الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد, وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أول أحاديث اليوم هو حديث كعب بن عجرة عليه رضوان الله تعالى، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ومن ضيعهن )، يعني: الصلوات ولم يحافظ عليهن ( استخفافاً بحقهن فليس له عهد عندي, إن شئت عذبته وإن شئت أدخلته الجنة )، هذا الحديث قدسي، رواه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه جل وعلا، وهذا الحديث بهذا اللفظ منكر, أخرجه الإمام أحمد وغيره، وموضع النكارة فيه هو في قوله: ( ومن ضيعهن فليس له عهد عندي, إن شئت عذبته, وإن شئت أدخلته الجنة ) .
هذا الحديث يستدل به بعض العلماء على أن تارك الصلاة بالكلية لا يكفر, وهو تحت مشيئة الله جل وعلا، وحديث كعب بن عجرة هذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق متعددة وليس فيه هذه اللفظة: ( ومن ضيعهن استخفافاً بحقهن )، وإنما المراد بالتضييع هنا: التخلف عن الوقت، وعدم الإتيان بها مع تمام ركوعها وسجودها.
ويؤيد هذا: أن الحديث قد رواه الإمام أحمد وغيره من حديث عبد الرحمن بن النعمان عن إسحاق بن سعد بن كعب بن عجرة عن أبيه عن كعب بن عجرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس فيه لفظة التضييع، وإنما فيه أنه لم يعط الصلاة حقها، واللفظ الأول وهو حديث كعب بن عجرة بلفظ: ( ضيعهن )، هذا الحديث منكر، فقد أنكره الحافظ ابن رجب رحمه الله كما في كتابه الفتح، وهو ظاهر صنيع محمد بن نصر المروزي وغيرهم.
وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عبادة بن الصامت أيضاً، رواه الإمام مالك في كتابه الموطأ، ورواه الإمام أحمد في كتابه المسند، من حديث يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن ابن محيريز عن رجل من كنانة عن عبادة بن الصامت، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن ربه: ( ولم يأت بها ) يعني: الصلاة، ( فليس له عهد عندي, إن شئت عذبته وإن شئت أدخلته الجنة )، وحديث عبادة بن الصامت بهذا اللفظ حديث منكر، وذلك للجهالة في إسناده.
وقد جاء من وجه آخر وليس فيه: (ولم يأت بها)، وإنما (لم يتم ركوعها وسجودها )، وذلك أنه قد جاء من حديث عطاء بن يسار عن الصنابحي عن عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الصواب في حديث عبادة.
وحديث عبادة هذا هو الحديث المشهور أن رجلاً من بني كنانة سمع رجلاً يقول: إن الوتر واجب، فأخبر بذلك عبادة بن الصامت فقال: كذب أبو محمد، فذكر ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومسألة فرض الصلاة ليست موضع إيراد عند العلماء، وإنما الذي هو موضع إيراد هو أنه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنص صريح صحيح يكون فيه تارك الصلاة بالكلية ممن هو تحت المشيئة كحال أصحاب الكبائر، وإنما ظواهر النصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث جابر بن عبد الله، وبريدة بن الحصيب أن ( الرجل بينه وبين الشرك ترك الصلاة )، كما جاء في مسلم من حديث جابر، وجاء في المسند والسنن من حديث بريدة : ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر )، وكذلك ظاهر إجماع الصحابة فيما يرويه بشر بن المفضل عن الجريري عن عبد الله بن شقيق أنه قال: ( ما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة ) .
وهذا قد جاء عن أيوب بن أبي تميم السختياني كما رواه محمد بن نصر وغيره من حديث حماد بن زيد عن أيوب وهو من أجلة فقهاء التابعين، قال: ترك الصلاة كفر لا نختلف فيه، وهذا هو الوارد عن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى كما جاء عن سعد بن أبي وقاص، وروي في ذلك جملة من النصوص وفيها ضعف، فقد جاء هذا عن عبد الله بن مسعود، وجاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وروي هذا عن جماعة من التابعين كـسعيد بن جبير، والحكم، وجاء عن جماعة من الأئمة كالإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه وغيرهم.
وهذه المسألة وهي مسألة النصوص التي جاءت عن النبي عليه الصلاة والسلام وتحتمل أن تارك الصلاة تحت المشيئة؛ لا يثبت منها شيء على الإطلاق.
وثمة نصوص واهية جداً في هذا الموضوع ولسنا بحاجة إلى إيرادها.
وهذا الحديث حديث كعب بن عجرة من الأحاديث المشهورة التي يكثر إيرادها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان عدم كفر تارك الصلاة, مع ظهور النصوص عن النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك، إلا أن العلماء من المتأخرين يقولون: نقر بثبوت اللفظ في الكفر ولكن لا نقر بكون ذلك اللفظ من الكفر الأكبر, وإنما هو من الكفر الأصغر.
والذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو في إثبات إسلام الرجل الذي يترك الصلاة الواحدة والصلاتين والثلاث، كما جاء في مسند الإمام أحمد من حديث شعبة عن قتادة عن نصر بن عاصم ( أن رجلاً منهم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يبايعه على أن لا يصلي إلا صلاتين, فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك )، وهذا إسناده صحيح، والمبايعة لا تكون على الكفر ولكنها قد تكون على شيء من التدرج من باب قبول الذنب؛ درءاً للشرك وهو الكفر الأكبر المخرج من الملة.
ويتكلم العلماء على هذه المسألة، وثمة مصنفات لجماعة من العلماء، قد أورد محمد بن نصر المروزي في كتابه تعظيم قدر الصلاة جملة من النصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن السلف الصالح في أبواب التكفير وعدمه لتارك الصلاة، وذكر إجماع السلف على كفر تارك الصلاة, وإنما الخلاف في تحقق ذلك الكفر، هل هو من الكفر الأكبر أو من الكفر الأصغر.
حديث كعب بن عجرة عليه رضوان الله تعالى علته من عبد الرحمن بن الحارث وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة، كالإمام أحمد ويحيى بن معين، وأبي حاتم، وهو ضعيف في حفظه.
الحديث الثاني: هو حديث سعيد بن المسيب عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث طويل في حفظ الصلاة قال: ( ومن لم يحافظ عليها )، ثم ذكر شبيهاً بنص حديث كعب وحديث عبادة، وإنما ذكر المحافظة هنا: ( ومن لم يحافظ عليها )، وهذا يستدل به من يقول بعدم كفر تارك الصلاة، وهذا الحديث رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والدارقطني وغيرهم، من حديث ضبابة بن عبد الله عن دويد بن نافع عن ابن شهاب الزهري عن سعيد بن المسيب به، وهذا الحديث منكر، تفرد به بقية بن الوليد عن ضبابة بن عبد الله عن دويد بن نافع عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب به.
وذلك أن بقية بن الوليد في حفظه ضعف، وكذلك ضبابة فإنه مجهول، ودويد ليس بالقوي، والحديث في ذلك منكر لا يثبت عن رسول صلى الله عليه وسلم.
الحديث الثالث: هو حديث عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من الكبائر الجمع بين الصلاتين بغير عذر ).
هذا الحديث رواه الإمام أحمد والترمذي في كتابه السنن من حديث حنش وهو حسين بن قيس أبو علي الرحبي عن عكرمة عن عبد الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم به، ويرويه عن حنش هذا معتمر بن سليمان عن أبيه، عن حنش بهذا الخبر, وهذا الخبر منكر, وقد تفرد به حنش مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متروك الحديث مع قلة روايته، ولا يتفرد بشيء من المعاني عن الثقات ويكون مستقيماً، وقد حكم عليه بأنه ليس له أصل غير واحد من الحفاظ، كـالعقيلي في كتابه الضعفاء قال: هذا الحديث ليس له أصل، وقال أبو الفرج ابن الجوزي: لا يصح.
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع لحاجة، ومعلوم أن ثمة فرقاً بين العذر والحاجة, فالعذر هو الشيء القاهر الذي يمنع الإنسان من القيام بالشيء، وأما بالنسبة للحاجة فهي التي تطرأ على الإنسان مع إمكانه أن يقوم بالأمر الواجب عليه، وهذا الإطلاق في حديث عبد الله بن عباس يخالف ذلك الأصل، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين وغيرهما: ( أنه صلى الظهر والعصر جمعاً ثمانياً، وصلى المغرب والعشاء جمعاً سبعاً، وقد سئل عبد الله بن عباس عن ذلك، فقال: لكي لا يحرج أمته ).
على خلاف عند العلماء في سبب جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، والأصل أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يحافظ على أداء الصلاة في أول وقتها ولا يؤخرها إلا فيما ندر للحاجة والمصلحة أو للعذر، ولهذا قال عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله، كما جاء في الصحيحين وغيرهما: ( لم يصل رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة في غير وقتها قط إلا صلاة بجمع )، وهذا إشارة إلى أنه لم يعهد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان يجمع الصلوات في أمور الحاجات، وإنما في مقام الأعذار.
وحديث عبد الله بن عباس هذا في جمع الصلاة إلى الصلاة كبيرة من كبائر الذنوب إنما قلنا بنكارته مع ثبوته عن عمر لأن عموم لفظ النبي صلى الله عليه وسلم يختلف عن عموم لفظ غيره, وذلك أن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله إذا أطلق لفظاً لا يؤخذ بعمومه كما يؤخذ عن النبي عليه الصلاة والسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم جاء بجوامع الكلم، وقد صح هذا اللفظ عن عمر عليه رضوان الله وهو أن الجمع بين الصلاتين كبيرة من كبائر الذنوب بلا عذر.
وقد رواه ابن أبي شيبة في كتابه المصنف، وابن المنذر في الأوسط، والبيهقي في السنن من حديث قتادة عن أبي العالية رفيع بن مهران الرياحي عن عمر بن الخطاب أنه قال: من جمع بين صلاتين بغير عذر فقد أتى باباً من أبواب الكبائر، وهذا الحديث قد أعله بعضهم بعدم سماع أبي العالية من عمر بن الخطاب , أعله بذلك الشافعي والبيهقي .
ولكن يقال: إن هذا الخبر قد جاء عن عمر بن الخطاب من غير طريق، جاء عند مسدد في كتابه المسند من حديث بكر بن عبد الله المزني عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى أبي موسى أن من جمع بين الصلاتين فقد أتى كبيرة من كبائر الذنوب، وجاء عند أبي إسحاق الفزاري من حديث التمار عن حميد بن هلال أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى وذكر نحوه، وجاء من حديث أبي قتادة العدوي كما رواه عبد الرزاق في كتابه المصنف وابن أبي شيبة أيضاً من حديث أبي قتادة العدوي عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى أبي موسى أن من الكبائر ثلاثة: الجمع بين الصلاتين بغير عذر، والتولي يوم الزحف، والنهبى.
وهذه بمجموعها تدل على أن الأثر ثابت، وقد جاء هذا عن جماعة رووه عن عمر: أبو العالية رفيع بن مهران، وحميد بن هلال، وبكر بن عبد الله المزني، وأبو قتادة العدوي كلهم يروونه عن عمر بن الخطاب وأبو قتادة العدوي قد أدرك عمر بن الخطاب عليه رضوان الله، وقد قوى هذا الخبر البيهقي كما في كتابه السنن بمخرجين له، وقد وجدنا أيضاً مخرجين آخرين لهذا الحديث؛ فدل على أن الاعتضاد في هذا أقوى.
وإنما يقول بعض العلماء: إن العمل على حديث عبد الله بن عباس المرفوع كما قال ذلك الترمذي قال: وعليه العمل عند أهل العلم، يعني: حديث عبد الله بن عباس في أن من جمع بين الصلاتين بغير عذر فقد أتى باباً من أبواب الكبائر، قالوا: وذلك هو الأصل وما خرج عن الأصل فإنه يرجع إليه بورود الدليل.
ولكن مثل هذا الإطلاق نقول: إن العمل عليه من جهة الأصل لكن لا يكون هذا اللفظ من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا العموم قياساً على كثير من إطلاقاته عليه الصلاة والسلام بالأمر والنهي، وإنما نقول: عليه العمل إذا لم يقم عذر ولم تقم حاجة، وإذا كان كذلك فإننا نقول: إن العمل على ذلك بهذين القيدين.
وأما ثبوت ذلك إسناداً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يثبت، ولهذا نجد عامة العلماء يستنكرون هذا الخبر رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه جمع بين صلاتين من غير حاجة ولا عذر، فإن لم يكن عذر فهو حاجة، وإن لم يكن حاجة فهو عذر، والعذر تدخل فيه الحاجات وهي الضرورات التي تطرأ على الإنسان، وعلى هذا الحديث طرأ خلاف العلماء في مسألة جمع الإنسان لمرضه، أو جمعه في حال الإقامة.
وقد جاء أيضاً في الجمع بين الصلاتين أنه كبيرة من كبائر الذنوب عن عمر بن عبد العزيز، كما رواه ابن أبي شيبة في كتابه المصنف من حديث حفص بن غياث عن أبي بن عبد الله عن عمر بن عبد العزيز .
وأما بالنسبة للحاجة فأن يكون الإنسان محتاجاً إلى شيء مع قدرته على القيام به، ومن ذلك ما روى ابن أبي شيبة في كتابه المصنف عن عبد الرحمن بن حرملة أن رجلاً جاء إلى سعيد بن المسيب، فقال له: إني راعي وإني أرجع بها صلاة المغرب, وإني أضع رأسي وأفوت العتمة، فقال له: لا تفوتها وإلا فاجمعها إلى المغرب.
وهذا يكون في حال الإقامة كحال بعض الناس الذي يأتي عابراً مسافراً ودخل البلدة فأصبح في حكم أهل الإقامة, ويجب عليه أن يؤدي الصلاة في وقتها، ومثل أن يكون الإنسان قد جد به السير واستمر طويلاً كأن يسير الإنسان عشرين ساعة أو أربعاً وعشرين ساعة، أو كان الإنسان يواصل سهراناً ولم ينم طويلاً وخشي أنه إذا كان في الإقامة نام عن الصلاة التي تليها وأراد أن يجمع بينهما، كأن يقدم في أذان الظهر، فنقول في مثل هذا: اجمع العصر إلى الظهر، وإذا كان في المغرب فاجمع إليه العشاء خشية من تفويت العشاء.
وهذا أيضاً يكون كحال الإنسان الذي يكون متابعاً لحالة مريض يخشى عليه، أو حال الشرط الذين يتابعون عدواً، أو سارقاً، أو مجرماً، أو نحو ذلك، أو الأطباء الذين لا يدرون إذا اعتنوا بمريض هل يستطيعون الخروج عنه كحال غرف العمليات أو نحو ذلك، فلا يدري الطبيب متى ينتهي، فالعملية قد تأخذ ساعتين أو ربما يكون ثمة خطورة بأن كانت مغادرته في ذلك موضع هلاك للمريض، فنقول في مثل هذا: لا حرج عليه أن يجمع تقديماً ولا يؤخرها بعد ذلك؛ لأن تأخيرها إثم قطعي لا علاج له، وأما التبكير بها فقد جاء النص به جمعاً، فيجمعها الإنسان، وهذا له صور كثيرة مما يتعلق بأمور حاجات الإنسان، سواء كان في الحاجات اللازمة أو المتعدية.
الحديث الرابع: حديث عبد الرحمن بن علقمة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه وفد ثقيف فأهدوه هدية, وأخذوا يسألونه ويسألهم حتى صلى الظهر مع العصر )، هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد والبخاري في كتابه التاريخ، وابن أبي عاصم في كتابه الآحاد والمثاني وغيرهم من حديث أبي حذيفة عن عبد الملك بن بشير عن عبد الرحمن بن علقمة، وهذا الحديث معلول بعدة علل:
العلة الأولى: نكارة المتن، وذلك أنه لم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه جمع صلاتين لأجل حديث وأسئلة الناس، والوفود يكثرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وروداً، ومع ذلك لم ينقل هذا الأمر من وجه يصح، وما جاء في حديث عبد الله بن عباس فهو عام, والعلة فيه رفع الحرج عن الأمة، وليس المراد بذلك حالة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينه كحال وفد ثقيف.
ثم إن حال الوفود غالباً أنهم يقدمون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويبقون, ومثل هذا الزمن صلاة الظهر إلى العصر في الغالب أن العرب لا تسافر نهاراً إلا قليلاً, ويغلبون جانب السفر بالليل.
ثم إن أداء الصلاة في وقتها لا يفوت حظاً؛ لأن أداءها إلى جمعها يأخذ ذات الوقت.
العلة الثانية: أبو حذيفة مجهول لا تعرف حاله.
العلة الثالثة: عبد الملك شيخه لا تعرف حاله أيضاً.
العلة الرابعة: عبد الرحمن بن علقمة لا تثبت له صحبة، كما قال ذلك الدارقطني في كتابه السنن.
العلة الخامسة: أنه لا يثبت سماع هؤلاء من بعض، ولهذا يقول البخاري رحمه الله في كتابه التاريخ: لا يعرف سماع هؤلاء من بعض، وذلك أنه يغلب في أحوال المجهولين أن جهالة حالهم أو جهالة عينهم تدل على جهالة ما هو أبعد من ذلك وهو اللقي والمعاصرة؛ لأنه مجهول في ذاته لا يعرف متى ولد ومتى توفي! وهل لقي شيخه أو لم يلقه، خاصة أنه مجهول يروي عن مجهول. وهذا دليل على عدم ثبوت السماع، والبخاري يشدد في مسألة السماع.
ولهذا نقول: إذا وجدنا مجهولاً يروي عن مجهول فلنعلم أن ثبوت السماع فيما بينهما شاق, فتكون إضافة إلى علة جهالتهم علة عدم ثبوت السماع، والعلماء يتفقون على أنه لا بد من معرفة زمن إدراك الراوي عن شيخه وهو إمكان اللقي، فإذا روى راو عن شيخه وتثبتنا من إمكان اللقي كفى.
فالمجهول الذي يروي عن مجهول يشق أن نعرف أنه أمكن أن يروي عن شيخه ذلك أم لا، والغالب في مثل ذلك عدم معرفة حال المجهولين، ويظهر هذا في بعض أنواع الجهالة؛ كأن يروي رجل مجهول عن امرأة مجهولة، أو تروي امرأة مجهولة عن رجل مجهول، فيظهر في ذلك الانقطاع.
الحديث الخامس: حديث عبد الله بن عباس عليه رضوان الله في صلاة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس، وفيه لفظان:
أولهما: ( هذا وقتك ووقت الأنبياء من قبلك ) .
ثانيها: جاء عند ابن خزيمة في حديث عبد الله بن عباس : ( أنه صلى به الظهر حينما صار ظل الشيء مثليه ) .
هذا الحديث وهو حديث عبد الله بن عباس رواه الإمام أحمد من حديث عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة عن حكيم بن حكيم بن حنيف عن نافع بن جبير بن مطعم عن عبد الله بن عباس .
وهذا الحديث معلول بعلل:
أولها: أن حديث صلاة جبريل برسول الله صلى الله عليه وسلم جاء من طرق متعددة عن جماعة من الصحابة, جاء من حديث سهيل بن صالح عن أبيه عن أبي هريرة، وجاء أيضاً من حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وجاء أيضاً من حديث جابر بن عبد الله وهو أصحها كما قال البخاري، وجاء من حديث أنس بن مالك وغيرهم.
ولم يرد فيها قول: ( هذا وقتك ووقت الأنبياء من قبلك ) و( أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى صلاة الظهر إذا كان ظل الشيء مثليه )، وهذا يوافق مذهب الحنفية في صلاة الظهر، فإنهم يرون تأخر الإبراد واستحبابه دوماً.
العلة الثانية: أن عبد الرحمن هذا الذي يرويه عن حكيم بن حكيم قال فيه الإمام أحمد : متروك الحديث، وقد لينه غير واحد، وحكيم بن حكيم بن حنيف قليل الرواية، وقد تكلم فيه بعضهم، وهو صالح الحديث، ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله: لا أعلم إلا خيراً. وإنما قلنا: إن الخبر يعل به أن مثل هذا الحديث ينبغي أن يحمله الكبار، ومثله يقبل في الأحاديث المتوسطة، كيف وقد خالف الراوي في اللفظ.
العلة الرابعة: أن هذا الحديث وهو حديث عبد الله بن عباس اختلف في إسناده ومتنه؛ مما يدل على أن عبد الرحمن لم يضبط الخبر واضطرب فيه، تارة يرويه بقوله: (صلى العصر حينما صار ظل الشيء مثليه)، وتارة يقول مثله، يعني: أنه شاك بذلك وغير مستيقن.
والأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة جبريل به مع كثرة الطرق التي جاءت فيه إلا أن هذه الألفاظ لم ترد فيها؛ مما يدل على نكارتها، وأصح شيء فيها هو حديث جابر بن عبد الله كما قال ذلك البخاري وحسن حديث أبي هريرة، ولم يخرج البخاري ومسلم حديث صلاة جبريل بالنبي عليه الصلاة والسلام مع شهرته، لأن الرواة له لا يرقون إلى شرط الصحيح، وربما للاختلاف في بعض متونه، وإنما يقويه البخاري خارج الصحيح.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
السؤال: إذا انتهت الحاجة قبل الصلاة الأخرى هل نأمره بالإعادة أم لا؟
الجواب: لا نأمره بالإعادة؛ لأنه أداها على وجه مشروع، كحال الإنسان الذي يكون مسافراً ودنا من بلده ورأى البنيان لكنه لم يدخل البنيان وأذن المغرب فصلى المغرب وجمع إليه العشاء ثم دخل البلدة، فأصبح مقيماً قبل دخول العشاء، ومع هذا لا نوجب عليه صلاة العشاء؛ لأنه أداها على وجه مشروع.
كذلك إذا كان الإنسان في حال إقامة فجمعها، كمن أدى الصلاة وهو طبيب ويعتني بمريض ولديه عملية جراحية فأدى الصلاة جمع تقديم ثم انتهت العملية وبقي من الوقت شيء, لا نقول له: أعد تلك الصلاة؛ لأنه أداها على وجه مشروع سائغ.
ويخرج من هذا مسألة، إذا كان الإنسان يغلب على ظنه أنه أخطأ في تقديره كأن يغلب على ظنه أنه لن ينتهي لعشر ساعات، ولكن المعروف في مثل هذه الحال أنهم ينتهون كحد أقصى في خمس أو ست ساعات ورأى أنه جازف في تقدير الوقت الذي لأجله جمع، فنقول: يعيد إبراءً لذمته في مثل هذا، لكن إذا كان يغلب على الظن أن مثل هذا الوقت هو المعتاد أو الحد الأقصى الذي يرد عليه البعض، فنقول: لا حرج في ذلك، وهذا يطرأ كثيراً كحال الإنسان الذي يقوم حارساً على أموال الناس من اللصوص ونحو ذلك، فيسهرون في الليل ويخشون فوات صلاة العشاء لديهم، فيصلون المغرب ويخشون إذا انفتلوا عن المجرمين أن يكونوا قد هربوا فنقول: لا حرج عليه أن يجمع، وإذا وجد وقتاً في آخر وقت صلاة العشاء بساعة فلا يعيد تلك الصلاة إذا كان أداها وغلب على ظنه أنه لن ينتهي إلا بعد خروج الوقت، ويكون انتهاؤه من ذلك أمراً عارضاً وقليلاً، أو في بعض الأحيان، فنقول: مثل هذا حكمه على التقسيم السابق.
السؤال: [ ما هي علة تأخير النبي صلى الله عليه وسلم لركعتي الظهر إلى بعد العصر؟ ]
الجواب: الله أعلم, وإنما النبي عليه الصلاة والسلام الثابت في الصحيح أنه أخرها بعد العصر لما شغل عنها، فلا يعني هذا أنه ترك الصلاة كلها؛ لأنه لو ترك الصلاة كلها الفريضة أولى بالنقل من حال النافلة.
السؤال: ما ضابط الحاجة؟
الجواب: الحاجة ورود المشقة, والغالب أن الإنسان خصيم نفسه، الإنسان هو أدرى بحاله فيستفتي نفسه فهو أدرى بطاقته، فالناس يختلفون، بعض الناس يطيق أنه إذا نام قام، أو فيه قوة بدنية أو بسطة في الجسم، وبعض الناس ضعيف البنية يشق عليه تحمل القيام، فإذا كان ملزماً بقيام مثل الذين يعملون في الشرط، أو يعملون في المراقبات والمتابعات ونحو ذلك، لا يستطيع أن يتحمل الزيادة في ساعات القيام، فهذا يرجع فيه إلى حال الإنسان.
وإنما أرجعناه إلى حال الإنسان؛ لأن هذا من عمل الأفراد لا من عمل الجماعات، وعمل الجماعات نقول: لا تجمع الصلاة جماعة، حتى لا يكون الجمع بين الصلاتين ديناً فتختل موازين الفرائض والمواقيت لدى الناس وإنما الإنسان إذا أرد أن يجمع يجمع منفرداً.
والغالب أن الناس يختلفون من جهة قدرتهم، قد يجتمع بعض الناس في موضع واحد هذا يستطيع وهذا يشق عليه، نقول: يصلي الذي يشق عليه جمعاً، وذاك يصلي منفرداً كل صلاة بوقتها.
وقد يكون أناس في قرية نائية أو أناس في فلاة أو في مزرعة بعيدة أو نحو ذلك وليس لهم حكم السفر ولكن قامت فيهم الحاجة، نقول: لا بأس بالجمع ولكن هذا نادر.
أما المساجد الراتبة فلا تجمع الصلاة فيها للحاجة إلا ما يشترك فيه عموم الناس من الأمطار، والرياح الباردة التي يجمع لها ولثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في كلام بعض العلماء ممن صحح قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من غير خوف ولا مطر )، وبعض العلماء يقول بشذوذها، ويأتي الكلام عليها بإذن الله تعالى، وكذلك هذا هو عمل جماعة من الصحابة.
السؤال: هل حديث البطاقة في الرجل الذي لم يعمل خيراً قط يدل على أن تارك الصلاة لا يكفر؟
الجواب: إن نفي العمل بالكلية ينبغي أن يدخل فيه من جهة الأصل التوحيد، وهو أعظم أبواب الخير، ويسميه الله عز وجل عملاً، ولهذا فإن قول: لا إله إلا الله والاعتقاد هي المقصودة في قول الله جل وعلا: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:72]، فالعمل في هذه الآية كما فسره غير واحد من المفسرين المراد به التوحيد.
ثم إن الإنسان قد يجهل وجوب الصلاة ولا يعلم شيئاً من الأعمال تجب عليه على الأعيان، ويتمسك بالتوحيد وينجو، وهذا يدل عليه حديث حذيفة بن اليمان كما رواه ابن ماجه والحاكم في المستدرك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( يدرس الإسلام كما يدرس وشى الثوب حتى لا يدرى ما صلاة ولا صيام ولا نسك )، انظر إلى قوله: لا يدرى ما صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا نسك, ( إلا أقوام يقولون: إنا وجدنا آباؤنا يقولون: لا إله إلا الله فنحن نقولها. قال حذيفة : تنجيهم من النار ) انظر هذه العبارة، فهذا الرجل نستطيع أن نقول: لم يعمل خيراً قط.
كذلك حديث أبي هريرة في صحيح الإمام مسلم في الرجل الذي حضرته الوفاة، فقال: ( إن أنا مت فأحرقوني ثم اطحنوني ثم ذروني في الريح ) الخبر، وفيه: ( لم يعمل خيراً قط ).
فأمثال هذه القضايا قضايا الأعيان يكتنفها ما يكتنفها من أحوال ينبغي ألا تجري على النصوص الصريحة عن النبي عليه الصلاة والسلام.
السؤال: ما حكم جمع الصلاتين لأجل شدة الغبار؟
الجواب: إذا كان الغبار يشتد على الناس كأن لا يتمكنوا من الوصول إلى المسجد خاصة إن اجتمع مع الغبار الريح الشديدة أو ربما أصيب الناس بالأمراض والأوبئة خاصة لمن به ربو وحساسية ونحو ذلك، نقول: لا حرج من الجمع، ولكن الأولى في هذا أن يقال: الصلاة في الرحال أولى من الجمع، فيصلي الإنسان في حال المطر في بيته، أو حال الرياح الشديدة، أو البرد القارص الشديد، وهذا من السنن المهجورة.
ومما نسأل عنه كثيراً من الأئمة والمؤذنين في حال المطر، يقولون: ماذا نصنع لو صلينا أو صلى بنا الإمام وخالفنا بعض الجماعة هل نعيد؟ لو أنهم نادوا: الصلاة في الرحال ثم أغلقوا المساجد لارتاح الناس ولم يقع الخلاف، وهو أريح -أيضاً- أريح للناس، بل إن الجمع في المطر لو قلنا: إنه لم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه جمع في المطر ما كان بعيداً، ولا أعلم نصاً صحيحاً صريحاً عنه عليه الصلاة والسلام أنه جمع في المطر، وإنما الذي جمع بعض الصحابة.
وقوله: (من غير خوف ولا مطر) غير محفوظة، والثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح من حديث عبد الله بن عباس هو الصلاة في الرحال، ومع ثبوت هذا إلا أنه لا يعمل به، والجمع يُحدث خلافاً عند الناس في بيان المقادير وأحوالها.
كذلك الإفتاء فيه شاق، وبلدنا هذه قد يوجد فيها مطر في حي ولا يوجد في حي آخر فيكون جافاً، وإذا كان هذا البون بين حيين وربما متقاربين فكيف يكون البون بين حي ممطور مطراً خفيفاً وبين حي ممطور مطراً مغرقاً؟ فضبط هذا في الفتيا شاق.
ولهذا نقول في مثل هذه الأحوال: ينبغي أن يعمم على أحوال الناس أن يؤذنوا وأن يقولوا: الصلاة في الرحال، وقد يستغرب العامة كما استغرب بعض التابعين على عبد الله بن عباس كما جاء في الصحيح حينما أمر المؤذن حينما قال: حي على الصلاة حي على الفلاح، قال: قل: الصلاة في الرحال، فاستنكروا عليه، فقال: فعلها من هو خير مني، رسول الله صلى الله عليه وسلم.
السؤال: الذنوب التي تقع من الإنسان في حال جهله، في حديث البطاقة تلك السجلات هل وقعت منه جهلاً ثم يحاسب عليها؟
الجواب: هذه مسألة مما يطول الكلام عليها في الذنوب التي تقع من الإنسان، والفطرة دالة على منعها، ولو لم يرد نص شرعي، والذنوب التي يفعلها الإنسان وهو جاهل بها ثم علم ولم يتب منها، والإنسان الذي يجهل ثم يقع في الذنب هل تكتب في صحيفته أم لا إذا اتفقنا أنه لا يعذب عليها؟
هناك من العلماء من يقول: تكتب عليه في صحيفته، ولكنه لا يعذب عليها وإنما يقر بها من باب عدم مغادرة الصغيرة والكبيرة على العبد، وهذا ظاهر العموم، وقال به جماعة من السلف كـــالحسن البصري وغيره، والله أعلم.
السؤال: الرجل الذي بايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسند على أن لا يصلي إلا صلاتين، هل هو على الاطراد أم قضية عين؟
الجواب: الأصل أنه على الاطراد، فأفعال النبي عليه الصلاة والسلام عامة، وأمثال هذه الوفود الذين يأتون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة الكبار منهم النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يتألفهم ولا يمكن أن يتألفهم على الكفر، والنبي عليه الصلاة والسلام رفض من كفار قريش ما هو أدنى من هذا؛ ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما عرض عليه كفار قريش أن يعبدوا الله ستة أشهر قال: لا، أسلموا على الدوام وأما ستة أشهر فلا.
ولهذا نقول: إنه ينبغي للإنسان أن يعلم أن ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من نص فهو حكم إلى غيره، ولكن قد يقول قائل: من عمل بهذا من السلف؟ من عمل بهذا من الصحابة والتابعين؟ نقول: إن الإسلام ما زال يزداد قوة، ومثل هذا يحتاج إليه في حال ورود الضعف، ومثل هذا القول خليق بأن يعدم في زمن الخلفاء الراشدين، فإذا جاء رجل في بداية الإسلام وأراد أن يعرض أمره على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه قبيلة كثقيف ألا يتنزل معه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الحال ولو كان على كبيرة؟
نقول: يتنزل، وهذا من السياسة الشرعية، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يقره على الكفر، وإنما يؤمن بأن الصلاة في الشريعة خمس، ولكن يسلم ويصلي صلاتين، هذا مفهوم الخبر، والله أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر