الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قال رحمه الله تعالى: [ باب الاستدلال ].
الاستدلال المراد به: طلب الدليل، أي: كيف أن الإنسان يلتمس دليلاً في مسألة من المسائل، يذكر المصنف رحمه الله هنا شيئاً من الطرق في طلب الدليل، وكذلك طريقة استعمالها، وكذلك بيان المفارقة بينها.
قال رحمه الله تعالى:
[ إذا مثنى خاص أو عام عرض وأمكن الجمع فجمع يفترض
إن يمتنع فرده للوقف ثم اجتهد عسى دليلا تقفي ]
إذا جاء في مسألة معينة دليلان في حكم من الأحكام فينبغي للإنسان أن ينظر إلى الدليل الخاص ويجعله خاصاً، وأن ينظر إلى الدليل العام فإما أن يجريه على عمومه، ويلحق ذلك العام بما خصصه الشارع، أي يلحق الأدلة ويجمعها فيما بينها، أو ينظر لبعض القرائن التي تؤديه إلى جعل الخاص باق على خصوصه، والعام باق على عمومه، وذلك لبعض الفروقات بين بعض الأدلة في وجوه خصوصها، وكذلك وجوه العموم؛ ولهذا نقول: إن الأدلة إما أن تتساوى، وإما أن يترجح بعضها على بعض، وإما أن يوجد دليل واحد ولا يوجد غيره، فإذا وجد الدليل الواحد فلا يصار إلا إليه، ولا يلتمس معارض، وأما إذا وجد في المسألة دليلان في مسألة من المسائل فلا بد من النظر في أحوال:
الحالة الأولى: النظر في إمكان النسخ، فإذا تعارضا مع معرفة المتقدم والمتأخر فالناسخ والمنسوخ، وإذا ثبت ورود النسخ فليس للإنسان أن يجمع بينهما مع ظهور النسخ إما بالنص عليه أو معرفة التاريخ، فإذا عرف التاريخ وتعذر في ذلك الجمع فإنه يصار إلى النسخ.
الحالة الثانية: أن يجمع بين الأدلة، فإذا لم ينص على النسخ فإنه يجمع بين الأدلة، وإذا تعذر الجمع فإنه يصار إلى الترجيح بين الأدلة.
ولهذا قال: (وأمكن الجمع فجمع يفترض) هنا قدم الجمع، والجمع لا يصار إليه إذا ظهر في ذلك النسخ، فإذا جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام ناسخ ومنسوخ كما في قوله: ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها؛ فإنها تذكر الآخرة ) ليس لنا أن نجمع بين الناسخ والمنسوخ، وإنما نقول: ذاك حكم انتهى، ونبقي ذلك، وقد نصير إليه مع توفر علته، كانتشار الوثنية، إذا انتشر في بلد من البلدان، نضع على المقابر سياج ونحو ذلك، خشية أن تعبد إذا ظهرت العبادة، فنقوم حينئذٍ بالمنع للرجوع إلى تلك العلة، أما أن نجمع بين الدليلين في حالة واحدة فهذا ضعيف، وفي حال عدم ثبوت النسخ فإن الجمع يقدم على النسخ.
قال:
( إن يمتنع فرده للوقف ثم اجتهد عسى دليلا تقفي)
هنا في مسألة تعذر الجمع من العلماء من يقول: يصار إلى الترجيح، ثمة قاعدة يذكرها الفقهاء، وهي إعمال الدليل أولى من إهماله، أو يقولون: إعمال الدليلين أولى من إهمالهما، أو إهمال أحدهما، وهذا المراد به أنك إذا أعملت الشريعة عظمتها، ودنت الله عز وجل بها، فلم تعطل هذا وهذا، وهذا يؤدي إلى الجمع، لكن الإنسان إذا مال إلى الترجيح فلا بد أن يعطل أحد الدليلين، لكن قد ينقدح في ذهن الإنسان جملة من القرائن تؤدي إلى تعطيل أحد الدليلين، من هذه القرائن:
الأمر الأول: قوة أحد الدليلين على الآخر، وذلك أن قوة الدليل تعني في كثير من الأحيان الاعتداد بالحكم، والعمل به، فإذا حمله الصغار وزهد الكبار عن حمل الحديث الثابت إلى من دونهم دل على عدم العناية بمضمونه، وما يحمله الناس مما يدور في مجالسهم من أخبار ويتحدثون بها في الغالب أنهم يهتمون بها، فإذا تحدث بها الكبار دل على أنها مهمة، وإذا لم يتحدث بها الكبار تجد أن لديهم ليست مهمة؛ لهذا نقول: إنه إذا لم يتمكن الإنسان من الجمع، فلا بد أن يصير إلى الترجيح، بالنظر إلى جملة من القرائن، فمن هذه القرائن: قوة الدليل على الآخر.
الأمر الثاني: عمل السلف، فإذا كان عمل السلف على أحد الدليلين فهذا من القرائن على تعطيل الثاني؛ ولهذا يقول إبراهيم النخعي: لا أبالي في حديث يبلغني عن النبي عليه الصلاة والسلام لا يعمل به الصحابة أن أرمي به؛ وذلك أن الصحابة ما تركوه إلا لثبوت سبب للترك، إما لورود النسخ فيه، وإما لمدخل فيه فربما كان مختلقاً، وظهر في صورة الحسن، فانطلى على الرواة ولو كانوا ثقات، وهو منكر.
الأمر الثالث: أن يكون أحد الدليلين أقوى من جهة الدلالة، وإن تشابها من جهة الإسناد، وذلك أن يكون أحد الدليلين أقرب إلى التخصيص في المسألة بعينها، وذاك أعم منه، فالخاص أقوى من العام، فيؤخذ بالخاص، ويعطل العام عند التعارض بينهما، وعدم إمكان الجمع.
قال رحمه الله تعالى:
[ وينسخ الأخير حكم الأول مما أتانا في الكتاب المنزل ]
تقدم الكلام على النسخ، وقيل: إنه الإزالة، وقيل المراد بذلك هو: التبديل، يقول: (وينسخ الأخير حكم الأولمما أتانا في الكتاب المنزل) بالنسبة لنسخ الأخير للأول لا بد في ذلك من معرفة التاريخ، ومعرفة التاريخ تكون إما بمعرفة أسباب النزول، وإما بمعرفة النقلة لذلك الخبر، أو من شهدها، فإذا عرفنا من شهد ذلك الحكم من الصحابة، وعرفنا أن منهم من توفي متقدماً، فيعطينا هذا إشارة إلى أن ذلك الحكم متقدم، أو ثبت لدينا أن أحد الدليلين كان في آخر زمن النبي عليه الصلاة والسلام، فيغلب على الظن أن ما قبله سابق له، كذلك من أمارات معرفة الناسخ والمنسوخ أن الغالب في الناسخ أن يكون أغلظ، ولا نحمل الأدنى على نسخ الأعلى، فهذا من القرائن، فننظر في حال المتعارضين ما هو الأغلظ؟ ففي الغالب أن الأغلظ في حالة تعذر الجمع ينسخ الأخف، وهذا الأغلب في التشريع، والنسخ يقع كما تقدم في الكتاب، فينسخ الكتاب بعضه بعضاً، كما في مناجاة النبي عليه الصلاة والسلام: فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً[المجادلة:12]، وكذلك أيضاً فيما كان أيضاً بالكتاب للسنة، والسنة للكتاب، والسنة للسنة، كذلك أيضاً عمل السلف للسنة، ولا بد من موجب للسنة ولكنه لم ينقل، ولكن نذكر الإجماع ونذكر عمل السلف؛ لعدم ظهور الدليل الناسخ.
قال رحمه الله تعالى:
[ وخص عام إذ لخاص عرضا وأوهما كل بكل فرضا ]
نقول: إن من وجوه الجمع في ورود الأدلة: أن يكون أحد الدليلين خاصاً، والدليل الآخر عاماً، فنجري الخاص على خصوصه، ونبقي العام على عمومه، أو نجعل الخاص مخصصاً للعام، فيثبت حينئذٍ العام والخاص، أو نحمل العام على الخاص، فنبطل حكم العموم ونثبت الخصوص، وهذا بالنظر إلى القرائن، وذلك إما أن يكون الخاص يبطل العام، أو العام يبطل الخاص، أو يبقى الخاص على خصوصه، والعام على عمومه، أو نقول إن الخاص يحمل عليه العام.
لهذا نقول: إن هذا ينظر فيه إلى القرائن.
قال: (وأوهما كل بكل فرضا).
بالنسبة للعموم والخصوص، جاء في الشريعة تخصيص كثير من العمومات، وتقدم الإشارة معنا في أبواب العام والخاص، وجاء أيضاً فيها ما يبقى التخصيص على خصوصه، والعام على عمومه، كما يأتي مثلاً من تحريم نكاح أكثر من أربع، والتخصيص الذي هو خاص للنبي عليه الصلاة والسلام يبقى الخاص على خصوصه، والعام على عمومه، فلا نقول: إن ذلك التخصيص يخصص العموم، بل كل الأدلة تبقى على ما هي عليه.
قال رحمه الله تعالى:
[ (فيما سقت) لأول ممثلا و(حديث الماء) ثانٍ يشملا ]
بالنسبة لما سقى، النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( فيما سقت السماء العشر ) هذا جاء عاماً في كل نوع من أنواع الثمار، وكذلك أيضاً في كل قدر من المقادير، ولكن جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ) لهذا نقول: إن ذلك العام قد خصصه ذلك الدليل.
كذلك ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في أمور المياه، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الماء طهور لا ينجسه شيء )، وجاء عن النبي عليه الصلاة والسلام جملة من الأحاديث مخصصة له، على خلاف في صحتها، قال: ( إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه بنجاسة تحدث فيه ) لهذا نقول: إن هذه المسائل من مسائل الاستثناءات لها دليل قد خصها، فوجب أن يؤخذ ذلك الخصوص، ويكون مخصصاً لذلك العام.
قال رحمه الله تعالى:
[ وظاهر وموجب للعلم مقدم على ظنون الوهم ]
تقدم معنا أنواع الدلالة:
الأول: أن الدلالة دليل قطعي والدلالة ظنية.
الثاني: الدليل قطعي والدلالة قطعية.
الثالث: الدليل ظني والدلالة ظنية.
الرابع: الدليل ظني والدلالة قطعية، نقول: إنه كلما غلب في ذلك القطع واليقين فإنه يقدم على الظن، وكذلك الأدلة تنقسم إلى قسمين من جهة ثبوتها: أدلة ظنية وأدلة قطعية، ومن جهة دلالتها على نوعين: قطعية وظنية، واجتماع الدلالة مع الدليل في القطع أقوى من الظن، والظن كما تقدم الكلام عليه معنا هو: التردد بين أمرين مع رجحان أحدهما، وأما الشك فهو: التردد بين أمرين بلا مرجح، والوهم هو: ما يقابل الظن، الظن كإنسان يقول: أظن أن فلاناً ذهب إلى بلدة كذا، أظن أن الذي زار فلان وفلان، يعني لا يدري إما هو أو آخر لكن الغالب أنه هو، وأما التوهم فهو: الذي يخالف الظن، والشك: الذي لا مرجح له، هو الوجود أو العدم.
قال رحمه الله تعالى:
[ مقدَّم كتابنا والسنة على القياس في اجتهاد الأمة
ثم الجلي من قياس قدما على خفي ناشئ ليحكما ]
تقدم معنا أن القياس إنما هو إلحاق فرع بأصل، الأصل من الذي أثبته؟ أثبته الدليل من الكتاب والسنة، إذاً: هو لا بد من ثبوت الأصل بدليل، كما تقدم أن من شروط الأصل أن يكون قد ثبت حكمه بدليل.
إذاً: لا يمكن أن يصار إلى قياس إلا بورود دليل من الكتاب والسنة، والكتاب والسنة متلازمة من جهة قوة الاحتجاج، وأما من جهة الثبوت فالقرآن كله متواتر، والسنة فيها المتواتر وفيها الآحاد، وفيها اليقين وفيها الظن، القرآن كله قطعي الثبوت، وأما الدلالة ففيه القطعي وفيه الظني، فيه ما هو ثابت بذلك فيما أمر الله عز وجل به من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وغيرها، وفيه ما هو ظن يحتمل أحد الأمرين، كتفسير القرء كما في قول الله جل وعلا: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ[البقرة:228] هذا ظن، القرء المراد به الطهر أم المراد به الحيض، كذلك أيضاً في قول الله جل وعلا: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ[الأنعام:141] فالحق في ذلك عام لكل مقدار فهو في ذلك ظني الدلالة، المراد بذلك النصاب معلوم النصاب، وهل يدخل في ذلك الحصاد الذي يحصد في السنة مرتين؟ أم المراد بذلك هو في الحول الواحد؟ أو المراد أن هذه الآية جاءت على التغليب؛ لأن غالب المحاصيل لا تكون إلا في السنة مرة؟ فهذا ينظر فيه، فالإنسان مثلاً الذي يحصد بعض النباتات التي يزرعها الإنسان كالذرة أو مثلاً البرسيم أو غير ذلك تجده في العام ربما أكثر من مرة وربما مرات في مثل ذلك، هل هذا مثلاً فيه في كل حصاد يفعله الإنسان؟ أم أن ذلك متعلق بالحول بأن ينظر الإنسان في مخرجه في الحول ثم يخرجه؟ نقول في هذا: إن ما جاء في كلام الله سبحانه وتعالى الأصل فيه القطع، من جهة الدلالة ومن جهة الدليل، وفيه ظن من جهة الدلالة، وسنة النبي عليه الصلاة والسلام فيها والنقاد يبينونها.
وأما القياس فإنه يأتي بعد الإجماع؛ وذلك لقوة الإجماع، ومن العلماء من يقدم الإجماع، وتقدم الكلام على هذا وعلته في التقديم، والقياس على قسمين: جلي وخفي، وتقدم الإشارة إلى هذا، والعلماء يقدمون الجلي على الخفي.
قال رحمه الله تعالى: [ باب الاجتهاد ].
الاجتهاد هو: من جهد يجهد، أي: تعب يتعب، وهو استفراغ الوسع في النظر؛ ولهذا ينبغي أن نعلم أن الذي يخرص أو يستعجل في إصدار الحكم هذا ليس مجتهداً، أي لم يكل نفسه ولم يتعب، فقد يكون الإنسان مجتهداً في ذاته، لكن آلته في التماس الدليل خاطئة، فلا يسمى مجتهداً في هذا الموضع، فلا بد من استفراغ الوسع حتى يكون مجتهداً؛ لهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا اجتهد الحاكم )، لا يلزم أن يكون حاكماً فقط حتى يصيب الأجرين، لا، لا بد أن يجتهد، وألا تقول على الله عز وجل بلا علم، بل تستفرغ وسعك في التماس الأدلة، وذكرنا أن موضوع علم الأصول هو النظر في الأدلة الإجمالية، وطريقة الاستدلال، وتقدم معنا في الكلام في: باب الاستدلال قوله: (والمستفيد منها) فالمستفيد منها هو المجتهد والمقلد، وهذه هي الخاتمة التي ختم بها المصنف رحمه الله ذلك بقوله: (باب الاجتهاد) أي طريقة الاجتهاد، المجتهد وعلاقته بالمقلد، ومن هو المجتهد ومن هو المقلد.
قال رحمه الله تعالى:
[ والاجتهاد بذلك للوسع في طلب الظن بحكم الشرع ]
هنا يذكر المصنف رحمه الله أن أي نتيجة يخرج بها الإنسان بحكم شرعي من غير دليل ومن غير بذل وسع بالنظر، فهذا لا يسمى اجتهاداً، وإنما هو خرص وتخمين؛ لهذا لا بد للإنسان أن يعرض الأدلة في الباب؛ حتى يخرج بنتيجة ففي الحكم، في قوله: (في طلب الظن بحكم الشرع) هنا يخرج تبعاً في ذلك اليقين، أن ما ثبت في يقين فلتعلم أن اجتهادك في هذه المسألة ظن، ما ثبت فيه اليقين فلا تدخل فيه الظن؛ لهذا نقول: إن المسائل القطعية في الشريعة ليست من مباحث الاجتهاد، الأحكام الغيبية متواترة قطعية الثبوت والدلالة، ليس للإنسان أن يجتهد فيها لماذا؟ لأن اجتهادك ظن وليس للظن أن يدخل في القطع، لهذا قال: (في طلب الظن بحكم الشرع) أن تطلب بالظن الذي لديك بحكم الشرع؛ حتى تخرج بنتيجة تقرب من مراد الله سبحانه وتعالى.
قال رحمه الله تعالى:
[ حتى ترى العجز عن المزيد مجانباً لرتبة التقليد ]
بذل الوسع يختلف الناس في تقديره، ولكن أعلى ضابط له هو أن يصل الإنسان إلى درجة العجز، ودرجة العجز هو ألا يجد الإنسان مزيداً من الأبواب التي يخلص بها إلى معرفة الحق، فإذا عجز عن التماس المزيد وخرج بنتيجة فهو مجتهد؛ لهذا لا بد للمجتهد أولاً أن ينظر في مجموع الأدلة في الشرع المقترنة ابتداء في المسألة المنظورة، فإذا أراد أن ينظر في مسألة في النكاح لا بد أن يلتمس في ذلك الأحاديث والآيات الواردة في هذا الباب؛ لأنه ربما يجتهد في معنى وقد ورد في الدليل بخلافه؛ ولهذا هل هذا استفرغ الوسع؟ لم يستفرغه، أو كان فيها إجماع، فلا بد أن تستفرغ الوسع في التماس الدليل والنظر في المعاني وعمل السلف ومواضع الإجماع، وبعد ذلك تنظر في الاجتهاد.
وكأن المصنف رحمه الله لما أورد الأدلة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، جعل مباحث الاجتهاد بعد ذلك، وجعل ما قبله إذا لاح للإنسان وضعف ليس له أن يجتهد رأيه، وكذلك أيضاً في قوله: (مجانباً لرتبة التقليد) التقليد أخذ من القلادة، وكأن الإنسان يتقلد، يقلده غيره شيئاً ويقبلها، ولا يدري ما هي، أو كحال القلادة التي يضعها الإنسان في عنق دابة، ثم يقودها؛ ولهذا هذا مقلد وذاك مجتهد، لهذا ينبغي للإنسان أن يستفرغ وسعه في الاجتهاد؛ حتى يخرج عن دائرة التقليد أن يتبع غيره.
والتقليد جائز في الفروع، ولا خلاف فيه عند السلف، والصحابة عليهم رضوان الله تعالى فيهم مجتهدون وفيهم مقلدون، ومع ظهور الدليل فمن اتبع الدليل لا يسمى مقلداً، فإذا ظهر لك الدليل فاتباعك له لا يسمى تقليداً، ومن عرف الدليل فليس بحاجة إلى الاجتهاد؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لا يجتهد رأيه مجرداً، وإنما هو فيما أراه الله، فالله عز وجل لا يريه إلا حقاً وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى[النجم:3-4] العامي البسيط إذا عرف الدليل واتبعه لا يقال إنه مقلد، بل متبع للدليل؛ لأن المجتهد هو يريد أن يصل بالمقلد إلى القرب من معرفة الدليل، فإذا عرف الدليل التزم الوحي، والإنسان إذا تبع الدليل لا يسمى مقلداً؛ لأنه دخل الأصل الذي يراه، بخلاف المقلد الذي يوضع في عنقه قلادة يساق إلى دليل المجتهد، وأما إذا عرف الدليل فلن يسقه إلى ذلك أحد.
قال رحمه الله تعالى:
[ وعلم فقه الدين شرط المجتهد أصلاً وفرعاً أو خلافاً قد وجد ]
لا بد للمجتهد أن يكون فقيهاً في الدين، والمراد بهذا أن المجتهد لا بد أن يكون بصيراً بمجموع أحكام الدين، عالماً بأدلتها، لأنه لا يمكن أن يتوفر فيه معرفة الدليل من الكتاب والسنة إلا وقد أحاط بها.
وأقوى ما ينبغي للإنسان أن يعتني به في الإسلام:
أولاً: أن يكون عالماً بأدلة الأحكام من الكتاب، وتقدم الكلام معنا في هذا، وهي قرابة خمسمائة إلى ستمائة آية في كلام الله.
ثانياً: أن يعلم الأدلة من السنة في أبواب الأحكام، وفي قول المصنف رحمه الله: (أصلاً وفرعاً) الشريعة تقسم من جهة نوعها إلى أصول وفروع، ما يتعلق بالأصول في أمور العقائد، وكذلك في أعلام المسائل والأحكام الكليات من أركان الإسلام ونحو ذلك، والفروع ما كان من جزئيات، ومن العلماء من يقول: إن الأصول هي العقائد، والفروع ما كان من الأحكام الشرعية وهو الفقه، وهذا على اعتبارات يقسمها العلماء.
ثالثاً: أن يكون عالماً بالكتاب والسنة ومواضع الإجماع حتى لا يقع في الخلاف، ويستطيع الإنسان أن يكون مجتهداً في باب معين دون باب آخر إذا استوعب أدلة الباب، فالإنسان قد يكون مثلاً في الطهارة مجتهد إذا استوعب معرفة أدلة الطهارة عن غيرها، وإن كان مقصراً مثلاً في أحكام الصلاة، في أحكام البيوع، في أحكام النكاح، فإذا استوعب أدلة الباب كان من أهل الاجتهاد.
والعلماء يقسمون الخلاف في قوله: (أو خلافاً قد وجد) إلى نوعين: خلاف عالٍ وخلاف نازل، فالخلاف العالي هو ما كان خارج المذهب، والخلاف النازل هو ما كان داخل المذهب، الخلاف العالي المذاهب الفقهية مع بعضها، خلاف السلف الصالح، والكتب في ذلك كثيرة في المذاهب الأربعة، فيقارن مذهب مع بقية المذاهب، وهناك مصنفات عامة في هذا، المصنفات العامة التي تصنف في الخلاف عن السلف الصالح، ككتب المصنفات: عبد الرزاق، ابن أبي شيبة، وسنن البيهقي ومعرفة السنن والآثار، وكتب ابن المنذر، وكتب ابن عبد البر، هذه في الخلاف العالي، والخلاف النازل الذي يذكر روايات مذهب أحمد، وروايات مذهب الشافعي، وروايات مذهب أبي حنيفة، وروايات مذهب الإمام مالك، أي في دائرة نازلة من أبواب الخلاف، أعلى أنواع الخلاف هو الخلاف العالي؛ أن يكون الإنسان بصيراً بأقوال العلماء، ومنهم من يتعلق بالخلاف النازل.
قال رحمه الله تعالى:
[ ومذهباً ليعلم الإجماعا كي لا يكون جاهلاً مرتاعا ]
وهذا؛ لأن الإنسان إذا كان جاهلاً بمواضع الخلاف فبداهة أنه لا يعرف مواضع الإجماع، وكذلك لا يعرف مواطن الكثرة والقلة باجتماع العلماء، كذلك أنواع القائلين، وإن كنا لا نعتبر بكثرة القائلين في إصابة الحق إلا أنه مرجح، فوجود اثنين على قول أرجح من واحد، وذلك أن اجتماع عقلين على مسألة هو أقرب للإصابة، فإذا تناظرت العقول في مسألة معينة وخرجت بحكم أرجح من عقل واحد في الأغلب، وقد يترجح عقل لحضوره وقوته وإصابته للدليل على عقلين وثلاثة وأربعة.
ولهذا نقول: إنه لا بد للإنسان أن يكون عالماً بالخلاف؛ ليستفيد من ذلك أموراً:
الأمر الأول: أن يعرف مواضع الإجماع وهو دليل قطعي إذا ثبت.
الأمر الثاني: أن يعرف قرائن الترجيح من ورود قول الجمهور في مسألة معينة، فوجود الجمهور أو الكثرة في موضع يكون ذلك مرجح، وقد يوجد الجمهور في قول ويكون قولهم مرجوح.
الأمر الثالث: أن يعلم أنواع القائلين، معرفة أنواع القائلين، في السابق ذكرنا الكثرة والقلة، وهنا أنواع القائلين، كأن يعلم أن الصحابة قالوا بكذا، وفقهاء كثرة قالوا كذا، وأقوال الصحابة مقدمة على غيرهم، فإذا لم تكن من العالمين بالخلاف فلن تعلم أن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى قالوا بهذا القول؛ لهذا لا بد من معرفة الخلاف العالي؛ حتى تعلم أجناس وأنواع القائلين، فوجود اثنين وثلاثة من الصحابة لو خالفهم عشرة من التابعين أو عشرين، إذا كان لا مخالف لهم من الصحابة فهذا من قرائن الترجيح، كذلك أيضاً فقهاء المدينة يقدمون على غيرهم في كثير من صور وأنواع المسائل الفقهية، كذلك فقه مكة له اعتبار على غيره، وغير هذه من المسائل؛ لهذا ينبغي للإنسان معرفة أنواع القائلين، وهذا مما يستفيد منه طالب العلم في الترجيح؛ ولهذا نقول: إن معرفة الخلاف العالي يفيد طالب العلم في الترجيح ومعرفة القرائن.
أما الخلاف النازل ففائدته في ذلك قليلة، وهي في دائرة المذهب، والخلاف العالي لازم للعالم، والنازل ليس بلازم للعالم، والمجتهد المطلق لا يكون إلا بالعالي ولا يكون بالنازل، لأنه ربما كان الخلاف النازل يدور في أبواب ليست هي من مباحث الصواب كالعلل النقلية والدليل في ذلك قطعي، وكالعلل العقلية والدليل النقلي في ذلك واضح بين؛ لهذا العلم بذلك فضول، أما الخلاف العالي في ذلك، فإنه هو الذي يولد مجتهداً مطلقاً.
وقوله هنا: (كي لا يكون جاهلاً مرتاعا) تقدم الكلام معنا في الجهل وأنه على نوعين: المركب والبسيط، وقوله: (مرتاعا) أي: ربما يخاصم لوجود مخالف من الصحابة والتابعين، ربما قال بقول فإذا كان لا يعلم إلا ما يقول به المذهب تواجهه بدليل ثم يتوقف؛ لأنه يدور في الخلاف النازل؛ لهذا تجد بعض المذاهب الفقهية مثلاً كالمالكية ونحو ذلك دائماً في خلافهم النازل فيما يدورون فيه، تجد أنهم يقولون بقول عبد الله بن عمر: قال عبد الله بن عمر، قال عبد الله بن عمر.
فإذا كان جاهلاً بالخلاف العالي تأتيه فتقول عبد الله بن عمر يقول بالمسألة الفلانية وأنت تخالفها، هل عبد الله بن عمر حجة عندك على اطراد؛ لهذا يخاصم كثيراً، وتجده يتهيب النقاش لماذا؟ لأنه في دائرة ضيقة، كذلك الذين يقولون مثلاً من الحنفية وغيرهم بقول صحابة: عبد الله بن مسعود وعلي بن أبي طالب، يقدمونهم على غيرهم، مثلاً يقول: نحتج بقول عبد الله بن مسعود، تأتيه بقول عبد الله بن مسعود لم يقل به، أو لـعبد الله بن مسعود قولان في هذه المسألة، فيقوم بالتوقف والتوجس؛ لهذا الذي يفهم الخلاف العالي يستطيع أن يحكم في صاحب الخلاف النازل، أما الخلاف النازل فإنه يتهيب المخاصمة لصاحب الخلاف العالي.
قال رحمه الله تعالى:
[ ويعلم المهم من تفسير كلام رب واحد قدير ]
التفسير المراد به هنا: الإزالة، إزالة الشيء؛ ولهذا يسمى السفر سفراً؛ لأنه يسفر عن الأخلاق، كذلك أيضاً الإنسان ربما يفسر أو يسفر عن ذراعه ليبديها، أي يزيل شيئاً حتى يظهر له المعنى، والألفاظ عليها حجب تفهم بمجموعة من المزيلات، حتى يراها الإنسان على عينها.
والتفسير كما قال عبد الله بن عباس فيما رواه ابن جرير الطبري وغيره عنه قال: تفسير كلام الله على أربعة أنواع: تفسير لا يعذر أحد بجهله، يعني: يعلم بداهة اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ[الرعد:16] هذا لا يحتاج إلى مفسر، كل ما تراه فالله عز وجل خالقه من شجر وحجر ومدر وأرض وفضاء وغير ذلك، وتفسير يعلم من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من تفسير الكلام بعضه ببعض من كلام الله عز وجل وكلام رسول الله، وتفسير يعرف في كلام العرب مرده إلى لغة العرب، وتأويل لا يعلمه إلا الله، وهذا ما استأثر الله عز وجل به.
وقد اختلف العلماء في وجود شيء في القرآن لا يعلمه إلا الله على قولين: من العلماء من قال إنه لا يوجد في القرآن شيء لا يعلمه إلا الله؛ لأن ذلك ينافي مقصد تنزيل القرآن؛ لأن القرآن ما أنزله الله عز وجل إلا تبياناً لكل شيء، فكيف يكون فيه شيء من المتشابه المطلق الذي لا يكاد يفهمه أحد، ومن العلماء من قال يوجد شيء من ذلك، ولكنه نزر يسير يلزم منه الإعجاز، قالوا وذلك كالحروف المقطعة مثلاً، أي: لا يدركها الناس، نقول إن من الحروف المقطعة هناك من اجتهد وقطع بها.
إذاً: من اجتهد وقطع بها يرى أنها عنده ليست متشابهة، ولو كانت متشابهة لوكلها إلى الله، فعنده هو في ذاتها أنها ليس متشابه من المتشابه المطلق، وهذا مما يحتاج إلى نظر.
وهناك من العلماء من يقول مثلاً هناك متشابه لا يعلمه إلا الله عز وجل، مثلاً عدد أهل الكهف، وغيره من أحوال الأمم السابقة التي ذكرها الله عز وجل وعلق بعض معانيها، قالوا: هذا من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، ولكن نقول هذا لا يتعلق بأمور الأحكام ولا في أمور العقائد.
لهذا ينبغي للإنسان إذا أراد أن يكون عالماً بالتفسير، أن يكون أولاً عالماً بلغة العرب، بأن يكون عالماً بالوضع الذي نزل عليه القرآن، ثانياً: العرف، عرف السلف الصالح، فإذا لم يرجع إلى العرف ولو كان عالماً بلغة العرب أخطأ؛ لأن العرف يخصص المعنى، كما جاء في حديث عدي بن حاتم في معنى الخيط الأبيض والخيط الأسود من الفجر، قال: عمدت إلى عقالين أسود وأبيض فوضعتهما تحت وسادتي، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( ليس ذلك، إنما هو سواد الليل وبياض النهار )، فالذي يرجع إلى التفسير في اللغة، يجد في ذلك أن الخيط هو الحبل، وأن الأسود هو ضد الأبيض والأبيض ما هو ضد الأسود، ويكون التأويل في ذلك حينئذ بجلب هذا وهذا صحيحاً؟ لا.
ثالثاً: أن يكون عالماً بالبلاغة، البلاغة هي التي تفهم من مجموع السياق لا من مفردات الكلمات، لدينا معاني للكلمات ومعاني للجمل، معاني الجمل هي البلاغة، وأما معاني المفردات فهذا هو تفسير الجمل؛ ولهذا يوجد مؤلفات تسمى معاني الكلمات، معاني الكلمات هذه تعطيك تركيب الكلمة، لكن لا تعطيك مقامها في السياق، وذلك مثلاً في قول الله سبحانه وتعالى في قول قوم شعيب: قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ[هود:87] إذا أردت أن تفكك هذه العبارات بمعاني الكلمات ستأخذ معنى مغايراً لمراد الله سبحانه وتعالى، وإذا أتيت وفهمتها في سياقها التام تعلم أنهم يريدون بذلك أنك لست بحليم ولست برشيد، هذا على باب التهكم ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ[الدخان:49] هل الإنسان إذا كان يعذب في ذلك يقال إنه كريم عزيز؟ المراد بذلك الإهانة، فإذا أتيت بتركيب لهذه اللفظة من جانب التركيب بالمعنى ستقوم بمعنى مغاير عن فهم السياق؛ لهذا لا بد من معرفة كلام الله سبحانه وتعالى بلغة العرب ومعرفة الوضع، ومعرفة البلاغة، كذلك أيضاً معرفة كلام الله عز وجل فيما يشابه المعنى المنظور فيه، وكذلك سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فربما كان للآية مخصص وكان لها مبين، إذاً: قد تكون مجملة يكون لها مبين، أو تكون مثلاً مطلقة لها مقيد سواء من الكتاب أو من السنة.
قال رحمه الله تعالى:
[ كذا مهماً من حديث أو أثر وحال أصحاب الرواة للخبر ]
ومما ينبغي على المجتهد أن يكون بصيراً بمعرفة الأحاديث بأنواعها، يعرف المتواتر؛ فإنه يفيد العلم القطعي إذا كان ظاهر الدلالة، والآحاد ويفيد علم الظن عند الأصوليين، ويعرف أيضاً مراتبها من جهة قوتها في الثبوت، وقوتها أيضاً من جهة الدلالة، وقوله هنا: (من حديث أو أثر) يفرق بين الحديث المرفوع إلى رسول الله والموقوف على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كذلك أيضاً هنا كما يعلم أحوال المتون لا بد أن يعلم أحوال الأسانيد؛ لقوله: (وحال أصحاب الرواة للخبر) أحوال الرواة في الخبر يعني الثقات العدول وشروط التوثيق، وكذلك أيضاً أئمة النقد، وكذلك المصنفات التي ينظر فيها هذه الأحاديث، يعرف كتب الصحاح كالصحيحين والسنن الأربع وشروطها والأئمة، وكذلك أيضاً الكتب التي فيها مظان الآثار كمصنف عبد الرزاق وابن أبي شيبة، وسنن البيهقي، ومعرفة السنن والآثار له، وكتب ابن المنذر، وكتب ابن عبد البر، وموطأ الإمام مالك، وكتب التفسير التي تعتني بتفسير آيات الأحكام، وتتوسع في نقل الآثار في ذلك كتفسير ابن جرير وابن أبي حاتم، وكذلك عبد بن حميد وابن المنذر والبغوي، وغيرها من كتب التفسير التي تعتني بذكر آثار السلف في الأحكام وغيرها.
ولا بد أن يكون بصيراً بمعرفة الثقات، متبصراً أيضاً بكلام أئمة النقد الذين عليهم المعول في نقد الرواة، ويعرف أيضا مراتب ألفاظ الجرح والتعديل، ومراتب الأئمة أيضاً من جهة القوة في النقد، وهذا يرجع فيه إلى مظانه في الكتب، وكتب الرجال في ذلك، فهناك كتب أصلية وكتب فرعية: الكتب الأصلية هي التي صنفها الأئمة كالتاريخ الكبير للبخاري والتاريخ الأوسط والصغير له، وكذلك أيضاً الجرح والتعديل لـابن أبي حاتم، والضعفاء للعقيلي والنسائي، وكذلك أيضاً كتب الرجال للإمام أحمد رحمه الله في معرفة الرجال، وكتب ابن حبان ككتب الثقات ومعرفة علماء الأمصار، وكذلك أيضاً المجروحين، وكتاب الكامل لـابن عدي، وكتاب التاريخ للفسوي ويعقوب بن شيبة وغيرها من كتب التاريخ التي تعتبر أصلية التي يذكر فيها العلماء تراجم الرواة، كذلك الكنى للبخاري، والكنى للنسائي، والكنى للدولابي وغيرها.
وهناك كتب تعتبر فرعية جمعت من هذه المصنفات ووضعتها تحت تراجمهم، ومن أعلى ذلك الكمال للمقدسي، وتوسع في ذلك المزي رحمه الله في كتابه تهذيب الكمال، وتفرع عن ذلك مجموعة من المصنفات كتهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر، وفرع عنه كتابه التقريب، وجاء في ذلك أيضاً تذهيب تهذيب الكمال، وخلاصة تذهيب التهذيب، وأيضاً كتاب الكاشف والإكمال وغيرها، وثمة مصنفات اعتنت بجمع الرواة سواء على بعض المصنفات، وثمة مصنفات اعتنى الأئمة عليهم رحمة الله بجمع كلام الأئمة من غير قصد لكتاب معين، والعلماء في ذلك يتباينون، لكن ينبغي لطالب العلم أن يعرف هذه المصنفات.
وثمة مصنفات أيضاً تنقسم باعتبارات: مصنفات ذكرت لكتب معينة، مصنفات ذكرت لصفات الرواة، أي للثقات أو المجروحين، فهناك متقدمة ومتأخرة على هذا النمط، وثمة كتب جمع فيها الأئمة من تكلم فيهم سواء بحق أو بباطل، وهناك من جمع مصنفات في ثقات قد تكلم فيهم بغير حق، وهناك أيضاً من هم ضعفاء وثقوا أيضاً، وهناك من يصنف في بعض أبواب الجرح كالمدلسين أو المرسلين وغير ذلك، وهي كتب كثيرة ينبغي لطالب العلم أن يكون بصيراً فيها؛ حتى يعرف ما يوصله من مناهج العلماء إلى معرفة أحوال الرواة، وكذلك أحوال المتون، كذلك أيضاً لا يمكن لطالب العلم أن يكون بصيراً بالمتون ونقدها حتى يكون عالماً بمجموع المعاني في الشريعة حافظاً للوحيين، يستطيع أن يقيس بعضها على بعض، وأن يعرف مواضع النكارة في بعض المتون التي خرجت عن السياق.
قال رحمه الله تعالى:
[ وأن يكون عارفا لفظ العرب مع فهمه علم المعاني والأدب
كالنحو والصرف وما يحتاجه ليأتيه على الهدى منهاجه ]
قوله: (وأن يكون عارفاً لفظ العرب) المراد به: لغة العرب عموماً، ولعل مراده هنا في هذا الموضع معرفة السياق (مع فهمه علم المعاني والأدب) والمراد بذلك هو: البلاغة، والبلاغة بجميع أنواعها، ومثل لشيء من مراده في قوله لغة العرب بقوله: (كالنحو والصرف وما يحتاجه) المراد بالنحو هو: أن ينحى طريقة العرب في ضبط الكلمات ومعرفة القواعد، والصرف يتعلق بالكلمة، وهو باللفظ وضبط نطقها، وأما بالنسبة للنحو فإنه يتعلق بأكثر من جملة، ومعرفة الفاعل والمفعول، والجار والمجرور، ومعرفة علامات الكلمات، والرفع والخفض، والمؤثرات عليها.
يقول: (وما يحتاجه ليأتيه على الهدى منهاجه)، يعني: ما يحتاجه أيضاً في أبواب اللغة من الأدلة التي يعتمدون عليها من الكتاب، فإن الله عز وجل أنزله على كلام قريش وعلى لسانهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك أيضاً؛ فإنه يروى عنه قوله: ( ولدتني قريش، ونشأت في بني سعد بن بكر فأنى يأتيني اللحن؟! ) ولا خلاف عند العلماء في الاحتجاج بكلام الله في لغة العرب، ومن خالف في ذلك فهذا رأي الزنادقة من المتأخرين الذين يريدون أن يضعفوا الاحتجاج بكلام الله سبحانه وتعالى.
وأما سنة النبي عليه الصلاة والسلام فهذا من مواضع الخلاف عندهم لا لذاتها، وإنما خشية أن تكون رويت بالمعنى، وأما ما خرج من النبي لفظاً إذا ثبت فهذا لا يخالف فيه مسلم؛ لفصاحة النبي على سائر أهل زمنه، وإذا لم نحتج بقوله فلن نحتج بقول أحد، ولكن كل ما يقوله أهل العربية في عدم الاحتجاج بكلام النبي عليه الصلاة والسلام من علل قادحة فيه، فهذا يقع في أشعار العرب، إذا قالوا إنه رويت بالمعنى قد تكون الأشعار أيضاً رويت بالمعنى، وإذا قالوا إن الرواة في ذلك ربما يهمون، كذلك أيضا الرواة قد يهمون أيضاً في الأشعار، من أين أتتنا الأشعار؟ هل سقطت علينا من السماء أم بنقلة أيضاً، كذلك أيضاً في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، لكن نستطيع أن نضبط من جهة الاحتجاج بكلام النبي عليه الصلاة والسلام فنقول: إن الاحتجاج في أبواب النحو، وكذلك أيضاً ما يتعلق بلغة العرب عموماً يشترط في ذلك شروط: ثقة الرواة، أن يكون الرواة من العرب وأعلى العرب، أن يكون الإنسان مسلسل بالمدنيين، كذلك مسلسل بالمكيين، أو في مكيين ومدنيين، أما من دخل فيهم العجمة أو كانوا من أهل الشام ومصر ونحوهم فهذا يكون دخل فيه داخل، كذلك أيضاً ما يتعلق في الموالي فإن ذلك يضعف فيه الاستدلال.
قال رحمه الله تعالى:
[ وليس كل في اجتهاد صائبا للاحتمال أن يكون خائبا
بل من أصاب فله أجران ونصف ذا فحقه للثاني ]
يعني: لا يلزم من اجتهاد الإنسان الصواب، وإلا لكان الاجتهاد موازياً للأدلة من الكتاب والسنة؛ ولهذا ما يذكر العلماء الاجتهاد من باب الدليل؛ لغلبة الظن في الإصابة؛ لأن الله عز وجل قد جعل العقول أدلة تهدي الإنسان.
والمجتهد إذا بذل وسعه قد لا يصيب، وقد يخطئ، والدليل على ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر واحد ) كذلك أيضاً في اجتهاد سليمان وداود قال الله عز وجل: فَفَهَّمْنَاهَا[الأنبياء:79] يعني: أنه ترجح قوله على قول غيره، مما يدل أنه قد يصيب وقد يخطئ، وقد يقع في قوله صواب لكن هناك ما هو أرجح منه، وإذا استفرغ وسعه لحقه الأجر، إذا أصاب أو أخطأ، إذا أصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر واحد، ولكن هذا لا يكون إلا باستفراغ الوسع، الحاكم والمجتهد إذا اجتهد من غير تعب وبذل وسع لا يلحقه الأجر، بل هو آثم؛ ولهذا يقول على الله بلا علم؛ لهذا ينبغي له أن يتوقى في مسائل الاجتهاد حتى يوقى من الإثم.
قال رحمه الله تعالى:
[ وما لقول غير كان يقصد من غير ترجيح فذا مقلد
ومن تصدى لاجتهاد مطلق فمنعه التقليد حتما حقق ]
يريد المصنف هنا أن يذكر أنه ما كان ضد المجتهد فهو المقلد، وقد يتجزأ الاجتهاد، يكون مجتهد مطلق، أو مجتهد ترجيح، أو مجتهد تخريج، مجتهد مطلق وذلك الاجتهاد في سائر علوم الشريعة، وقد يكون مجتهد في أبواب الترجيح في أبواب معينة، أو يكون مجتهد تخريج، وهذا يتعلق بغالب الخلاف النازل، يخرج مسألة على مسألة، ولكنه لا يستطيع أن يرجع ذلك إلى معرفة الخلاف العالي، ومعرفة الأدلة من كلام الله سبحانه وتعالى.
لهذا يوجد في أئمة المذاهب مجتهدون في التخريج: في مذهب أحمد، في مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة، لكنهم ليسوا من أهل الاجتهاد المطلق، وليسوا من أهل الترجيح، ولازم الاجتهاد المطلق أن يكون الإنسان مجتهداً في الترجيح، ولا يلزم من مجتهد الترجيح أن يكون مجتهداً مطلقاً؛ لأن مجتهد الترجيح قد يكون من أهل الاجتهاد المطلق، كالترجيح في أبواب كالطهارة كالصلاة في أبواب الجهاد يجتهد فيها الإنسان ويديم النظر فيها فيستطيع حينئذٍ أن يميزها عن غيرها، ويكون حينئذٍ من مجتهدي الترجيح في هذا الباب، وضد المجتهد المقلد، وقد يجتمع الاجتهاد والتقليد في شخص، فيكون مجتهداً ومقلداً في أبواب أخرى، أو مجتهداً في التخريج، ومقلد في الترجيح وهكذا.
قال رحمه الله تعالى: [ الخاتمة
والحمد لله على إتمامه ما أظهر الموجود من إعدامه
ثم الصلاة والسلام للأبد على النبي المصطفى بحر المدد ]
شرع الله سبحانه وتعالى حمده على كل نعمة ولو كانت قليلة ولو كانت لقمة؛ ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله ليرضى بالأكلة يأكلها الإنسان فيحمد الله، وبالشربة يشربها الإنسان فيحمد الله ) فيشرع قبل البدء بالشيء أن يستعين الإنسان بالله فيقول: بسم الله الرحمن الرحيم، وأن يتيمن بذكر الله وحمده، وأن يحمد الله في الخواتيم، وذلك على نعمه جل وعلا أن يسر للإنسان الخير وساقه إلى التمام؛ ولهذا ختم ذلك بالحمد لله على إتمامه تيمناً وشكراً على إنعامه سبحانه وتعالى ما أظهر الموجود من إعدامه.
والله سبحانه وتعالى كل يوم هو في شأن، يوجد من المخلوقات من العدم ما لا يحصيه إلا الله سبحانه وتعالى، وهنا كما تقدم الإشارة في غير ما موضع أن حمد الإنسان لربه من غير عدد أو إلحاق ذلك بشيء لا يحصى، أن الإنسان يؤتاه الأجر تعظيماً لا يؤتاه عدداً، كأن يقول الإنسان الحمد الله عدد الشجر لا يؤتاه حمداً على عدد الشجر، وإنما يؤتى تعظيماً لها أعظم من غيرها من الإطلاقات؛ ولهذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في حديث عبد لله بن عباس في قوله لـجويرية: ( قلت أربع كلمات ثلاث مرات، لو وزنت بما قلت لوزنتهن، سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته ).
قال:
(ثم الصلاة والسلام للأبد على النبي المصطفى بحر المدد)
النبي صلى الله عليه وسلم كل ما يؤتي به في هذه الأمة من خير فله الأجر من غير أن ينقص من أجورنا شيئاً، وكل عبادة نتعبد بها فهو السبب في وصولها وله الأجر، وهذا من وجوه تقدم النبي عليه الصلاة والسلام وفضله على غيره، سواء من أنبياء الله عز وجل فضلاً عن غيرهم من الأولياء والصالحين والشهداء، وذلك أنه ما من شيء في الأمة إلا وأجره يأتي النبي، وما من عالم إلا وأجره يأتي النبي، وما من متعبد أو طائع بأي نوع من أنواع العبادة، بل ما من تارك لشيء من المحرمات محتسباً إلا وأجره يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كثرة هذه الأمة المتوافرة، وذلك فضل الله عز وجل خص به نبيه عليه الصلاة والسلام بأمثال هذه الخصيصة، وبذلك يشترك معه في بعض الوجوه من جهة الأجر الأنبياء، ولكن لما كانت أممهم قليلة كان ثمة فرق بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته.
وقوله هنا: (على النبي المصطفى بحر المدد) اصطفاه على غيره، فكان ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصفاً دائماً لازماً؛ لأنه سيد ولد آدم، وأول من يشفع، وأول من يدخل الجنة، (بحر المدد) وذلك لأنه أمد الأمة بخيري الدنيا والآخرة.
قال رحمه الله تعالى:
(وآله والصحب ما نجم أضاء وما إليه أمرنا قد فوضا)
آل النبي عليه الصلاة والسلام هم أهل بيته عليه الصلاة والسلام، والآل هي من الرجوع الذين يرجع إليهم الإنسان، يقال آل فلان إلى كذا: إذا رجع إليهم، ويؤول الشيء إلى معنى كذا: أي يرجع إليه، وآل فرعون الذين يرجعون إليه إما بسبب أو نسب، بسبب إما بالإتباع، أو بنسب يرجعون إليه إما بأبيه أو جده.
وفي قوله هنا: (وآله والصحب ما نجم أضاء)، وآل النبي عليه الصلاة والسلام آل علي بن أبي طالب، وآل العباس، وآل جعفر، وآل ربيعة بن الحارث، وقيل إن أزواج النبي عليه الصلاة السلام من آله؛ وذلك استدلالاً بقول لله جل وعلا: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ[الأحزاب:33]، ثم بين الله سبحانه وتعالى أنه أراد بهن طهارة، فنسبهن إلى أهل البيت يريد ليطهركم أهل البيت، قال: (وما إليه أمرنا قد فوضا) يعني: أمر هذه الأمة من جهة الإتباع والاقتداء، فالله سبحانه وتعالى أمرنا بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ[النساء:59]، فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ[النور:63] يعني: أننا مأمورون بطاعته، واجتناب ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وزجر، وبهذا يكون التمام والكمال، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقني وإياكم لمرضاته، وأن يجعلنا ممن ينتفع بما نقول ونسمع، وأن يهدينا الصراط المستقيم والمنهج القويم، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
السؤال: [ متى يقدم الجمع على النسخ؟ ].
الجواب: إذا ثبت بدليل أن هذا الحكم منسوخ في الشريعة، نص عليه الصحابة أو جاء في النص، كمسألة نسخ تحريم نكاح المتعة مثلاً هذا بالنص، فليس لنا أن نجمع، أما إذا لم يظهر فيه لفظ النسخ، وجاء الدليل منفك عن الآخر من غير ربط بعضهما بالبعض فإن أمكن الجمع فيجمع.
السؤال: [ قوله صلى الله عليه وسلم ( فيما سقت السماء العشر ) هل هو عام أم مطلق؟].
الجواب: ( فيما سقت السماء العشر ) المقصود به: الزرع المطلق الواسع، الذي يشمل كل شيء حتى ما كان مثلاً من شجر البراري يجب على الناس أن يأخذوا منه ويؤدوه ونحو ذلك! لا، هذا المقصود به ما يزرعه الإنسان، فالعام له أبواب، والمطلق له أبواب أخرى؛ لهذا نقول: عام خصص وليس بمطلق.
السؤال: ما هي مظان إجماعات الصحابة؟
الجواب: إجماعات الصحابة في الغالب تجدها في كتب الخلاف العالي، التي تعتني بخلاف القرون الأولى مثلاً في كتب ابن عبد البر، وكتب ابن المنذر، وتجدها مثلاً في المصنفات التي تعتني بالآثار، في مواضع الخلاف وفي مواضع معرفة إجماع الصحابة، والله أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر