إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فمن المهمات التي تتعلق بالصيام: أن يكون الإنسان عالماً بحدود صيامه، وأن يعلم متى يبدأ الإمساك ومتى يجب أو يستحب الفطر؟
أولاً: الله جل وعلا قد أجاز للإنسان أن يطعم حتى يتبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم يتم الصيام إلى الليل، وهذا محل اتفاق عند المسلمين قاطبة، وثمة جملة من فروع هذه المسائل:
أولاً: أن ما يجب أن يمسك عنه الإنسان هو ما كان مناقضاً لحقيقة الإمساك، الصيام سمي صياماً من جهة إمساك الإنسان عن المفطرات، ولهذا يسمى الصيام صياماً، لأن الإنسان أمسك عن شيء قصده إما أن يكون طعاماً أو شراباً ولهذا يقول الشاعر:
خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
يعني: الخيل منها ما يصهل ويسمع صوته في المعارك، ومنها ما هو ممسك صائمة، يعني: عن الصهيل، ومنها ما هي مشغولة بعلك اللجام، أي: في وجاه العدو.
وبه يعلم أن الصيام هو من جهة الحقيقة خصص بإمساك عن المفطرات وهي الطعام والشراب وما في حكمها، ما في حكمها يدخل فيها النوازل الحالية مما يكون في حكم الطعام والشراب من المغذيات، ما يسمى بالمغذي، وكذلك ما في حكمه مما يكون من جملة العلاج لكن هو داخل في تغذية الإنسان كما يستعمله مثلاً بعض الذين يتعاملون بغسيل الكلى، يوضع معه بعض المغذيات والمنشطات للجسد، كذلك أيضاً ما يستعمله بعض الناس مثلاً في الأوردة من بعض الأدوية التي هي علاج لكن يضاف إليها جزء ليس بالقليل من الغذاء ونحو هذا، أما ما كان مما ليس في حكم الغذاء فإنه لا يدخل في حكمه ولو وصل إلى وريد الإنسان كبعض المخدرات أو الحقن أو التطعيم وغير ذلك، فإن هذا ليس من المفطرات.
الأصل في المفطرات أنها تصل إلى الجوف، وأما ما خرج من الإنسان فالأصل فيه أنه لا يفطر إلا بدليل خاص، وبهذا يعلم أن كثيراً من الفقهاء يوردون المفطرات حتى بلغ في بعض كتب الفقهاء أن المفطرات أكثر من ستين مفطراً، وهذه من جهتها الأصل فيها نظر، وإنما الأمر يرجع إلى الدليل من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل ذلك كلام الله جل وعلا يرجع إليه، وإذا لم يثبت في هذا دليل فإن الأصل في ذلك عدم الفطر، ونورد جملةً في هذا:
اتفق العلماء عليهم رحمة الله تعالى أن من أكل أو شرب متعمداً أنه قد أفطر في رمضان، ويخرج من هذا الناسي والناسي في هذا معذور، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من أكل أو شرب ناسياً فإنما أطعمه الله وسقاه ) ، قد جاء هذا في الموطأ وفي الصحيح، وقد قال بخلافه الإمام مالك عليه رحمة الله تعالى، وجمهور العلماء على خلافه.
ويبقى لدينا مسألة وهي مسألة: من أكل أو شرب ناسياً، هل يذكر أو لا يذكر؟ ذهب جماعة من الفقهاء إلى أنه يذكر وأن هذا يدخل تحت قول الله جل وعلا: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2] ، والصواب في ذلك: أنه لا يذكر، والدليل على هذا ما رواه ابن حزم في كتابه المحلى من حديث عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى: أنه شرب ناسياً فذكره غلامه فقال: أراد الله أن يطعمني فمنعتني، وهذا فعله ابن عمر عليه رضوان الله تعالى -وهو أعلى شيء في الباب- ناسياً، وعاتب موالاه أن ذكره.
البعض يقول: إن الله جل وعلا يقول: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2] ، النبي عليه الصلاة والسلام يقول كما في الخبر السابق: ( أطعمه الله وسقاه ) ، هذا منة أو ليس بمنة؟ منة، ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام في الموضع الآخر حينما قالوا له: ( إنك تواصل، قال: معي ربي يطعمني ويسقيني ) ، هذا منة أو ليس بمنة؟ على نفس السياق ونفس اللفظ، وبه يعلم أن المنة لا تقطع، ويكفي في ذلك ما جاء عن عبد الله بن عمر ، قد يقول قائل: إن هذا من إنكار المنكر، يقال: إن المنة لا تكون منكراً هذا أمر، والأمر الآخر: أن ما جاء عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى موافق لهذا، وهو أعلى ما جاء في الباب، ولا أعلم له مخالفاً لا من الصحابة ولا من التابعين، مما ينبغي أن يصار إليه.
أما المنكر فمثل أن يشرب الإنسان الخمر ناسياً، هل نقول: اتركوه؟ هو معذور نجزم أنه لا يعاقب، فهل نتركه أم نذكره؟ نذكره؛ لأنه من التعاون على البر والتقوى، أما الصائم الناسي هل نقول: فعل منكراً؟ ما فعل منكراً، وحينئذ يعلم الفرق بين هذا وهذا، ثم إن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى فعل هذا الأمر وعنده عبد الله بن دينار وعنده غلامه، ما يدل على وجود حضرة عنده ولا يعلم له مخالف، فينبغي أن يقال بهذا.
ثم إن قول عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى: أراد الله أن يسقيني فمنعتني، الإرادة على نوعين: إرادة شرعية وإرادة كونية، الكونية لا تمنع: أراد الله أن يسقيني، لا يردها غلام، ولا يردها عبد الله بن عمر، لا بد أن يسقى، إذاً بقي الإرادة الشرعية: أراد الله أن يسقيني فمنعتني، أي: شرع لي أن أشرب فمنعت هذا المشروع ولهذا هو كسبيل إنكار.
وهنا مسألة أخرى: إذا نسي الإنسان وأراد أن يجامع زوجته! وكانت المرأة معذورة، هل تذكره أو لا؟ إذا قلنا بقول يجب أن نستحضر اللوازم، فأنا أقول بهذا القول وأستحضر اللوازم، هل يكون مما أطعمه الله وسقاه؟ هل يعذر بذلك أم لا؟
يعني: هل يقال: إن الجماع لا يندرج في مسألة المنة في الأكل والشرب، أنه لا يكون فيه منة؟
والمرأة المعذورة هي التي ترضع ابنها أو حامل أفطرت لأجل جنينها، أو مسافرة قدمت من سفر وقد أفطرت.
مداخلة:...
الشيخ: لكن القياس، هم يقولون: هم شركاء ثلاثة، النبي عليه الصلاة والسلام يقول عن ربه جل وعلا: ( يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ) ، ثلاثة مع بعض، والعلماء يقولون في الجماع أنه يفطر.
مداخلة:...
الشيخ: هو ليس ضرورة، هو ليس جائعاً ولا عطشان فضلة، حتى يمكن أنه لتوه متسحر وراجع من صلاة الفجر، لا يطرد هذا، يعني: أن نفرق بين الضرورة، الضرورة تجوز له أن يتعمد.
نقول: هذا ليس ببعيد، أن يقال: أطعمه الله وسقاه، قد يستثقل البعض قولي هذا! ولكن هذا ما يوحي به النص عن عبد الله بن عمر ، نعم؟
مداخلة:...
الشيخ: الفاسق فاسق ما يحتاج فتوى، خاصة الله عز وجل يقول: ( الصيام لي وأنا أجزي به ) ، مسألة الصيام لا يمكن أن يظهر فيها الصادق من الكاذب، يطعم الإنسان أو يمسك بلا نية، بخلاف العبادة، العبادة لا بد أن تظهر، الصلوات الخمس تظهر، ينافق في الظهر والعصر لكن الفجر لا يستطيع فيبين، يمكن أن يحرص على الفجر في الأسبوع الأول والثاني، لكن بعد ذلك تظهر الحقيقة.
مداخلة:...
الشيخ: هذا فيمن قال: إن المجامع ناسياً يجب عليه، ومن العلماء من يفرق بين الناسي والمتعمد في مسألة الجماع، وممن يفرق في هذا شيخ الإسلام ابن تيمية ويخرجون الناسي ويلحقونه في الجماع بالآكل والشارب في النسيان، أما من لا يفرق فيلزمه أن يقول بهذا القول، هذه مسألة نادرة الوقوع، ولكن في عصر الذهن حتى الإنسان يعرف إلحاق المسائل بعضها ببعض.
مداخلة:...
الشيخ: وهو أن الغالب أن الجماع لا يتطرق له النسيان، والنسيان يرد على الأكل والشرب بخلاف الجماع، يعني: يندر أن الإنسان ينسى ويجامع في نهار رمضان بخلاف الأكل والشرب.
حتى لا تأخذ من وقتنا هذه المسألة: الأكل والشرب هو الأصل في الصيام، فعندما يدعه الإنسان يسمى: صائماً وممسكاً، ومن لم يكن كذلك لم يكن صائماً، ومن المفطرات ما يذكره عامة العلماء وأكثرهم وهو الجماع في نهار رمضان، وقد أحله الله جل وعلا في ليل الصيام، وقد كان قبل ذلك محرماً، وحرم في نهار الصيام وأحله الله جل وعلا في ليله.
يجب على الإنسان أن يمسك حتى غروب الشمس، ويستحب له أن يعجل بالفطر, وأن يبكر ما تيقن أن القرص قد غاب، ولهذا قد روى ابن أبي شيبة و البيهقي من حديث مجاهد عن عبد الله بن عمر أنه كان يقدم له فطره ونستره خشية أن يراه الناس، وهذا من شدة تبكيره.
وليس المراد من هذا أن الإنسان يفطر وهو يرى شيئاً من الشمس، فإن هذا مفطر ومفسد للصيام، وإنما الحيطة في ذلك أن يبكر لا الحيطة في ذلك أن يتأخر، وهذا بخلاف الصلاة، ولهذا ينبغي للإنسان أن يفرق بين هذا وهذا، وأن يبادر في تعجيل الفطر كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام من حديث أبي حاتم عن سهل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ( ما تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر ) ، فمما ينبغي للإنسان أن يحرص عليه تعجيل الفطر، وتعجيل الفطر هو من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه كما جاء هذا عن عمر بن الخطاب و عثمان بن عفان وغيرهم.
ومن المسائل المتعلقة في هذا الباب: أن يحرص الإنسان على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في فطره، ومن هديه عليه الصلاة والسلام في فطره أن يفطر على تمرات، فإن لم يجد تمرات حسا حسوات من ماء، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث حفصة بنت سيرين عن الرباب ابنة صليع عن سلمان بن عامر عليه رضوان الله تعالى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من أفطر فليفطر على تمر، فإن لم يجد فليحس حسوات من ماء؛ فإنه بركة ) ، وقد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه يفطر على رطبات وهو ضعيف، قد جاء من حديث جعفر عن ثابت عن أنس بن مالك كما رواه الترمذي وغيره، والصحيح في ذلك تمر ويدخل في التمر من جهة العرف الرطب، فيدخل فيه من جهة المعنى الشرعي لدخوله في عموم اللفظ اللغوي، وإما إذا قيل: الرطب، فلا يدخل فيه سائر أجناس التمر بالرطب أو ما كان قد حال عليه الحول ويبس قبل ذلك، وإنما خصص التمر لحكمة وعلة كما ذكره أهل الطب: أن جسد الإنسان أحوج ما يكون في مثل هذا للسكريات، وهي أسرع ما يمتصه جسد الإنسان عند فطره، ويشرب الماء.
وأما الدعاء فقد جاء في الدعاء عند الفطر جملة من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن للصائم عند فطره دعوة لا ترد، أو ثلاث دعوات لا ترد، وغير ذلك من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يثبت منها شيء، والثابت في هذا عن بعض السلف كما جاء من حديث الربيع بن خثيم كما عند ابن فضيل في كتابه الفضائل عن الربيع بن خثيم : أنه كان يدعو عند فطره، ولا أعلمه يثبت أيضاً عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما عليه العمل وظاهر النصوص تدل عليه، وأما ما يفعله بعض الناس من عمل هدي معين عند الفطر حتى يدع الفاضل إلى المفضول، وهو أن بعض الناس يؤخر الفطر لأجل الدعاء، فيستقبل القبلة بيديه ويرفع يديه ويدعو والناس يطعمون ونحو ذلك، وهذا فيه تأخير للفطر، وتعجيل الفطر آكد من الدعاء عنده، لأن خيرية هذه الأمة قد ارتبطت به لظاهر الامتثال لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن السنن في هذا أيضاً: أن يحرص الإنسان على تأخير السحور، وتأخير السحور مع تعجيل الفطر فيه إظهار للتعبد ظاهراً وباطناً؛ وذلك أن الممسك في إمساكه للصيام يمسك عن الطعام والشراب وهو في الظاهر صائم، وكذلك أيضاً قد عقد النية في قلبه على الإمساك، فإذا صاحب ذلك العمل في الظاهر كان ممتثلاً، والعمل في الظاهر أن يبادر بإحاطة موضع الإمساك بفطر قبل وروده وهو السحور وبفطر بعد انتهائه، أي: يبادر بالامتثال، كما يحاط صيام رمضان ككل ويبين؛ لأنه إمساك فلا يصام قبله، ولما كان الصيام إمساكاً فإنه يفطر الإنسان قبله، وهذا ظاهر كما في صيام رمضان، فإنه يحرم عليه صيام الشك ويحرم عليه صيام العيد ويجب عليه أن يطعم، كذلك يتأكد في حقه بالنسبة لصيام الواحد أن يؤخر السحور وأن يعجل الفطور، حتى يظهر التعبد لله عز وجل ظاهراً وباطناً.
ولهذا ينبغي للإنسان أن يعرف مراتب الخير في هذا، وإذا كان الإنسان لا يتيسر له التمر ليفطر على شيء إذا كان هذا يناقض التعجيل، آكد الأعمال عند الفطر هو تعجيل الفطر، آكد من التمر وآكد من شرب الماء، فإذا لم يجد الإنسان مثلاً عند فطره إلا حلوى أو خبزاً أو غير ذلك فليطعم، لأن التعجيل آكد من انتظار التمر، وذلك لأنه قد ارتبطت به الخيرية، والتمر إنما جاء من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويسن تأخير السحور، وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السحور في قوله: ( تسحروا؛ فإن في السحور بركة ) ، وهو حديث أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى، جاء من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة فيه إشارة إلى أن هذا مما يقوي عمل الإنسان وبركته، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: فإنه بركة، يعني: يزيد من عمل الإنسان في نهاره، فينشط على العبادة والذكر والطاعة وغير ذلك.
ومن المسائل أيضاً: ما يتعلق بالعناية بتفطير الصائم، تفطير الصائم: من جملة الإطعام والحث الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يثبت في ذلك خبر، قد جاء في ذلك جملة من الأخبار لا يصح منها شيء كما قال ذلك العقيلي : لا يثبت في هذا شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد جاء من حديث زيد بن خالد الجهني يرويه عنه عطاء : أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( من فطر صائماً كان له مثل أجره ) ، قال علي بن المديني عليه رحمة الله: عطاء لم يسمع من زيد ، وقد جاء من وجه آخر من حديث عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى، ولا يصح في هذا الباب شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبقى تفطير الصائم من جملة الإطعام في هذا الشهر المبارك الذي ينبغي للإنسان أن يكون فيه حريصاً على بذل الطاعات والإكثار منها.
ودائماً أقول: إن العالم وطالب العلم ينبغي أن يميز بين مراتب الخير وأن يكون عالماً بذلك، وألا يميل إلى عاطفته الشخصية، كثير من المتعلمين أو كثير من العباد أو الذين يعتنون بالعبادة يميلون إلى العاطفة الشخصية لنوع من أنواع العبادة مع معرفة الفاضل، وهذا فيه ما فيه، ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أن هذا الأمر الناس فيه على مراتب، حتى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما يجهل مراتب بعض الخير في أفضلية هذا عن هذا، وقد جاء في هذا حديث جويرية عليها رضوان الله تعالى كما جاء في الصحيح: ( لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاة الفجر وما رجع إلا ضحى، وهي جالسة في مصلاها عليها رضوان الله تعالى، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ما زلت مكانك؟ قالت: نعم، قال: إما أني قلت أربع كلمات ثلاث مرات، لو وزنت بما قلت لعدلته: سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته ) ، وبهذا يمتاز العالم عن غيره.
بعض الناس يكون شديد الحرص على نوع من أنواع العبادة مع وجود الفاضل، ويكون هذا ضرباً من ضروب المبالغة، ولهذا نجد عند المتأخرين العناية ببعض العبادات مع ورود الفاضل، منها: المبالغة في تفطير الصائمين، نجد من الناس من يتفرغ مثلاً من صلاة الظهر للإعداد والذهاب والمجيء ونحو ذلك حتى يهيئ الإفطار يوماً للصوم، نقول: إن الإطعام من خير العبادات، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام لما سئل: ( أي العمل أفضل؟ قال: أن تطعم الطعام وأن تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف ) ، وهو في الصحيح.
ولكن ثمة من الأعمال في هذا الشهر المبارك ما ينبغي للإنسان أن يجعل لها حظاً في ذلك، وألا يجعل فيها مراتب، ولهذا يظهر لي -والله أعلم- أن تسحير الصائم أفضل من تفطيره، ولهذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( تسحروا؛ فإن في السحور بركة ) ، المتسحر يستقبل صياماً والمفطر يستقبل طعاماً، ورمضان أفضله في نهاره أم في ليله؟ في نهاره، ولهذا قال: ( تسحروا فإن في السحور بركة ) ، بركة أي: زيادة في نشاط الإنسان وقوته، قوة على العبادة في النهار على قراءة القرآن والإكثار من العبادات، أما الإفطار فإنه يستقبل سهراً وليلاً، وما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الباب لا يثبت فيه شيء، وإنما قلت النصوص عن السلف في التسحير؛ لأنه موضع هجعة، هذا من جهة إذا أراد الإنسان أن يعرف المراتب مراتب الإطعام، والإفطار لا أعلمه يثبت لا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه عليهم رضوان الله تعالى.
وقد بولغ فيه في الأعصار المتأخرة حتى أصبح تجارة ولا يكاد يخلو دكان من دكاكين الأكل والشرب من وضع لافتات في شعبان: إطعام للصائمين، وتفطير الصائمين، الوجبات بكذا، فأصبحت تجارة، ويذكرون الحديث ويقولون: صححه فلان وفلان ونحو ذلك، وهذا مشكل كمسألة حملات الحج والعمرة والباصات والطائرات ونحو ذلك، ضخموا العمرة في رمضان، والنبي عليه الصلاة والسلام كل العمر التي اعتمرها في أشهر الحج، ما اعتمر النبي عليه الصلاة والسلام مرةً في رمضان أبداً، ولهذا العمرة في أشهر الحج أفضل من العمرة في رمضان، النبي عليه الصلاة والسلام لزمها وكررها وأعادها ليس مرة ولا مرتين ولا ثلاثاً بل أربعاً، وما قصد رمضان وما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام إلا والصحيح في هذا هو حديث قد رواه الإمام مسلم عليه رحمة الله تعالى، في هذا الباب.
هي فضلها ثابت، لكن لا يعني عدم فضل غيرها، ولهذا ينبغي أن تبين الأعمال وأن يبين مقدارها الشرعي كما يقصده الشارع لا ما تقصده الطباع والنفوس، وليعلم أيضاً أن النفوس إذا أقبلت على الله عز وجل فمن مداخل الشيطان في هذا أن يجعل مراتب المفضول فوق الفاضل؛ لأنه لا طاقة له أمام هذا العابد، إلا أن يقلل مرتبته في الجنة بأن يقدم المفضول على الفاضل.
ولهذا ضل كثير من المتصوفة في الإقبال على كثير من العبادات مع التفريط في كثير من الطاعات وأعظمها التوحيد لله عز وجل، فرطوا فيه وانصرفوا للعبادات، فتجدهم يأتون إلى القبور ويذبحون عندها وينذرون لها ويضعون عندها من الأموال ويسألونها من دون الله عز وجل، ويجدون في ذلك ارتياحاً، وجردوا هذا من الدليل من كلام الله عز وجل وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ومالوا إلى عواطف النفوس، وهذا ما ينبغي ألا يدور معه طالب العلم، بل يدور مع الدليل وجوداً وعدماً، وأن يعرف مراتب الخير وأن يعرف دركات الشر وأن يميز في هذا، والموفق من وفقه الله عز وجل في هذا الباب.
وينبغي للمرء أن يعرف أن الله عز وجل كما أنه عظم هذا الشهر المبارك، فإن الله جل وعلا قد جعل في هذا الشهر الحسنات معظمة والسيئات معظمة، لهذا ينبغي للإنسان أن يحتاط لدينه باجتناب المحرمات قدر إمكانه، والتقلل من المباحات خشية أن يقع في المكروهات، والتقلل من المكروهات خشية أن يقع في المحرمات، ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ) ، الشبهات: هي ما يوقع الإنسان فيما لا يقصده الإنسان، كأن يكون المباح وسيلة إلى المكروه أو المكروه وسيلة إلى المحرم، ولهذا يعرف الإنسان أن هذا الأمر مكروه وليس بمحرم، ولكن إقدامه ومداومته عليه تجرئه على ما هو أبعد من ذلك، فينبغي للإنسان أن يبتعد عنه حمايةً لدينه وصوناً لعرضه أيضاً.
فإن الله جل وعلا قد بين أن هذا الشهر هو شهر مبارك وشهر عظيم، وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك هذا الأمر، وعظمته تدل على تعظيم الحسنات وتعظيمها عند الله عز وجل، وكذلك تعظيم وتغليظ السيئات، فربما تنقص من عمل الإنسان، ولهذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث المقبري عن أبيه عن أبي هريرة ، قال عليه الصلاة والسلام: ( من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة بأن يدع طعامه وشرابه ) ، يعني: حاله كحال من لم يصم ممن لم يترك الطعام والشراب، فأكل ليله ونهاره؛ لأنه قد أطلق لسانه بالزور والجهل والكذب والغيبة والنميمة وسائر المحرمات، حينئذٍ قد أحبطت تلك السيئات حسنات الرجل ولم يبق لديه حسنات، ولهذا قال غير واحد من السلف: الغيبة تفطر الصائم، ومعنى تفطره أي: كحال من أكل أو شرب، حكمه كحكم من أكل وشرب إذا دخل فيها.
قد ثبت عن إبراهيم النخعي كما رواه ابن حزم من حديث المغيرة عن إبراهيم أنه قال: الغيبة تفطر الصائم، وقد جاء هذا عن أنس بن مالك كما رواه الهيثم عن ثابت عن أنس بن مالك أنه قال: النميمة تفطر الصائم، وفي إسناده ضعف، ولكنه صحيح عن إبراهيم النخعي ، ومرادهم بالتفطير هنا هو أن يكون حكم الإنسان كحال المفطر لا يستفيد من ذلك، كما جاء في الخبر: ( أن من الناس من ترد عليه صلاته كالثوب الخلق )، أي: لا يقبل منها شيء كحال من لم يصل.
والمراد من هذا أن الإنسان ينبغي له أن يصون هذه العبادة بالامتثال، واجتنابه المحرمات، والإكثار من العبادات قدر إمكانه، فإنه بذلك يحمي صيامه ويحترز من هذا، وإلا من جهة الأصل فإن المحرمات لا تفطر الصائم وإنما تنقص الأجر، وما يفطر الصائم في صيامه إلا بدليل، لهذا سئل الإمام أحمد كما في طبقات الحنابلة لـابن أبي يعلى عن الغيبة: هل تفطر الصائم؟ قال: لو فطرت الصائم ما أصبح لنا صوم، ومراده بهذا أن الإنسان يقع في هذا مما لا يستطيع معه الاحتراز بالسهو والغلط والوهم، وكذلك ربما التأول في هذا، بخلاف الأكل والشرب لا تأول فيه، كأن يقول: أنا أريد أن آكل متأولاً ونحو ذلك، أما الغيبة فتقع من الإنسان متأولاً في باب التعريف أو نصيحة ونحو ذلك وهو صائم، فلا تفطر الصائم من هذا الباب، وهذا من شدة ورعه عليه رحمة الله.
ينبغي للإنسان أيضاً مع عنايته في هذا أن يعتني بالإكثار من العبادة في الصلوات، وأن يعرف مراتب الفاضل من العبادات خارج الصوم، وأن يعلم أنه فاضل أيضاً في صيام رمضان، أن يكثر من قراءة القرآن، خصه النبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في حديث عبد الله بن عباس وحديث عائشة ، أن يكثر من الصلاة وبالأخص في رمضان، أن يكثر من النوافل مطلقاً، أن يكثر من قيام الليل، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول في المسند و أبي داود من حديث أبي الدرداء ، قال: ( من صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة ) ، يقوم مع الإمام حتى ينصرف ويحرص على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك.
وهدي النبي عليه الصلاة والسلام في قيام الليل: أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول كما في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر : ( صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح أوتر بواحدة ) ، وإن لزم إحدى عشرة ركعة فهو الأكثر والأولى من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى، وإن زاد عن ذلك فلا بأس، فإنه مروي عن بعض السلف، ويروى عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى و أبي بن كعب وفي صحته نظر، أي: الصلاة بعشرين ركعة، وهذا لا يثبت عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى، وإن لزم إحدى عشرة فإنه هو الأولى والأليق بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن زاد في ذلك فلا حرج، لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( فإذا خشي أحدكم الصبح أوتر بواحدة ) ، ما يدل على التكرار في الركعات ولا حرج في هذا.
وأن يعتني كذلك أيضاً بالإتيان بالوتر وأن تكون آخر صلاته من الليل، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( اجعلوا آخر صلاتكم من الليل وتراً ) ، وقال عليه الصلاة والسلام: ( أوتروا؛ فإن الله وتر يحب الوتر ) ، ولا يكرر الوتر في ذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: ( لا وتران في ليلة ).
وأن يقرأ وأن يطيل في صلاة الليل قدر إمكانه، وأن يجعل ركوعه وسجوده على السواء أو قريباً من قيامه، وكذلك في رفعه من الركوع، وهذا من السنن المهجورة عند كثير من الناس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يقنت في وتره من الليل ولم ينقل عنه ذلك ولا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا في النصف الأخير من رمضان كانوا يقنتون بعد نصف رمضان من ليلة الخامس عشر إلى آخر رمضان، لا أعلم أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت في النصف الأول من رمضان وإنما هو في أفعال من جاء بعدهم، ولهذا ينبغي للأئمة وينبغي كذلك للمفتين وطلاب العلم أن يبينوا هذا الأمر للناس حتى يكونوا على اقتداء بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء معين في القنوت، فإنه لم يقنت كما تقدم الكلام عليه في وتره، وما جاء من حديث الحسن عند الترمذي أنه علمه أن يقول في دعاء القنوت: ( اللهم اهدني فيمن هديت )، فهذا لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن ذكر قنوت الوتر فيه غير محفوظ، والخبر لا بأس به من جهة الأصل، قد رواه الترمذي وغيره بإسناد لا بأس به، وذكر قنوت الوتر فيه غير محفوظ، وإنما هو الدعاء على وجه العموم.
ولا يطيل في قنوت الوتر، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يطيلون في ذلك، وأدق الوصف ما جاء في هذا عن إبراهيم النخعي أنه قال في القنوت: إنه بقدر: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ [البروج:1] ، و: إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ [الانشقاق:1] ، ولو قرأها الإنسان مرتلةً مجودةً ووقف على رؤوس الآي ما استغرق هذا منه ثلاث أو أربع دقائق، وإن زاد عن ذلك إلى الضعف فلا حرج في هذا؛ لأن الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى سئل عن قول إبراهيم النخعي في ذلك، فقال: يعجبني أن يزيد قليلاً، يعني: يزيد على هذا، فالزيادة ولو كانت إلى الضعف في نظري أنها لا تزيد عن عشر دقائق أو أقل من ذلك بيسير، وما نراه من مبالغة كثير من الناس في هذا الأمر فيه ما فيه، وللأسف الشديد أننا نرى كثيراً ممن يحرص على القنوت والإطالة فيه قرابة الساعة.
وصليت في أحد المساجد في أحد الرمضانات الماضية، وكان القنوت ساعة إلا ربع الساعة قنوتاً، وأما السجود فهو كنقر الغراب! وهو أفضل ما يكون فيه الإنسان وأقرب ما يكون إلى ربه، وموضع الدعاء حقيقة هو السجود فجعله كنقرة الغراب، والله لا أتم ثلاث تسبيحات حتى يرفع وهو موضع دعاء! وينبغي أن يكون هذا الوقت حبس الناس أن يكون في مثل هذا الموضع وأن يكون القنوت قدراً يسيراً، وأن يحرص على الجوامع من الدعاء، ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك من أفعال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وسواءً رفع يديه في القنوت أو لم يرفع فإنه لا حرج في هذا، وإن دعا من غير رفع فلا بأس، وإن دعا برفع فلا بأس، فإن النبي عليه الصلاة والسلام كما تقدم لم يقنت، والصحابة الذين قنتوا لم يثبت عنهم في ذلك شيء، وما جاء عن عمر و عبد الله بن عباس هو في قنوت النازلة لا في قنوت الوتر، فإن الأمر في ذلك على السعة، ولا حرج على الإمام أو المنفرد أن يقرأ من المصحف، ولا حرج أيضاً على من يتابعه أن يقرأ من المصحف كما جاء عن أنس بن مالك عليه رضوان الله تعالى أنه يصلي وغلامه خلفه معه المصحف يفتح عليه، وجاء هذا أيضاً عن الزهري حكايةً عن علماء المدينة، وقال بجوازه غير واحد من الأئمة كالإمام أحمد و الشافعي وغيرهم، وكذلك مروي عن الإمام مالك عليه رحمة الله، فيدل على أنه لا حرج في هذا، وكذلك جاء عن عائشة عليها رضوان الله تعالى.
ومن المهمات في هذا: أن يحرص الإنسان على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعاء القنوت، وهدي النبي عليه الصلاة والسلام كان بألفاظ الدعاء عامة، النبي عليه الصلاة والسلام كما قلنا: لم يثبت عنه أنه قنت في وتره، ولكن نقنت لهدي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ) ، وقد قنت عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى، وجاء هذا عن عبد الله بن مسعود وغيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما كانوا يقنتون أخذنا بهديهم في الدعاء، وكثير من الناس يستعجل في قنوته حتى لا يفهم السامع منه الدعاء، وربما دعا بشيء من التفصيل مما يكفي فيه الإجمال، أو ربما دعا بصالح الإنسان في عاجله وترك آجله، أو دعا بصالح نفسه وترك المأمومين، أو خص الإنسان نفسه بدعاء وترك ذريته وأهله، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يحرص على جوامع الدعاء، مما يعتني به الإنسان في صلاح نفسه وذريته وكذلك عاجل آمره وآجله.
ويحرص الإنسان أيضاً على الإكثار من قراءة القرآن، وأن يعرف أيضاً منازل ليالي رمضان من جهة الفضل، فإن أفضل الليالي هي العشر الأواخر من رمضان، العشر الأواخر هي أفضل الليالي على الإطلاق، وحتى أفضل من ليالي عشر ذي الحجة، عشر ذي الحجة أيامها أفضل، وأما الليالي فإن ليالي العشر الأواخر هي أفضل الليالي؛ لأن فيها ليلة خير من ألف شهر، وهذا ليس لليلة من الليالي على الإطلاق، يحرص فيها الإنسان تجرداً واعتكافاً وابتعاداً عن الناس، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر، اعتكف النبي عليه الصلاة والسلام واعتكف أزواجه، واعتكف النبي عليه الصلاة والسلام في شوال واعتكف أزواجه عليه الصلاة والسلام.
والاعتكاف هدي النبي عليه الصلاة والسلام، كان يعتكف في العشر الأواخر، والسنة في ذلك أن يدخل بعد غروب الشمس، إذا غربت الشمس دخل اليوم التالي، ولهذا الرجل المعدد يومه ينتهي بغروب الشمس وينتقل للأخرى، هذا الموعد انتهى، فإذا غربت الشمس انتهت مدة الأولى وجاءت مدة الثانية، وليس التوقيت الأوروبي من الساعة الثانية عشرة ليلاً، لهذا يقول الفقهاء في كتب الفقه، قال: ويتبع اليوم الليلة الماضية، كذلك أيضاً من جهة معرفة إذا قال الإنسان: والله لأقومن أو لأفعلن كذا يوم كذا وليلته، فاعلم أن الليلة هي الماضية التي له.
وبه يعلم أن كثيراً من اصطلاحات الوقت في التوقيت فيها نظر، منها ما يقولون: في البارحة، البارحة: تقال بعد الزوال، إذا كنا ضحى نقول: الليلة للأمس، فإذا جاء الزوال نقول: الليلة للقادمة والبارحة للأمس، إذا كنا ضحى قلنا: البارحة لليلة قبل أمس والليلة القريبة، هذا لفظ الشارع وما عليه اصطلاح العرب، بخلاف المتأخرين غيروا في هذا وبقي العرف.
ويحرص الإنسان على اتباع النبي عليه الصلاة والسلام في الاعتكاف، والنبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في الصحيحين وغيرهما كان إذا صلى الفجر دخل معتكفه، والمراد: دخل معتكفه، فهم بعض الفقهاء من المتأخرين وذهب إليه الأوزاعي أنه يدخل المعتكف، يعني: المسجد، وليس المراد بهذا أنه يدخل الخباء الذي ضرب النبي عليه الصلاة والسلام في مسجده؛ لأن النبي كان يقوم الليل وينام في النهار لأن الليالي أفضل، فإذا صلى الفجر دخل الخباء لينام.
وبه يعلم أن الإنسان الذي يفرط في الليل ليجلس بعد صلاة الفجر إلى الإشراق أنه ترك الفاضل لمفضول، ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك جلوس الإشراق إلى طلوع الشمس على النوم لتفضيله لقيام الليل والعناية به؛ لأنه أفضل من الجلوس إلى الإشراق في رمضان، ولهذا ينبغي للإنسان أن يعرف مراتب الخير وخيرها، ودركات الشر وأشرها حتى يعرف ما يأتي وما يتقي، كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرفون ذلك فبلغوا من المرتبة والمنزلة في هذا عند الله عز وجل أفضل ممن جاء بعدهم.
ويحرص في اعتكافه على الإكثار من قراءة القرآن وتلاوته وكذلك الصلاة والتنفل المطلق وذكر الله عز وجل على كل حين قائماً وقاعداً وعلى جنب، ويخرج من اعتكافه بعد غروب الشمس، وهذا الذي عليه جماهير العلماء، ثبت عن عبد الله بن عمر أنه يخرج بعد طلوع الفجر إلى العيد، والسنة أن يطعم تمرات كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيح من حديث أنس بن مالك : ( أنه كان يأكل تمرات يأكلهن وتراً عليه الصلاة والسلام ).
وأن يحرص الإنسان على تحري ليلة القدر في العشر الأواخر ويتحراها فيها، فإنها في الوتر أحرى وفي السابع أحرى، يقوم هذه الليالي ومن قامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام، ومن قام رمضان وحرص عليه كله وفق إلى الخير المذكور في هذا، فإنه يغفر له ما تقدم من ذنبه كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام، في حديث أنس بن مالك وحديث أبي هريرة في الصحيح وغيره.
وليلة القدر لا علامة لها سابقة، وما جاء في ذلك كله لا أصل له، والعلامة إنما هي لاحقة وأنها تخرج الشمس بيضاء لا شعاع لها، كما جاء في صحيح مسلم من حديث عبدة عن زر عن أبي عليه رضوان الله تعالى، يعني: لا شعاع لها صافية ناصعة قرص مستقل كالمصباح بلا شعاع، وهذه هي أصح العلامات في ذلك، وما جاء فيه أنها تكون ليلة هادئة لا حارة ولا باردة، هذا جاء من حديث عبد الله بن عباس عند البيهقي في شعب الإيمان وفضائل الأوقات، وقد أعله البيهقي أيضاً، ولا يصح في هذا الباب شيء، وكذلك في صياح الديكة أو نباح الكلاب ونحو ذلك، هذا كله مما لا أصل له يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإذا علم الإنسان برؤية أو نحو ذلك يحرص على ليلة بعينها ولا يدع بقية الليالي، ويستحب على قول بعض السلف -ولا يثبت في هذا شيء- إذا علم أن هذه الليلة ليلة يرجى فيها ليلة القدر أن يلبس جميل ثيابه وأن يتعطر ويتطيب كما فعل ذلك تميم الداري عليه رضوان الله تعالى كما رواه عنه ثابت البناني عن تميم : أنه كان عنده ثوب قيمته ألف درهم، اشتراه بألف درهم يلبسه في الليلة التي يرجو أو يظن أنها ليلة القدر، وجاء هذا عن بعض السلف وقد جاء عن حميد وجاء أيضاً عن ثابت البناني وغيره من السلف.
وهذا فيه بيان لفضل هذه الليلة زمناً، وكذلك فضل هذا المكان وهو المسجد أن يعتني فيه الإنسان تنظفاً وتطيباً وأن يأخذ زينته إلى المسجد من جهة الأصل، ويتأكد هذا في الأزمنة والأماكن الفاضلة، لظاهر الدليل العام من كلام الله عز وجل وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الكلام عن الصيام وأحكامه مما يطول جداً، وبحث مسائله مما يلزم له مجالس عديدة، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله، وأتينا ببعض المسائل الظاهرة وتركنا جملةً منها، وأتينا بشيء صالح لا بأس به.
أسأل الله عز وجل أن يجعلني وإياكم ممن يستمع القول ويتبع أحسنه، وأن يغفر لي ولكم وأن يسلك بي وبكم منهجاً قويماً وصراطاً مستقيماً، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
السؤال: يقول هنا: هل يجوز للمعتكف الشراء، لا سيما إذا كان محتاجاً إلى ذلك كالمعتكفين في مكة والمدينة؟
الجواب: لا حرج على الإنسان أن يذهب ويأتي بطعام كالمعتكف مثلاً، أو يأتي بلباس، اتسخ لباسه ويذهب للإتيان بلباس إذا كان لا يجد من يخدمه في هذا، وألا يخرج إلا لضرورة، النبي عليه الصلاة والسلام كان يدخل رأسه في حجرة عائشة فترجله، وهذا فيه نوع من التكلف، إدخال الرأس حتى يرجل وهو معتكف النبي عليه الصلاة والسلام، وألا يذهب لأمور الترفه، ولا يذهب للأمور التي لا يحتاجها الإنسان حاجةً ماسةً، وأما الطعام إذا كان لا يجد طعاماً ونحو ذلك فلا حرج عليه أن يخرج، أما إذا كان يجد من ينيبه فلا يخرج، كأن يكون مثلاً عشرة في المسجد كلهم يخرجون يأتون بالأكل، لا، يذهب واحد منهم ويأتي بالأكل للبقية.
الاعتكاف ليس نزهةً، بل تفرغ وعبادة، ولهذا يقول الإمام مالك عليه رحمة الله كما في رواية نافع : نظرت إلى الاعتكاف وعدم اعتكاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركهم له وكذلك من بعدهم إلا لشدته، هذا هو الاعتكاف: إكثار العبادة والتفرغ لها، الآن كثرت الوسائل يعتكف وينشغل في الجوال اتصالات، يتذكر الأرحام والأبعدين والقريبين والبعيدين حتى يصل الأرحام، واتصال بأمور فضول، بل بلغني أن بعضهم يأتي بالإنترنت في المساجد، ثم ينشغل بمتابعة أخبار العالم ويقول: إني معتكف، هذا لعب، ليس اعتكافاً! الإمام مالك يقول: تأملت تركهم ذلك، قال: لشدته، ولم يعتكف إلا أبو بكر و عبد الرحمن مع عدم التسليم بقول الإمام مالك : أنه لا يعتكف، بل ثبت اعتكاف يعلى بن أمية وثبت اعتكاف أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم والحري بهم أيضاً أنهم يعتكفون، وقد جاء في الصحيح أن أزواج النبي عليه الصلاة والسلام اعتكفن بعده، و يعلى بن أمية كما رواه ابن أبي شيبة في المصنف أنه قال: إني أدخل المسجد ساعةً ولا أنوي إلا الاعتكاف.
وهو من السنن المتأكدة التي ينبغي للإنسان أن يحرص عليها ولا يخرمها بالخوارم المباحة من فضول القول وفضلاً عن الإسفاف أو الجدل أو الفسوق ونحو ذلك، وليعلم أن بعض الفقهاء يرى أن المحرمات تفسد عليه اعتكافه، كما جاء هذا عن عطاء وكذلك مجاهد و سعيد بن جبير وغيرهم من السلف، كون المحرم الاعتكاف يبطل حكي هذا عن قول جمهور العلماء، أما الكبيرة فجماهير السلف والأئمة الأربعة يرون أنها تبطل الاعتكاف.
السؤال: يقول: امرأة بقي عليها من رمضان الماضي عدة أيام، صامت بعضها قبل شهر رمضان الحالي، ولم تستطع صيام الأيام الباقية بسبب ظروف صحية مرت بها، وهي الآن تصوم شهر رمضان؟
الجواب: تقضي بعد انصرام رمضان هذا، تقضي ما عليها ولا شيء عليها على الصحيح، وهذا قول عبد الله بن مسعود وذهب إليه جماعة من فقهاء الكوفة كـعلقمة و الأسود وذهب إليه أيضاً أبو حنيفة عليه رحمة الله تعالى، وذهب بعض الفقهاء إلى أنه يجب على من أخر صيامه مع عدم العذر إلى رمضان الآتي، أنه يجب عليه مع القضاء إطعام، وذهب إلى هذا عبد الله بن عباس و عبد الله بن عمر وذهب إليه جمهور الفقهاء، والصواب أنه ليس عليها شيء، بل تركت الوقت الفاضل إلى المفضول، فيبقى الأمر في ذمتها لثبوت هذا عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى، وهو من علية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقهاً.
السؤال: يقول هنا: ما حكم تلحين الدعاء وإخراجه مخرج القرآن؟ وما حكم السجع فيه؟ وما حكم الصياح ورفع الصوت؟ وهل تبطل الصلاة به؟
الجواب: مسألة التلحين في الدعاء لا أعلم فيها نصاً لا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة، وإنما جاء عن مجاهد بن جبر عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى أنه دخل مسجداً فسمع مؤذناً يؤذن يتغنى بأذانه فقال: اخرج بنا من البدعة وهو الأذان، ولو دعا الإنسان بغير إدغام أو من غير مبالغة بضبط لفظ كالقرآن بتلحين فهو أحسن، القرآن يتغنى فيه ما لا يتغنى في غيره من الكلام، أما المبالغة بالدعاء بالتلحين فلا أراه هدياً، والأولى أن يأتي به الإنسان سليقةً، بعض الناس يقول: هذه سليقتي، أنا أرتل القرآن، أقوم ساعة كاملة ثم يأتي الدعاء على نفس الوتيرة، نقول: لا بأس لكن لا تتكلف، ولو دعا من غير تغن وتلحين فهو الأقرب للهدي، ولهذا كثير من الناس يقصده الناس لتلحينه في الدعاء.
أما مسألة البكاء النشيج، فقد جاء عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى كما رواه ابن المنذر و البيهقي وغيرهم من حديث عمرو عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى أنه صلى بهم فقرأ سورة يوسف حتى بلغ قول الله جل وعلا: وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ [يوسف:84] ، قال: فأخذ له نشيج، وإني لأسمع نشيجه وأنا من وراء الصفوف، والصحابة كانوا كثراً، والدليل على الكثرة أنه كان ربما يتغير الإمام ولا يعلمون، كما جاء في مقتل عمر ، لما طعن عمر ما علم بقية الصحابة ووضع له خليفة فصلى بالناس، ومن كان في آخر الصفوف لا يعلم إلا أنه فقد صوت عمر مما يدل على كثرة الناس، فلما سمع نشيجه في آخر الصفوف مما يعلم أن البكاء الذي يغلب الإنسان ولا يستطيع دفعه أنه مما لا حرج فيه.
أما الصراخ! فالصراخ شيء والبكاء شيء آخر، الصراخ هذا ليس من الهدي، النشيج مما يغلب على الإنسان ونحو ذلك، فهذا يدفعه الإنسان بما يستطيع، ولهذا كان السلف كما جاء عن عمر، وروي مرفوعاً أنه كان إذا أخرته سعلة واختنق بالبكاء وما استطاع أن يكمل ركع، ولا يأخذ يبكي ساعة ثم يكمل ونحو ذلك، أو يأخذ خمس دقائق ينتظر أن يهدأ ونحو ذلك، لا، هذا ليس من الهدي، بل ينبغي أن يركع، فإذا قام مرةً أخرى استقبل ما ترك من القراءة.
السؤال: يقول هنا: أرجو أن تذكر لنا رداً على ما يوعيه الشيطان إلى ألسنة العامة حينما ننكر عليهم، فيقولون: انظر للقارئ فلان والشيخ فلان! وكل الناس غلط وأنت صح.
الجواب: أولاً: نحن في زمن قل الفقه فيه وكثر فيه القراء، من يضبط الحروف ولا يضبط الحدود، قد روى الدارمي في كتابه السنن من حديث منصور عن شقيق عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى، قال: كيف بكم إذا ألبستم فتنةً يهرم فيها الكبير ويربو فيها الصغير، ويعمل فيها بغير السنة، فإذا تركت قالوا: تركت السنة، قالوا: متى يا أبا عبد الرحمن ؟ - وتأملوها كلها موجودة - قال: إذا كثر قراؤكم، وقل فقهاؤكم، وكثر أمراؤكم، وقلت الأمانة فيكم، وابتغيت الدنيا بعمل الآخرة، وهذا كله موجود، لا يفرق بين القارئ والفقيه، أصبح القارئ بين يوم وليلة يفتي، ضبط التجويد الإخفاء والإظهار والإدغام وأفتى في السياسية والفقه وأمور الإسلام العظام، وهذا من المشكلات!
والإشكال أن العامة لا يفرقون بين الفقيه وبين القارئ، وهذا ما ظهر، وليس كل من يشار إليه بالمشيخة أو يشار إليه بطلب العلم عالم، نحن أمة دليل، قد يطمس الحق ويظن الناس أن الباطل حق، ولشدة تمسكه يتمسكون به لا عادةً بل تعبداً، ولهذا قال: يعمل فيه بغير السنة، فإذا ترك يعني: غير السنة، قالوا: تركت السنة، يدافعون عنه بحسن قصد ونية أن هذا سنة، لماذا تركناه؟ لماذا هذا؟ بجهل الدليل، هذه الأمة أمة دليل، مر على هذه الأمة أربعة عشر قرناً أو أكثر من ذلك، مر عليها من المدارس الفقهية ومن الآراء ما ينبغي أن يرجع فيه إلى الدليل ولا يقيد بفلان وفلان، إذا ثبت لدينا الدليل من كلام الله عز وجل وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن هدي أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فنحن على اتباع وهدى وعلى نور، وأما إذا أخذنا بقول فلان وفلان تعددت السبل وتنوعت المسالك وضلت الأمة وحدنا عن الطريق الحق.
في هذا كفاية، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر