الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
تحدثنا فيما سبق عن البسملة، وذكرنا الخلاف فيها, وتوقفنا عند مسألة الجهر بها، وقلنا: إنه لم يثبت في الجهر بالبسملة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر، وما جاء في الجهر من أخبار فكلها ضعيفة، وسائر الأئمة النقاد على ضعفها.
وقد أخرج البخاري و مسلم من حديث أنس بن مالك عليه رضوان الله تعالى: ( أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم و أبي بكر و عمر ، فكانوا يبتدئون بفاتحة الكتاب ), وذلك فيما يسمعه المأموم خلف الإمام أي: أن الإمام لا يجهر بذلك وإن كان يقرؤها، وما جاء فيه من الأحاديث المروية بالجهر بها فكلها ضعيفة.
ويكفي في هذا أن العلماء عليهم رحمة الله تعالى قد نصوا أن أعلام المسائل ومشهورها إذا لم يخرجها البخاري و مسلم ، فإن هذا دليل على ضعفها، وقد أشار غير واحد من الحفاظ إلى الضعف في الجهر بالبسملة -وإن كانت قد وردت في بعض الطرق في حديث أنس بن مالك عليه رضوان الله تعالى في الجهر بها- لأن البخاري و مسلم قد تنكبا لهذه المسألة.
وهذه المسألة وإن كانت فرعية وجزئية عند العلماء بالاتفاق، إلا أنها من أعلام المسائل ومشهورها، وتتعلق بسائر الناس الذين يشهدون صلاة الجماعة.
ومعلوم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهدون الصلاة معه، فأين نقل الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يجهر بها؟ وقد نقلوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أدعيته التي كان يسر بها في ركوعه وسجوده مما يدل على شدة تحريهم، ولما كانت هذه المسألة من أعلام المسائل ومشهورها وتنكبها البخاري و مسلم فدل ذلك على ضعفها، بل إنه كالنص على إعلالها، وقد مال إلى هذا الاستدلال ابن القيم عليه رحمة الله تعالى، و الزيلعي في كتابه نصب الراية وغيرهما.
ثم هنا مسألة: القبض في الصلاة؛ أي: أن يضع يده اليمنى على يده اليسرى، وهي سنة بالاتفاق, ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجه يعتمد عليه أنه سدل في صلاته.
وقد اتفق العلماء على مشروعية القبض في الصلاة، ومع هذا لا أعلم أحداً من السلف لا من الصحابة ولا من التابعين ولا من أتباعهم ولا من الأئمة الأربعة من قال بوجوب القبض، وإنما هو سنة، وإن كان قد جاء الأمر به، وحمله بعضهم على الرفع، كما رواه الإمام مالك في الموطأ ورواه البخاري من حديث أبي حازم عن سهل بن سعد قال: ( كان الناس يؤمرون أن يضعوا أيديهم اليمنى على اليسرى في الصلاة ).
وأخذ بعض العلماء مشروعية وضع اليد اليمنى على الذراع من حديث سهل بن سعد قال: ( أن يضع يده اليمنى على ذراعه اليسرى )، ويأتي الكلام على هذه المسألة.
ووضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة من السنة، ويبتدئ ذلك بعد تكبيرة الإحرام مباشرة.
وأما مكان الوضع فقد روي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مواضع، منها: تحت السرة، وقد ورد خبر واحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يثبت بل هو منكر.
وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وضعها على صدره، كما في حديث وائل بن حجر ، وجاء في مرسل طاوس بن كيسان عند أبي داود .
وحديث الوضع على الصدر قد تفرد به مؤمل بن إسماعيل عن سفيان عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر عليه رضوان الله تعالى: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام وضع يده اليمنى على اليسرى على صدره )، ولفظة (على صدره) قد تفرد بها مؤمل بن إسماعيل عن سفيان الثوري .
وقال بعضهم: إنه سفيان بن عيينة عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر ، وخالفه في ذلك جماعة من الثقات ممن رووا عن سفيان، فقد رواه عنه جماعة من الأئمة الكبار كـمحمد بن إدريس الشافعي ، و قتيبة بن سعيد ، و يحيى بن آدم ، و أبو نعيم الفضل بن دكين ، و وكيع بن الجراح وغيرهم من الأئمة الثقات الذين يزيدون عن عشرة أنفس، بل يزيدون عن خمسة عشر نفساً كلهم رووه عن سفيان ولم يذكروا فيه (على صدره).
وقد تابع جماعة من الرواة -نحواً من عشرين نفساً- سفيان عن عاصم بن كليب ولم يذكروا فيه الزيادة (على صدره)، وكذلك رواه جماعة عن علقمة بن وائل بن حجر عن أبيه وائل بن حجر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو سبعة من الرواة, ولم يذكروا فيه (على صدره) مما يدل على شذوذها.
وقد جاء في مرسل طاوس بن كيسان عند أبي داود في سننه، ويرويه عنه سليمان عن طاوس مرسلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنه وضع اليمين على الشمال على صدره ), وهو مرسل ولا يحتج به، و طاوس مراسيله شبه الريح.
وقد جاء أيضاً عند أبي داود عليه رحمة الله تعالى في سننه من حديث قبيصة بن هلب عن أبيه بنحو هذا اللفظ، ولكن قبيصة مجهول، وقد تفرد بهذا الخبر، ولا يحتمل منه ذلك.
والذي عليه جماهير العلماء هو مشروعية القبض من غير تحديد موضع، بل ذهب الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى فيما نقله عنه أبو داود في مسائله إلى كراهة وضع اليد اليمنى على اليسرى على الصدر بذاتها، قال أبو داود عليه رحمة الله تعالى: وسألت الإمام أحمد عن وضع اليمنى على اليسرى أتذهب إليه؟ قال: نعم، قال: وكان يكره وضع اليد على الصدر.
والذي عليه عامة العلماء من السلف من الصحابة والتابعين أن الإنسان مخير, وأن المشروع هنا هو أن يضع يده اليمنى على اليسرى، فإن وضعها على صدره أو على سرته أو على بطنه أو دون ذلك فإنه لا حرج عليه، فإن الاتباع هنا هو أن يضع يده اليمنى على اليسرى فقط، والزيادة في هذا تفتقر إلى دليل ثابت عن رسول الله، ولا دليل في هذا.
أما الوضع تحت السرة فهو المشهور عن الإمام أحمد عليه رحمة الله، وهو أظهر من وضعه على الصدر, وإن كان كلا الحديثين ضعيفاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما هيئة القبض فالذي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنه كان يضع يده اليمنى على اليسرى )، وجاء عند الإمام أحمد و أبي داود من حديث عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضع يده اليمنى على يده اليسرى وعلى الرسغ وعلى الذراع وعلى الساعد ).
وجاء في حديث سهل بن سعد عند الإمام مالك في الموطأ، ورواه عنه البخاري من حديث أبي حازم عن سهل بن سعد قال: ( كان الناس يؤمرون أن يضعوا يدهم اليمنى على اليسرى على الذراع )، فنص على الذراع.
فيقال: المشروع في ذلك هو أن يضع يده اليمنى على اليسرى إما على الكف، وإما على الرسغ والرسغ هنا هو آخر الكف، أو على الذراع وهو الساعد.
وتغاير الألفاظ في حديث وائل بن حجر بذكر الذراع ثم الساعد ثم الكف دليل على الترخيص في ذلك، وأن السنة القبض، وهذا فيه غاية التأدب مع الله سبحانه وتعالى، كما نص عليه الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى؛ أن الحكمة من هذا هو أن يكون الإنسان في تأدب أمام الله سبحانه وتعالى، فإن الإنسان يستقبل ربه في صلاته كما جاء في الخبر عنه عليه الصلاة والسلام.
والقبض يستديم مع الإنسان في كل ركعاته، وهو الأصح حتى عند رفعه من الركوع، وإن كان مسكوتاً عنه في الخبر؛ لأن المشروع في القيام هو القبض وليس السدل، ويبقى حينئذٍ على أصله وإن لم يدل دليل عليه، فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنه كان يقبض يده اليمنى على اليسرى في صلاته )، ولكنه لم ينص في أي قيام.
وإذا قلنا بالتقييد، فنقول بالقيام الأول، ولا نقول بالقيام الثاني ونحو ذلك؛ لأنه لم يرد تقييد أو إطلاق بالقيام كله، فيقال: إن النص قد جاء بالقبض في القيام، ويشمل القيام في حال قيام الإنسان في صلاته أو في حال قيامه من الركوع، ويخرج من هذا من لا يستطيع أن يصلي إلا قائماً في حال سجوده وركوعه، فقد يكون الإنسان بين السجدتين وهو قائم، كأن يكون الإنسان في زحام، أو كان ظهره صلباً ولا يستطيع أن ينحني، فإذا كان في استحضار صلاته بين السجدتين فلا يقبض، وهذا خارج من هذا باعتبار أنه معذور في حال قيامه.
وهنا مسألة: وهي أنه في حال قيامه وقبل قراءة الفاتحة جاء في بعض الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشروعية الدعاء في حال القيام، وجاء في هذا جملة من الأخبار، وفي بعضها كلام، ولكن يقال: إن القيام من مواضع الدعاء، ويكفي فيه أنه قد ثبت عن بعض السلف أنه كان يدعو ويجعل قنوته قبل ركوعه.
وكذلك جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه دعا، وكذلك جاء عن أبي بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى كما جاء عند الإمام مالك في موطئه، وجاء أيضاً عند البخاري عليه رحمة الله تعالى في الصحيح: ( أن أبا بكر الصديق عليه رضوان الله لما صلى مكان النبي عليه الصلاة والسلام, وقدم النبي عليه الصلاة والسلام بعد ذلك فصفق الناس، فالتفت أبو بكر ، وكان لا يلتفت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع, فأشار إليه النبي عليه الصلاة والسلام أن مكانك فرجع، ثم رفع أبو بكر الصديق يديه عليه رضوان الله تعالى، وقال: الحمد لله ).
وقد أخذ غير واحد من العلماء من هذا على مشروعية رفع اليدين في القيام والدعاء أيضاً، وإن لم يكن قنوتاً، سواء كان في أثناء القراءة أو في غيرها وذلك في بعض الأحوال، وهذا وارد كأن يستحضر الإنسان نعمة ونحو ذلك فإنه لا حرج عليه أن يرفع يديه، وإن كان في قراءة فيقول: الحمد لله، كما جاء عن أبي بكر الصديق في صحيح البخاري وغيره.
ثم يشرع بقراءة الفاتحة، وهي ركن من أركان الصلاة عند عامة العلماء إلا ما يروى عن بعض الفقهاء من الحنفية وهو قول أبي حنيفة ، وذهب جماعة من الحنفية إلى الركنية؛ لظاهر الدليل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله عليه الصلاة والسلام: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )، وما جاء عنه عليه الصلاة والسلام قوله: ( كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج خداج ) .
وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن قراءة الفاتحة في الصلاة واجبة وليست ركناً، وقال بعضهم: إنها سنة، وهو قول أبي حنيفة ، واستدلوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فهي خداج)، أي: ناقصة، وهذا لا يدل على البطلان.
والصواب أن قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) فيه إشارة إلى بطلانها، أي: لا صلاة صحيحة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب. وقراءة الفاتحة ركن -كما تقدم- وتقرأ في كل ركعة.
والسنة أن يرتل الإنسان قراءته في صلاته، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأحاديث الكثيرة في ذلك سواء كان هذا في قراءة الفاتحة أو في قراءة السورة التي تليها.
ويسن له أن يجهر في الجهرية، ويسر في السرية، والإسرار والجهر سنة، فإن تركه متعمداً أو ناسياً فلا شيء عليه عند عامة العلماء.
ثم في آخر قراءة الفاتحة يقول: (آمين) مداً وقصراً، وكل هذا منطوق به في لغة العرب، ومعناها: استجب، ومن قال: (آمين) فكأنما دعا.
وموسى عليه الصلاة والسلام لما كان يدعو الله سبحانه وتعالى وكان هارون يؤمن، قال الله سبحانه وتعالى: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا [يونس:89]، فالداعي موسى والمؤمن هارون، ومع ذلك قال: (( قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا ))، أي: كأن الداعي جماعة، فمن أمن فهو داعٍ، أي: اللهم استجب هذا الدعاء وهو اختصار. وإنما كان المأموم يقول: آمين؛ لأنه مأمور بالإنصات.
والمأموم في الصلاة الجهرية لا يقرأ الفاتحة على الصحيح خلف الإمام؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا [الأعراف:204]، فهو مأمور بالإنصات، وقد جاء عن غير واحد من السلف أن المراد بذلك الصلاة، وهو مروي عن عبد الله بن عباس و مجاهد بن جبر ، كما رواه ابن جرير و ابن أبي حاتم وغيرهما.
والفاتحة ركن في الصلاة السرية على العموم على القول الصحيح بالنسبة للإمام والمأموم، وبالنسبة للمأموم في الركعتين الأخيرتين من الصلاة الرباعية، وكذلك في الثلاثية من المغرب، وخفف بعضهم على المأموم في كل حال إذا كان خلف الإمام اعتماداً على ما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة )، وهذا الخبر ضعيف.
وأما المنفرد فحكمه حكم الإمام، وهي ركن باتفاق العلماء الذين قالوا بالركنية للإمام، وذهب بعض العلماء إلى وجوب قراءة المأموم؛ لعموم النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد ذهب جماعة من السلف إلى أن المأموم لا يقرأ بل إنه مأمور بالإنصات، وهذا مروي عن أبي ذر ، و أبي الدرداء ، و عبد الله بن مسعود ، و عبد الله بن عمر ، ومروي عن الأسود ، و علقمة ، و إبراهيم النخعي ، وقد صنف في هذا رسالة عبد الحي اللكنوي عليه رحمة الله سماها: إمام الكلام في حكم قراءة الفاتحة خلف الإمام، وهو مصنف كبير جمع فيه ما وفق إليه من نصوص عن السلف من الصحابة والتابعين، وترجح لديه أن المأموم لا يقرأ في الصلاة الجهرية خلف الإمام، وهذا الذي ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية ، فقد شدد في هذه المسألة حتى إنه نص في كتابه الفتاوى المصرية: أن من قرأ خلف الإمام في الصلاة الجهرية مع الإمام فهو كالحمار يحمل أسفاراً؛ وذلك أن الإمام يقرأ فلمن يقرأ؟ فالإنسان مأمور بالإنصات، ولا يناسب هذا ظاهر التشريع.
فإذا أمن الإمام فإن من خلفه يؤمن على الصحيح من قول جمهور العلماء، خلافاً لما ذهب إليه جماعة من الفقهاء من الحنفية وهو رواية عن الإمام مالك .
وأما حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أمن الإمام فأمنوا )، فإنه يرفع صوته بآمين، وكذلك المأمومون يرفعون أصواتهم بذلك، وإن لم يكن قد ثبت في ذلك خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برفع الصوت إلا أنه عليه عمل الصحابة، ويأتي الكلام على هذه المسألة.
وآمين بالمد والقصر، فيقال: آمين، أو يقال: أمين، فتمد الألف والياء، أو تمد الياء وتقصر الألف، وكل هذا معروف وسائغ في لغة العرب، ولهذا يقول الشاعر:
اللهم لا تحرمني حبها أبداً ويرحم الله عبداً قال آمينا
فهذا بالمد، وأما بالقصر ففي قول الشاعر:
تباعد مني فطحل إذا دعوته أمين فزاد الله ما بيننا بعدا
وكل هذا وارد، ولا حرج فيه، وما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام من ألفاظ بها فكلها عربية.
والإمام والمأموم يمد صوته بها.
ويؤمن المأموم بعد قول الإمام: آمين؛ وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: ( إذا أمن الإمام فأمنوا ).
وذهب بعض الفقهاء إلى أن تأمين المأموم يكون بعد قول الإمام: (( وَلا الضَّالِّينَ ))؛ وذلك أنه صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا قال الإمام: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، فقولوا: آمين )، فيقال: إن هذا مجمل مفسر بقوله عليه الصلاة والسلام: ( إذا قال الإمام: آمين، فقولوا: آمين ).
وأما الجهر بآمين للإمام فالخبر ثابت بلا ريب، وأما المأموم فلم يثبت في ذلك خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصح شيء في هذا الباب ما جاء عن ابن الزبير وعن أبي هريرة فيما رواه عبد الرزاق ، وكذلك قد رواه ابن حزم الأندلسي من حديث عطاء أنه سئل: (أكان ابن الزبير يمد صوته بآمين؟ قال: نعم، كان يصلي ويمد صوته بآمين، وإن للمسجد لجة)، أي: أن من بعده يقول: آمين، قال: (وكان أبو هريرة يقوم بعد الإمام فيقول: لا تسبقني بآمين)، وروي من طريق آخر أيضاً عن ابن الزبير وإسناده صحيح، وهذا أصح شيء جاء في هذا الباب.
وقد ذهب بعض الفقهاء إلى عدم مشروعية الجهر؛ لعدم ثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, والأمر في هذا واسع؛ لأن الأمثل في هذا هو الجهر؛ ولأن ابن الزبير كان يصلي وراءه جماعة -منهم أبو هريرة عليه رضوان الله تعالى- وأقروه على ذلك مما يدل على أن العمل على ذلك.
ومعلوم أن أعمال الصحابة عليهم رضوان الله تعالى ليست تشريعاً بذاتها، ولكنها إذا اشتهرت وكانت في جماعة فإنها تصبح تشريعاً، والاشتهار عند العلماء عليهم رحمة الله تعالى يؤخذ من وجوه:
منها: أن يثبت عن أحد من الصحابة عليهم رضوان الله تعالى خبر من الأخبار في عبادة من العبادات أو في غيرها، ويرويه عنه جماعة من أصحابه، فهذا يدل على الاشتهار.
ومنه: أن يقال: إن مثل هذا هو الذي عليه العمل، أو أن يفعل ذلك الصحابي الفعل في جماعة كما حصل هنا، فقد شهده أبو هريرة عليه رضوان الله تعالى و ابن الزبير وجماعة ممن كان معهم، فدل ذلك على الاشتهار من غير نكير، وحينئذٍ يقال: إن هذا هو الذي عليه العمل، وهو أقرب إلى التشريع، وقد يقال بالسنية في مثل هذا.
وأما ما يقوله بعض الفقهاء: إن ما ثبت عن أحد من الصحابة عليهم رضوان الله تعالى في خبر من الأخبار ولم يخالفه أحد فيكون موقوفاً عليه، ويكون كالإجماع السكوتي، فإطلاق هذا القول فيه نظر؛ وذلك أن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى قد يروى عنهم قول من الأقوال ولا يشتهر، فلا يرويه عنه إلا واحد من أصحابه، ويرويه عن هذا الواحد واحد، فكيف يقال باشتهاره؟ وكيف يقال: إن هذا إجماع سكوتي، أو أنه لا يعرف له مخالف؟
ويقال: أثبتوا شهرة القول عن هذا الصحابي ثم بعد ذلك قولوا: إن هذا إجماع سكوتي، ولو قلنا بهذا لقلنا بكثير من التشريع الذي لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافه، وأمثلة هذا ونظائره كثيرة.
وقد يستشكل على البعض الاستدلال ببعض الأخبار عن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى في موضع، وعدم الاستدلال بها في موضع آخر, وذلك أنها تتباين بحسب شهرتها ونقلة الأخبار عن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى.
وأما سكوت الإمام فإنه يسكت عند رأس كل آية، ومن ذلك بعد قوله: آمين؛ وذلك لأخذ النفس.
والقول بالسكتة بعد (آمين) لا يصح، والثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة في صحيح الإمام مسلم : ( أنه كان يسكت بعد تكبيرة الإحرام هنيهة، ثم يقرأ عليه الصلاة والسلام الفاتحة ), وذلك بعد دعاء الاستفتاح والاستعاذة والبسملة.
وأما السكوت بعد قراءة الفاتحة فلم يثبت, وقد جاء في حديث أبي بن كعب وغيره، ولا يصح، وقد أعله غير واحد من الحفاظ كشيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله تعالى وغيره.
ويقرأ بعد ذلك ما تيسر له من القرآن، وقراءة السورة سنة عند جماهير العلماء، وذهب بعضهم إلى وجوبها، واستدلوا بما جاء في السنن من حديث أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( اقرءوا بفاتحة الكتاب وما تيسر )، قالوا: فالأمر هنا في قوله: (اقرءوا) وارد على الفاتحة وما تيسر، ولكن الذي عليه الصحابة عليهم رضوان الله تعالى وكذلك التابعون، وجماهير العلماء هو عدم وجوب قراءة سورة بعد الفاتحة، وأنها سنة.
ويشرع للإمام والمنفرد أن يقرأ في صلاة الفجر بالطوال؛ لأنه قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنه كان يقرأ فيها بالبقرة والنساء وآل عمران )، وهذا خاص بالحضر، وأما السفر فيقرأ بقصار المفصل؛ لأنه قد ثبت هذا العمل عن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة المعوذتين، ويأتي الكلام على هذه المسألة.
ويقرأ في المغرب بطوال المفصل، وإن قرأ بالطوال فلا حرج عليه، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأ بالأعراف، وقرأ في الظهر والعصر بالطوال، وطوال المفصل، وأما في العشاء فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأ بهذا وهذا.
ويخرج من هذا إذا كان في حال سفر فلا يتقيد بشيء، فالمشروع هو التخفيف، وقد ثبت عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى وعن أنس بن مالك أنهم قرءوا بقصار المفصل، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأ بالمعوذتين، وجاء عند أبي داود (أن النبي عليه الصلاة والسلام قرأ في الفجر في السفر بـ(إذا زلزلت) مرتين في الأولى والثانية)، وهذا لا يصح، والصواب أن فيه إرسالاً، وأخرجه أبو داود مرسلاً في كتابه المراسيل.
والسنة أن يقرأ في كل ركعة سورة فما زاد، ولا يفصل سورة بين ركعتين، وذلك خلاف السنة، فقد روى الإمام أحمد في مسنده و محمد بن نصر المروزي وغيرهما من حديث أبي العالية رفيع بن مهران قال: حدثني من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لكل ركعة حظها من السورة )، وجاء في رواية: ( لكل ركعة سورة )، وإسناده صحيح.
وكثير من الناس يجهل هذه السنة وحرص السلف عليها، وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وإن كان قد ثبت عنهم خلاف ذلك، لكنه في أحوال قليلة، فلم يكن يفصل بين السورة الواحدة في الركعتين، وإن كان قد ثبت عن أبي بكر الصديق ، فعند البيهقي و عبد الرزاق و الطحاوي أن أبا بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى قرأ البقرة في ركعتين، وروى الدارقطني أن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى قرأ آيتين من البقرة في ركعتين، قال الدارقطني : وإسناده قوي، ولكن هذا في بعض الأحيان بخلاف الغالب, فالسنة أن يقرأ في كل ركعة بسورة.
وقد حرص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، وقد جاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص عليه رضوان الله تعالى أنه عتب على من فصل السورة بين ركعتين.
وجاء في غزوة أن النبي عليه الصلاة والسلام لما كان يحرسه رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار، وقاما على حراسة المسلمين, فكان الأنصاري في أول الليل والمهاجري في آخره، فلما كان قائماً جاء رجل من المشركين فرماه بسهم فنزعه، فرماه بالثاني فنزعه، فرماه بالثالث فنزعه ثم ركع، إلى آخر الخبر، ثم قال: هلا أخبرتني؟ قال عليه رضوان الله تعالى: إني كنت في سورة فأحببت أن أقضيها، أي: أتمها كاملة، وهذا يدل على غاية حرصهم على إتمام السورة في الصلاة بخلاف فصلها.
وأما فصل القصار بين السور والعناية بذلك؛ فقد وصف ابن القيم عليه رحمة الله تعالى من يفعل ذلك من الأئمة قال: أولئك جهلة الأئمة، وهم الذين يفصلون بين السور القصار بين الركعتين ويداومون على ذلك، والكلام على هذه المسألة يطول، وقد تكلم عليها محمد بن نصر في كتابه قيام الليل فقال: (باب كراهة فصل السورة بين الركعتين)، وأورد في هذا جملة من الأخبار من المرفوع والموقوف على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم هذه القراءة في السور تكون في الركعتين الأوليين، ولا يقرأ في الركعتين الأخيرتين من الرباعية ولا في الثلاثية من المغرب، وهذا ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد استدل بعضهم ببعض العمومات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تكون الركعة الأولى أطول من الثانية والثانية على نصف الأولى، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يطيل في الأولى, فإذا قسمناها جعلنا الثانية نصف الأولى، والثالثة نصف الثانية، فإنه كان يطيل في ذلك، فيقال: إن هذا لا يلزم.
وقد جاء في حديث حفصة كما في الموطأ: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها )، فقد يكون النبي عليه الصلاة والسلام يرتل الآية فتكون السورة أطول من غيرها، وقد يرتل في ركعة ما لا يرتل في الأخرى، فتكون أطول من التي قبلها.
والسنة أن تكون الأولى أطول من الثانية وإن خالف فلا بأس؛ لأنه قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم العكس، كما في صلاة الجمعة.
وقد ثبت عن بعض الصحابة أنهم كانوا يقرءون في الثلاثية والرباعية، فعند الإمام مالك كما في الموطأ وعند البيهقي من حديث الصنابحي عن أبي بكر الصديق أنه قرأ في الثلاثية بعد الفاتحة قول الله سبحانه وتعالى: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا [آل عمران:8]، وروى البيهقي عن عمر بن عبد العزيز قال: كنت على خلاف ذلك -أي: على عدم القراءة- حتى بلغني هذا، ولكن ابن عبد البر عليه رحمة الله تعالى كما في كتابه الاستذكار قال: إن هذا دعاء، أي: أنه قنوت، (( رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ))؛ وذلك لما كان فيه من قتال المرتدين، فبعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام زاغت القلوب، وارتد من ارتد من العرب وقاتل من قاتل، فكانت محنة عظيمة ابتلي بها المسلمون عامة، فكيف بأمير المؤمنين أبي بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى؟ وعلى هذا حمل ابن عبد البر أن قوله: (( رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا )) ليس المراد بذلك هي الآية من آل عمران، وإنما هو قنوت ودعاء.
ومعلوم أن القيام من مواضع الدعاء، وقد جاء عن غير واحد من السلف أنه كان يقنت في حال قيامه قبل الركوع. وكذلك روي هذا عن أبي هريرة و عبد الله بن عمر أي: القراءة في الأخيرتين.
ثم هنا مسألة: وهي القيام في الصلاة، فإن فرضيته خاصة بالفريضة.
وأما النافلة فسنة، فإن جلس معذوراً فلا شيء عليه؛ لثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان غير معذور وصحيح فأجر صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما إن كان مريضاً فالأجر له تام، كما روى البخاري من حديث أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما يعمل وهو صحيح مقيم )، فحال المرض يختلف عن حال الصحة.
وأما مسألة: وضع البصر في حال قيام المصلي, فإنه لم يثبت في ذلك خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصحيح، وقد ينازع البعض بأنه قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يجاوز بصره موضع سجوده حينما صلى في الكعبة، فيقال: إن هذا الخبر ضعيف.
وكذلك جاء من حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى، وروي أيضاً عن أبي هريرة بمعناه، وقد رواه ابن أبي سلمة عن زهير ، وروايته عنه منكرة، وقد جاء (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يطأطئ رأسه).
وقد فصل في هذا جماعة من الفقهاء، وعلقوا الأمر بحسب خشوع الإنسان، كما نص على ذلك في المبسوط، ونقل عن الطحاوي عليه رحمة الله أنه قال: إذا كان في قيامه فينظر في موضع سجوده، وإذا كان في ركوع فينظر إلى قدميه، وإذا كان في سجوده فينظر إلى أرنبة أنفه، وهذا تفصيل لا دليل عليه.
وأما وضع البصر في حال التشهد فيكون إلى موضع الإشارة بالإصبع، وهذا قد جاء في حديث ابن الزبير ، وقد رواه الإمام مسلم ولم يخرج هذا, فدل ذلك على عدم اعتداده بهذه الزيادة؛ لأنه قد تفرد بها محمد بن عجلان ، ويرويه عنه يحيى عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه، ولم يرو لـمحمد بن عجلان ، ورواه الإمام مسلم عليه رحمة الله تعالى من حديث الليث بن سعد و أبي خالد الأحمر عن محمد بن عجلان ، ولم يذكروا وضع البصر إلى الإصبع، وهذا أصح.
وقد جاء في حديث عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى عند النسائي ، وقد ترجم له كذلك بأنه غير محفوظ، فقد تفرد به علي عن مسلم بن أبي مريم , وخالفه في روايته هذه سفيان الثوري و مالك بن أنس ، فلم يذكروا وضع البصر، وهذا الذي مال إليه الإمام البخاري في أنه لا يثبت شيء في وضع البصر، وترجم في كتابه الصحيح قال: (باب رفع البصر إلى الإمام في الصلاة)، ويشير بهذا إلى ضعف ما جاء في هذا الباب.
والذي يدل على ضعف ما جاء في هذا الباب قرائن كثيرة:
أولها: أن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى كانوا يصفون حال النبي عليه الصلاة والسلام في صلاته في الفريضة، ويذكرون اضطراب لحيته بالقراءة؛ مما يدل على أنهم لم يكونوا ينظرون إلى موضع السجود، فهذه قرينة.
وجاءت نصوص كثيرة ممن يذكرون صفة قيام النبي عليه الصلاة والسلام وحاله، وصفة سجوده وسلامه عليه الصلاة والسلام حينما يسلم يميناً وشمالاً مما يدل على أنهم كانوا يرقبون النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يكونوا ينظرون إلى موضع السجود.
ثانيها: أن تعليق الأمر بموضع معين ينافي المقصد الشرعي من الخشوع في الصلاة، فإن الأولى في الخشوع في الصلاة هو عدم تقييد موضع، وإنما تعليقه بما هو أخشع للعبد في صلاته، فيقال: إن المصلي يضع بصره فيما هو أخشع لصلاته، فإن كان الذي هو أخشع لصلاته أن ينظر إلى الإمام فلينظر إلى الإمام، وإن كان الذي هو أخشع لصلاته أن ينظر أمامه فلينظر أمامه، أو عن يمينه أو عن يساره، إلا أنه لا يلتفت فإن ذلك يكره له، ويحرم عليه النظر إلى السماء، وأما أن ينظر إلى موضع قدميه، أو إلى كفيه، أو إلى ما هو أبعد من ذلك، فإنه لا حرج في هذا، فإنه يسعى إلى ما هو أخشع لقلبه.
الخشوع في الصلاة سنة عند عامة العلماء -بل حكي الإجماع عليه- ولم يقل أحد من السلف بوجوبه، وقد يقال بالوجوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من الناس من لا يكتب له من صلاته إلا شطرها، قال: ربعها، وقال: خمسها، ومنهم من ترد عليه كالثوب الخلق )، وفي هذا بيان للكراهة، ولكن قد يقال: إن هذا ليس فيه دليل على التحريم، وضد التحريم الوجوب، ولولا ما نقله بعض العلماء من حكاية الإجماع لقيل بالوجوب، وكذلك لا يعلم نص بوجوب الخشوع.
وقد جاء عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى أنه كان يجهز الجيوش في الصلاة، وكذلك ما جاء من مجموع بعض النصوص عن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى من رقبهم لصلاة النبي عليه الصلاة والسلام، وما يذكرونه من وصفه في حال صلاته؛ مما يدل على أنه ربما يشك الإنسان في صلاته، والقول بوجوب الخشوع في الصلاة فيه شيء من التكليف بما لا يطاق؛ وذلك لأنه لا يوجد من الناس إلا وينصرف قلبه ولا يملكه، فكيف يتعلق الوجوب بشيء لا يستطيعه الإنسان، إلا إذا استحضره في صلاته.
إذاً: الوجوب لا يتحقق في مثل هذا، وقد روى ابن جرير الطبري من حديث عاصم عن مصعب بن سعد عن أبيه أنه قال في قول الله سبحانه وتعالى: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:5]، قال: أينا لا يحدث نفسه؟ وأينا لا يسهو في صلاته؟ فقال: ليس ما تذهب إليه، وإنما هو الذي يؤخرها حتى يخرج وقتها.
ولا شك أن استحضار الإنسان لما يقرأه في صلاته وخشوعه فيها واستحضاره المعاني مما يتلوه من كلام الله سبحانه وتعالى هو أعظم أجراً وثواباً بالاتفاق، ولا خلاف في ذلك، وإنما الأمر في التعليق بالوجوب؛ لأن صوارف القلب لا يملكها الإنسان.
وإذا قلنا: إنه واجب، فيقال: إن الواجب: هو ما يأثم الإنسان بتركه، وضده المحرم، وهو ما يأثم الإنسان بفعله.
وإذا قيل: إن الخشوع واجب وتركه محرم، فكيف يتحقق التحريم بالترك؟ إلا إذا قال الإنسان بسبب الاسترسال، فإذا قلنا بسبب الاسترسال فيقال: إن أصل الاسترسال لا يملكه الإنسان وهو أصل السهو، فكذلك استحضار الخشوع والاسترسال به مما لا يطيقه أكثر الناس.
ثم يكبر للركوع ويقول: الله أكبر، وهذه التكبيرة الثانية في الصلاة، وهنا مسائل عدة:
أولها: هذه التكبيرة هل هي واجبة أم لا؟ وكذلك ما يليها من تكبيرات الانتقال.
قد تقدم الكلام على تكبيرة الإحرام ووجوبها، ولا خلاف في ذلك.
أما القول بالركنية والوجوب لصيغ تكبيرات الانتقال ومنها هذه التكبيرة فقد اختلف العلماء في ذلك، فذهب الجماهير إلى السنية وهو الصحيح، وذهب الحنابلة إلى الوجوب؛ اعتماداً على قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، والصواب السنية من وجوه:
أولها: أن ذات فعل النبي عليه الصلاة والسلام الأصل فيه الاستحباب إلا لقرينة، ومن هذه القرائن: المداومة، وفي إثباتها هنا نظر.
ثانيها: أنه ثبت عن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى أنهم كانوا لا يتمون التكبيرة في الصلاة، وهذا مروي عن أبي هريرة من الترخيص فيه، وعن عبد الله بن عباس ، وقبل ذلك عن عمر بن الخطاب بأسانيد صحيحة كالشمس.
وأما الاستدلال بقوله عليه الصلاة والسلام: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، فانقلب الوجوب هنا، ولهذا نظائر لا يقولون بوجوبها، ويلزم من ذلك الاطراد.
وقد روى الإمام مسلم من حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة : ( أنه صلى فكبر في كل خفض ورفع، قال أبو سلمة: فسألت أبو هريرة عن ذلك، فقال: هذا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم )، فسؤال أبي سلمة لـأبي هريرة عن هذه التكبيرات، أي: أنهم لم يكونوا معتادين لها والترخيص لهم بتركها، وثبت هذا عن عبد الله بن عباس في المسند والصحيح من حديث عكرمة قال: ( صلى بنا رجل أربعاً، فكبر ثنتين وعشرين تكبيرة, فقلت لـعبد الله بن عباس في ذلك، فقال: هي سنة النبي عليه الصلاة والسلام ).
وأما سؤال عكرمة وهو لم يكن يصلي ولم يشهد جماعة من الصحابة، فلماذا يسأل ويعد هذه التكبيرة التي صلاها، إلا أنه يدل على أنهم لم يكونوا يداومون على ذلك.
وقد روي عن الإمام أحمد رواية أخرى إلى أنها واجبة في الفرض، مستحبة في النفل.
والصواب: أنها مستحبة في الفرض والنفل إلا في حالة واحدة, وهي إذا كان المأموم لا يعلم انتقال الإمام إلا بالتكبير، فما يتم الواجب إلا به فهو واجب، فيقال بوجوب التكبير في مثل هذه الحال، وأما إذا صلى الإمام ومعه واحد أو اثنان فالسنة أن يرفع صوته؛ لأنهم يحسون به في حال صلاتهم، وعلى هذا سائر التكبيرات التي تلي تكبيرة الركوع.
وكذلك له في هذه التكبيرة أن يرفع يديه؛ لثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في أحوال رفع اليدين، فيحاذي بهما منكبيه وشحمة أذنيه، وفي رواية: أطراف أذنيه، وثبت عن عبد الله بن عمر أنه رفع يديه حذو ثدييه، أي: دون ذلك, وهذا موقوف على عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى.
ورفع اليدين جاءت الأحوال فيه بقبل التكبير ومعه وبعده، وقد جاء هذا في حديث عبد الله بن عمر و وائل و مالك عليهم رضوان الله تعالى.
ورفع اليدين في هذا الموضع سنة، ولكن الأولى عدم المداومة على الرفع.
والمواضع التي ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه فيها فيما صح عنه هي تكبيرة الإحرام وهذه الأولى، وفي الركوع وهذه الثانية، وفي الرفع من الركوع وهذه الثالثة، وفي القيام من الركعة الثانية للثالثة وهذه الرابعة.
وقد تكلم بعض الحفاظ في الرابعة، والصواب أنها صحيحة، وهي في الصحيح، وإنما قيل بعدم المداومة؛ لأن راوي هذا الخبر هو عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى، وقد ثبت عنه أنه لم يرفع إلا في تكبيرة الإحرام، وقد جاء الخبر مرفوعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لا يصح؛ فقد رواه النسائي وغيره من حديث محمد بن جابر وقد تفرد به, و محمد بن جابر واهي الحديث، كما قال ابن الجوزي : لا يروي عنه إلا من هو شر منه، وهذا الحديث يرويه إبراهيم النخعي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال: ( صليت مع أبي بكر و عمر و عثمان ومع النبي عليه الصلاة والسلام قبل ذلك، فكانوا يرفعون أيديهم بتكبيرة الإحرام ثم لا يزيدون ) أي: لا يرفعون بعد ذلك، وهذا الخبر منكر. وقال الدارقطني و عبد الله بن المبارك : لا يثبت، وقال الإمام أحمد : ليس بصحيح، وكذلك قاله يحيى بن آدم ، وقد أعله الإمام البخاري ، وقد صحح هذا ابن حزم الأندلسي.
وقد ثبت عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى أنه كان لا يرفع إلا في تكبيرة الإحرام، ولا يزيد في ذلك، وقد رواه المخلص في فوائده، و ابن حزم الأندلسي في محلاه من حديث نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان يرفع في تكبيرة الإحرام، وجاء هذا عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى, وعن علي بن أبي طالب بأسانيد صحيحة.
ويقال: إنه يراوح بين هذا وهذا، ولم يثبت عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يترك الرفع بالإطلاق، كما نص عليه البخاري في جزء رفع اليدين.
أما مسألة رفع اليدين في السجود، فلم يثبت في ذلك خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد روي من حديث مالك بن الحويرث الذي تفرد به ابن أبي عدي عن شعبة و سعيد بن أبي عروبة عن قتادة ، ورواه جماعة عن سعيد بن أبي عروبة وعن قتادة فلم يذكروا فيه الرفع من السجود؛ ولكنه ثابت عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى, وقد جاء مرفوعاً عن أنس بن مالك عليه رضوان الله تعالى ولكنه لا يصح، وقد تفرد برفعه عبد الوهاب الثقفي وأعله الدارقطني عليه رحمة الله تعالى و الطحاوي بالوقف.
وقد جاء في حديث وائل بن حجر وفي إسناده أشعث بن سوار، وكذلك عبد الجبار بن وائل بن حجر لم يسمعه من أبيه، وعليه يقال: إنه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الإشارة في الرفع من الركوع، وكذلك في الهوي إلى السجود وفي الرفع من السجود أيضاً، وإنما ثبت عن بعض الصحابة عليهم رضوان الله تعالى، والسنة إنما تثبت بفعله عليه الصلاة والسلام.
وأما رفع اليدين في السجود والرفع منه، فلم يثبت في ذلك خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد روي عنه من حديث مالك بن الحويرث و أنس بن مالك و وائل بن حجر وعن غيرهم، ولكن لا يصح في هذا الباب شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما رفع اليدين فتكون بمد أصابعه غير قابض لأصابع يديه، ولا ناشراً لهما، فقد روى النسائي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (وكان يرفع يديه ناشراً لهما )، وقد تفرد بهذا يحيى بن اليمان وهو منكر، والصواب أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يرفع يديه مداً من غير تعمد للتفريج بالأصابع، وقد تقدم الكلام على هذه المسألة في استقبال القبلة بالكف.
ثم بعد ذلك يهوي للركوع.
والسنة في هذا أن يكون هوي المأموم بعد الإمام؛ ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( فإذا ركع فاركعوا )، والفاء للتعقيب، فيكون عقب الإمام.
وكذلك السنة في مثل هذا الحال هو ألا يشخص برأسه ولا يصوبه، ولكن يجعله بين ذلك، وأن يستوي ظهره، وأن يطمئن في ركوعه؛ لأنه واجب، وقد أمر النبي عليه الصلاة والسلام المسيء صلاته أن يعيد الصلاة؛ لأنه لم يطمئن في ركوعه وسجوده، ومن لا يطمئن في ركوعه وسجوده فصلاته باطلة، وقد روى محمد بن نصر المروزي من حديث الأعمش عن زيد بن وهب أن حذيفة بن اليمان رأى رجلاً لا يطمئن في ركوعه وسجوده فقال: منذ متى وأنت تصلي هكذا؟ قال: منذ أربعين سنة، قال: منذ أربعين سنة ما صليت، ولو مت على هذا لمت على غير فطرة محمد صلى الله عليه وسلم.
وكذلك في أمر النبي عليه الصلاة والسلام ذلك الرجل بالإعادة دليل على الوجوب وعلى بطلان من لم يطمئن في ركوعه.
والسنة أن يكون طول الركوع كالقيام إلا إن شق ذلك على الناس، وهذا من السنن التي يغفل أو يتركها الكثير، وهو أن يجعلوا الركوع مساوياً للقيام، لكن أيهما أولى؟
إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يطيل الركوع لمصلحة ما، فله أن يقصر القيام حتى يساويه بالركوع، أما أن يجعل القيام طويلاً ويختصر الركوع لمصلحة, فيقال: إن هذا هو الأولى، وهو ظاهر السنة، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يصلي ويقرأ في الركعة الواحدة بالبقرة والنساء وآل عمران، وكان ركوعه قريباً من قيامه، وكان عليه الصلاة والسلام يعظم الرب في ركوعه، ويكثر من الدعاء والابتهال والتضرع لله سبحانه وتعالى.
ولا يجوز قراءة القرآن في الركوع بل يحرم؛ ولهذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القراءة، إلا في حالة إذا اقتبس الإنسان دعاء أو تسبيحاً من القرآن، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يتأول القرآن فيقول: ( سبحانك اللهم وبحمدك )، كما جاء في الخبر الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام.
والسنة أن يعظم الرب في الركوع فيقول: سبحان ربي العظيم، ويقول: سبوح قدوس رب الملائكة والروح، أو يقول: سبوح رب الملائكة والروح، وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا ركع قال: ( اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي ).
وأما ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في سبحان ربي العظيم: ( اجعلوها في ركوعكم )، فلا يثبت، ولا يثبت الأمر بقول: سبحان ربي العظيم.
والسنة أن يعظم الرب بكل ما جاء من ألفاظ التعظيم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير تقييد بلفظ معين، ومما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك أن يقول: ( سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي )، وهذا يدل على أن الركوع من مواضع الدعاء، فللإنسان أن يدعو بما تيسر له مع تعظيم الرب جل وعلا.
وأما العدد فيسبح ثلاثاً وإن زاد فحسن؛ فإطالة النبي عليه الصلاة والسلام ركوعه كقيامه دليل على التكرار، وألا يمل الإنسان من تكرار تعظيم الرب جل وعلا، وإن أتى الإنسان ببعض ألفاظ التعظيم مما لم يرد فلا بأس بذلك، وصلاته صحيحة، والدليل على ذلك هو تنويع النبي عليه الصلاة والسلام بين الألفاظ مما يدل على عدم لزوم شيء بعينه.
ويسن أن يمكن الراكع كفيه من ركبتيه، وأن يفرج بين أصابعه، وأن يجعل أصابعه ممتدة على أطراف ساقيه مما يلي ركبته، وهذا هو السنة.
ثم يرفع ويشير بيديه ويقول: (سمع الله لمن حمده) إماماً ومنفرداً، وأما المأموم فيقول: (ربنا لك الحمد)، وقد جاء في هذا أربع صيغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أولها: اللهم ربنا لك الحمد، وثانيها: اللهم ربنا ولك الحمد، وثالثها: ربنا لك الحمد، ورابعها: ربنا ولك الحمد، وهي في الصحيح، ويقول ذلك وجوباً على الصحيح.
والإمام يقول: (سمع الله لمن حمده)، ولم يثبت في تخصيص الرفع من الركوع بهذا اللفظ عن سائر الانتقال خبر، وقد ذكر بعض الفقهاء من الأحناف في ذلك خبراً موقوفاً على أبي بكر الصديق ، وذكروه مرفوعاً أيضاً، وليس له أصل.
ويقول المأموم: (ربنا لك الحمد ملء السماوات والأرض وما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد)، وهذا يقوله الإمام أيضاً ويشرع له ذلك، والرفع من الركوع من مواضع الدعاء.
وقال بعض الفقهاء: إن الرفع من الركوع ركن، وأن الاستواء والاعتدال ركن أيضاً، فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يطيل الرفع من الركوع حتى يقال: إنه سها، وهذا من السنة، وهو أن يطيل الإنسان القيام بعد الرفع من الركوع.
ويضع يديه قبضاً، وإن سدل فلا بأس، والأولى القبض، وما ورد في ذلك فلا يثبت.
ثم إن شاء أن يقنت في الأخيرة قنت قبل الركوع أو بعده، ولكن بعد الرفع من الركوع أشهر، وقبل الركوع ثبت عن بعض الصحابة عليهم رضوان الله تعالى، إلا أنه لم يثبت مرفوعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى وعن عمر بن الخطاب وغيرهما.
ثم يهوي الإمام إلى السجود، ويهوي المأموم بعده؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ( فإذا سجد فاسجدوا، ولا تسجدوا حتى يسجد ).
وهنا مسألة وهي: هل يقدم المصلي في سجوده يديه أم ركبتيه؟
فأما في المرفوع فلم يثبت في ذلك شيء، وما جاء في حديث وائل بن حجر فمعلول، فقد تفرد شريك به عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر ، وحديث أبي هريرة تفرد به محمد بن عبد الله بن الحسن عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ، وأعله سائر الأئمة كـالبخاري و الترمذي و الدارقطني وغيرهم بالتفرد، ولكن قد ثبت عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى تقديم الركبتين، ولم يثبت في المرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء.
وللعلماء في ذلك كلام طويل بين مصحح ومضعف، والتخيير هو الأولى مما هو أنسب للإنسان وما هو أيسر له، فمن الناس من هو ثقيل البدن، ومنهم من هو خفيف.
ويكره للمصلي أن يكفت ثوبه، والكفت هو الجمع، كما قال الله سبحانه وتعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا [المرسلات:25]، أي: جمعناها، وكفت الثوب وعقص الشعر والاختصار، وبسط الذراعين والإقعاء الذي بين السجدتين، والالتفات، ونقر الصلاة كنقر الغراب، كل هذا منهي عنه، وهذا مما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعضها يصح، وبعضها لا يصح، ولكن العلماء على كراهة ذلك باعتبار مخالفته ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله، والثابت في ذلك كراهة الالتفات، وعقص الشعر، وبسط الذراعين، والاختصار، وعدم الطمأنينة في الصلاة.
ثم يسجد على سبعة أعظم، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( أمرت أن أسجد على سبعة أعظم )، وأشار إلى مواضعهن فقال: (القدمين، والركبتين، واليدين، والجبهة، وأشار إلى أنفه )، والجبهة والأنف عضو واحد يجب أن تمسهن الأرض، ويجعل كفيه حذو منكبيه أو عند شحمة أذنيه، ويفرج بينهما، ويبالغ في ذلك ما لم يؤذ من حوله؛ لثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويبسط أصابعه ويجعلها مستقبلة القبلة.
والسجود من مواضع الدعاء، ويقول فيه: (سبحان ربي الأعلى)، والمناسبة في ذلك هو أن يظهر في حال ذل وانكسار، وقربه من الأرض ناسب أن يبين علو الله سبحانه وتعالى، ويقول: سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي.
وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في السجود: ( اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره، وتبارك الله أحسن الخالقين )، وأما قول هذا الدعاء في سجود التلاوة فلا يصح؛ لأن إسناده منقطع، فقد أعله الدارقطني وغيره بالانقطاع، ولا يثبت في سجود التلاوة دعاء بعينه، بل يسبح كما يسبح في سائر السجود.
ويجعل سجوده قريباً من ركوعه، ويكثر من الدعاء، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد، فأكثروا فيه من الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم )، أي: حري أن يستجاب لكم.
ولا يقرأ القرآن في السجود إلا اقتباساً من دعاء، ويكثر من تعظيم الله سبحانه وتعالى وسؤاله، ويقول: سبحان ربي الأعلى، وأما قول: (وبحمده) بعد (سبحان ربي الأعلى) فلا تثبت, وقد أعلها الإمام أحمد وغيره، وقد جاءت في عدة أحاديث وكلها معلولة، ولكنه يقولها مع قول: سبحانك اللهم وبحمدك، أما قول: (وبحمده) فلا تصح.
ويضع القدمين في أثناء السجود ناصباً لهما، ويستقبل بأصابع قدميه القبلة، ولا يجوز له أن يرفع قدميه أو أحدهما حال سجوده؛ لأنه مأمور بأن يسجد على سبعة أعظم، ثم يرفع من سجوده ولا يرفع يديه؛ لعدم ثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان قد ثبت عن بعض الصحابة.
ثم يرفع من سجوده، وهذه هي الجلسة بين السجدتين.
والسنة في الجلسة بين السجدتين هي الافتراش، وهو أن ينصب اليمنى ويفرش اليسرى ويجلس عليها، وهذا عند جمهور العلماء خلافاً لبعض الفقهاء من المالكية الذين قالوا بالتورك بين السجدتين.
ولا بأس بالإقعاء بين السجدتين، والإقعاء: هو أن يجلس على عقبيه ناصباً لقدميه، ويختلف الإقعاء عند أهل الحديث وعند أهل العربية، فأهل الحديث يرون أن الإقعاء: هو أن يجلس على عقبيه ناصباً لقدميه فارشاً لهما خلفه، وعند أهل العربية: أنه يجلس ناصباً لقدميه جاعلاً أصابع قدميه جهة القبلة.
والإقعاء سنة، فقد ثبت في صحيح الإمام مسلم من حديث طاوس عن عبد الله بن عباس أنه سئل عن الإقعاء فقال: هو سنة، وليس هذا هو الإقعاء الذي ورد في الحديث: ( نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن إقعاء كإقعاء الكلب )، فالكلب إقعاؤه ليس كذلك، فالإقعاء: هو أن يجلس الإنسان على إليته وهو شبيه بالاحتباء.
وقال بعضهم: إن المراد بالإقعاء: هو أن يفرش قدميه عن يمينه ويساره، أو ينصبهما ويجلس على إليته بين قدميه.
ومن الفوائد هنا: ما يذكره بعض العلماء أنه قال: ليس شيء من الحيوان يكون جالساً أطول منه قائماً إلا الكلب في حال إقعائه، فإذا أقعى وكان جالساً يكون أطول منه إذا كان قائماً، وقد نص على هذا ابن عبد البر في كتابه الاستذكار عند كلامه على هذه المسألة فيما أذكره، وعهدي بها قديم من سنوات.
والجلسة بين السجدتين يجب فيها الطمأنينة، ولا يشرع فيها الإشارة بالسبابة، فما كان النبي عليه الصلاة والسلام يفعل ذلك ولا أحداً من أصحابه، ومن قال من بعض الفقهاء المتأخرين بمشروعية ذلك استدلالاً بأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يشير إذا جلس فيقال: إن الجلوس والقعود إذا أطلق فالمراد به التشهد.
وفي حال جلوسه بين السجدتين يبسط كفيه على فخذيه، وثبت أنه يجعلهما على ركبتيه.
ويقول في سجوده: (رب اغفر لي)، وقد ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح الإمام مسلم من حديث حذيفة .
وأما الزيادة على ذلك بقول: (رب اغفر لي، وارحمني واجبرني واهدني) فلا تثبت، وقد جاءت في السنن من حديث كامل أبي العلاء عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس ، وتفرد بها كامل ، فلا يحتج به.
وإن كرر (رب اغفر لي) أكثر من مرة فلا حرج في ذلك؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يطيل ما بين السجدتين، وهو من مواضع الدعاء.
والسجود في الثانية كالأولى.
ويفعل في الركعة الثانية كما فعل في الأولى، إلا أنه لا يستفتح فيها، أي: لا يدعو بدعاء الاستفتاح، وتكون القراءة كالنصف من قراءة الأولى.
وأما قيامه للثانية فتكون على صدور قدميه؛ لثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي حميد الساعدي ، وأما القيام عجناً فلا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن يقوم على صدور قدميه، وإن وضع كفيه على فخذيه معتمداً على فخذيه أو اعتمد بيديه على الأرض فلا حرج في ذلك، وكل هذا وارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد نهض النبي عليه الصلاة والسلام على صدور قدميه، وورد أنه اعتمد على الأرض بيديه وعلى فخذيه.
ولا يرفع يديه في حال رفعه هذا؛ لأنه ليس من مواضع الرفع.
ثم يفعل في الثانية ما فعل في الأولى، في ركوعها وسجودها.
ثم في الثانية يجلس للتشهد، وللعلماء عليهم رحمة الله تعالى في الجلوس للتشهد أقوال عدة:
فقد ذهب جمهور العلماء وهو قول الإمام أحمد و الشافعي و أبي حنيفة إلى أن السنة في التشهد الأول في الرباعية والثلاثية الافتراش، واختلفوا في التشهد الأخير في الثلاثية والرباعية، فذهب الإمام أحمد إلى أنه يفترش في التشهد الأول من الثنائية، ويتورك في الثلاثية والرباعية في التشهد الأخير، وذهب الشافعي إلى أنه يتورك في آخر كل صلاة، سواء كانت ثنائية أو ثلاثية أو رباعية.
وكلهم استدلوا -الإمام أحمد و الشافعي- بظاهر حديث أبي حميد الساعدي : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس للتشهد الأول نصب اليمنى وافترش اليسرى )، وقال أبو حميد في حديثه: ( وإذا كان في آخر صلاته نصب اليمنى ومد اليسرى، وجلس على إليته اليسرى )، قال الشافعي: وفي قوله: (في آخر صلاته) دليل على أنه كان تشهداً فسواء كانت ركعتين أو ثلاثاً أو أربعاً فإنه يتورك فيها، ولكن هذا كله محتمل.
وذهب أبو حنيفة إلى عدم مشروعية التورك، وأن الافتراش هو السنة بالإطلاق في التشهد الأول والأخير.
وذهب الإمام مالك إلى التورك بكل حال حتى بين السجدتين، وهذا الذي عليه جماهير أصحابه، وقد خير الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى بين هذه الأفعال، وإن كان يميل إلى الافتراش في التشهد الأول، وإلى التورك في التشهد الأخير، وكأنه رخص في هذا وهذا، فكلها أحوال وأفعال فعلها النبي عليه الصلاة والسلام، فلا حرج فيمن يختار شيئاً من ذلك.
ولكن يقال: إن النبي عليه الصلاة والسلام فعل هذه في أحوال وهذه في أحوال في صلاة واحدة؛ مما يدل على المغايرة، فيقال: إن الأمر في هذا واسع، وأنه إن افترش أو تورك فلا حرج في هذا كله.
والافتراش: هو أن ينصب قدمه اليمنى ويفترش اليسرى، وصفة نصب اليمنى على حالين:
الحال الأولى: أن ينصب القدم، ويجعل أصابعه جهة القبلة.
والحال الثانية: أن يجعل أصابع قدمه اليمنى خلفه فارشاً لها في الخلف.
وأما التورك: فتكون اليمنى على تلك الحالين، وتكون اليسرى بين ساقه والأرض، وجاء في صحيح الإمام مسلم أن تكون قدمه اليسرى بين ساقه وفخذه، وهذا غير محفوظ، والصحيح رواية أبي داود أن تكون قدمه اليسرى بين ساقه والأرض.
وعليه من قال: إن التورك على ثلاث حالات:
الحال الأولى: أن ينصب اليمنى، ويجعل أصابعه جهة القبلة وقدمه اليسرى بين ساقه وفخذه.
الحال الثانية: بين ساقه وبين الأرض.
الحال الثالثة: ناصباً للرجل اليمنى فارشاً لها خلفه، فإن هذا فيه نظر؛ لأن ما جاء في صحيح الإمام مسلم هو قلب، وأما جاء في سنن أبي داود وهو أن يجعل قدمه اليمنى بين ساقه وبين الأرض فهو الأصح والأقرب إلى الصواب.
والتشهد الأول من الواجبات، فمن تركه عمداً بطلت صلاته، ومن تركه ساهياً سجد للسهو، ومن قام للثالثة ساهياً فإن اعتدل قائماً فلا يرجع إلى التشهد الأول؛ لأنه قد شرع في ركن فلا يدع الركن إلى شيء واجب قد فات.
والتشهد الأول ليس فيه صلاة على النبي عليه الصلاة والسلام على الصحيح، وما جاء في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يثبت، وليس من السنة.
وكذلك لا يدعو بعد التشهد الأول؛ لأن الدعاء إنما هو بعد التشهد الأخير، وإن كان قد ثبت هذا عن عبد الله بن عمر ، وقال به الإمام مالك ، ولكنه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإن أطال الإمام في الجلوس وقضى المأموم تشهده فإنه يسبح ويهلل، وإن دعا -لما ورد عن عبد الله بن عمر- فلا حرج عليه، ولكنه خلاف الأولى، إلا لمن احتاج إليه لطول جلوس الإمام.
وإذا قام إلى الركعة الثالثة فإنه يرفع يديه؛ لثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويشير بإصبعه في التشهد، والإشارة بالإصبع قد ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة، منها: حديث عبد الله بن عمر وغيره كما الصحيح، وما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإشارة بالإصبع جاءت فيها ألفاظ منها: نصبها وتحريكها، وعدم تحريكها، وحنوها واستقبال القبلة بها.
والثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع إصبعه ويشير بها، وأما التحريك فلم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه تفرد به زائدة بن قدامة ، وقد أعلها أبو بكر بن العربي وغيره، وقد صححها ابن خزيمة و ابن حبان وغيرهم، وكلام ابن خزيمة يحتمل التصحيح، والأظهر أنه يرى الإعلال، وحكى بعضهم التصحيح عنه، وهو ظاهر.
وأما عدم التحريك فلا يثبت أيضاً، والثابت الرفع والإشارة، والتحريك مسكوت عنه، فمن أشار وحرك من غير تعبد بذلك التحريك فلا حرج، ولا شيء عليه، وإن تعبد لوجود الدليل فهو متبع، وإن كان لا يرى صحة ذلك وحرك ففعله هذا متضمن الإشارة، والتحريك قدر زائد لا يتعبد به لمن لا يرى صحة هذا الخبر.
وأما حنوها فقد جاء عن أبي داود من حديث مالك بن نمير عن أبيه، وقد تفرد به وهو مجهول، فحنوها لا يثبت.
وأما الاستقبال بها القبلة فقد روي عن عبد الله بن عمر ورفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما التحريك لمن قال بالتحريك ووقته فقد اختلف الفقهاء في ذلك، فمنهم من قال: إنه يحرك عند ذكر لفظ الجلالة، وذهب إلى هذا الحنابلة، وقال بعضهم: إنه يرفع عند الدعاء، وقال بعضهم: إنه يرفع عند قوله: إلا الله، وذهب إلى هذا جماعة من الفقهاء من الشافعية، ولكن يقال: إن التحرك أصلاً لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه فمثل هذه التفريعات فيها ما فيها.
وأما عدم ثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يقال بالبدعية؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أشار، فإذا حرك الإنسان إصبعه في تشهده فلا حرج في هذا؛ لأن فعله هذا تحريك، ولأن فيه إشارة، والنبي عليه الصلاة والسلام قد أشار، فالتحريك مسكوت عنه، وهذا نظير ما تقدم في وضع اليدين على الصدر.
فإذا قلنا: إن النبي عليه الصلاة والسلام قد قبض، أي: وضع اليمين على الشمال، فإنه لا يثبت في تحديد موضع المكان شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: هل من وضعها على صدره ينكر عليه؟
قلنا: إنه لا ينكر عليه، فمن وضعها على بطنه أو على السرة أو دون السرة، فإنه لا ينكر عليه؛ لأن التعبد القبض، فما زاد عن ذلك فهو مسكوت عنه، فهو إذاً: لا بد أن يفعل شيئاً من ذلك، وكذلك نحن حينما نضعف هذه الألفاظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يعني ذلك إنكار ما جاء فيها.
ولكن نقول: التعبد فيها يفتقر إلى دليل، ونظير هذا ما جاء في الإشارة بالإصبع، فالسنة أن تشير، فإن حنيت أو استقبلت القبلة أو انحرفت يميناً أو شمالاً أو حركت، فنقول: السنة الإشارة، فما زاد عن ذلك فمسكوت عنه، وبعض الناس بطبعه إذا أشار تنحني إصبعه، وبعض الناس بطبعه أنه يرفعها ويخفضها ولا يريد بذلك التعبد، وإنما أراد بذلك الإشارة، وكل هذا مسكوت عنه، ولا حرج للإنسان أن يفعله بأي حال، ولكن التعبد بذات الفعل يفتقر إلى دليل، والإنسان مأمور بالتعبد بما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخاصة فيما شدد النبي عليه الصلاة والسلام فيه بالاتباع كالعبادات، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام هنا: ( صلوا كما رأيتموني أصلي ).
وأما في التشهد الأخير فإنه يذكر ما في التشهد الأول من التحيات التي ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهرها: حديث عبد الله بن مسعود ، وتشهده باتفاق العلماء أصح وأشهر ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو: (التحيات لله والصلوات والطيبات)، وجاءت زيادة المباركات بعد التحيات لله، وجاءت أيضاً (الصالحات) كما في حديث أبي موسى ، وجاءت أيضاً في لفظ عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى، ولم تأت هذه الزيادة في حديث عبد الله بن مسعود .
وأما قوله في تشهد عبد الله بن مسعود : (السلام عليك أيها النبي)، فقال بعض الفقهاء وهو مروي عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى وحكاه عطاء عن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى أنه بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، فلا يقال: عليك أيها النبي؛ لأنه بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام يقال: على النبي، وهذا ثابت عن عبد الله بن عباس ، وخالفه في ذلك ابن مسعود فقال: (هكذا علمنا وهكذا نعلم) أي: نعلم الناس كما علمنا النبي عليه الصلاة والسلام.
وقد كان عطاء يقول: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان النبي عليه الصلاة والسلام يقولون: السلام عليك أيها النبي، فلما توفي قالوا: السلام على النبي)، وكأنه حكى عمل الصحابة، وعلى كل فلا حرج في ذلك كله، وشهود الإنسان للنبي عليه الصلاة والسلام لا يعني له التعلق بهذا اللفظ، أي: قوله: (السلام عليك أيها النبي).
فالصحابة عليهم رضوان الله تعالى كانوا يسافرون ويرتحلون عن النبي عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك لم يأمرهم النبي عليه الصلاة والسلام على ألا يقولوا: عليك أيها النبي، وأن يقولوا: السلام على النبي، فدل ذلك على البقاء، ولهذا عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى قال: (هكذا علمنا النبي عليه الصلاة والسلام وهكذا نعلم)، أي: نعلم الناس كما علمنا النبي عليه الصلاة والسلام بغير زيادة ولا نقصان، فمن فعل بما كان عليه عبد الله بن مسعود فلا حرج عليه، وهو الأصل، ومن فعل بما كان عليه عبد الله بن عباس وما حكاه عطاء بن أبي رباح عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا حرج عليه كذلك.
ومن أخذ بالتشهدات الثابتة عن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى كتشهد عبد الله بن عباس ، و أبي موسى الأشعري ، و عمر بن الخطاب ، و عائشة عليها رضوان الله تعالى، فكل هذا وارد، وإن غاير الإنسان بين هذا وهذا فلا حرج عليه، إلا أن الأشهر والذي ينبغي أن يكثر ويغلب على الإنسان في صلاته هو تشهد عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى.
والصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام بعد التشهد الأول ليست من السنة، وأما في التشهد الأخير فذهب الفقهاء من الحنابلة إلى وجوبها، والصواب أنها سنة في التشهد الأخير، وهو قول جمهور العلماء؛ وذلك لأنه لم يثبت الأمر بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما النبي عليه الصلاة والسلام لما جاءه الصحابة عليهم رضوان الله تعالى وعلمهم التشهد فقالوا: ( علمنا كيف نصلي عليك؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد ). فالنبي عليه الصلاة والسلام سأله الصحابة فقالوا: كيف نصلي عليك؟
إذاً: لم يكن شرعه قبل ذلك حتى جاء السؤال، والقاعدة أن الأمر إذا جاء بعد سؤال فإنه يفيد الاستحباب، ولا يفيد الوجوب إلا لقرينة تؤكد ذلك، أي: تؤكد الاستحباب إلى الوجوب، ولا مؤكد هنا، بل إن القرينة أن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى قبل ذلك لم يكونوا يفعلون حتى جاءوا النبي عليه الصلاة والسلام فسألوه عن الصلاة، فكانوا يصلون على النبي عليه الصلاة والسلام.
وإن أضاف في الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وأزواجه وآل بيته)، فهذا وارد، ولا حرج في زيادته.
وإذا فرغ من صلاته فإنه يشرع له الدعاء، فإن هذا من مواضع الدعاء.
ومواضع الدعاء في الصلاة عدة:
أولها: في حال القيام.
ثانيها: في حال الركوع، وبعد الرفع من الركوع، وفي السجود، وبين السجدتين، وبعد التشهد الأول؛ لقول عبد الله بن عمر ، ولكنه يكره كما تقدم، وفي التشهد الأخير قبل السلام، فيدعو.
ويستعيذ مما استعاذ منه النبي عليه الصلاة والسلام: (من عذاب القبر ومن عذاب جهنم ومن فتنة المسيح الدجال ومن فتنة المحيا والممات)، وقد أمر طاوس ابنه بإعادة الصلاة التي لم يستعذ بها من هذه التي استعاذ النبي عليه الصلاة والسلام منها، مما يدل على أنه يرى الوجوب، ويرى البطلان بالترك، ولكن الذي عليه عامة العلماء هو الاستحباب.
ويدعو بعد ذلك بما شاء.
والإشارة في التشهد الأخير كالإشارة في التشهد الأول لا فرق، والنظر إلى الإصبع في حال التشهد لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم الإشارة إليه.
والتشهد الأخير ركن من أركان الصلاة، فمن تركه متعمداً أو ناسياً بطلت صلاته، ووجب عليه أن يأتي به إذا سلم، ثم يسلم بعد ذلك ويسجد للسهو؛ لأن السلام هنا غير معتبر به، وإنما انصراف قبل انقضاء الصلاة.
وأما التسليمتان فله أن ينصرف في التسليمة الأولى من صلاته بإجماع العلماء؛ فالتسليمة الأولى فرض، والثانية سنة باتفاق العلماء، وقد حكى إجماع العلماء على ذلك ابن عبد البر في التمهيد والاستذكار، و الطحاوي في شرح معاني الآثار، والقرطبي في تفسيره عند قول الله سبحانه وتعالى: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43]، قال: اتفق العلماء على مشروعية التسليمة الثانية وعدم وجوبها، وأن الأولى فرض والثانية ليست بفرض، وحكى ذلك الطحاوي عليه رحمة الله تعالى في شرح معاني الآثار أنه لا يعلم أحداً قال بوجوب الثانية، إلا أنه لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سلم بواحدة، وإنما كان يسلم تسليمتين.
وقوله عليه الصلاة والسلام: ( تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم )، فأل هنا للعهد، والمعهود من سلامه هو التسليمتين، فهل يقال: إنه لا يحل للإنسان أن ينصرف من صلاته إلا بتسليمتين؟ يقال: لو لم يكن في هذا إجماع لقيل بذلك، ولكن الإجماع على ذلك، وهذا الذي عليه عمل الأئمة من الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم، ولا أعلم من قال بفرضية التسليمتين، فيسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله, وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله.
وأما زيادة (وبركاته) فلا أصل لها، فقد جاءت في نسخة عند أبي داود ، ويظهر أنها من بعض النساخ، وليست في الرواية أصلاً، وإن كانت الرواية ثابتة فهي شاذة، وإذا سلم وقال: (السلام عليكم) ولم يقل: (ورحمة الله) فقد انصرف من صلاته.
والانصراف من الصلاة لا يكون إلا بالتسليم عند جمهور العلماء خلافاً للحنفية، وهو قول إبراهيم النخعي و حماد بن أبي سليمان ، وكذلك مروي عن عطاء أنهم كانوا يقولون: إن الإنسان ينصرف من صلاته بعد التشهد الأخير ولو لم يسلم، وقد سئل إبراهيم النخعي : الرجل يفرغ من تشهده ثم ينصرف قبل إمامه؟ قال: لا شيء عليه، وقال بذلك حماد بن أبي سليمان وكذلك أبو حنيفة ، أي: أنه إن انصرف قبل التسليم فلا شيء عليه.
وعلى قول أبي حنيفة تتفرع مسائل، منها: من عمل ناقضاً من نواقض الصلاة قبل التسليم وهو في تشهده الأخير، كمن أحدث، أو انصرف عن القبلة، أو قام، أو فعل شيئاً من المبطلات -فيما نص عليه بعض الفقهاء- كالأكل، أو تكلم، أو غير ذلك، فإن صلاته صحيحة على قول أهل الرأي، وهو مروي عن إبراهيم النخعي .
والصحيح أنه لا ينفتل إلا بالتسليم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ( وتحليلها التسليم )، أي: لا يحل له أن يفعل شيئاً إلا بالتسليم، وقد أعل ابن القيم عليه رحمة الله تعالى في كتابه الزاد ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من تسليمة واحدة من الأحاديث، وأشار إلى فرضية التسليمتين، وهذا فيه نظر، فلا أعلم من قال بذلك من الأئمة، حتى الأئمة الأربعة، وإنما هو قول لبعض الفقهاء من المتأخرين.
هذا والله أعلم، وأسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يستمع القول ويتبع أحسنه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر