إسلام ويب

شرح كتاب العلم من صحيح البخاري [2]للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • العلم يسبق القول والعمل، وكلما كان الإنسان عالماً بالشيء وحقيقته كان أكثر ثباتاً عليه، وأعظم خشية لله عز وجل، ومن أراد الله له الخير فقهه في الدين وأحكامه، وهذا لا ينال إلا بالرحلة إلى العلماء والحضور لمجالسهم والاجتهاد، ثم بعد ذلك يقوم بإرشاد الناس وتعليمهم بالوسائل المختلفة سواء كان بالمقروء أو المسموع، وأن يراعي في ذلك اليسر والرحمة بالناس، وينبغي للعالم أن يسأل الله التوفيق والزيادة في العلم حتى يوفق إلى الخير.

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    قال الإمام البخاري يرحمه الله: [ باب العلم قبل القول والعمل، وقوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ[محمد:19] فبدأ بالعلم، وأن العلماء هم ورثة الأنبياء ورثوا العلم، من أخذه أخذ بحظ وافر، ومن سلك طريقاً يطلب به علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة، وقال جل ذكره: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ[فاطر:28]، وقال: وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ[العنكبوت:43]، وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ[الملك:10]، وقال: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ[الزمر:9]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من يرد الله به خيرًا يفقهه ) وإنما العلم بالتعلم، وقال أبو ذر: لو وضعتم الصمصامة على هذه وأشار إلى قفاه، ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن تجيزوا علي لأنفذتها. وقال ابن عباس: كونوا حلماء فقهاء، ويقال: الرباني الذي يعلم الناس بصغار العلم قبل كباره ].

    هذه الترجمة هي من الأبواب المهمة في كتاب العلم، وهي قول المصنف رحمه الله: (باب العلم قبل القول العمل)، وذلك أن الإنسان لا يصيب الحق إلا بعلم، وإن أصابه فإنه يصيبه إما صدفة أو تقليداً محضاً، والتقليد المحض لا يليق بالإنسان المكلف الذي يفهم الخطاب ويدرك، وكذلك أيضاً يحسن الجواب؛ ولهذا في قوله: (باب العلم قبل القول والعمل) أي: أنه ينبغي للإنسان أن يسبق قوله وعمله تعلم، وهذا التعلم من الإنسان يتفاوت ويتباين بحسب عمله وقوله، أي: أنه يجب على الإنسان أن يكون على بصيرة من أمره قبل عمله وقوله، وفائدة ذلك الأجر والثواب، فأن الإنسان يثاب على قوله وعمله إذا كان عن علم، بخلاف إذا فعل الإنسان ذلك بالمصادفة، أو فعله يظنه عادة، أو يقلد الناس فيه ولا يدري ما مستند ذلك من الشريعة، فإن هذا يضعف جانب التعبد أو يزيله في الإنسان.

    وكذلك أيضاً فإن العلم يعطي الإنسان ثباتاً، وهذا الثبات لا يتزحزح عند وجود أو ورود من يتهم الإنسان مثلاً بالخطأ أو المجازفة أو غير ذلك إذا كان لديه مستند من الوحي من كلام الله أو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذلك أيضاً فإنه يداوم على ذلك العمل، الإنسان الذي يعمل بلا علم يضطرب أو يكسل، وبمقدار علمه يكون ثباته غالباً؛ لأن العلم بالشيء يؤدي إلى معرفة ماهيته وحقيقته.

    فإذا كان الإنسان يعلم أهمية التوحيد ومقداره، ويعلم أهمية الصلاة ومقدارها، والزكاة ومقدارها، ويعلم أن الصلاة فيها فرائض وفيها نوافل، والنوافل في ذلك على مراتب، ويعلم أيضاً أن الصيام على مراتب: منه ما هو ركن الإسلام، ومنها ما هي نوافل، فهو يثبت على الفرائض؛ لأنه يعلم أنها فرائض، وربما يتساهل بالنوافل لعدم تأكيد الشارع فيها، إذاً: ثباته على العبادة هو فرع عن علمه بقيمتها.

    ولهذا نقول: إن الإنسان كلما كان عالماً بالشيء وحقيقته كان أكثر ثباتاً عليها؛ ولهذا يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ[فاطر:28]، فكلما كان الإنسان عالماً عظمت خشية الله عز وجل في قلبه؛ لأنه يعمل عن تعبد ومعرفة، بخلاف الإنسان الذي يعمل بغير علم فإن خشيته تضعف؛ لأنه قلد أو رأى الناس يقولون ويعملون فقال وعمل؛ وهذا يضعف جانب خشية الله عز وجل فيه، فتجد فيه التفريط لأنه لا يدري لماذا فرط.

    أنواع الجهل

    ولهذا نقول: إن الجهل على نوعين، كما أن العلم على نوعين، وأقسام العلم والجهل لها اعتبارات، ولكن نقول: إن العلم على نوعين، والجهل على نوعين، أولها: الجهل بحقيقة الشيء، والثاني: جهل بمقداره وترتيبه مع غيره، فإذا جهلت مقدار الشيء ولم تعلم ترتيبه مع غيره وقع لديك شيء من الخلط، والإنسان الذي لا يفرق بين أركان الإسلام وبين بقية الواجبات هذا عالم بحقيقة الشيء جاهل بمرتبته، فيقع التفريط في الإنسان بمقدار جهله؛ لهذا نقول: إن أصل الجهل هو الجهل المركب، والأصل أن الإنسان يجهل حقيقة الشيء، ولكن الجهل الذي تعم به البلوى هو جهل مقادير الأشياء ومراتبها، وهذا هو أكثر ضلال البشرية؛ لهذا كفار قريش ضلالهم هو بسبب عدم العلم أصلاً أم العلم مع عدم معرفة المراتب؟ عدم معرفة المراتب، فهم يعلمون أن الله عز وجل هو الرازق والخالق وهو المحيي المميت سبحانه وتعالى، ولكنهم يجهلون مقدار حق الله عز وجل ومرتبته مع غيره؛ لهذا النبي صلى الله عليه وسلم حينما يدعوهم إلى عبادة الله وحده، ويقولون: نحن بنينا البيت، ونحن كسونا الكعبة، ونحن أصحاب سقاية الحاج، هذه عبادات أو ليست عبادات؟ عبادات لكن هل هي أهم من التوحيد؟ لا، التوحيد أهم منها؛ ولهذا قاتلهم النبي عليه الصلاة والسلام، فهم عند أنفسهم أنهم فعلوا شيئاً من الطاعات فكأنهم يقولون: لماذا تقاتلنا؟ يقول: أقاتلكم على التوحيد؛ لهذا قال الله جل وعلا: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ[التوبة:19]، هل يستوي هذا وهذا؟ لا يستوي.

    إذاً: هذا الجهل إنما هو بالمقادير والمراتب، وهذا هو أصل الضلال، يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ[الحج:73]، ما سبب هذا الخلط؟ ما سبب عبادة هذه الأصنام من دون الله؟ أكملوا مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ[الحج:74]، إذاً: يعلمون من هو الله ولكن ما عرفوا مقداره، فالجهل بمقادير الأشياء ومراتبها له أثر على عمل الإنسان وخلط في معارفه؛ ولهذا الجاهليون إنما أشركوا مع الله عز وجل وهم يعرفون الله سبحانه وتعالى ولكنهم جهلوا مقداره، وعرفوا العبادة وجهلوا مقاديرها، فوقع فيهم الكفر.

    وهكذا في كل معلوم إذا جهلت مقداره فرفعته، أو جهلت مقداره فوضعته وقع لديك خلط في بذل وصرف العبادة له، ولهذا الذين يعبدون الأصنام من دون الله يعلمون أنها جمادات ومصنوعة من حجر أو من شجر أو من تمر يعرفون هذا أو لا يعلمون؟ يعلمون، لكنهم جعلوا لها من القيمة والمقدار ما زاد عن حقيقتها، وتفرع عن ذلك أن صرفوا عبادة لها لا تليق بها.

    ولهذا نقول: لا بد من تحقق العلم بنوعيه: العلم بمعرفة الشيء، الثاني العلم بمقداره ومرتبته، فتعلم أن الله عز وجل سبحانه وتعالى خالق، وتعلم ما هو مقدار هذا الخالق من جهة ما تصرف له، أيضاً تعلم أن هذا صنم، وتعلم كذلك ما هو مقدار هذا الصنم من جهة قيمته عندك أو نحو ذلك.

    التحذير من تقديم المفضول على الفاضل

    والإضلال بهذا هو سبب ضلال البشرية، وكذلك سبب ضلال المتعلمين أيضاً، لذا تجد من الناس من يأخذ العلم المفضول ويدع الفاضل لجهله بمقدار الفاضل على المفضول، ومن هنا نقول: إن الجهل بقيم الأشياء ومراتبها هي التي تضل الإنسان وتحرفه عن طريق الحق، فمثلاً: تجد إن كثيراً من الناس أو كثيراً من المتعلمين يتوجهون إلى العلوم ربما لرغباتهم لا بالانصراف إلى حقيقتها، لكن الإنسان يتعلم العلم لرغبته الشخصية أو لحاجة الناس؟ نعم لحاجة الناس؛ ولهذا تجدون حتى في العلم في أمور الناس الدنيوية الإنسان يتعلم بما يحتاجه إليه سوق العمل، يحتاج مثلاً إلى تخصص في الاقتصاد أو في الطب أو نحو ذلك مما فيه عواز، فيقوم الإنسان بالتخصص فيه مع أنه يرغب في علم آخر، لكنه يتوجه إلى رغبته أو إلى حاجة الناس؟ إلى حاجة الناس حتى ينفذ علمه إليهم؛ لهذا الذين يتوجهون إلى علوم الشريعة عليهم أن ينظروا إلى مراد الله عز وجل بحاجة الناس، وأعظم ما أوجبه الله عز وجل على الناس هو توحيده سبحانه وتعالى.

    كذلك أيضاً في بذل الدعوة إلى الله عز وجل يجب على الإنسان أن يدعو الناس إلى ما يحتاجون إليه، إذا كانوا قد فرطوا في أمور التوحيد ووقع فيهم الشرك، هل الإنسان يتوجه إليهم بأمور الفضائل وأمور الأحكام وغير ذلك وهو يعلم أنهم مشركون؟ لا، ولو رغبوا ذلك؛ ولهذا كثير من الدعاة إلى الله أو المصلحين أو الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر لديهم خلل في هذا، تجد أنه يعلم الناس الآداب والسلوك، والتعامل مع الزوجة، والتعامل مع الجار، والتعامل مع الغير، أو نحو ذلك، لكنه لا يشير إلى عقائد التوحيد، وربما يخاطب وثنيين، هل هذه الدعوة بالنظر إليها منفردة صحيحة أو ليست بصحيحة؟ صحيحة، لكن إنزالها هو إنزال مفضول على شيء فاضل.

    ولهذا ينبغي أن ينظر إلى ذلك بحسب العلم، يتعلم الإنسان، وكذلك أيضاً يبلغ، والعلماء هم ورثة الأنبياء وقد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال ( العلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر )، فشبه النبي عليه الصلاة والسلام العلم بالميراث، وذلك أن الأب إذا توفي يرثه أبناؤه وبناته وزوجه والأقربون إليه، ففي تشبيه العلم بالميراث عدة معاني، من هذه المعاني:

    أن أقرب الناس إلى النبي عليه الصلاة والسلام هو أكثرهم نصيباً في الميراث، كما أن أكثر الناس نصيباً من الأب المتوفى أقربهم إليه نسبا ًكالابن والبنت والزوجة، ثم يأتي بعد ذلك الأبعدون إليه.

    كذلك أيضاً فيه إشارة إلى أنه لا يمكن أن يحوز العلم كله أحد؛ لأنه في المواريث منهم من يأخذ النصف، ومنهم من يأخذ الربع، ومنهم من يأخذ الثمن، ومنهم من يأخذ السدس، ومنهم من يشاركه غيره، ومنهم من ينفرد، كذلك العلم لا يمكن أن يحوزه واحد منفرداً من جميع الجهات؛ لهذا نقول: إن الإنسان يستكثر من العلم، وكلما كان أكثر أخذاً للعلم فليعلم أنه أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ ميراثه ذلك. قال: (( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة ))، هذا الحديث جاء في مسلم موصولاً من حديث أبي هريرة، وفيه إشارة إلى أن أيسر الطرق إلى مرضات الله وإلى جنته هو العلم؛ لأن العالم يختصر الأجور والثواب ورضا الله بأيسر الأعمال وأخصرها، يعرف فضائل الأعمال وغير ذلك، هذا وجه، وقد جاء في حديث عبد الله بن عباس في مسلم ( أن النبي عليه الصلاة والسلام خرج من عند جويرية أم المؤمنين عليها رضوان الله تعالى، وكانت جالسة في مصلاها بعد أذان الفجر، فخرج عليه الصلاة والسلام إلى صلاة الفجر، فما رجع إلا بعد ارتفاع الشمس، فقال النبي لما دخل عليها وهي جالسة في مصلاها: ما زلت في مكانك الذي تركتك عليه؟ قالت: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إني قلت أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت فيما قلت لوزنته -يعني: لفاق عليها- قالت: ما هن يا رسول الله؟ قال: سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، ومداد كلماته، وزنة عرشه )، هذه الكلمات يقولها الإنسان ثلاثاً وهي أربع كلمات فتعدل ما يقوله الإنسان في جلوسه مثلاً في مصلاه من غيرهن.

    إذاً: هذا فرع عن العلم أم يقوله الإنسان تخرصاً؟ فرع عن العلم.

    فإذا عرف الإنسان مواضع العلم الذي يكسب به الأجور العظيمة، فهذا هو موضع التجارة الحقيقية، التاجر الحاذق الذي يضارب في الأسواق هو الذي يربح بالمال القليل مالاً كثيراً، كذلك العامل الذي يعمل الشيء القليل ثم يكسب شيئاً كثيراً هذا يوصف بالحذق والتوفيق، كذلك أيضاً الطائع الذي يعرف الثواب العظيم أجره أعظم.

    والمرد بهذا هل الإنسان يعمل العبادة رغبة؟ لا ليس الأمر إلى رغبة الإنسان، بعض الناس يميل إلى نوع من أنواع العبادة وهي عبادة مفضولة، ويدع الفاضلة هذا توفيق له لكنه توفيق قاصر.

    وليعلم أيضاً أن من تسويل الشيطان على بعض الصالحين هو أن يرشدهم إلى نوع من العبادات المفضولة إذا وجد في قلوبهم همة لا يستطيع إغلاقها أو دفعها، الشيطان له مداخل على بني آدم حتى على الصالحين؛ لأنه يعامل الناس بحسب أحوالهم، فالعابد الزاهد الذي لديه قوة وطاقة بدنية بالتوجه إلى العبادة والحب فيها هذا لا يستطيع الشيطان أن يصرفه عن ذلك، ولكن يشغله بالمفضول، حتى لا يصل على الأقل إلى المرتبة العليا، وإنما يصل إلى ما دون ذلك؛ لهذا هل الإنسان يتوجه للعبادات بحسب رغبته واستحسانه وميله لها، أو بحسب استحسان المشرع وتفضيله لها؟ بحسب استحسان وتفضيل المشرع لها ينصرف إليها.

    ما هي قيمة العبادة؟ القيمة النفسية أم القيمة الشرعية التي أوجدها الله؟ القيمة الشرعية هي التي ينظر إليها؛ ولهذا كثير من الناس لا يوفقون إلى مثل هذا، فمثلاً النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( من قال سبحان الله وبحمده في اليوم مائة مرة حطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر )، يقولها الإنسان ربما في دقيقة، هل أثرها هذا صحيح؟ يعني أنها تزيل الذنوب وإن كانت مثل زبد البحر؟ نعم والحديث في الصحيحين، لكن السؤال من الموفق لهذا؟ القضية توفيق أو عمل؟ القضية توفيق؛ ولهذا نقول: ينبغي للإنسان أن يلتمس توفيق الله عز وجل وسداده له في العمل، وكذلك أيضاً في العلم، فإنه كلما ازداد الإنسان علماً ازداد خشية لله عز وجل وذلك لزيادته في العلم والمعرفة، ومعرفته لحكم الله عز وجل وعلله في التشريع، فإنه إذا رأى العلل آمن وصدق، وكذلك خضع وأذعن وسلم واستسلم لله عز وجل وانقاد له، وكذلك أيضاً فإنه يكثر من العبادة ويخشى الله عز وجل ويتقه فإن العبادة سلم إلى غيرها، كلما أكثر الإنسان من العبادة زاد في ذلك من الله سبحانه وتعالى قرباً.

    وفي قوله عليه الصلاة والسلام: ( من يرد الله به خيراً يفقه في الدين ) دلالة مفهوم، ويسميها الأصوليون دلالة الخطاب، وذلك أن الفقه هو دليل على إرادة الخير من الله عز وجل لعبده، وأن الله عز وجل إذا لم يرد بعبده خيراً صرفه عن العلم، إذاً: فهي نسبية، كلما ازداد الإنسان جهلاً أراد الله عز وجل به سوءاً، وكلما ازداد الإنسان علماً أراد الله عز وجل به خيراً، وهذا نأخذ منه أنه التلازم بين العلم والعمل.

    وكذلك أيضاً قول أبي ذر: (لو وضعتم الصمصامة على هذه، وأشار إلى قفاه، ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنفذتها)، يعني: قبل أن تجهزوا علي، وهذا فيه إشارة إلى أن الإنسان ينبغي له أن يبلغ الدين ولو لم يبق من حياته شيء وذلك ليقوم بشيء من العمل، وكذلك أيضاً ليعمل به الناس، والبلاغ في ذلك أيضاً من الأمور المتحتمة.

    كذلك أيضاً فإن العلم كما أنه درجات في التلقي فهو كذلك درجات أيضاً في البلاغ، يبلغ الإنسان صغار العلم قبل كباره، ما هي صغار العلم؟ التي يدركها الإنسان ويفهمها، يأتي بدقائق الأمور التي ربما تثقل على مسامع الناس، دقائق الأسماء والصفات والعلل الغيبية الدقيقة لا ينبغي للعالم أن يحدث الناس بها من العامة الذين لا يدركون مواضعها، وإنما عليه أن يبلغهم ما يحتاجون إليه، ينظر إلى الناس إذا كانوا مثلاً يجهلون مثلاً مسائل في أركان الإسلام، وأحكام العقيدة، يبلغهم الأصول العامة، لكن لا يبلغهم مسائل ودقائق العلم البعيدة عنها، والبعيدة عن أفهامهم، وهذا من الحكمة، لذا فإن العالم الرباني هو الذي يضع العلم بحسب حاجة الإنسان، وقد تقدم معنا أن الجهل مرض، النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( إنما شفاء العي السؤال )، فلان يقال: فيه عي، يعني: يشتكي من مرض، كذلك أيضاً الجهل، فالجهل مرض، فإذا كنت عالماً طبيباً جاءك رجل فيه مرض ووباء عظيم ولديه شيء يسير مثلاً من الصداع أو نحو ذلك وأنت تعلم مواضعه هل تعالج الصداع أو تعالج الوباء العظيم فيه؟ تعالج الوباء العظيم، هذا هو الأولى، فلا تدع هذا الأمر لأنه ربما يتفشى فيه، بل تقوم بعلاجه، لذا فأنت طبيب العقول، كما أن هذا طبيب الأبدان، والذي لا يفرق بين هذا وهذا يعالج الفرعيات ويدع الأمراض العظيمة؛ ولهذا تجد حتى الأطباء إذا رأوا مريضاً فيه أمراض متعددة انصرفوا إلى المرض الأخطر وتركوا غيره، أليس كذلك؟ وربما الإنسان يذهب وفيه مرض ثم يكتشف فيه الطبيب مرضاً أشد ويدع ذاك، يقول: أترك هذا، الآن عندنا مصيبة من المرض الذي تشتكي منه، أليس هذا دليل على الحذق وأداء الأمانة؟.

    كذلك أيضاً فإن العالم ينظر في مواضع الجهل، ماذا يجهل الناس؟ يجهل التوحيد، إذاً ندع الفروع، ندع مسائل الأحكام، ندع مسائل الجزئيات والآداب والسلوك حتى نعلمه توحيد الله سبحانه وتعالى، كذلك أيضاً إذا وجدنا عند الناس خللاً في الصلاة نرجئ مسائل الزكاة ومسائل الصيام وغير ذلك، كذلك أيضاً إذا كنت تخاطب أرباب أموال فإنك تخاطبهم بمسائل الزكاة باعتبار أنهم محتاجون إليها، لكن لا تأتي إلى فقراء معدمين يبحثون عن الزكاة تفقهم بمصارف الزكاة، لماذا؟ لأنهم ليسوا من أهل المال؛ ولهذا نقول: إن العالم الرباني هو الذي يعلم الناس العلم بحسب ما يشفي عي الجهل فيهم، وهذا ينظر إليه من جهتين من الجهة الشرعية، وكذلك أيضاً من جهة الموضع الذي يوضع فيه ذلك العلم والجهة الشرعية هي التي وضعت مراتب التشريع ولم تترك للناس.

    ولهذا تجد في كثير من وسائل الإعلام سواء الإذاعية أو المكتوبة كالصحافة ونحو ذلك من يهتمون بغرس أشياء مع وجود حاجة للناس في غيرها، فمثلاً في برامج فضائية طويلة جداً تجد للداعية أو للمصلح مئات الحلقات عن السير والآداب والسلوك، ولكنه لم يدع مرة إلى التوحيد، وهو يرى الوثنية قد استشرت في بلدان المسلمين، أو تجد مثلاً من أفحش الكفر وأشده وهو التعدي على ذات الله عز وجل وسبه سبحانه وتعالى، أليس هذا كفر؟ كفر بالله عز وجل، وهو أشد من عبادة الأصنام، وهؤلاء لو عبدوا الأصنام أهون من أن يتعدوا على الله عز وجل بالسب والشتم، وهذا ينتشر كثيراً في بلدان المسلمين، في بلدان الشام والعراق وغيرها، وكذلك أيضاً ربما في بلدان المغرب العربي، ومثل هذا الأمر يحتاج إلى إنكار أو لا يحتاج إلى إنكار؟ يحتاج إلى إنكار، ويحتاج إلى بيان.

    لهذا نقول: إن مراتب التعليم ترجع إلى ميزان الشريعة، وميزان حاجة الناس، ولا يعني هذا أننا نهمل جوانب تربية الناس وتعليمهم بالأخلاق الحسنة والأمانة وغير ذلك، ولكن نبدأ بالدعوة الأم وهي التوحيد، والنبي عليه الصلاة والسلام في مكة هل كان يدعو إلى التوحيد فقط أم يجعل معه شيئاً؟ يجعل معه شيئاً؛ ولهذا أبو سفيان ( لما سئل: ماذا يدعوكم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: كان يدعونا إلى عبادة الله، وإلى الأمانة، والصدق، والعفاف)، هذا في مكة، فأنت أيضاً تدعو إلى توحيد الله عز وجل وتدعو إلى هذه الأمور من الأخلاق، لكن تجعل في المرتبة الأولى جانب التوحيد؛ لأن الشرك يوجد في هؤلاء أكثر؛ ولهذا تجد في القرآن آيات التوحيد والربوبية أكثرها مكية وإلا مدنية؟ أكثرها مكية؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما جاء إلى المدينة كان الناس متمكنين في أمور الإيمان والتوحيد وقبول الحق فاحتاجوا إلى فروع الإسلام، احتاجوا إلى معرفة الصلاة والصيام والزكاة والحج وعقود الأنكحة والبيوع والآداب كأمور الاستئذان وغير ذلك من أحكام الشريعة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3087509059

    عدد مرات الحفظ

    772756954