلوا بين هذا الأمر, ولهذا ما من أمر مما يلبس على الناس الحقائق ويخلط الباطل بالحق والصواب بالخطأ والشر بالخير فلا يستطيع الناس أن يميزوا, ما من آلة من ذلك إلا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها إما تصريحاً أو تلميحاً, وهذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن أراد أن يتبع ذلك يجده ظاهراً في كلام الله وفي أحداث وفي أشراط الساعة وفي أماراتها, وفي الفتن, وما يخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان من أحداث وكذلك وقائع, فمن أراد ذلك فيجده ظاهراً في النصوص, ولهذا من أعظم ما يثبت الإنسان على الإيمان ويثبته على الحق أن يكثر وأن يديم النظر في دلائل النبوة وأخباره عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان, والمصنفات في ذلك كثيرة, فأمارات الساعة إذا أراد الإنسان أن يقرنها بالواقع لا يمكن لإنسان مهما كان موفقاً بالحذق والعقل والدراية والحصافة بالأقيسة العقلية والإصابة في التعليل أن يصيب كما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو بعشر معشار ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يخبر بالوحي من ربه, وهذا الوحي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, وهذه عصمة عصم الله جل وعلا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ينطق عن الهوى, إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4].
لهذا الوصية في الختام في هذا الزمن مع كثرة الشبهات وكثرة الشهوات وكثرة ما يعرض على العقول أن يتجرد الإنسان للحق ذاته بعيداً عن قائله, أن يجرده عن قائله مهما كان.
كذلك أن ينظر إلى جانب التعبد, العبادة والديانة عند القائل, فإن الديانة هي التي تؤثر على ذلك القول؛ وذلك أنها تمحص الباطن؛ لأن أكثر ما يغيب عن الناس ويخدعهم هو الباطن, هل الباطن سليم أو ليس بسليم, وأعظم ذلك هو خشية الله جل وعلا, لهذا يقول الله سبحانه وتعالى في بيان العلماء حقاً: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28], العلماء من جهة الحقيقة هم الأصل الذين يخشون الله, العالم الذي لا يخشى الله جل وعلا ويظهر منه ظاهراً العلم ويحرم من ظاهرة العبادة؛ التعبد لله جل وعلا, فيظهر مع التقصير في العبادة فهذا لا يؤمن من إصابته الحق في الظاهر, فينبغي أن يُحتاط في قوله ويحتاط لفعله, فينبغي أن نقارن الأقوال والحقائق التي يقولها كثير ممن ينتسب إلى العلم أو ينتسب إلى الدعوة أو ينتسب إلى الفكر, وأن نربط ذلك بقربه من الله جل وعلا وعبادته في ذاته, وإن كانت العبادة لازمة له في ذاته, ولكن ينظر إلى صلاته, وينظر إلى عبادته, إلى تسبيحه وتهليله ونحو ذلك, ينظر إليه ويربط مع تقريره العام للناس, فإن ذلك أقرب ما يكون إلى معرفة التمحيص الحق, قد يكون غيره أدرى منه, ولكن ذلك أدرى دراية قلبية, فلا يخرج شيئاً إلا يريد طمعاً بما عند الله, وأما إذا ساءت نية الإنسان وضعف إيمانه فإنه يميل بالآراء يمنة ويسرة لمطامع ذاتية ومقاصد يريد الوصول إليها, فيكون اليوم على رأي وغداً على رأي, فيتقلب الإنسان بين الشبهات والشهوات وحظوظ الدنيا وحظوظ النفس, وهذه الأمور كامنة لا يدركها الإنسان, لا يدرك إلا ما ظهر لديه, ويظن أن ذلك الذي تقلب فيه قد بان له دليل أو بان له تعليل, وإنما هو قد انصرف إلى شيء من مقاصده في أمر الدنيا, فتوجه اليوم إلى مقصد وحينما فتح الباب الآخر توجه إلى مقصد آخر, وهكذا يتقلب الإنسان في باطنه ولا يدركه الإنسان, وكم من القلوب تتقلب في انحراف عن وجهة الله جل وعلا, تستدير استدارة تامة القلوب ولا نراها, ولا نرى إلا الظواهر التي تظهر من الناس, لهذا ينبغي للإنسان أن يعلم صواب اتجاه القلوب إلى الله بصواب اتجاه الأبدان إلى الله بكثرة العبادة, التعبد لله سبحانه وتعالى, قد يكون الإنسان قليل العلم في ذلك لكن يسلم من ذلك أنه ما تشبث بشهوة ومطمع من الدنيا, هذا إذا تمحص حظاً وقولاً فإنه أقرب الناس إلى الصواب, قد يخطئ في مسألة, ولكن يكفي أنه أصاب في أكثر المسائل, ولا نأمن في موضع أن غيره ممن قل خشيته لله جل وعلا أنه يصيب في موضع ويخطئ في أكثر المواضع, فنحن نريد سلامة مجموع الدين وأصوله وثوابته؛ حتى يسلم لنا الدين كما أراده الله جل وعلا.
أسأل الله سبحانه وتعالى لي ولكم التوفيق والهداية والرشاد, وأسأل الله سبحانه وتعالى لي ولكم التسديد والإعانة والتوفيق والرشاد, وأن يسلك بي وبكم منهجاً قويماً وصراطاً مستقيماً.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر