الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فنكمل بإذن الله عز وجل الأحاديث المعلة في الصلاة، وتكلمنا في مجالس متعددة على الأحاديث التي تكلم فيها العلماء في أحكام الصلاة وهي أصول في بابها، وننبه أيضاً ونكرر أننا إنما نتكلم على الأحاديث التي يحتج بها أحد من الأئمة في المذاهب الأربع، وهي أصل عند الأئمة في هذا الباب.
ومعنى الأصل في هذا الباب: أي أنها أصل الحديث يحتج به الأئمة عليهم رحمة الله على مسألة من المسائل، وليس المراد بذلك أن نورد في كل باب ما تكلم عليه العلماء سواءً كان أصلاً أو ليس بأصل، فيوجد من الأحاديث ما هو ضعيف ومعلول في أبواب الأحكام ولكنه ليس أصلاً فيه لوجود أحاديث أخر هي أقوى منه، وتتبع ذلك من الأمور الشاقة، وليس أيضاً من طرائق العلماء العناية بها من جهة تتبع أفرادها، وإنما العلماء عليهم رحمة الله في الكلام على الأحاديث يسلكون طريقين:
الطريق الأولى: تتبع هذه الأحاديث الأفراد التي يحتج بها في مسائل الدين ويبنى عليها حكم بعينها، إما حكم بهذا الحديث بعينه، أو مجموع ما يعضده في هذا الباب فإذا كانت الأحاديث خمسة أو ستة في مسألة من المسائل يعضد بعضها بعضاً، فإنهم يتكلمون عليها جميعاً.
الأمر الثاني: يتكلمون على الرواة ولا يتكلمون على الأحاديث؛ لأن الرواة الوصول بكلام الأئمة فيهم أيسر بمعرفة أعيان الأحاديث؛ لأن كل راو لديه خمسون أو مائة أو مائتا حديث، فإذا تكلموا على راو من الرواة فإنهم اختصروا لطالب العلم في ذلك معرفة الأحاديث التي يرويها؛ لأن المتون إنما تعرف بمعرفة رواتها التي توصل إليها، ونحن نسلك هذا المسلك فيما يتعلق بالأحاديث الأفراد في بابها، وإن وجد أصل آخر يعتمد عليه، قد يوجد أصل ليس بحديثي، كأصول القرآن أو أصول الإجماع أو القياس أو غير ذلك مما يحتج به في المسألة، ولكن نورد في كلامنا هنا الأحاديث التي يحتج بها العلماء في باب من الأبواب وهو أصل حديثي، ولا يوجد حديث صحيح في ذلك إلا هو أو غيره وغيره أيضاً معلول، وهذا ما جرينا عليه في الأبواب السابقة فيما يتعلق بالأحاديث المعلة في الطهارة، وكذلك أيضاً في الأذان، وما تقدم أيضاً في أمور الصلاة، وما تقدم معنا أيضاً مما قدمناه من الأحاديث المعلة في الصيام وكذلك أيضاً الحج، وفي هذا المجلس نكمل ما تقدم الكلام عليه.
أول أحاديث الباب: هو ما رواه الحكم أنه قال: قلت لـمقسم : إني أسمع الأذان، يعني: أذان الصبح، فأوتر بثلاث ثم أخرج أدرك الصلاة، فقال مقسم : لا يصلح إلا أن توتر بسبع أو خمس، قال الحكم : فذهبت إلى مجاهد و يحيى فذكرت لهم ذلك فقالوا: أذهب إليه وسله عن من؟ قال: فذهبت إليه فسألته عن من؟ فقال: الثقة عن الثقة عن عائشة و ميمونة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا الحديث رواه النسائي في كتابه السنن من حديث شعبة بن الحجاج عن الحكم عن مقسم عن الثقة عن الثقة عن عائشة و ميمونة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا الحديث منكر وقد أعله غير واحد من الأئمة، وهذا الحديث يتكلم العلماء فيه في مسألة الإيتار بثلاث هل هي مشروعة أو ليست مشروعة، ويأخذ به بعض الفقهاء من السلف وهم قلة، أنهم يكرهون الإيتار بثلاث جملة، سواءً سردها أو فصل بينها، وهذا الحديث الذي يحتج به وهو ما جاء عن عائشة وعن ميمونة حديث منكر، وعلته في ذلك ظاهرة وهي الجهالة في الرواية فيما بين مقسم و عائشة و ميمونة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والجهالة هنا متكررة فإنه يروي ثقة عن ثقة عن عائشة و ميمونة ، والتوثيق من مقسم هنا في قوله عن الثقة عن الثقة عن عائشة و ميمونة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا توثيق عنده، وما كان ثقةً عنده لا يلزم أن يكون ثقة عند الأئمة، فإنه يغلب على الطالب أن يحسن الظن بشيخه، ويكون شيخه ليس بالمقام ذاك.
ولهذا يوجد حتى عند بعض الأئمة أهل الفضل والجلالة من يحدثون عن بعض الرواة من شيوخهم ويصفونهم بالتوثيق، وذلك لبعض مقام إحسان أيضاً أو ربما ما يتعلق بمسألة الديانة أو الفقه، ولكن بابنا يتعلق بمسألة الضبط؛ لأن الضابط لا يلزم أن يكون فقيهاً، فإذا أدى الحديث كما سمعه ولو لم يكن فقيهاً فإن هذا يكفينا، وأما إذا كان فقيهاً وليس بحافظ ويغير في الحديث، فإننا نطعن فيه ولا نطعن في جلالته وقدره في أمور الإمامة في الدين في مسائل الورع وكذلك أيضاً الفقه، وبهذا نأخذ ونعلم أن مقسم مدلس، ومعلوم لدينا أن التدليس يثبت بوجهين:
الوجه الأول: أن يثبت عن راوي أنه حدث عن راوي بلا واسطة ثم جاء من وجه آخر فذكر الواسطة وبين أنه لم يسمع، وبهذا نتيقن أنه قد دلس في غير الطريق الأولى.
الوجه الثاني: أن ينص الأئمة على تدليسه ممن عاينه أو سبر حديثه، ذلك لأن الطرق والمتابعات قد ذهب كثير منها عن أنظار المتأخرين، وما أتانا في هذه الكتب وهذه المصنفات إنما هو ما نقي وصفي وما يعضده وبعض المطروحات التي أتت.
وأما الأغلاط والأوهام التي يتيقن منها فإن غالبها لم يذكره العلماء، ولهذا تجد من الأئمة من يوصف بأنه يحفظ ألف حديث أو يحفظ مثلاً مائة ألف حديث ونحو ذلك، ولكن المنقول عنه إما خمسة آلاف أو عشرة آلاف، فالمروي عن البخاري رحمه الله ومن بين أيدينا في كتابه الصحيح، كذلك أيضاً ما في كتابه التاريخ، وما كان خارج كتبه عليه رحمة الله، لا يساوي محفوظه الذي لديه وما يذكره عنه الأئمة عليهم رحمة الله.
إذاً: أتى للناس من بعده بالحديث والحديث المعلول خشية أن يقع فيه اللبس وما يحتاج إليه الناس، وأما الأغلاط والأوهام التي يسمعها الإنسان فإن النفوس تطويها ولا ترويها، يستفيد منها الإنسان قدحاً في الراوي ثم يصدر في ذلك حكمه، ولهذا حكم الأئمة عليهم رحمة الله على بعض الرواة أنهم من المدلسين يحكمون على راو بعينه أنه مدلس أو دلس في هذا الحديث بعينه، هذا لا يحكمون عليه كسبر المتأخرين، فإن سبر المتأخرين قاصر، وذلك لضعف الأحاديث ضعف الحفظ لدى الناس، لهذا الأئمة عليهم رحمة الله الأوائل يعرفون تدليس الرواة إما بالمعاينة بمعاينتهم بسماعهم بأقوالهم ونحو ذلك، فإذا ثبت لديهم أنه دلس في قول ولو لم يدون وصفوه بالتدليس.
وأقوى الوجوه هو الوجه الأول، أننا إذا نظرنا في حديث بعينه فورد لدينا أنه روى من وجه ثم رواه من وجه وذكر الواسطة نعلم أنه دلس في هذا المروي عياناً أمام أعيننا، فهذا أقوى من النقل بواسطة، ولهذا هذا الطريق الذي رواه النسائي رحمه الله في كتابه السنن من حديث شعبة عن الحكم عن مقسم عن عائشة و ميمونة ، ثم لما سئل عن من قال: عن الثقة عن الثقة عن عائشة و ميمونة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كذلك أيضاً مما يؤخذ من هذا: أن بعض الأئمة الحفاظ الرفعاء من الثقات الكبار قد يروون حديثاً وفيه تدليس، فلا يؤمن جميع الإسناد، كحال شعبة بن الحجاج وهو من أئمة الحديث وأهل الاحتراز، ولهذا نقول: إن شعبة بن الحجاج يحترز من تدليس شيوخه، وهو شديد الاحتراز من أن يدلس الشيخ، وأما ما كان بعد ذلك فإنه قد يروي حديثاً ويقع فيه التدليس، ولهذا الحديث يرويه شعبة عن الحكم عن مقسم عن الثقة عن الثقة عن عائشة و ميمونة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
جاء هذا الحديث من وجه آخر من حديث الحكم عن مقسم عن عبد الله بن عباس عن أم سلمة ، هذا الحديث رواه ابن المنذر وغيره، وتارةً يذكر فيه أم سلمة ، وتارةً لا يذكرها، فيرويه من حديث الحكم عن مقسم عن عبد الله بن عباس عن أم سلمة ، وتارةً يرويه الحكم عن مقسم عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث أيضاً معلول، أعله أبو بكر الأثرم وتكلم عليه بوجهين بروايته عن عبد الله بن عباس أو روايته عن أم سلمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك أيضاً مما يعل به هذا الحديث: أن هذا الحديث يخالف أحاديث الثقات المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي كثيرة بالإيتار بالثلاث، وهنا في هذا الحديث، حديث عائشة و ميمونة و عبد الله بن عباس و أم سلمة في أن أقل الوتر خمس أو سبع ولا وتر بثلاث، هذا الحديث يخالف الأحاديث المستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإيتار بالثلاث، جاء في ذلك جملة من الأحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام منها المرفوع ومنها الموقوف على الصحابة عليهم رضوان الله، وهذا الأمر فقهه مستفيض، وإن لم يكن مستفيضاً على سبيل الاصطلاح عند المحدثين إلا أنه ثابت عنه عليه الصلاة والسلام، وهذا من مواضع الخلاف عند العلماء في مسألة الوتر، هل يوتر بثلاث متصلة، أو يوتر بها منفصلة فيفصل بينها، هذا خلاف معروف حتى عند السلف عليهم رحمة الله.
ومن الصحابة عليهم رضوان الله من يقول بالفصل، وهذا جاء عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله، فإنه كان يفصل، وربما أمر بقضاء بعض حاجته بين الركعتين والركعة، وجاء ذلك عنه بإسناد صحيح كما رواه عنه نافع عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله.
ومنهم من يرى الوصل، منهم من يراه فاضلاً ولا يمنع ولا يحرم عن غيره، ومنهم من يراه حتماً وينهى عن غيره، من يراه حتماً وينهى عن الواحدة، وهذا خلاف بين مدرسة بعض أهل العراق كالكوفيين، فإن الحسن البصري يحكي الإجماع على أن الوتر ثلاث، بل يقول: أجمع المسلمون، ولعله يريد بذلك هو ما كان عليه عمل أهل البصرة، كما رواه ابن أبي شيبة عنه في المصنف عن عمرو عن الحسن عليه رحمة الله.
وعلى كل ذلك ثابت كله الإيتار بواحدة والإيتار بثلاث، ويأتي معنا بإذن الله عز وجل في حديث عائشة عليها رضوان الله الكلام في ذلك، وقد جاء عن عائشة من وجوه، وجاء من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، وجاء أيضاً من حديث الزهري عن عروة عن عائشة في مسألة لا يجلس إلا في أخراهن، وهذا الحديث أصله في الصحيح، ويأتي الكلام عليه بإذن الله عز وجل إما في هذا المجلس أو في الذي يليه.
وأيضاً من وجوه إعلال هذا الحديث: أن تعدد هذه الطرق مما لا يحمل عادةً عند العلماء، معلوم أن هذا الحديث جاء من وجوه متعددة والمخرج واحد، الحكم عن مقسم عن أربعة: عائشة ، و ميمونة ، و أم سلمة ، و عبد الله بن عباس ، وهذا ضرب من ضروب الاضطراب، وهذا يدل على أن الراوي لم يحفظه على وجهه، والحكم وإن كان من الأئمة وأهل الفقه إلا أنه ربما رفع بعض الموقوف وأخذ عليه في ذلك.
كذلك أيضاً الجهالة الواردة في هذا الإسناد يعني: في ذلك أنه ربما وقع في ذلك من الجهل أو فهم الموقوفات على أنها مرفوعة، فروي في ذلك عدة طرق، ثم أيضاً لو كان ثابتاً عن هؤلاء الأربعة من الصحابة عليهم رضوان الله لاستفاض عنهم ذلك، وأصبح مشهوراً خاصةً أن من هؤلاء الأجلة من الصحابة من فقهه يشتهر ويستفيض، كحال عبد الله بن عباس ، ثم عائشة ، ثم أم سلمة ، ثم ميمونة عليهم رضوان الله تعالى، ولهذا نقول: إن هذا الحديث حديث منكر، وعلله على ما تقدم الكلام عليه.
وأيضاً ربما يرد ببعض عمل أهل المدينة في ذلك، وذلك أنه جاء عن جمهورهم الإيتار بثلاث، وهذا جاء عن فقها المدينة السبعة كـسليمان بن يسار ، و سعيد بن المسيب ، و خارجة بن زيد ، و عروة ، و أبو بكر ، وغيرهم من فقهاء المدينة، ومثل هذا لو كان النهي عن النبي عليه الصلاة والسلام ثابت ومستفيض، لكان أعرف الناس به هم أهل الفقه من أهل المدينة، ولهذا نقول: إنه ينبغي لطالب العلم في مسائل الإعلال إذا وقف على حديث من الأحاديث في المسائل اليومية والأحكام الظاهرة أن ينظر إلى فقه أهل المدينة في الأعمال اليومية هم في الغالب حكم في مسائل الإعلال والترجيح، ولهذا في مسائل الوتر، في مسائل صلاة الجماعة، في مسائل المواقيت، في مسائل الوضوء وغير ذلك، هذا لابد أن يكون مستفيضاً ظاهراً عندهم.
وقد نقول: إن الأعمال اليومية التي يعملها الإنسان كل يوم كالوتر وغير ذلك لا يمكن أن يكون عمل فقهاء المدينة السبعة على خلافها إلا والحديث في ذلك معلول، لا نرد بذلك الحديث الثابت وإنما نعل الحديث بذلك العمل؛ لأن مثل هذا الأمر مما يستفيض لو ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهؤلاء الجلة هم سادة أهل المدينة، وهم أعرف الناس بالنقل، لو ثبت النهي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عدم مناسبة الإيتار بثلاث لكان ذلك مشهوراً مستفيضاً عنده.
هنا إشارة وهي في مسألة الإيتار بثلاث، قد يفهم من قوله لا يصلح أوتر بخمس أو سبع أن المراد بذلك: هو أن لا يكون حظك من الليل ثلاث ركعات، وإنما خمس أو سبع، قد يفهم بعض الفقهاء منه هذا المعنى، يعني: أن أدنى الوتر ما ينبغي للإنسان أن يكون نصيبه من الليل هو الخمس أو السبع، فالنهي يتوجه إلى صفة الصلاة لا إلى عددها، نقول: إن ذلك في هذا السياق ليس بظاهر لأنه قال: أوتر بخمس أو سبع، ويريد أن يوجهه إلى مسألة الكمال، وقطعاً أن مسألة الكمال هي عند الفقهاء من أهل المدينة وغيرهم هي إحدى عشر وما زاد، لو قال: أوتر بإحدى عشر لا توتر بثلاث لكان ذلك ظاهراً.
أحدهم يقول هنا: إني أسمع أذان الصبح ثم أوتر بثلاث ثم أخرج، هل يدل من ذلك أنه أراد القيام يكون هذا قرينة على أنه أراد أصل قيام الليل والإيتار، أم أراد بذلك هو العدد؟ نقول في هذا: إن أصل إيراد الحديث في هذا هو على العدد؛ لأن ما جاء عن عبد الله بن عباس في مسألة الوتر، وجاء أيضاً عن عائشة عليها رضوان الله في قولها قال: ( الصلاة بثلاث من الليل بتراء )، وجاء عنه قال: ( إني أكره الإيتار بثلاث ).
على كل نحن نتكلم على مسألة صحة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام هل ثبت في ذلك أو لم يثب، وهو معلوم، هذا الحديث يحتج به الفقهاء في مسألة الإيتار بالوصل كـأبي بكر بن المنذر في مسألته الإيتار بثلاث هل هو سائغ أو ليس بسائغ، كـأبي بكر بن المنذر ، وكذلك أيضاً البيهقي في سننه وجماعة من الفقهاء المتقدمين.
وهل يحمل على العدد أو يحمل على قيام الليل ككل؟ هذا يرجع إلى مسألة الاستنباط من السياقات، وعلى كل الحديث مردود.
أحدهم يسال عن مضان إعلالات الأثرم ، مضان إعلالات الأثرم كتب ابن عبد البر كتب ابن رجب ، كتب ابن مفلح أيضاً فإنه ينقل شيئاً من إعلاله، هذه أشهر المواضع في الإعلال الذي تنقل عن أبي بكر بن الأثرم ، و أبو بكر بن الأثرم هو من المتقدمين ودواوينه في ذلك أو مجاميعه في ذلك غالبها غير موجود بأيدينا، ثمة أجزاء منقولة عنه وجزء من جامعه مطبوع، وكذلك أيضاً الناسخ والمنسوخ له مطبوع، وقد يستفيد من طالب العلم بعض الإشارات في مسائل الإعلال، وهو أيضاً من النقاد وإن كان دون شيوخه في ذلك مرتبةً.
وأحدهم يقول: هل نأخذ بإخراج النسائي رحمه الله لهذا الحديث في سننه توثيق لهؤلاء؟ لا، النسائي رحمه الله ربما يورد الحديث في سننه ويريد بذلك إعلالاً خاصةً السنن الكبرى، ولكن ما يصححه ويسكت عليه أو يسكت عليه ولا يورد ما يعله ويخالفه، الأصل في ذلك أنه يميل إلى تجويده أو الاحتجاج به على أقل الأحوال من عدم الطرائح.
ووجوه الإعلال عند النسائي كثيرة، منها: أنه يورد ما يعارض هذا الحديث، ومنها: أنه يتكلم عليه بعينه، كأن يقول مثلاً: ليس بمحفوظ أو نحو ذلك، وهذا من قرائن رده لهذا الحديث، ينبغي أن نفرق بين المجتبى التي انتقيت وفيها خلاف هل هو الذي صنع أم غيره في هذا، وبين كتاب السنن الكبرى، فالسنن الكبرى هو كتاب وديوان من دواوين السنة الذي يظهر فيها نفس العلل من النسائي رحمه الله، ولهذا لا ينبغي أن ننظر إلى منهجية المجتبى ثم نقول: إنه لم يورد شيئاً يخالفه ولم يعله إذاً فهو باقي على أصله، بل ينبغي أن نرجع إلى السنن الكبرى.
الحديث الثاني: هو حديث عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الوتر ثلاث كصلاة المغرب ).
هذا الحديث أخرجه الدارقطني في كتابه السنن من حديث يحيى بن زكريا عن الأعمش سليمان بن مهران عن مالك بن الحارث عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا الحديث معلول بعدة علل:
أول هذه العلل: أن هذا الحديث تفرد به يحيى بن زكريا يرويه عن سليمان الأعمش ولم يوافق على رفعه، خالفه في ذلك الثقات من أصحاب سليمان الأعمش ، خالفه في ذلك سفيان الثوري كما رواه عبد الرزاق في كتابه المصنف يرويه سفيان الثوري عن الأعمش عن مالك بن الحارث عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله من قوله.
وكذلك أيضاً خالفه في ذلك زائدة يرويه عن الأعمش به وجعله موقوفاً، وهذا قد رواه الطبراني ، وكذلك أيضاً خالفه في ذلك عبد الله بن نمير يرويه عن الأعمش به وجعله موقوفاً أخرجه ابن المنذر ، وكذلك أيضاً قد أخرجه الطبراني من وجه آخر من حديث الحجاج عن سليمان الأعمش عن عمارة بن عمير ، وهذه متابعة لشيخ الأعمش وهو مالك بن الحارث يرويه الحجاج عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله بن مسعود ، فكانت متابعة في ذلك لمن رواه عن الأعمش وجعله موقوفاً، ومتابعة أيضاً لـمالك بن الحارث وهو شيخ سليمان الأعمش وجعله موقوفاً وهذا الصواب.
رجح الوقف في ذلك جماعة من الحفاظ كـالدارقطني و البيهقي ، وكذلك أيضاً ابن رجب رحمه الله وغيرهم، ولا يصح الحديث في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحيى بن زكريا ويسمى يحيى بن زكريا بن أبي الحواجب وقد ضعفه الدارقطني وهو مقل الحديث، وهو قليل الرواية، وهو كوفي، ومن خالفه ممن رواه عن سليمان الأعمش كوفيون وهم أبصر الناس بحديث الأعمش ، من هؤلاء سفيان الثوري وهو من أئمة الحفظ والفقه والمعرفة، فقد خالفه وجعله موقوفاً، وكذلك عبد الله بن نمير ، و زائدة ، و الحجاج ، وأقلهم مرتبةً منفرداً أقوى من يحيى بن زكريا .
كذلك أيضاً من وجوه الإعلال: أن هذا الحديث جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً بجعل صلاة الوتر كالمغرب ثلاثاً، وهذا يخالف ما عليه أهل الكوفة، والإسناد كوفيون لدينا سليمان بن مهران الأعمش من يروي عنه تلامذته سواءً الضعيف أو الثقة يحيى بن زكريا سفيان الثوري وكذلك أيضاً الحجاج ، أيضاً شيوخه في هذا الإسناد عبد الرحمن بن يزيد النخعي أيضاً وهو من أئمة الفقه من الكوفيين، وهذا الحديث يخالف ما لديهم من العمل.
صح عند ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي أنه قال: كانوا يكرهون الوتر بثلاث، وهذا إسناده صحيح، وقول إبراهيم النخعي : (كانوا) يريد بذلك أصحاب عبد الله بن مسعود وما كان عليه العمل في تلك الطبقة، وذلك يحتمل أن الكراهة الواردة عندهم إما أن تكون المراد بذلك المشابهة في المغرب، وهذا أيضاً يرد به ذلك الحديث لأن هذا الحديث الذي جاء مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الوتر ثلاث كصلاة المغرب )، يعني: أن الإنسان يتشهد ثم يقوم، وهم يكرهون ذلك، هل الكراهة عند الكوفيين هي الكراهة مع التشهد المراد بذلك هو العدد أن لا يسلم إلا في أخراهن؟ نقول: إن الحديث المرفوع في ذلك أنه جعلها كالمغرب يعني: بتشهد، ومن قال بكراهة السرد من غير جلوس فإنه من باب أولى أن يكون في مشابهته بالمغرب من باب أولى بالكراهة، ولهذا الحديث قطعاً ما جاء في المرفوع عن النبي عليه الصلاة والسلام يخالف ما هم عليه من جهة العمل، ولهذا نقول: إن هذا الحديث هو حديث كوفي ويخالف ما عليه أصحاب عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله، ونستطيع الجمع في مسألة ثبوته موقوفاً على عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله أن نقول: إن ثبوت الحديث عن عبد الله بن مسعود في الصلاة أنها صلاة المغرب المراد بذلك العدد، ونحمل النهي عند بعض الكوفيين على الثلاث، نقول: لجعلها كحال المغرب ثلاثاً بجلوس، وأما إذا فعل الإنسان على سبيل الأحيان أو الاعتراض أن جعلها سرداً فإن هذا مما لا حرج فيه.
وقد جاء هذا الحديث من طرق متعددة عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله موقوفاً يرويه عنه إبراهيم النخعي وغيره عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى، جاء عند الدارقطني و البيهقي و عند ابن خزيمة و ابن حبان أيضاً من حديث أبي سلمة و الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا توتروا بثلاث، لا تشبهوا الوتر بالفريضة صلاة المغرب )، وهذا الحديث قال الدارقطني رحمه الله: رجاله ثقات، ومن جهة إسناده ليس له علة، ورواته موثقون.
وفيه إشارة إلى نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن مشابهة الوتر بصلاة المغرب، والمشابهة هنا في هذا الحديث هل المراد بذلك هي العدد أم الصفة؟ الذي يظهر والله أعلم أن المراد بذلك الصفة لا العدد، المراد بذلك الصفة أن لا يجلس الإنسان تشهداً ثم يقوم، وهذا أيضاً وفي مسألة يتفرع أيضاً عن مسألة ربما تأتي معنا في حديث عبد الله بن عمر عليه رضوان الله في صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، أنه ينبغي للإنسان أن لا يستمر فيما زاد عن ركعتين وإنما يسلم في كل ركعتين، وهل هذا على سبيل العموم أم سبيل الأغلب في ذلك، ثمة كلام للأئمة عليهم رحمة الله تعالى في هذا.
الحديث الثالث: هو حديث عائشة عليها رضوان الله بنحو حديث عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( الوتر ثلاث كصلاة المغرب ).
هذا الحديث أخرجه الدارقطني أيضاً في كتابه السنن من حديث أبي بحر البكراوي عن إسماعيل بن مسلم ، وقد تفردوا بهذا الحديث، الحديث هو حديث عائشة عليها رضوان الله يرويه عن عائشة سعد بن هشام ويرويه عن سعد بن هشام الحسن تفرد به أبو بحر البكراوي عن إسماعيل بن مسلم المكي وهؤلاء ضعفاء، إسماعيل بن مسلم المكي ضعيف الحديث ترك حديثه ابن المبارك و يحيى بن سعيد القطان ، وكذلك ابن مهدي ورد حديثه كذلك علي بن المديني و أحمد بن حنبل و النسائي وغيرهم، وكذلك أيضاً أبو بحر البكراوي عبد الرحمن البكراوي وهو ضعيف الحديث، ضعفه غير واحد من الأئمة.
كذلك أيضاً فإن مما يعل به هذا الحديث: أن التفرد فيه جاء متأخراً، فإن هذا الحديث يتفرد به أبو بحر عن إسماعيل بن مسلم وهذه طبقة متأخرة، وتفرد به أيضاً عن الحسن البصري عن سعد بن هشام عن عائشة عليها رضوان الله، وهذا مما لا يقبل لأن هذا الحديث مليء بالفقهاء النقلة على رأسهم عائشة عليها رضوان الله، ومثل ذلك مما يضبط عنها لو كان معروفاً.
الحديث الرابع: هو حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا توتروا بواحدة فإنها بتراء ).
هذا الحديث رواه ابن عبد البر رحمه الله في كتابه التمهيد، من حديث عثمان بن محمد بن ربيعة عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث حديث منكر، تفرد به عثمان بن محمد بن ربيعة عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي وهو يغلط ويهم، وقد ذكر العقيلي رحمه الله أن له أوهاماً وأغلاطاً، أعني: عثمان بن محمد بن ربيعة ، وهذا الحديث من مفاريده.
ثم أيضاً الغرابة في إسناد هذا الحديث عن أبي سعيد فإنه لا يعرف إلا من هذا الوجه، كذلك أيضاً فإن هذا الحديث من وجوه إعلاله أنه لا يعرف في دواوين الإسلام المشهورة، وهذا من وجوه الإعلال، لا أعلم أحداً من الأئمة من أهل التصانيف المشهورة قبل ابن عبد البر رواه مسنداً، وهذا يعني: أن الأئمة عليهم رحمة الله تركوه، وذلك أن مثل هذا النهي عن النبي عليه الصلاة والسلام في نهيه عن الإيتار بواحدة وقوله: ( بتراء )، إشارة إلى أمر أو عمل مهم يومي، ومثل هذا ينبغي أن يشتهر.
كذلك أيضاً من وجوه الإعلال: أن هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهور وعن أصحابه، مشهور عن النبي عليه الصلاة والسلام وعن أصحابه الإيتار بواحدة، وهل المراد بذلك العدد أم المراد بذلك الصلاة؟ نقول: بكلا الأمرين ثبت به الخبر عن النبي عليه الصلاة والسلام وعن أصحابه، وجاء هذا في الصحيح من حديث معاوية لما صلى أوتر بركعة فقال عبد الله بن عباس : إنه فقيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على الإنسان قد يوتر بواحدة في صلاة الليل، كذلك أيضاً جاء عن غير واحد من الصحابة عليهم رضوان الله العمل به، ومثل هذا النهي لو كان ثابتاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لاستفاض واشتهر وعرف في دواوين الإسلام واعتنى به النقلة.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
السؤال: ما وجه تدليس مقسم في الحديث الأول؟
الجواب: إن مقسماً حينما روى عنه الحكم وسأله قال: إني أسمع الأذان فأوتر بثلاث ثم أخرج إلى الصلاة فقال: لا يصلح ذلك، يقول: فسألت مجاهداً ويحيى فقالا: سله عن من هذا؟ قال: فأتيته فسألته فقال: عن الثقة عن الثقة عن عائشة و ميمونة ، هذا الحديث رواه مقسم من وجهين:
الوجه الأول: رواه ثقة عن ثقة عن عائشة وميمونة، ورواه من وجه آخر: عن عائشة وميمونة من غير أن يذكر الثقة عن الثقة عن عائشة من وجه آخر؛ لأن الحديث جاء بوجهين: جاء لما سأله الحكم سأل مقسماً عن من تسند هذا الفقه، ذكر الثقة عن الثقة عن عائشة و ميمونة ، جاء سرداً من غير ذكر، هذا جاء عند عبد الرزاق كما تقدم الإشارة إليه، وجاء أيضاً عند البيهقي وغيره، أنه جعله عن عائشة و ميمونة من غير ذكر الواسطة، وجاء أيضاً أنه ذكره عن ابن عباس عن أم سلمة ، وتارةً يذكر أم سلمة وتارةً لا يذكرها، فهذا يدل على أنه ذكره تارةً بواسطة وتارةً لم يذكره بواسطة.
إذاً كيف عرفنا التدليس في هذا؟ عرفنا التدليس لا في سؤال الحكم ، الحكم في ذاته استخرج لنا التدليس الذي وقع في الطرق الأخرى؛ لأنه لو كان روى مجهول عن مجهول لذكر في الوجوه الأخرى خاصةً أنه يروي هذا الطريق عنه جماعة من الحفاظ الكبار الذين يروونه عن الحكم ، لهذا نقول: إنه روي بوجهين فجاء التفسير عن الحكم فعرفنا أن الوجه الآخر تدليس.
السؤال: هل يؤخذ في حديث عبد الله بن عباس : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام ) أن المراد بذلك هو السرد؟
الجواب: هو أراد الاشتراك بالوصف من جهة الطول ولم يرد بذلك أنها تامة من غير فصل، لو كان إطلاق العدد في ذلك يقول: (صلى أربعاً) للزم من هذا أن نقول: في كل قيام الإنسان كما قالت عائشة : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان أكثر وتره في الليل إحدى عشر )، هل يلزم من هذا أنها تكون متصلة؟ لا يلزم من هذا، نقول: إنه أراد في ذلك العدد وما اشترك به هذه الأربع اشتركت بالحسن والطول، ويبقى مسألة الفصل مرده في ذلك إلى دليل آخر.
السؤال: حديث عائشة في الوتر ثلاثاً هل ثبت موقوفاً عنها؟
الجواب: جاء من حديث سعيد بن المسيب عن عائشة عليها رضوان الله رواه ابن المنذر في كتابه الأوسط وهو معلوم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر