الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فنتكلم في هذا المجلس بإذن الله عز وجل على شيء من الأحاديث المعلة في الحج.
أول هذه الأحاديث هو حديث عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنه قال في قول الله جل وعلا: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97] قال: الاستطاعة: الزاد والراحلة ).
هذا الحديث رواه الدارقطني والبيهقي من حديث محمد بن عباد ، عن عبد الله بن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والحديث معلول براويه عن محمد بن عباد ، عن عبد الله بن عمر ، وذلك أنه رواه إبراهيم بن يزيد الخوزي ، عن محمد بن عباد ، عن عبد الله بن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، و إبراهيم الخوزي ضعفه غير واحد من الحفاظ، وقال يحيى بن معين : ليس بالقوي.
وضعف هذا الحديث جماعة من الأئمة، كـالشافعي وكذلك والبيهقي وغيرهم من الأئمة، وقد توبع عليه إبراهيم بن يزيد ، تابعه غير واحد، فقد رواه الدارقطني و البيهقي من حديث محمد بن كثير ، عن جرير بن حازم.
وقد أخرجه أيضاً الدارقطني و البيهقي من وجهٍ آخر من حديث محمد بن عبد الله بن عبيد كلاهما محمد بن عبد الله بن عبيد و جرير بن حازم، كلاهما يرويانه عن محمد بن عباد عن عبد الله بن عمر ، ولكن هذا الحديث بهذين الطريقين مطروح أيضاً، وذلك أن محمد بن عبد الله بن عبيد متروك الحديث، ويرويه أيضاً عن جرير بن حازم محمد بن كثير وهو متروك الحديث، وهذان الراويان متروكان مطروحان، وقد تابع إبراهيم بن يزيد في روايته على هذا، ولا يحتمل منهما هذه المتابعة، وقد تقدم معنا أن الحديث إذا رواه راوٍ مطروح ثم تابعه عليه مثله أن هذه المتابعة مما لا يعتضد بها عند العلماء.
وينبغي لطالب العلم في أبواب المتابعات إذا أراد أن ينظر إليها من جهة العدل، أنه إذا مر عليه من الأحاديث التي فيها المتروك أو المنكر أو المتهم، فلا يلتفت إليها ولا يجعلها في حسبانه على الإطلاق، حتى لا يغتر بكثرتها، وبعض المشتغلين بالحديث ربما ينظرون إلى أمثال الأعداد فيغترون بذلك، وهذا ليس على طرائق أهل العلل، وجاء طريق آخر لهذا الحديث من حديث السعيد بن سلام يرويه عن عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن عبد الله بن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه، وهذا الحديث منكر أيضاً، فقد قال علي بن الجنيد كما سأله ابن أبي حاتم في كتابه العلل عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث باطل، وذلك أنه تفرد به سعيد بن سلام العطار ، عن عبد الله بن عمر العمري ، عن نافع ، وهو مطروح الحديث، ومعلوم أن مفاريد عبد الله بن عمر العمري عن نافع مما لا يحتج بها الأئمة، وهذا الحديث لا يعرف في حديث نافع عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى، ثم إن مدار هذا الحديث على محمد بن عباد بن جعفر ، عن عبد الله بن عمر وبه يعرف، والحديث إذا جاء من طرق متعددة عن طريق راوٍ دون الراوي الأشهر كما في حديث نافع ، فإن هذه الطرق المتعددة أمارة على أنه لا يعرف إلا من هذا الوجه، ولو كان معروفاً من غيره لحفظ وضبط، وذلك أن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله لو كان هذا الحديث عنده لنقله المعروفون من تلاميذه، وما نقل عن نافع في رواية عبد الله بن عمر العمري ، لو كان عند نافع مولى عبد الله بن عمر لما تفرد به العمري مع الحاجة إليه، وهذا من أمارات الإنكار.
الحديث الثاني: حديث أنس بن مالك عليه رضوان الله، ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قول الله جل وعلا: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، قال: الزاد والراحلة ).
هذا الحديث رواه الحاكم ، و الدارقطني ، ورواه البيهقي من حديث علي بن سعيد بن مسروق ، عن ابن أبي زائدة ، عن حماد و سعيد بن أبي عروبة عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث منكر ولا يصح موصولاً ولا مسنداً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه معلول بعدة علل: أول هذه العلل: أنه تفرد به علي وهو ابن مسروق وهو وإن كان صدوقاً إلا أنه لا يحتمل منه التفرد عن ابن أبي زائدة عن سعيد بن أبي عروبة و حماد ، وذلك أن مثل هذا الإسناد وهو رواية قتادة عن أنس بن مالك في مثل هذا المعنى مما يحمله الكبار، وقد حمله سعيد و حماد ، وينبغي ألا يحمله مثل علي بن سعيد في روايته عن ابن أبي زائدة ، وهذا من المفاريد المنكرة، وأمارة النكارة أنه لم يضبط هذا الحديث، فقد خولف في هذا الحديث، فجاء مرسلاً وهو الصواب، جاء من حديث الحسن البصري مرسلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه عن الحسن جماعة، رواه يونس و عبد الوهاب الثقفي ، و قتادة ، كلهم عن الحسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وهو الصواب، وقد جاء هذا الحديث عن سفيان الثوري عن يونس عن الحسن عن أنس بن مالك ، فجعله مسنداً، وهذا وهم وغلط، فقد رواه عتاب بن أعين كما رواه العقيلي في كتابه الضعفاء عن سفيان الثوري به، و عتاب يهم في حديثه، وهذا الحديث الصواب فيه الإرسال، فقد صوب الإرسال الشافعي ، و البيهقي ، و الحاكم ، وقد جاء هذا الحديث عند الحاكم في كتابه المستدرك موصولاً من حديث أبي قتادة ، عن حماد بن سلمة ، عن قتادة عن أنس بن مالك موصولاً ومرفوعاً، و أبو قتادة هو عبد الله بن واقد ، وهو لا يحتج به، وحديثه هذا منكر، والصواب في ذلك كما تقدم الإرسال، وحديث أنس بن مالك هو أشهر الأحاديث المروية في هذا الباب في دواوين الفقه، في الاعتماد على تفسير الاستطاعة بالزاد والراحلة.
الحديث الثالث: حديث عبد الله بن عباس عليه رضوان الله: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قوله: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، قال: الزاد والراحلة ).
حديث عبد الله بن عباس رواه ابن ماجه في كتابه السنن، ورواه الدارقطني أيضاً من حديث هشام بن سليمان القرشي عن ابن جريج ، عن عمر بن عطاء ، عن عطاء ، عن عبد الله بن عباس ، جاء من حديث عمر بن عطاء ، عن عكرمة عن عبد الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث معلول بعدة علل، وهو منكر أيضاً.
وأول هذه العلل: أن هذا الحديث لو كان عند عكرمة لما تفرد بروايته عنه عمر بن عطاء ، و عمر بن عطاء لين الحديث، وقد ضعفه بعض العلماء كـيحيى بن معين وغيره، ومثال هذا المعنى لو كان مرفوعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند عكرمة لنقله الحفاظ من أصحابه، فله أصحاب كثر من الثقات، وهذا الحديث لا يعرف عن عكرمة إلا من رواية عمر بن عطاء ، وقد جاء من وجه منكر غير هذا الوجه، من حديث سماك كما رواه الدارقطني في كتابه السنن، من حديث حصين بن مخارق ، عن محمد بن خالد ، عن سماك بن حرب ، عن عكرمة ، عن عبد الله بن عباس ، وذكره مرفوعاً، وهذا الطريق منكر؛ لأن رواية سماك بن حرب عن عكرمة عن عبد الله بن عباس فيها اضطراب، كذلك فإن حصين بن مخارق راوي الحديث لا يحتج به، وهو ضعيف، وقد تفرد بهذا الحديث من هذا الوجه، ومن أمارات عدم حفظه لهذا الحديث: وهمه، فقد روى هذا الحديث من غير هذا الوجه وجعله من مسند أنس بن مالك ، فقد رواه حصين بن مخارق فجعله من حديث يونس عن الحسن عن أنس بن مالك ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا وهم وغلط، وجاء حديث عبد الله بن عباس من غير هذا الوجه، جاء من حديث داود بن الزبرقان ، عن عبد الملك ، عن عطاء ، عن عبد الله بن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في الاستطاعة: ( هي الزاد والراحلة )، و داود متروك الحديث، ومفاريده عن عطاء مما لا يحتج بها، وقد تفرد بهذا الحديث هو و حصين بمثل هذا الوجه، وهو منكر.
وعلى هذا نقول: إن حديث عبد الله بن عباس أمثل الطرق فيه رواية عمر بن عطاء، وهو منكر، وأما ما جاء في طريق حصين بن مخارق فقد اضطرب فيه على ما تقدم، وأما رواية داود بن الزبرقان فهي أيضاً منكرة؛ لأنه لا يحتج به هو و حصين ، وكذلك فإن هذا الحديث لو كان معروفاً عن عبد الله بن عباس لرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أصحابه عنه، فقد روى هذا الحديث بمعناه موقوفاً ابن جرير الطبري في كتابه التفسير، من حديث معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن عبد الله بن عباس ، أنه قال في قول الله عز وجل: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97] قال: هي أن يكون له زاد وراحلة، ومالٌ من غير أن يجحف به، وهذا جاء موقوفاً على عبد الله بن عباس ، ومعلوم أن رواية علي بن أبي طلحة هي أوثق من رواية عمر بن عطاء عن عكرمة؛ لأنها صحيفة، وهذه الصحيفة قد اعتمد عليها غير واحد من الأئمة، وأوردها البخاري في كتابه الصحيح، وقوى أمرها أحمد ، ويعقوب بن شيبة ، وعلي بن المديني، وغيرهم من الأئمة، وقد جاءت موقوفة وهذا أمثل الأوجه، عن عبد الله بن عباس ولو كان مرفوعاً لما جاء موقوفاً من مثل هذا الطريق.
الحديث الرابع: حديث عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله أنه قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستطاعة: هي الزاد والراحلة ).
وهذا الحديث رواه الدارقطني في كتابه السنن من حديث الحسن بن محمد ، عن بهلول بن عبيد ، عن حماد بن أبي سليمان ، عن إبراهيم النخعي ، عن علقمة ، عن عبد الله بن مسعود به، وهذا الحديث منكر بهذا الإسناد؛ لأنه تفرد به الحسن بن محمد ، عن بهلول بن عبيد ، عن حماد بن أبي سليمان ، ومثل هذا الإسناد لا يحتمل معه التفرد في الموقوف فضلاً عن المرفوع، و بهلول بن عبيد قال فيه غير واحد من العلماء: إنه ذاهب الحديث، فقال ابن حبان: يسرق الحديث، وهذا الحديث من هذا الوجه مطروح، خاصة أنه مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومثل هذا اللفظ مما لا يحتج به بمثل هذا الإسناد.
كذلك من وجوه الإعلال: أن هذا الحديث مما تفرد به حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم عن علقمة ، و حماد بن أبي سليمان وإن كان من أئمة الرأي والفقه إلا أنه ليس بضابط للحديث، وكثيرٌ من مروياته التي يرويها عن إبراهيم النخعي يرويها بالمعنى، وهو كوفي، ويروي عنه كوفي، و بهلول بن عبيد الراوي عنه كوفي أيضاً، وأهل الكوفة معروفون بالرواية بالمعنى، والتجوز بعدم ضبط الألفاظ، وبرفع الموقوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن الفقيه يترخص في المعالي ما لا يترخص المحدث الضابط، وهذا يكثر في بلدان الدراية من الكوفة والبصرة وأضرابها، ولهذا فقد أنكر هذا الحديث غير واحد من العلماء على بهلول بن عبيد في روايته عن حماد بن أبي سليمان، ثم إن هذا الحديث لو كان معروفاً عن إبراهيم لرواه عنه أصحابه الثقات، كـالأعمش وغيره، وهذا الحديث لا يعرف عن إبراهيم النخعي إلا من هذا الوجه، وأصحاب إبراهيم يعتنون بمرويات الحديث المرفوع عنه خاصة، حتى لو لم يكونوا من أصحاب مدرسة عبد الله بن مسعود ، ومعلوم أن إبراهيم النخعي له أصحاب من مدرسته، ولهم أصحاب من غير مدرسته، فأصحابه الذين على مدرسته يروون عنه ويعتنون برواية ما كان عن عبد الله بن مسعود ، وما كان عن النبي عليه الصلاة والسلام، وأما ما كان من غير مدرسته فيعتنون بالمرفوع أكثر من الموقوف، مع روايتهم للموقوف عنه؛ لأن مرويات إبراهيم النخعي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود تختص بها مدرسة أهل الرأي بالإكثار من النقل بمثل هذا الإسناد، ولما تفرد به حماد وعن حماد بهلول بن عبيد؛ دل على عدم استقامة الإسناد مع هذا المتن، ولكونه مرفوعاً ولم يرو إلا من هذا الوجه، ومثله يحمله الثقات، ولما لم يحملوه دل على كونه منكراً.
الحديث الخامس: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنه قال في الاستطاعة: هي الزاد والراحلة ).
وهذا الحديث رواه الدارقطني و البيهقي من حديث محمد بن عبيد الله العرزمي ، ومن حديث عبد الله بن لهيعة كلاهما عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث منكر، لتفرد محمد بن عبيد الله بهذا الحديث مع ابن لهيعة، وكلاهما ضعيف، فـالعرزمي متروك وهو معروف، وقد اتهمه بعض الأئمة، وهو ممن يتهم بسرقة الحديث، يعني: بأخذه ونسبته إليه، و عبد الله بن لهيعة ضعيف في ذاته، ثم اختلط فزاد ضعفه، فهؤلاء لا يعضد بعضهم بعضاً لاحتمال أن يكون الحديث أصلاً عن عبد الله بن لهيعة، فأخذه محمد بن عبيد الله عنه، فيكون مرده حينئذ واحداً، ولهذا ينبغي للناقد إذا أراد أن يحكم على حديث فوجد متابعة ضعيف لمثله أن ينظر فيهما في حال وصف الأئمة لهما بسرقة الحديث، فإذا كان كذلك فإن هذا يقلص عدد الطرق ولا يكثرها في عينه فلا يغتر بالكثرة، فإن الراوي الذي يسرق الحديث ينسب طريق غيره إليه فيظن أنه متابع وليس هو كذلك.
وكذلك من وجوه العلل: أن هذا الحديث لو كان عن عمرو بن شعيب لنقله الثقات من أصحابه للحاجة إليه، لو كان من حديث عمرو بن شعيب لنقله الرواة عنه، ومعلوم أن هذه الصحيفة والنسخة التي هي رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده لها نقلة ثقات يعتنون بها، خاصة في رواية المرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث وهو تفسير الاستطاعة جاء من حديث علي بن أبي طالب وهو مطروح، وروي فيه بعض المراسيل وهي واهية، وأمثل ما جاء في ذلك هو رواية الحسن البصري مرسلة عن النبي عليه الصلاة والسلام، كما نص على هذا ابن المنذر، فقال: إنه لا يثبت في هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أو بنحو قوله؛ لوضوح المعنى في كلام الله مما لا يحتاج معه إلى تفسير وتأويل، وهذا يرجعنا إلى قاعدة كررناها في أبواب العلل، وهي: أن المعنى المستفيض المستقر في الأذهان إذا جاء من غير وجهٍ عن النبي عليه الصلاة والسلام تفسيره مع استفاضة العمل به، أن هذا من أمارات وقرائن الاستنكار، وذلك أن المعاني المستقرة لا تحتاج إلى كثرة طرق وتعدد رواية، مما لا يحتاج إليه في مثل هذا استقرار العمل، فهو إذاً يحتاج إلى عمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الحديث السادس: حديث جابر بن عبد الله أنه قال: ( حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا النساء والصبيان، فلبينا ورمينا عنهم )، هذا الحديث أخرجه الترمذي والإمام أحمد ، و ابن ماجه ، و ابن أبي شيبة ، من حديث الأشعث بن السوار ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث معلول بعدة علل: أول هذه العلل: تفرد الأشعث بن السوار به عن أبي الزبير ، و الأشعث بن السوار لا يحتج به، وقد ضعفه غير واحد من العلماء، وهو منكر الحديث، وهو كوفي وربما لا يأتي هو وأمثاله بالحديث على وجهه، ولهذا اضطرب في المتن، فيروي الحديث الأشعث بن السوار عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله على لفظين:
اللفظ الأول: لفظ الترمذي قال: ( حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا النساء والصبيان، فلبينا ورمينا عنهم؟) يعني: لبوا عن النساء والصبيان، ورموا عنهم جميعاً، وهذا لفظ منكر، فإن المرأة لا يلبى عنها.
وأما اللفظ الآخر فهو لفظ الإمام أحمد و ابن ماجه و ابن أبي شيبة من حديث الأشعث بن سوار عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: ( حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا النساء والصبيان، فرمينا عن الصبيان )، فذكر أن الإنابة هنا هي عن الصبي وليس عن المرأة، وهذا اضطراب في المتن، وهذا يدل على أن الأشعث مع كونه ضعيفاً في روايته لكن يظهر أنه ليس بفقيه؛ وذلك أن الإنابة عن المرأة بالتلبية لا تصح بالاتفاق؛ لأنها تلبي عن نفسها كغيرها، وقد حكى الإجماع على ذلك الترمذي رحمه الله حينما أخرج هذا الحديث بهذا اللفظ استغربه على أنه لا يلبى عن المرأة، قال: والعمل على هذا، وهذا يدل على أن الحديث إذا روي من أكثر من وجه متضادة، فهذا من علامات الاضطراب.
ولهذا نقول: إن هذا الحديث مضطرب، وعلته في ذلك الأشعث بن سوار ، وكذلك فإن من جوه الإعلال في هذا الحديث تفرد أهل الكوفة به، فـالأشعث في تفرده بهذا الحديث لا يعرف إلا عنه مع الحاجة إليه، ولو كان معروفاً لنقله غيره عن أبي الزبير ، و أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس من الرواة المكيين، ويروي عن جابر بن عبد الله ، ومثل هذا ينبغي أن يستبين خاصة إذا كان مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الحديث السابع: حديث عبد الله بن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة أخرى، وأيما عبدٍ حج ثم أعتق فعليه حجة أخرى )، الحديث.
هذا الحديث رواه الحاكم و البيهقي وغيرهما، من حديث محمد بن المنهال ، عن يزيد بن زريع ، عن شعبة بن الحجاج ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن عبد الله بن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد خولف فيه محمد بن المنهال في روايته عن يزيد بن زريع ، فجعله مرفوعاً ورواه غيره موقوفاً، رواه سفيان الثوري عن شعبة بن الحجاج، ، وجعله موقوفاً على عبد الله بن عباس ، وحديث سفيان الثوري أصح، وهنا مسألة في أمور العلل وهي: أن هذا الحديث يرويه محمد بن المنهال عن يزيد بن زريع ، عن شعبة ، ويرويه سفيان عن شعبة ، وظاهر الإسناد أن الذي خالف سفيان هو يزيد بن زريع ، وليس محمد بن المنهال ، فلماذا حملنا محمد؟
نقول: لأنه الأليق بالمخالفة، بخلاف يزيد بن زريع ، ولهذا نقول: إن إلحاق المخالفة للراوي لا يلزم من ذلك أن تتحد الطبقة، فلو تأخرت الطبقة بعد ذلك فإنه يلحق فيها أمر النكارة، ولهذا ألحق الحفاظ النكارة بـمحمد بن المنهال في روايته عن يزيد بن زريع عن شعبة ، مع أن المخالفة هي في طبقة يزيد بن زريع ، فرواه سفيان الثوري ، عن شعبة ، عن الأعمش به، وجعله من قول عبد الله بن عباس ، وهذا يجعلنا ننظر في الطرق التي تروى بها الأسانيد في أمور المخالفة، فينظر إذا كان ذلك دون الإسناد الأول فتلحق به العلة، ولا تلحق بالحافظ، و محمد بن المنهال توبع عليه في رفعه، فقد تابعه على روايته الحارث بن سريج ، يرويه عن يزيد بن زريع عن شعبة ، وجعله مرفوعاً، ولكن الحارث مع ضعفه هو متهم بسرقة الحديث، وقد تفرد بهذا الحديث مع محمد بن المنهال به، وقد تقدم معنا الإشارة إلى أن الراوي إذا كان متهماً بسرقة الحديث فإن متابعته لغيره لا يعتد بها، لاحتمال أن يكون أخذ الحديث من غيره فنسبه إليه، وسرقة الحديث شر أنواع التدليس، وذلك أن الإنسان يتوهم أن هذه متابعة وليست كذلك، ولهذا يقول ابن عدي رحمه الله في كتابه الكامل: وهذا الحديث هو حديث محمد بن المنهال ، عن يزيد بن زريع وهو معروف به، والحارث يسرق الحديث، ولعله أخذه منه، وسرقة الحديث عند الحفاظ أن الراوي يسمع حديث غيره يحدث به عن شيخه فيأخذه ويرويه عن شيخه، ولا يذكره في ذلك، ودافعهم في ذلك هو العلو، أن يعلو في الطبقة، وربما تسول للراوي النفس أنه إنما روى هذا الحديث عن الشيخ ولم يذكر الراوي أنه يثق به، فربما الحارث قال: إني أثق بـمحمد بن المنهال في روايته لهذا الحديث، فأنا أسقطه وأرويه عن شيخه، وهذا وإن كان من جهة البداهة للإنسان قول يسوغ في حال زمنه، لكن ما كان ثقة عندك ربما يرد عند غيرك لمخالفته لغيره، فربما لا يعلم بمخالفته سفيان الثوري لمثل هذه الرواية، ولكن هذا الحديث هل يقال: إنه من قبيل الرأي.. هل نقول: إنه من فتوى عبد الله بن عباس أم له حكم الرفع؟
الذي يظهر والله أعلم أن له حكم الرفع، وذلك أن ابن أبي شيبة قد أخرجه في كتابه المصنف من حديث أبي معاوية عن الأعمش عن أبي ظبيان ، عن عبد الله بن عباس قال: احفظوا عني ولا تقولوا: قال عبد الله بن عباس، يعني: أنه لا يروي عن نفسه، وإنما يروي شيئاً عن النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن لماذا عبد الله بن عباس لم يقل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
لاحتمال أن يكون عبد الله بن عباس ما سمعه لفظاً من النبي عليه الصلاة والسلام، فاستعظم أن يرويه بلفظه، ولكنه أخذه منه حكماً، فقال عبد الله بن عباس : احفظوا عني ولا تقولوا: قال عبد الله بن عباس، يعني: احفظوا هذه المسألة عني.
عبد الله بن عباس لو كان لديه هذا الحديث بهذا النحو وجاء بأكثر من لفظٍ عن النبي عليه الصلاة والسلام بلفظه لرواه عنه بلفظه، وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روى كثيراً من الأحكام، ولكنه قال: احفظوا عني ولا تقولوا: قال عبد الله بن عباس ، لاحتمال أن يكون اللفظ من عبد الله بن عباس والمعنى من النبي عليه الصلاة والسلام.
ولهذا نقول: إنه لا يسوغ عند المحدثين أن يصحح المرفوع إذا كان لا يقال من قبيل الرأي؛ لأننا ننسب الجمل والعبارات لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يجوز إلا مع اليقين، ولكن قد نقول: له حكم الرفع، وهذه مسألة أخرى ليست لدينا، وإنما هذه عند الفقهاء، أما عند المحدثين فإنهم في حال ورود اختلاف بين الرفع والوقف ينظرون إلى الأرجح بالقرائن ثم يقومون بالترجيح ولو كان من قبيل الرأي، ولهذا تجد الأئمة النقاد في مثل هذا الحديث مع صراحة قول عبد الله بن عباس : احفظوا عني ولا تقولوا: قال عبد الله بن عباس ، إلا أنهم يميلون إلى صحته موقوفاً، ولا يصححونه مرفوعاً؛ لأن إضمار عبد الله بن عباس في قوله: احفظوا عني ولا تقولوا: قال عبد الله بن عباس ، إشارة إلى أنه لا يريد أن يقول: قال النبي عليه الصلاة والسلام خشية أن ينسب إليه، وإلا لقال: احفظوا عني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا نقول: إنه في أمور العلل ينبغي أن يحترز في رواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، على خلاف توسع الفقهاء في أبواب الروايات،.
ومن الوجوه التي تجعل هذا الحديث موقوفاً على عبد الله بن عباس وليس بمرفوع، أنه جاء بتفصيل عادةً لا يأتي مثل سياقه عن النبي عليه الصلاة والسلام، قال في الخبر: ( أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة أخرى، وأيما عبدٍ حج ثم أعتق فعليه حجة أخرى، وأيما أعرابي حج ثم هاجر فعليه حجة أخرى ).
الحديث الثامن: حديث محمد بن كعب القرظي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أيما صبي حج به أهله ثم بلغ فعليه حجة أخرى، وأيما عبد حج به أهله ثم أعتق فعليه حجة أخرى ).
هذا الحديث رواه أبو داود في كتابه المراسيل من حديث يونس عن أبي إسحاق ، عن شيخٍ، عن محمد بن كعب القرظي ، وهذا الحديث معلول بعدة علل، وأول هذه العلل: الجهالة في إسناده، وذلك في شيخ أبي إسحاق في روايته عن محمد بن كعب القرظي ، ويشدد في أمر الجهالة خاصةً إذا كان الراوي يروي عن الضعفاء كحال أبي إسحاق ، فإنه يروي عن الضعفاء فيحترز فيما روي أكثر من غيره.
العلة الثانية: الإرسال، فإنه يرويه محمد بن كعب القرظي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يدركه، و محمد بن كعب يروي عن التابعين كثيراً، وإخراج أبي داود لهذا الحديث في كتابه المراسيل أمارة على إعلاله، وعدم القول بصحته، وكذلك من وجوه الإعلال لهذا الحديث والحديث الذي قبله أن أبا داود رحمه الله أخرج هذا الحديث من مرسل محمد بن كعب ، وما أخرجه من موصول عبد الله بن عباس؛ لأنه يرى في ظاهر هذا الخبر أن المرسل المنسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث محمد بن كعب أقرب من المرفوع في حديث عبد الله بن عباس ، وأن الموقوف في حديث عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى أصح، ونكتفي بهذا. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر