بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا ورسولنا وحبيبنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد:
قال البيقوني رحمه الله تعالى:
[ وكل ما عن رتبة الحسن قصر فهو الضعيف وهو أقساماً كثر ]
فقد ذكر المصنف رحمه الله القسم الثالث من أقسام الحديث باعتبار حكمه وهو الحديث الضعيف، فقال: (وكل ما عن رتبة الحسن قصر)، ذكر هنا ما عن رتبة الحسن قصر، ليدخل في ذلك الضعيف بأعلى مراتبه، ويدخل في ذلك ما دونه، وذلك كالضعيف جداً، والمنكر، والمطروح، والمتروك، والموضوع، والمكذوب، وغير ذلك من أنواع وأجناس الضعيف، فذكر الضعيف بأعلاه ليدخل في معناه أدناه من باب أولى، ولهذا قال: (وكل ما عن رتبة الحسن قصر).
ويدخل في ذات الضعيف ما كان ضعيفاً في نفسه ولو اعتضد بغيره، وما كان ضعيفاً في نفسه ولو لم يعضده غيره، فهو داخل في هذا التعريف في الاصطلاح.
تقدم معنا أنه في كلام بعض الأئمة الأوائل جعل الحديث على قسمين: حديث صحيح وحديث ضعيف، ولا يجعلون مرتبة وسطاً في ذلك، ويجعلون الضعيف على نوعين: ضعيف يحتج به وضعيف لا يحتج به، وهم يختلفون ويتباينون في ذلك، ويتوسع الفقهاء في هذا الباب، وذلك لضعف عنايتهم بأبواب العلل، فيتوسعون بالاحتجاج بالضعيف، فيخلطون بين الضعيف الذي يحتج به، وبين الضعيف الذي لا يحتج به، وكلما كان الفقيه بالسنة والحديث أقل دراية فإنه أكثر جسارة في الاحتجاج بالحدث الضعيف، ولهذا تمتلئ كتب الفقه بالاحتجاج بالحديث الضعيف في أبواب الأحكام، والأئمة عليهم رحمة الله يجمعون على عدم الاحتجاج بالحديث الضعيف في الأحكام، إلا في بعض الصور.
من هذه الصور الحديث الضعيف الذي يعتضد بغيره، فهو ضعيف في ذاته، لكنه صحيح لغيره، أو حسن لغيره، وهذا يحتجون به، وكذلك أيضاً الحديث الضعيف في أبواب الاحتياط، وذلك ككراهة التنزيه، فإن الإمام أحمد عليه رحمة الله ينزع هذا المنزع، وكذلك أيضاً بعض الأئمة في بعض المسائل كـالشافعي رحمه الله فإنه يميل إلى الأخذ بالحديث الضعيف في أبواب الاحتياط.
معنى أبواب الاحتياط: أي الفعل الذي يتضمن كراهة، وذلك أنه ليس بتعبد ولا ديانة، وإنما تروك واحتياط؛ وذلك أنه لا يكلف بالفعل ويؤخذ بالترك، فيأخذ بهذا في كثير من المسائل: ولو كان الحديث في ذلك ضعيف، وذلك كمسألة النهي عن المشي بخف واحدة، وغير ذلك من أمور التنزيه التي لا تصل إلى مرتبة التحريم، فإذا جاء في حديث ولم يكن ثمة شيء يحسم هذه المسألة من الأحاديث الصحيحة فإنه يأخذ بهذا، وهذا مسلك لكثير من الأئمة النقاد للعمل بالحديث الضعيف في أبواب الاحتياط وكذلك في العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، فإنهم يقولون بذلك.
والعمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال له شروط عند الأئمة:
الشرط الأول: ألا يكون الحديث شديد الضعف، بل ضعفه متوسط يسير، فليس بالحسن حتى يحتج به، ولا بشديد الضعف حتى يترك، وإنما هو ضعيف متوسط الضعف.
الشرط الثاني: يقولون: بأن المسألة التي دل عليها الحديث لا بد أن يكون قد دل على أصلها حديث آخر، بمعنى أن الحديث جاء بالفضل والأجر، وأما التشريع فثبت في حديث آخر، وهذا ما ينبغي أن يتنبه له، أن بعض الناس يظن أن كل حديث جاء في عبادة ليست بواجبة من السنن والمستحبات أن هذا من فضائل الأعمال وهذا خطأ؛ وذلك أنه لا بد أن تكون العبادة التي جاء فيها الدليل ثبتت في حديث آخر، مثلاً كصلاة الضحى فهي ثابتة في أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما، ولكن لو جاء حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام في أجر فاعلها، هذا في الأجر أم في التشريع؟ هذا في الأجر.
ولهذا العلماء يقولون: الحديث في فضائل الأعمال لا في الأعمال، وبعض الناس يحمل الحديث الضعيف في كلام العلماء على جواز روايته في الأعمال لا في فضائلها، فالعمل ثابت في حديث آخر، فإذا جاء حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام وهو ضعيف، فانظر إلى العمل الذي جاء به، هل ثبت في حديث آخر أم لا؟ فإذا ثبت في حديث آخر وهذا الحديث إنما استقل بالأجر والفضل فإنك تحدث به في أمور التذكير والوعظ وغير ذلك، ولهذا يرخص في هذا العلماء.
الشرط الثالث: ألا يجزم بنسبته للنبي عليه الصلاة والسلام، فيذكر بصيغة التمريض فيقال: يروى أو يقال عن النبي عليه الصلاة والسلام، أو روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يجزم بذلك.
والأحاديث الضعيفة كما تقدم هي على مراتب: منها ما يدنو من الحسن، وهذا من مواضع الخلاف، وما كان من الحديث الضعيف وهو قريب من الحديث الحسن فهو أيضاً يشكل كما يشكل الحديث الصحيح القريب من الحديث الحسن بمعرفة المرتبة، مع أن الحديث الصحيح الذي في أدنى مراتب الصحة وأعلى مراتب الحسن يحتج به بخلاف الحديث الضعيف، فإنه مشكل في مسألة الاحتجاج إذا كان قريباً من الحديث الحسن.
يقول: (فهو الضعيف وهو أقسامٌ كثر)، والضعيف هو ضد القوي، وإنما سمي ضعيفاً؛ لأنه لا يقوم بنفسه، فلا بد للحديث أن يقوم بنفسه أو أن يقوم بغيره، وهو الاعتضاد، وقد صنف العلماء عليهم رحمة الله في الأحاديث الضعيفة وجمعها حتى يحترز في ذلك، وصنف العلماء مصنفات في الرواة الضعفاء، وذلك كالضعفاء للبخاري، والضعفاء للنسائي، والضعفاء للعقيلي، وغيرها من المصنفات في هذا الباب.
وثمة مظان للحديث الضعيف، كما أن ثمة مظاناً للحديث الصحيح.
وهناك شيء يتعلق بالحديث الضعيف، وهو عناية طالب العلم بالحديث الضعيف، هل يعتني به أو لا يعتني به؟ نقول: لا بد لطالب العالم أن يعتني بالبابين بالحديث الضعيف والحديث الصحيح، لكنه من جهة الابتداء يعرف الحديث الصحيح، فإذا استوعبه يأخذ الحديث الضعيف، والمسالك في ذلك على طريقين:
الطريقة الأولى: أن يستوعب طالب العلم الحديث الصحيح منفرداً، ثم إذا انتهى منه استوعب بعد ذلك الحديث الضعيف.
والطريقة الثانية: أن يعمد طالب العلم إلى كل مسألة من المسائل فيأخذ الصحيح والضعيف منها منفرداً، فيأتي إلى مسألة من المسائل كالطهارة، فيستوعب الأحاديث الصحيحة ثم يرجع بعد ذلك إلى معرفة الأحاديث الضعيفة، وهذه الطريقة الطريقة الثانية هي أدق، وهي أقرب إلى التحقيق، أن يعرف طالب العلم الحديث الصحيح والضعيف حتى يعرف حجج المخالفين، وهي أيسر كذلك على طالب العلم، وكذلك تعطيه ملكة في هذا.
وكان الأئمة عليهم رحمة الله يعتنون بمعرفة الحديث الضعيف حتى يعرفوا حجج الخصوم، ويعرفوا أيضاً مفاريد الرواة التي يشذون فيها، وأحاديثهم الضعيفة حتى لا تختلط بغيرها، ولهذا ربما يحفظون نسخ الضعفاء حتى لا تلتبس بمروياتهم؛ لأنهم كانوا يكتبون الأحاديث بالأسانيد من غير نقط، فربما رأوها فظنوا أن هذا الحديث حديث لفلان، فمثلاً: أبان وثابت ربما يستشكلون هذا وهذا في بعض الرسوم والخطوط، فيظنون أن هذا حديث فلان، وهذا ليس بحديثه؛ ولهذا الإمام أحمد رحمه الله جمع الحديث الصحيح والضعيف في كتابه المسند؛ لأنها أحاديث تدور بين الناس.
وتارة يلزم طالب العلم بمعرفة الحديث الضعيف لا لذاته، ولكن ليبين لغيره ضعف حجته ليسلم من التعلق بالضعيف، ولهذا الإمام أحمد لما صنف كتابه المسند دفعه إلى ابنه عبد الله فقال: خذ هذا الكتاب وهذا المسند فعليه يدور الناس، يعني: من جهة الاحتجاج سواء داروا بصحة أو داروا بضعف، والإمام أحمد رحمه الله شرطه في كتابه المسند أن يجمع الحديث المشتهر عند الفقهاء، وربما لا يكون مشتهراً عند بعض المتأخرين، أو عند أوساط المتعلمين، لكنه مشتهر عندهم في ذلك الزمن، أو في أفواه الفقهاء؛ فأورده حتى يبين في ذلك؛ ولهذا يحكم على الأحاديث في كتابه المسند بالضعف في بعض المواضع، فيقول لابنه: اضرب عليه، أو هذا منكر، أو هذا شاذ.
قال رحمه الله:
[ وما أضيف للنبي المرفوع وما لتابع هو المقطوع ]
يقول رحمه الله هنا: (وما أضيف للنبي المرفوع)، تقدم أن العلماء يقسمون الحديث باعتبارات، من هذه الاعتبارات اعتبار قائله، وهذا ما قصده المصنف رحمه الله هنا أن الحديث باعتبار قائله يقسم إلى أقسام:
أول هذه الأقسام وأعلاها: هو الحديث المرفوع، والحديث المرفوع على نوعين: حديث قدسي، وحديث نبوي، وكلها وحي، واختلافها اختلاف تنوع، والنبي صلى الله عليه وسلم كلامه وحي، كما قال الله: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى[النجم:3-4].
والحديث القدسي والنبوي كلها تسمى مرفوعاً، وإنما سمي مرفوعاً لعلو وشرف قائله على من دونه؛ لأنه أعلى مواضع النزول، فأعلى شيء ينزل منه القول في الدين هو الوحي، ولهذا كان الحديث الذي ينسب للنبي عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه مرفوعاً؛ لأن ما كان دونه فهو نازل عنه، فكأنه رفع الأمر إليه، ولهذا جاء كما عند الخطيب البغدادي عن أحمد بن زيد بن هارون قال: إنما هي -يعني: الشريعة- صالح عن صالح، وصالح عن تابع، وتابع عن صاحب، وصاحب عن رسول الله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل، وجبريل عن الله.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينسب أقواله إلى ربه؛ لأنه معلوم أنه ما ينطق عن الهوى، فينسب الأمر إليه؛ لأن الله عز وجل جعله مبلغاً، فكلما يقوله النبي عليه الصلاة والسلام الأصل فيه أنه وحي.
ويقول رحمه الله هنا: (وما أضيف للنبي المرفوع) صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام لمقتضى النظم، وهنا الصلاة عليه هل تجب عند سماع النبي عليه الصلاة والسلام أم لا تجب؟ نقول: الصلاة عليه على نوعين: صلاة مكتوبة، وصلاة ملفوظة، أما بالنسبة للملفوظة فتجب مرة واحدة، وتستحب فيما عدا ذلك، فإذا كان الإنسان يستمع إلى خطبة أو يستمع إلى قارئ يقرأ حديثاً أو نحو ذلك، وذكر النبي عليه الصلاة والسلام وجب عليه أن يصلي عليه ولو مرة، إما في ابتدائه أو في انتهائه، وما عدا ذلك فهو مستحب.
وأما بالنسبة للكتابة فتستحب ولا تجب، وإنما على ما تقدم إن مرت عليه أنه يصلي ولو مرة واحدة، ثم يمرها بعد ذلك، ولهذا بعض السلف يغتفر في أمر الكتابة إذا مر على اسم النبي عليه الصلاة والسلام أن يصلي بلفظه ويختصر ذلك كتابة ولا يكتبها تدويناً، باعتبار أنها موجودة لفظاً، وهذا قد ذكره غير واحد من الأئمة، أشار إلى هذا الخطيب البغدادي، وذكره أيضاً ابن حجر رحمه الله في أوائل الفتح، ونقله عن الإمام أحمد عليه رحمة الله أنه ربما كتب اسم النبي، ولم يكتب الصلاة مكتفياً بالصلاة لفظاً، فهذا مما لا حرج فيه.
ويقول: (وما لتابع هو المقطوع).
هنا ذكر المرفوع إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وذكر ما كان عن التابع المقطوع، وثمة الموقوف، وهو ما كان من قول الصحابي عليه رضوان الله، فما كان عن صحابي فهو موقوف، وما كان عن تابعي وما دونه فهو مقطوع، والمراد بالتابعي: هو من أدرك وسمع صحابياً وزيادة، وأعلى التابعين منزلة من أدرك وسمع من الخلفاء الراشدين الأربعة، كـقيس بن أبي حازم وأبي عثمان النهدي وأضرابهم، وكلما نقص التابعي إدراكاً لأعلى الخلفاء الراشدين كان دون أولئك مرتبة، فيليهم مرتبة من أدرك عمر ومن بعده، ويليهم مرتبة من أدرك وسمع عثمان ومن بعده، ويليهم مرتبة من أدرك وروى عن علي ومن بعده، وهكذا.
ثم بعد ذلك أعظمهم منزلة من جهة الرواية والدراية من جمع الرواية عن أهل الرواية والدراية من الصحابة، فروى عن الفقهاء، وذلك كالعبادلة: عبد الله بن عباس، عبد الله بن عمر، عبد الله بن عمرو، عبد الله بن مسعود، فروى عن هؤلاء وجمع فقههم، فهذا ربما يقدم على غيره ممن سبقه وقلت روايته، يقدم على غيره، لماذا؟ من جهة الإحاطة والاستيعاب لمسائل الدين لا للفقه القائم في ذاته، لماذا؟ لأنه كلما تقدم الراوي منزلة قل حديثه، لماذا؟ لأنه يوجد من هو أعظم منه؛ لهذا تجد الطبقة الأولى من التابعين الذين أدركوا الخلفاء الراشدين الأربعة حديثهم قليل، لماذا؟ لأنه كيف يحدثون والصحابة موجودون؟ فيتركون الحديث لغيرهم، حتى إنهم توفوا وقد بقي بعض الصحابة، فكانوا يحيلون الأمر إليهم، ولهذا نجد أن الحديث عن أبي بكر الصديق قليل، لماذا؟ لأنه مضى جل عمره والنبي صلى الله عليه وسلم شاهد، مع أن لديه حديث وأحوال عن النبي صلى الله عليه وسلم، حتى في مكة، لكنه ما مكن من جهة النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إلا زمناً يسيراً، وهو نحو السنتين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا كما أنه في الصحابة هو كذلك أيضاً في التابعين، ولا يعني عدم النقل وكثرة الحديث عنه أن المكثر أفقه من المقل، لا، وإنما قد يتمكن المكثر من النقل زمناً ولا يتمكن المقل من الرواية زمناً.
والأحاديث المرفوعة إلى النبي عليه الصلاة والسلام كثيرة، ولها مظانها، وذلك كالكتب الستة، ومسند الإمام أحمد، ومسند الدارمي وصحيحي ابن خزيمة وابن حبان، والمسانيد عموماً، هذه مظان الحديث المرفوع، وأما بالنسبة للموقوف والمقطوع فلها مظانها أيضاً، الأحاديث الموقوفة والمقطوعة هي في كتب المصنفات، كمصنف ابن أبي شيبة، ومصنف عبد الرزاق، وشرح معاني الآثار للطحاوي، وكتب ابن المنذر، وموطأ الإمام مالك، وكتب البيهقي، كمعرفة السنن والآثار، والسنن الكبرى، وكتب التفسير كتفسير ابن جرير، وتفسير عبد بن حميد، وتفسير ابن المنذر، وتفسير البغوي، وغيرها من المصنفات التي تعتني بالرواية عن الصحابة وكذلك عن التابعين.
قال رحمه الله:
[ والمسند المتصل الإسناد من راويه حتى المصطفى ولم يبن ]
وهنا يقول: (والمسند المتصل الإسناد من)، ذكر هنا حالاً آخر لذكر أنواع الحديث، وهو المسند ويقابله غير المسند، وهو ما لم يكن له إسناد متصل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك كالمعلقات أو المعضلات، أو المنقطعات، ونحوها مما لم يتصل إسنادها، وهذا اصطلاح أغلبي في وصف المسند أنه ما اتصل إسناده.
وقد يتجوزون في ذكر المسند وهو فيه انقطاع، ولهذا الإمام أحمد صنف كتابه المسند، وكذلك البزار والدارمي، وغيرهم، صنفوا المسانيد وفيها منقطعات وهم يعلمون، لكنها ليست غالبة.
قال: (والمسند المتصل الإسناد من راويه حتى المصطفى ولم يبن)، يعني: لم يكن فيه انقطاع، ولا قصر أيضاً بالرواية إلى من دونه، فهذا هو المسند، ولهذا مظان الأحاديث المرفوعة كتب المسانيد، والموقوفة كتب مصنفات الآثار، وتقدم معنا الكلام على الإسناد وأنه هو: سلسلة الرواة الموصلة إلى المتن، ولكن من جهة الاصطلاح غلب استعماله على ما نسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسناد بين.
قال رحمه الله:
[ وما بسمع كل راو ٍيتصل إسناده للمصطفى فالمتصل ]
وهنا بعد ما ذكر المسند ذكر شيئاً من علل الاتصال والانقطاع، أي: أن الأحاديث المسندة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن غيره على أحوال، إما أن تكون متصلة بجميع طبقات السند، وإما أن يكون فيها انقطاع، والانقطاع بحسب مواضعه، ويأتي الكلام عليه بإذن الله تعالى.
وهنا يقول: (وما بسمع كل راوٍ يتصل إسناده للمصطفى فالمتصل)، يعني: الحديث إذا وصف بأنه متصل فالأصل في ذلك أنه يوصف بالمرفوع، وهذا أيضاً من مواضع الخلاف، هل الحديث إذا أطلق عليه متصل يراد به المرفوع، أم يطلق على كل إسناد اتصل السماع برواته من أوله إلى آخره، ولو كان موقوفاً أو مقطوعاً؟ هذا بحسب اصطلاح العلماء عليهم رحمة الله، وكل له منهجه.
قال رحمه الله:
[ مسلسل قل ما على وصف أتى مثل أما والله أنباني الفتى
كذاك قد حدثنيه قائماً أو بعد أن حدثني تبسما ].
التسلسل هو مأخوذ من السلسلة، وهي أنه يشبه بعضها بعضاً على صفة أو حال واحدة، فرواية الإسناد هي سلسلة الرواة، ولهذا يعرف الإسناد: بأنه سلسلة الرواة الموصلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وموصلة إلى المتن، فهؤلاء كحلق السلسلة، والإسناد منه ما هو مسلسل ومنه ما ليس بمسلسل، والمسلسل إما أن يكون مسلسلاً بالنساء مثلاً، أو مسلسلاً بالرجال، أو مسلسلاً بصيغة سماع معينة كحدثنا وأخبرنا وأنبأنا، أو مسلسلاً بالعنعنة، أو مسلسلاً بالأنأنة، أو مسلسلاً بقال، أو أنبأنا، أو سمعنا، أو غير ذلك من الألفاظ، فأي نوع من أنواع المماثلة في كل طبقة من الطبقات يقال لها: مسلسل بكذا.
وأكثر الأحاديث المسلسلة في غير صيغ السماع معلولة، يوجد أحاديث مسلسلة بالعنعنة، ويوجد أحاديث مسلسلة بصيغ السماع، ولكن بغير صيغ السماع فالأحاديث في هذا معلولة، وذلك كالأحاديث المسلسلة بالمحمدين مثلاً أو المسلسلة بالأحمدين، أو مسلسلة بالفقهاء، أو المسلسل بالمصافحة، أو غير ذلك، هذه الأحاديث أحاديث معلولة يذكرها الفقهاء والأئمة المحدثين من باب التفنن في معرفة أنواع وأجناس الأحاديث والأسانيد حتى توسع الناس في ذلك فصنفوا جملة من المصنفات فيما يسمى بالأحاديث المسلسلة، أو الأحاديث المسلسلات، يعني: على نوع من الأنواع، وهذا نوع من الترف الحديثي الذي لا أثر له في التطبيق.
بعض من يتكلمون نظرياً على قواعد الحديث يقول: إن بعضه يفيد في ثبوت السماع، نقول: هذه دعوى، وأما من جهة العمل، فنجد أن كثيراً من المسلسلات فيها ضعف لا تصح أسانيدها، وإثبات التسلسل فيها يحتاج إلى نظر، فلا بد من إعمال الحديث وصنعته في ذلك، وأصح الأحاديث المسلسلة هو: ( الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في السماء يرحمكم من في الأرض )، وهو في السنن.
وطرائق العلماء عليهم رحمة الله في ذكر أوصاف الحديث المسلسل لا حد لها في ذلك ولا حصر، منه ما هو مسلسل نسبي، ومنه ما هو مسلسل مطلق، المسلسل النسبي يكون بالنسبة إلى طبقة معينة، فالمسلسل من أوله إلى آخره لا وجود له إلا في صيغ السماع، وإن وجد ففيه دخل، يعني: أنه مدخول إما بكذب أو ورود جهالة فيه فيطعن فيه لذلك، وأما التسلسل النسبي فهو بالنسبة إلى طبقة معينة، فيقال: إنه مسلسل بكذا من طبقة كذا، فيوجد أحاديث كثيرة نسبية صحيحة إلى أولها، لا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كالمسلسلة بالحنابلة مثلاً، أو مسلسلة بالشافعية، فتسلسل الشافعية يكون صحيحاً في هذا، أي: أن الأئمة الشافعية يروون عن بعضهم، لكن هل الحديث هو صحيح للنبي عليه الصلاة والسلام بكامله لا، لا يوجد شيء من ذلك إلا في صيغ السماع.
وهنا في ذكره لهذه الأمثلة يقول مثل:
(أما والله أنبأني الفتى
كذاك قد حدثنيه قائماً
أو بعد أن حدثني تبسماً)
وهذا يذكر فيه الصيغ أو الأنواع التي يوصف بها الحديث بالتسلسل، وهذا أيضاً على ما تقدم الكلام عليه أنه لا ثمرة له من جهة العمل إلا ما يذكره بعض المحدثين أنه يفيد بإثبات السماع، وهذا أيضاً مدخول على ما تقدم الكلام عليه، أوصل كثيراً من المتأخرين إلى المبالغة والتكلف حتى أنه يقوم كي يحدث ويثبت أنه قائم، أو يحدث وهو على المنبر، فيقوم على المنبر في غير جمعة، أو يتكلف الابتسامة فيبتسم ليحدث بحديث وهو لا يريد الابتسامة حتى يدخل في ضمن هذه السلسلة، وهذا إن أثبت أنه حدث شخصاً بالابتسامة وحدثه شيخه وهو لا يدري من حدث هل كان مبتسماً أو ليس بمبتسم وهذا فيه ما فيه.
وقد أجازني أحد الشيوخ بجملة من الأحاديث المسلسلة بالابتسامة والقيام والقبض على اللحية وغير ذلك، وهو لم يفعل ذلك كله، فأخذت إجازته هذه وأحرقتها، لماذا؟ لأنها كذب، لم يبتسم ولم يقف على منبر، ولا صافحني، ولا قال: أحبك في الله، ولم يقع شيء من هذا، إذاً مسلسل أو ليس بمسلسل؟ ليس بمسلسل، ولهذا نقول: هذا داخل في دائرة التكلف، وأما ما كان ثابتاً من ذلك فيثبت ويحترم، وهذا لا يقال بعدمه ما دام أنه موجود.
فاقتداء بفعل النبي عليه الصلاة والسلام لا يحتاج أن يبتسم الشيخ عند التحديث، لكن يبتسم لأي شخص سواء حدث أو لم يحدث، اقتداءً بالنبي عليه الصلاة والسلام، أو المصافحة إذا أراد أن يصافح أحداً، يصافحه من غير سماع حديث أو أثناء السماع.
وقد تقدم الكلام على أن من وجوه عناية بعض المحدثين بالمسلسلات أنها تفيد الاتصال، ولكن المسلسلات تعاني من جملة من العلل، منها الجهالة، وهذا كثير، تعرف الشيخ، لكنه شيخ الشيخ مجهول، أو ربما في طبقة معينة، وهذا المعرفة فيه قليلة، لذا يوجد من المسلسلات ما هو مسلسل بمشاهير ولكنها قليلة، لكن لا بد أن يكون فيها خلل، إما خلل إسنادي وعلة، وإما خلل في تسلسلها، فتضعف في آخر الإسناد أو في أوله.
قال عليه رحمة الله:
[ عزيز مروي اثنين أو ثلاثة مشهور مروي فوق ما ثلاثة ]
وهنا ذكر المصنف رحمه الله ما يتعلق بتقسيم الحديث باعتبار إسناده، وقد تقدم معنا الإشارة إلى الحديث المتواتر والحديث الآحاد، وذكرنا الكلام في هذه المسألة أيضاً في صدر هذه المجالس، وأن هذا التقسيم إنما هو تقسيم اصطلاحي جرى عليه العلماء، ومنشأ ذلك من المتكلمين، وهو من التقسيم النظري الذي لا أثر له عند النقاد، ويكفي في هذا أن العلماء عليهم رحمة الله سواء كانوا نقاداً من أهل الصنعة من أئمة العلل، أو كانوا أيضاً من المحدثين، أو كانوا من الأصوليين المتكلمين يختلفون مع غيرهم في كل نوع، فتجد أن المتواتر عند المتكلمين الأصوليين فيه خلاف حتى في دائرتهم، وأيضاً عند المحدثين من أهل الاصطلاح أنهم يختلفون في ذلك، والنقاد كذلك معنى يختلف عن غيره، فتجد أن المتواتر عند الأئمة كالإمام أحمد عليه رحمة الله هو ما تلقته الأمة بالقبول، وعند أهل الاصطلاح هو ما يرويه جمع مستفيض من الرواة ينقلونه عن بعضهم في كل طبقة يستحيل تواطؤهم على الكذب، وأيضاً هذا العدد يتباينون ويختلفون فيه.
وعلى هذا فكلام الإمام أحمد رحمه الله في أن المتواتر ما تلقته الأمة بالقبول معناه أن كل ما في البخاري ومسلم متواتر؛ لأن الأمة قد تلقته بالقبول، على هذا المعنى لا يدخل في دائرة المحدثين الذين يتكلمون في قواعد المصطلح، ولا يدخل أيضاً عند المتكلمين من أهل النظر والرأي من علماء الأصول، فذكر المصنف رحمه الله شيئاً من هذا التقسيم المتعلق بحديث الآحاد، وهو على ما تقدم معنا يقسم إلى عدة أقسام: أولها المشهور، ثم المستفيض، ثم العزيز، ثم الغريب.
يقول هنا: (عزيز مروي اثنين أو ثلاثة)، وإنما سمي عزيزاً لعزة وجوده وندرته، وهو أن يروي الراوي عن اثنين من أول السند إلى منتهاه، وهذا العزيز المطلق، أما النسبي: فهو أن يوجد اثنين في أقل طبقة، وثم لا ينقص وإنما يزيد في بقية الطبقات، أو في بعضها فهو عزيز بالنسبة إلى طبقة، وقد يكون عزيزاً من وجه، ويكون غريباً من وجه، يعني: عزيز في طبقة وغريب في طبقة، ومشهور ومستفيض في طبقة أخرى، وقد يكون الحديث الواحد نسبياً في جميع الطبقات، فيقال: إنه غريب من جهة الصحابي، وعزيز من جهة التابعي، ومشهور ومستفيض بالنسبة لأتباع التابعين، ومتواتر بالنسبة لمن بعده، فيرويه جمع غفير، ولهذا كلما تأخر اتسعت الرواية وكثر الناس، وهذا أمر معروف في أبواب الرواية إلا أنه عكسي في باب الفقه والدراية، فنجد أن التابعين الفقهاء أكثر من أتباع التابعين، بخلاف الرواة، الرواة أتباع التابعين أكثر من التابعين.
وذلك أن الرواة على قسمين: رواة أصحاب رواية، والنوع الثاني رواة أصحاب دراية، يعني: أصحاب فقه، وهناك رواة لهم فقه وليس لهم رواية، فلا يدخلون في دائرة الرواية، وكذلك أيضاً قواعد الحديث باعتبار أنهم لا شأن لهم في الإسناد وعلل المتون.
يقول: (مشهور مروي فوق ما ثلاثة)، أي: ما لم يصل إلى حد التواتر، وكأنه يدخل في ذلك المستفيض على قول، وبعضهم يجعل المشهور والمستفيض بمعنى واحد.
قال عليه رحمة الله:
[ معنعن كعن سعيد عن كرم ومبهم ما فيه راوٍ لم يسم ]
المصنف رحمه الله بعد ما ذكر التقسيم للحديث باعتبار رواته وإسناده ذكر صيغ التحديث، وصيغ التحديث متنوعة، منها ما يفيد سماعاً، ومنها ما لا تفيد السماع، وما تفيد السماع متعددة أيضاً، وهي على مراتب وأنواع، منها: حدثنا، وأخبرنا، وأنبأنا، وسمعنا، فهذه تفيد السماع، ومنها ما يفيد السماع بالقرينة من غير قطع، كأن يقال: خطب فينا فلان، أو دخل علينا فلان، ولا يفيد من ذلك القطع بالسماع، فربما يريد أنه خطب في أهل البلدة التي يسكنها وهو لم يكن موجوداً، أو دخل عليهم في بلدة كذا ولم يكن فيها، وذلك كرواية الحسن البصري عن عبد الله بن عباس، الحسن البصري لم يسمع من عبد الله بن عباس ومع ذلك يقول: خطبنا عبد الله بن عباس يعني: خطب أهل البصرة ولم يكن موجوداً فروايته عنه منقطعة.
واختلف العلماء في هذا النوع من صيغ الرواية التي تفيد سماعاً، أيها أقوى؟ وذلك على قولين: منهم من قال: إن صيغ السماع على مرتبة واحدة، وهذا قال به غير واحد من العلماء، كـسفيان، وكذلك الحميدي، وغيرهم؛ لأنهم يجعلون صيغ السماع بمعنى واحد، وذلك أنها تثبت سماع الراوي من شيخه، وهذا كافٍ في ذلك، ولهذا نقل البخاري رحمه الله في كتابه الصحيح في كتاب العلم قال: باب قول الراوي حدثنا وأخبرنا وأنبأنا، يقول: قال الحميدي كان عند سفيان حدثني وأخبرني وأنبأني واحد، يعني: أنها بمعنى واحد.
والذي يظهر والله أعلم أن صيغ الرواية التي تفيد سماعاً على حالين: صيغ مفردة، وصيغ جمع.
الحالة الأولى: صيغ الإفراد، وهي أقوى، بمعنى: إذا قال حدثني وأخبرني وأنبأني وسمعت هي أقوى من جهة ثبوت السماع من حدثنا وأخبرنا وأنبأنا وسمعنا؛ لأنها قرينة أنه حدثه وحده بالحديث، وإن لم تكن نصاً في ذلك، وتحديث الشيخ لواحد أرعى لسمعه، وأحضر لقلبه ولذهنه من تحديثه مع جماعة، فهو يسمع وينتبه، ويدرك بخلاف تحديث الجماعة، فإنه ربما يغفل لأنه ليس مقصوداً بعينه، وهذا أمر فطري، ولهذا نقول: إذا ثبت في صيغة السماع ما يدل على أنه سمع وحده، فهو أضبط له من أمر الجماعة، وإن كان فيه تجوز عند بعض الرواة، فربما يسمع الحديث منفرداً ويقول: سمعنا، أو يكون مع جماعة ويقول: سمعت، أو حدثني، وهو صادق في كلا الحالين، لكن هذه قرينة إن احتفت بغيرها وثبت ذلك فهي أقوى من غيرها.
الحالة الثانية: من صيغ الرواية التي لا تفيد السماع: العنعنة والأنأنة وقال، فيروي الراوي عن شيخه فيقول: عن فلان، أو أن فلان قال، أو قال فلان بما لا يثبت سماعه، ويلحق بذلك روى فلان، وذكر فلان، وحكى فلان، فقد يكون سمعه أو لم يسمعه، فهذه لم تثبت السماع، وهذه الصيغ ربما تكون من الراوي، أو ربما تكون من تلميذه؛ لأن الراوي إذا أراد أن يحدث عن شيخه غالباً لا يقول: عن فلان؛ لأنه ربما سمعه من تلميذه فيقول: قال شيخي عن فلان، وربما يكون سمعه منه، وهذا محتمل.
ويجمع العلماء عليهم رحمة الله على أن صيغ الرواية التي لا تفيد سماعاً دون صيغ السماع جميعاً في المرتبة، وأن أدنى صيغ الرواية التي تثبت السماع أقوى من صيغ الرواية التي لا تثبت سماعاً من رواية الراوي عن فلانٍ، أو أن فلاناً، أو ذكر فلان، أو حكى فلان، أو أن فلاناً حكى، أو قال فلان، أو غير ذلك، فيقال: بأن هذه الصيغ صيغ لا تفيد السماع، وهل يقبل من الراوي ذلك أم لا؟ الراوي إذا كان ثقة فالأصل في روايته السماع إذا أمكن اللقاء، واللقاء في ذلك أن يجمعهم بلد واحد في زمن واحد، كأن يكون مثلاً: في العراق، أو يكون في الشام، أو يكون في الحجاز أو نحو ذلك، ولا يوجد ما ينفي ذلك، كنص الأئمة أن فلاناً لم يسمع من فلان، أو لم يره، أو لم يخرج من المدينة إلى مكة، وهذا مدني وهذا مكي، ولو كانا في زمن واحد، وإن تباعدا في القطر وكانا في زمن واحد فحدث عنه، كمحدث مصري عن حجازي، ولم يثبت أنه خرج منه، فنقول: إن إذا وصف بالتدليس ولو شيئاً يسيراً فيرد قوله، وإذا لم يوصف وكان ثقة في ذلك يقبل ما وافق الرواة ويرد ما تفرد به؛ لأنه لا يحتمل تفرد الآفاقي عن أهل بلد الراوي، سواء كان ذلك في الموقوف، أو كان في المرفوع.
قال عليه رحمة الله:
[ ومبهم ما فيه راوٍ لم يسم ]
يقول هنا: (ومبهم ما فيه راوٍ لم يسم)، وهو المجهول، فالإسناد يوصف بالإبهام ويوصف بالجهالة يقال: إسناد مجهول، وذلك إذا كان فيه راوٍ مجهول أو أكثر، فيوصف الإسناد بالجهالة، ولو وجد فيه معروف، ولكن يغلب استعمال ذلك على من فيه عدة مجاهيل، فيقال: إسناد مجهول.
والإبهام هو: ضد التسمية، فيقال: رجل، أو امرأة، أو شيخ، أو أبو فلان، أو غير ذلك، والمبهمات على نوعين: مبهمات في الإسناد، ومبهمات في المتن، ومبهمات الإسناد تكون في الرواة، والإبهام في المتن يكون في الرجال، وفي البلدان، وغيرها، كأن يكون مثلاً في الإسناد: أن فلاناً تبايع هو ورجل ونحو ذلك، فيقال: إن هذا الرجل مبهم، وقد يأتي في رواية النص على اسمه، أو يقول الراوي: أتيت إلى النبي عليه الصلاة والسلام وعنده رجل، فيأتي في رواية ذكر هذا الرجل، هذا توضيح إبهام في رجل، وقد يأتي إبهام في بلد أو بقعة، فيقال: غزونا مع النبي عليه الصلاة والسلام وفعل كذا وكذا، ثم يذكر في رواية أن الغزوة غزوة تبوك، فهذا حل للإبهام.
وقد صنف العلماء عليهم رحمة الله في إبهام الإسناد وإبهام المتن جملة من المصنفات، ومنهم من يجمع في الإبهام سواء كان في الإسناد أو المتن، وطالب العلم بتتبع الحديث وجمع طرقه تحل لديه الإشكالات في مسائل الإبهام الإسنادية وكذلك المتنية، وأعظم هذه الأنواع هو الإبهام في الإسناد، وذلك لأنه يتعلق به صحة الحديث وضعفه.
أما الإبهام في المتن فيتعلق بعضه بالحكم، وبعضه لا قيمة له؛ لأن الحكم لا يتعلق به، فلا يحتاج إلى معرفة نوع الغزوة لتثبت حكماً فقهياً؛ لأن الحكم ربما يتعلق بالتيمم، أو يتعلق بقصر الصلاة سواء كانت إلى تبوك أو إلى بدر أو غيرها من الغزوات، فهذا الإبهام لا قيمة له في الأثر الفقهي، ويأتي الكلام على الجهالة الإسنادية بإذن الله.
قال عليه رحمة الله:
[ وكلما قلت رجاله علا وضده ذاك الذي قد نزلا ]
ذكر هنا المصنف رحمه الله علو الإسناد ونزوله، وذلك بقصره وطوله، فالإسناد من جهة قصره وطوله على نوعين:
النوع الأول: الإسناد العالي.
النوع الثاني: الإسناد النازل.
الإسناد العالي هو: ما قصر وقلت رجاله، والإسناد النازل: ما كثرت رواته، والكثرة والقلة والعلو والنزول هي نسبية بحسب الراوي الذي يروي الحديث، فإذا كانت طبقته لا تحتمل عن النبي عليه الصلاة والسلام إلا ثلاثة من الرواة، فالزيادة عن ذلك نزول بالنسبة لهم، فمثلاً الإمام مالك رحمه الله يروي عن النبي عليه الصلاة والسلام، والطبقة في روايته عن النبي عليه الصلاة والسلام الأشهر فيها أنها على راويين، ويزيد في ذلك الثالث، فالعلو في ذلك أنه لم يسمع أحداً من الصحابة، فأعلى الأسانيد لديه أنه يروي عن اثنين عن النبي عليه الصلاة والسلام، هذا علو، ويكون النزول إذا روى عن ثلاثة بينه وبين النبي عليه الصلاة والسلام، فهو إما أن يروي عن تابعيين عن صحابي، أو عن تابع تابعي عن تابعي عن صحابي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يكون الإسناد فيه ثلاثة وهو نازل بالنسبة لـمالك، ويكون عند الإمام البخاري رحمه الله فيه أربعة وهو عالٍ، أو يكون لديه ثلاثة وهو عالٍ، إذاً المسألة نسبية بالنسبة للراوي ولزمنه.
والإسناد العالي يقدم على الإسناد النازل؛ وذلك لأن الإنسان بطبعه كلما كثر النقل فيه زاد ورود الخطأ، ودخل في الحديث ما ليس منه، والإدخال فيه ما ليس منه معلوم، وذلك لضعف البشر ونقصهم، ويطرأ على متن الحديث مع كثرة الرواة في السند أشياء:
أولها: الزيادة عليه.
الثاني: النقصان منه.
الثالث: قلب معناه.
الرابع: اختصاره، فيختصر بنفس المعنى، ولكن يريده دون ذلك على نحو أو بعض ألفاظه.
فهذه الأشياء التي تطرأ على الحديث توجد في الطبيعة البشرية، فكلما زاد عدد الرواة زاد احتمال ذلك، فوجد من كل راوٍ من الرواة نسبة من ذلك، فزاد الخلل في المتن المروي، خاصة في الأحاديث التي تنقل سماعاً ولا تكتب في الصحف، ولهذا العلماء يقدمون الحديث العالي ولو كان رواته متوسطين على الإسناد النازل، ولو كان الرواة ثقات، فيحرصون على العلو، ويقدمون الإسناد الذي يرويه ثلاثة عن النبي عليه الصلاة والسلام على الإسناد الذي يرويه خمسة أو أربعة، أو ستة، أو نحو ذلك، وقد جاء في ذلك جملة من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نازلة نزولاً شديداً، وجاء في بعض الأحاديث في ذلك علو، وهذا بحسب المصنفين.
وأعلى الأحاديث في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة للمصنفين ما في موطأ الإمام مالك رحمه الله، هو ما يرويه عن النبي عليه الصلاة والسلام وبينهما اثنان.
ثم بعد ذلك الثلاثية، ويوجد عند البخاري رحمه الله أحاديث ثلاثية يرويها عن النبي عليه الصلاة والسلام وهي أعلى ما لديه، ويوجد عند غيره كـالترمذي رحمه الله، فعنده سند ثلاثي واحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حديث: ( القابض على دينه كالقابض على الجمر )، وإسناده ضعيف، ويوجد في بعض الكتب أحاديث رباعية، وهي عالية بالنسبة للمصنف، وهذا بحسب طبقة المصنف والزمن الذي بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال عليه رحمة الله:
[ وما أضفته إلى الأصحاب من قول وفعل فهو موقوف زكن ]
تقدم معنا الكلام على تقسيم الحديث باعتبار قائله، وأنه مرفوع، والمرفوع على حالين: قدسي ونبوي، وموقوف على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمقطوع: هو ما كان على التابعي ومن جاء بعده، وذكرنا أيضاً مظان ما كان موقوفاً على الصحابة عليهم رضوان الله تعالى في الكتب المصنفة.
يقول:
(وما أضفته إلى الأصحاب من قول وفعل فهو موقوف زكن).
الأقوال عن الصحابة أقوى من الأفعال؛ وذلك لأن الأفعال يطرأ عليها من الخطأ والنسيان ما لا يطرأ على الأقوال؛ لأن الإنسان إذا تكلم في الدين بقول فإنه يستحضر قوله؛ لأنه يخاطب غيره، وإذا فعل فعلاً فإنه يفعل لنفسه، فيطرأ عليه الوهم والغلط، ولهذا لدى العلماء قاعدة: أن الاحتجاج يكون بالأقوال لا بالأفعال؛ لأن الأفعال يدخل فيها السهو والغلط، بخلاف الأقوال؛ فإن الأقوال متعدية والأفعال لازمة، فربما يصلي الإنسان ويفترش في غير موضع افتراش، ويتورك في غير موضع التورك مثلاً، ويقعي وهو لا يريد الإقعاء، يفعل ذلك لنفسه، لكنه إذا سئل عن مسألة ربما قرر شيئاً قد فعل خلافه، فيطرأ من الوهم والغلط على فعله ما لا يطرأ على قوله.
وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله قاعدة فقال: كل يحتج بقوله لا بفعله إلا الله ورسوله، فإن النبي عليه الصلاة والسلام إذا فعل فعلاً يقال: إن هذا وحي، والله سبحانه وتعالى إذا قال قولاً أو فعل فعلاً يقال: إن هذا الفعل على الحقيقة، وهو الحق.
أما الأئمة فيحتج بأقوالهم لا بأفعالهم، وهذه ثمة قرائن ترفع الفعل إلى مرتبة القول، وذلك في المحاكاة إذا سئل الإنسان فيقول: انظر إلى صلاتي، كما جاء عند النسائي في حديث نعيم بن المجمر عن أبي هريرة لما صلى بهم قال: (صليت بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، يعني: أني مستحضر ما فيها فاقتدوا بي، ولهذا إذا روي عن إمام من الصحابة أو غيرهم قول وفعل فيقدم قوله على فعله؛ لأن قوله أدق من الفعل، والوهم يطرأ منه على الفعل ما لا يطرأ على القول.
كذلك أيضاً الأئمة الأربعة، إذا جاءت روايتان عن إمام منهم أنه مرة قال ومرة فعل، فيقدم قوله على الرواية التي يفعلها؛ لأنه ربما يطرأ على الفعل ما لا يطرأ على القول، وهذا أيضاً من وجوه الترجيح.
وقوله هنا:
(وما أضفته إلى الأصحاب من قول وفعل فهو موقوف زكن)
ذكر القول والفعل، فهل يدخل في ذلك التقرير وأنه إذا فعل أمام الصحابي شيء لا يعتبر أثر ولا تقريراً، باعتبار أن التقرير مرتبة أعلى من القول والفعل اللازم في ذات الإنسان، أم أنه أدخل التقرير في الفعل باعتبار أنه ترك، والسكوت تروك، والتروك تدخل في أبواب الأفعال، يحتمل أن المصنف رحمه الله أدخل التروك في أبواب الفعل، ويحتمل أنه ما قصد ذلك، وأن التروك لا تدخل في أبواب الأفعال فيخرج الإقرار من ذلك.
والذي يظهر والله أعلم أن الإقرار من الصحابي يدخل في الموقوف، وذلك إذا فعل التابعي فعلاً عند صحابي، ولم ينقل عن الصحابي شيء، فهل هذا قول للتابعي أم فعل للصحابي؟ يظهر والله أعلم أنه قول للتابعي وفعل تقريري للصحابي عليه رضوان الله؛ لأن الأصل فيهم الديانة وتعظيم الشريعة والانتصار لها عند ورود ما يخالفها، إلا أن الإقرار دون القول والفعل مرتبة، فإذا جاء إقرار وخالفه الفعل فيقدم الفعل، وإذا جاء فعل وقول فيقدم القول على الفعل والإقرار لأنه أصرح.
قال عليه رحمة الله:
[ ومرسل منه الصحابي سقط وقل غريب ما روى راوٍ فقط ]
ذكر المصنف رحمه الله الإرسال بعد ما ذكر الموقوف، ويظهر من صنيع المصنف رحمه الله أيضاً أنه يذكر هذه الأقسام على غير ترتيب، فظهر معنا أنه ذكر المرفوع، وذكر المقطوع، ثم بعد ما ذكر العلو والنزول ذكر أيضاً المسلسل والعنعنة وصيغ السماع ثم ذكر بعد ذلك الموقوف، والموقوف الذي يكون على الصحابة، وهو قسيم لها، وإن جئت للحقيقة هو قسيم للمرفوع وقسيم للمقطوع على التابعي، ولعل المصنف رحمه الله أراد من ذلك استيعاب المسائل، ولم يرد من ذلك تجانس هذه المسائل أو تقديم الأهم في ذلك على المهم، فأراد في ذلك الاستيعاب، ثم ذكر المصنف رحمه الله الإرسال، فقال: ومرسل منه الصحابي سقط، وقل: غريب ما روى راوٍ فقط).
والإرسال أقرب إلى العناية عند العلماء من المقطوع والموقوف؛ لأنه منسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والموقوفات تكون على الصحابة عليهم رضوان الله، ومع ذلك أخرها لهذا الأصل.
الإرسال: هو الترك، أرسل فلان كذا إذا تركه، فإرسال القافلة، إرسال البهيمة، إرسال الأسير، إرسال الحبل، أو غير ذلك يعني أطلقه، وكأن ذلك الإسناد متصل إلى قابضه وممسكه وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصبح متصلاً في غيره، ولما جاء إليه انقطع.
والمعنى الاصطلاحي للإرسال: هو ما يرويه التابعي عن النبي عليه الصلاة والسلام، هذا تعريف لقوم، وقوم يعرفون المرسل: بأنه ما سقط منه الصحابي ويرويه تابعي، يخرجون من ذلك ما يرويه تابع تابعي عن النبي عليه الصلاة والسلام، وما يرويه التابعي عن تابعي آخر، عن صحابي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحترزون في ذلك ويقولون: ما سقط منه الصحابي ويرويه تابعي، حتى يغلب على الظن أنه لم يروه إلا عن صحابي، ولكن نقول: إذا جزمنا أن الساقط صحابي، فعلى هذا نجزم بصحة المراسيل كلها، ولا حاجة إلى الخلاف لو قررنا هذا التعريف، ولا يدخل فيه غيره، ولا ينبغي الخلاف في المراسيل إذا جزمنا أن الذي سقط صحابي، ولا يعرف بغير هذا التعريف، ولكن العلماء يريدون بهذه التعاريف والتقريرات وتضييق دائرة وصف الحديث بالإرسال، حتى يخرج منه ما كان معضلاً، وهو: ما يسقط منه صحابي وتابعي أو ربما من التابعين اثنان أو ثلاثة، وكلما كان الراوي عن النبي عليه الصلاة والسلام من التابعين أعلى طبقة فالأغلب في ذلك أن يكون الساقط صحابي، وإذا تأخر طبقة فإن ذلك يزيد من احتمال أن يكون الواسطة عن النبي عليه الصلاة والسلام أكثر من واحد أي: صحابي وتابعي.
وكيف نعرف ذلك؟ يعرف هذا بأمرين:
الأمر الأول: يعرف بمروي التابعي، فربما كان متقدماً ويروي بواسطة، وربما يكون متأخراً ولا يروي إلا عن الصحابة لشدة احترازه، ولهذا نقول بمرويه، نسبر مرويات التابعين فنعرف كم الأحاديث التي يرويها عن النبي عليه الصلاة والسلام بواسطة صحابي، وكم الأحاديث التي يرويها بواسطة تابعي، إذا كان لديه مائة حديث كلها بواسطة صحابي، ولا يوجد لديه من غيرها إلا ثلاثة أو أربعة يرويها بواسطة تابعي، فإذا جاءنا حديث عنه مرسل، عن النبي عليه الصلاة والسلام، فالأغلب أنه سقط صحابي، وهذا من قرائن الترجيح وتقوية الحديث المرسل، وإذا سبرنا مرويه ووجدنا أنه يروي مائة حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن خمسين أو ثلاثين أو عشرين منها بواسطة صحابي، والبقية بواسطة تابعي عن النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا يغلب جانب التضعيف أن الواسطة تابعي بينه وبين الصحابي، حينئذٍ سقط من الراوي اثنان، وعلى هذا نقول: بأن هذه من القرائن عند العلماء التي تعطيهم معرفة المراسيل الصحيحة والمراسيل الضعيفة، ولهذا نجد في كلام بعض العلماء على بعض المراسيل يقولون: مراسيل فلان صحيحة، وهذا ليس إطلاقاً للكلام على عواهنه، بل هو سبر لمعرفة مرويات هذا الراوي، وأنه لا يروي عن النبي عليه الصلاة والسلام إلا برواية صحابي، ولو وجد عن غيره فهو نزر يسير، فيطلقون على مراسيل فلان أنها صحيحة، أو مرسيل فلان أصح المراسيل، أو نحو ذلك.
وربما أطلقوا الصحة عليها؛ لأنه إن روى عن غير صحابي روى عن تابعي ثقة، فهو شديد الاحتراز حتى في الرواية عن التابعين.
الأمر الثاني: يعرف بالزمان، فالتابعي الذي من طبقة متقدمة يختلف عن الطبقة المتأخرة؛ لأن الطبقة المتقدمة يدرك فيها الخلفاء الراشدين ونحو ذلك، ولهذا كلما تقدم التابعي طبقة من الطبقات فإن هذا إشارة إلى ضعف احتمال روايته عن تابعي عن صحابي من الصحابة.
الأمر الثالث: أنه ينبغي العناية بمعرفة من يروي عنه التابعي من الصحابة عادة، وذلك أنه إذا عرف عادة أنه يروي عن فلان، ولا يخرج بالرواية عنه، فيزيد هذا الاحتمال أنه لا يخرج عن هذا الراوي، وإذا كان يتنوع يأخذ من جماعة من الصحابة وغيرهم، تارة بواسطة وتارة بغير واسطة، فهذا يزيد الاحتمال أنه ربما يروي عنه بواسطة، وربما يروي عنه بغير واسطة.
والمرسل صنف فيه العلماء عليهم رحمة الله تعالى مصنفات، من أشهر هذه المصنفات كتاب المراسيل لـأبي داود، وهو يلحق في بعض الروايات في السنن، وبعضها يفرد في بعض المصنفات الأخرى، وثمة كتب اعتنت بالرواة الذين يروون المراسيل، ومن يكثرون الإرسال وذلك كالمراسيل لـابن أبي حاتم وغيره.
وأما حكم المرسل والاحتجاج بذلك، فهذا نكمله بإذن الله تعالى في الغد، ونكمل ما بعده بإذن الله عز وجل من أحكام الحديث، كالحديث الغريب وما في معناه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر