إسلام ويب

كيف نتعامل مع الفتن؟للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الابتلاء سنة من سنن الله في خلقه، يميز الله به الخبيث من الطيب، ومن الابتلاء الفتن التي تحدث، سواء كانت خاصة كفتنة الإنسان في نفسه وأهله، أو عامة كالفتنة في المال، والفتنة في الدين، فمن أراد النجاة منها فعليه بطريق محمد صلى الله عليه وسلم.

    إن الحمد لله, نحمده ونستعينه, ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

    الحكمة من الفتن

    أيها الإخوة المسلمون! فإن من المعلوم أن الله سبحانه وتعالى قد جعل هذا الدين بيناً واضحاً، وجعله محكماً، وجعل هذا الإحكام هو الأصل في هذه الشريعة، وجعل ثمة مناوءات ومناكفات لهذا الإحكام، وجعل الله سبحانه وتعالى ابتلاءات للإنسان في ماله وولده ودينه وكذلك نفسه، جعل الله جل وعلا هذه الابتلاءات تتنوع ويتقلب فيها الإنسان بين حين وآخر، وهذا ما يسمى بالفتن ابتلاءً واختباراً وامتحاناً من الله جل وعلا، وهي تتباين قوةً وكثرةً، وكذلك تتباين من جهة القلة والضعف، ومن جهة التكرار والتنوع.

    وهذا من حكم الله سبحانه وتعالى ليميز الله جل وعلا الخبيث من الطيب، ولكي يقوى عود الإنسان, ويصلب قلبه؛ وذلك -كما لا يخفى- لأن الإنسان لا يمكن أن يكون من أهل الثبات والقوة إلا بمجموع ابتلاءات واختبار, كما حدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم قد واجه أنواع الفتن وقابلته سائر البلايا والمصائب، ولهذا أمر الله جل وعلا بسلوك نهجه والاهتداء بهديه، وعدم الخروج عن طريقه عليه الصلاة والسلام.

    طريق النجاة من الفتن

    ولهذا من أراد النجاة وأراد الهداية وأراد التوفيق فليسلك طريق محمد صلى الله عليه وسلم، لهذا قال الله جل وعلا: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108] ، فمن كان متبعاً لمحمد صلى الله عليه وسلم فعليه بطريق محمد، ومن استوفى ذلك الطريق وأخذ بأسبابه بمجموع ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصل إلى الغاية كما وصل إليها النبي صلى الله عليه وسلم، ومن قصرت به الهمة أو ضعف به النظر بقلة علم أو قلة إدراك أو غير ذلك، فإنه يقع فيه من الاضطراب والخطأ والزلل مما يؤثر على غاية الإنسان ومقصوده، وكذلك ضعف الثمار التي يصل إليها الإنسان، كذلك أيضاً مع بطأ يشرك سبيل الإنسان الذي يسلكه بالوصول إلى الغاية، فسبب ذلك هو القصور عن استيعاب منهج محمد صلى الله عليه وسلم.

    لهذا من أراد النجاة فعليه بطريق محمد عليه الصلاة والسلام، والنجاة التي ربطها الله جل وعلا بنبينا هي النجاة في صالح الإنسان في آخرته ودنياه، مما يتعلق ذلك السبب بأمر الدنيا, وينعكس عليه مما يمتزج معه أمر الدين بأمر الدنيا، ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أوصى أصحابه لم يوصهم عليه الصلاة والسلام بقول فلان وفلان، وإنما أرشدهم إلى قوله، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسند والسنن من حديث العرباض بن سارية : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعظهم موعظةً بليغةً، فقالوا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار ).

    والنبي صلى الله عليه وسلم حينما أرشد أمته بالتمسك بطريقه بين النبي صلى الله عليه وسلم إلى وجود شيء من المنازعات لهذا الطريق من الأهواء والفتن والبلايا التي تكتنف ذلك الحق وذلك السبيل، وتلك الفتن وكذلك الصوارف التي تصرف الإنسان عن الطريق يتقلب فيها الإنسان من جهة القوة والكثرة والضعف والقلة، وذلك أن ما يطرأ على طريق الإنسان يرجع فيه من جهة تقبله إلى قوة الإنسان، فإن الفتن إذا كانت قوية في طريق الإنسان وكان من أهل الإيمان والثبات والعلم والدراية، كانت الفتن القوية بالنسبة له ضعيفة، وإن تزلزلت أقدام كثير من الناس الجهلة الذين لا يواجهون أو لا يوازون الأول من جهة الإدراك والمعرفة والإيمان والثبات.

    لهذا نقول: إن حقيقة الميزان في معرفة الطريق الحق, وكذلك وزن العقبات ومعرفة الفتن يرجع في ذلك إلى قوة الإنسان من جهة استيعابه لمعاني ما أراده الله جل وعلا في كتابه العظيم، وما أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن الناس من تكون الفتن الصغيرة لديه مجلبة إلى الانحراف والبعد عن المنهج الحق، ومن الناس من تكون الفتن العظيمة كبيرة القدر بالنسبة له هي كحال الصغائر عند غيره؛ لقوة ثباته، ومن نظر إلى أهل العلم والدراية في هذا -كأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ربط الثبات بوجود أولئك لقربهم زمناً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك لمعرفتهم بهدي النبي صلى الله عليه وسلم وطريقه، وهذا كما جاء في الصحيح في حديث أبي بردة عن أبي موسى في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما توعد ) ، والمراد بذلك هو ما تعلق بالصحابة عليهم رضوان الله تعالى من يقين وثبات ومعرفة بهدي محمد صلى الله عليه وسلم.

    والنبي عليه الصلاة والسلام حينما قال: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ) ، كأن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي يعرف قدر النبوة والخلافة بعده وهذا أمر معلوم، مع ذلك أراد النبي صلى الله عليه وسلم أقواماً بعد كثير ممن يسمع منه هذا الخطاب، فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاقتداء بأولئك الخلفاء الراشدين الذين أخذوا ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    كيفية معرفة الفتن

    ولهذا ينبغي أن يعلم أن الإنسان لا يمكن أن يعرف الفتنة إلا بمعرفة الحق الظاهر البين، وأن الإنسان لا يمكن أن يعرف قدر الظلام ومراتبه ودرجاته إلا وقد عاش في النور وهذا أمر معلوم، ومن عاش في نور يسير فإنه يشكل عليه ويؤثر عليه الظلام اليسير وهذا أمر معلوم، كما أنه في النور كذلك في الظلمة، وكذلك كما أنه أيضاً في الأمور المدركة بالنظر كذلك في الأمور المدركة بالسمع، وكذلك ما يطرأ على قلب الإنسان، فإن العوارض الدقيقة التي تطرأ على قلب الإنسان تتراكم حتى تكون هرماً كبيراً لا يشعر به الإنسان إلا وقد انصرف وانقلب.

    ومعلوم أن انحراف الإنسان من جهة إلى جهة يشابهه انصراف قلب الإنسان من جهة إلى جهة، فإن الإنسان قد ينحرف شيئاً فشيئاً إذا كان في طريق قد اتجه شمالاً أو اتجه جنوباً، فإذا انحرف به الطريق شيئاً فشيئاً فإنه يظن أنه على جهته الأولى، كذلك بالنسبة للإنسان من جهة انصراف قلبه، إذا انصرف قلب الإنسان فتشرب شيئاً من الفتن شعرةً أو عوداً عوداً، فإنه حينئذ ينكر الحقائق فيحل مكان النور الظلمة ومكان الحق الباطل ومكان الكلام الصحيح والمعاني الحقة الكلام الخطأ والمعاني الباطلة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( تعرض الفتن على القلوب عوداً عوداً ) ، وفي قوله عليه الصلاة والسلام جاء في رواية: (عوداً عودًا)، أي أن المراد بذلك: أنها تتكرر على نحو لا يدركه الإنسان حساً، فتتراكم تلك الفتن التي تعرض على القلوب حتى يشربها الإنسان ولا يدرك من ذلك شيئاً وهذا أمر معلوم.

    لهذا ينبغي للإنسان أن يعلم أنه ينبغي له أن يحافظ على سلامة دينه، وكذلك أيضاً أن يدرك أن البعد عن مواضع الفتن لمن جهل حقيقتها وكذلك منافذها بالنسبة للوصول إلى قلب الإنسان أن هذا من أعظم مواضع السلامة، ولهذا حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مخالطة المشركين إذا أظهروا الباطل؛ وذلك أن في إظهار الباطل مع وجود النكران أو النكير في قلب الإنسان يجعل الإنسان يتشرب ذلك الباطل شيئاً فشيئاً حتى يستروحه، فإذا استروحه مرةً تلتها مرة أخرى، ثم بعد ذلك يقع الإنسان في استرواح الباطل وقبوله والبعد عن طريق الحق والهداية.

    إن النبي صلى الله عليه وسلم -كما تقدم في حديث العرباض بن سارية- قد بين الحق وبين الضد المناقض له، وهذا ظاهر في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور ) ، فهذا الأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بلزوم طريق الحق فيه تضمين أو إشارة إلى وجود المناقض لذلك الطريق، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: تمسكوا بها، فإن المتمسك بشيء فيه إشارة إلى وجود من ينازعه في هذا الشيء، وكذلك لوجود زلزلة لقدمه حتى يضطرب أو يسقط، وهذا أمر معلوم، فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى وجود مناقض لمن سلك هذا الطريق، فأمر بالتمسك به وليس السير عليه مجرداً، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تمسكوا بها)، وأكد ذلك بقوله: (وعضوا عليها بالنواجذ)، والإنسان لا يمكن أن يعض على شيء بنواجذه إلا لوجود أحد يجذب ذلك الحق منه، فإن الإنسان يمسك بالشيء، وإمساكه بالشيء دليل على وجود منازعة، أو أن هذا الشيء الذي يمسك به لو لم ينازعه أحد بغيره فإنه ينازعه بذاته، فإن الحفاظ على الشيء ولو لم يكن ثمة أحد ينازعه فيه فإن الحق بذاته يحتاج إلى تمسك به وإلا غادر.

    ولهذا حث وحض رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهمية معاهدة القرآن، ومعلوم أن القرآن من جهة اللفظ في ذاته لا ينتزعه شيء خارج عنه وإنما ينتزع ذاته، أعني القرآن ينتزع ذاته، والإنسان الذي لا يكرر القرآن ولا يتعاهد القرآن فإنه ينفلت منه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين وغيرهما: ( تعاهدوا القرآن؛ فوالذي نفسي بيده إنه لأشد تفلتاً من الإبل في عقلها ) ، والمراد بذلك أن الإنسان إذا لم يتعاهد الحق ويكثر من الإمساك به ولو لم يجذبه أحد، فإن ذلك يعني انصراف الحق بذاته على سبيل التدرج شيئاً فشيئاً حتى يغادر الحق من الإنسان ولا يبقى معه شيء.

    ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أشار إلى أن أعظم ما يستمسك به الإنسان للوقاية من طرق الشر هو الإمساك بالحق بذاته، فإن الإمساك بالحق بذاته يجعل الإنسان من أهل الثبات واليقين، وإذا استقر الحق في ذات الإنسان ولم يعده الإنسان من جهة التكرار وكذلك التأمل والنظر وكذلك الاعتبار بغيره، فإن الفائدة تلحق الأخرى معها، فإن الإنسان يضعف شيئاً فشيئاً؛ لأن ذلك الحق إذا زاح حل محله الباطل وهذا أمر معلوم ومشاهد، وهذا كما أنه في المعاني كذلك أيضاً في الأمور المحسوسة، وقد جعل الله جل وعلا كثيراً من أمور المعاني تشابه المحسوسات.

    ونحن في المجالس القادمة بإذن الله جل وعلا وفي هذا المجلس بإذنه تعالى سنتكلم على جملة من الفتن, وتقرير جملة من المسائل التي تتعلق بالفتن، سواءً الفتن الحاضرة أو الفتن الغائبة، الفتن الباطنة أو الفتن الظاهرة، بحسب الحاجة إليه، والعالم والداعية والمبلغ عن الله جل وعلا ينبغي له أن يهتم بأمر نفسه من جهة ما يضطرب أو يشكل عليه من جهة معرفة الحق وكذلك تبليغه للناس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد عاش مع أصحابه بما يحتاجون إليه من جهة جلب أسباب الخير وتكميلها، ودفع أسباب الشر وتنقصيها قدر الإمكان والوسع.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3087502043

    عدد مرات الحفظ

    772705540