إسلام ويب

الإمام العادلللشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تدنو الشمس من العباد يوم القيامة فيكونون في كرب عظيم، إلا أن الله عز وجل يرحم فئات من خلقه فيؤويهم إلى ظل عرشه الكريم، ومن هؤلاء السعداء الإمام العادل، الذي أقام حكم الله في العباد، وحفظ دينهم، وصان أعراضهم، وأحسن إلى محسنهم، وأخذ على يد مسيئهم، وهذا الإمام وإن كان يقصد به ابتداء صاحب الإمامة العظمى، إلا أنه يدخل فيه كل من ولي شيئاً من شئون العباد، كالأب والقائد والمعلم وغيرهم.
    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، أما بعد:

    فيا معشر الأبناء والإخوان! أحييكم جميعاً بتحية الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

    حديثنا مع الأبناء والإخوان جعل له عنوان: (تحت ظل العرش)، وفي هذا ورد حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند الإمامين البخاري ومسلم ، وعند الإمام مالك في موطئه.. وعند غيرهم من رواة الحديث ومخرجيه.

    هذا الحديث الجليل يرويه البخاري بسنده المتصل عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله تعالى، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وافترقا عليه، ورجل دعته -أي: طلبته- امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ).

    هذا الحديث من أصح الأحاديث فنستعين الله تعالى على شرحه فقرة بعد أخرى، وفي جلسات مقبلة إن شاء الله، وحسبنا ما يفتح الله به في هذه الليلة أن نتحدث عن أول الرجال.

    معاشر الأبناء! إننا ميتون، وإننا والله بعد الموت لمبعوثون، وإننا سنبعث بغير اختيار منا، ولا بإرادة تطلب منا، وإننا نبعث على صعيد واحد، على أرض بيضاء لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، إنها أرض المعاد.

    إن الشمس تدنو من أهل الموقف ونحن منهم، فيتصبب العرق حتى يصبح كالأنهار الجارية، فوالله إن منهم -أي: من أهل الموقف- من يلجمه العرق إلجاماً، ويتفاوتون فيه حسب أعمالهم في هذه الدار، ويتفاوتون حسب إيمانهم وصالح أعمالهم في هذه الحياة، وإن الشمس لتدنو حتى تكون على مسافة الميل، وأبو هريرة راوي الحديث يقول: لا أدري هل الميل الذي هو ثلاثة فراسخ، أم الميل الذي هو ألفا ذراع، أو الميل الذي تكتحل به المرأة؟

    هذا الدنو يسبب حراً لا يمكننا أن نتصوره إلا إذا علمنا أن الشمس اليوم -وهي كوكب نهاري مضيء ملتهب تستمد هذه الأرض منه حرارتها وضوءها- كما قال المختصون من علماء الفلك والكون: لو تدنو الشمس دنواً ما على ما هي عليه، لاحترق كل شيء قابل للاحتراق على وجه الأرض، مع أن المسافة بعيدة لا تقدر بالأميال، فكيف إذا كانت بمسافة الميل فوق رءوس العباد؟ من ذا الذي لا يطلب ظلاً يستظل به؟

    إن عرفتم هذا وقد حدثتكم بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبت في دواوين هذه الملة فليس بالأغاليط ولا بأحاديث القصاص، إن الذي سمعتم والله لكما سمعتم، حينئذ يطلب كل إنسان أن يكون تحت ظل يستظل به من حر الموقف، هنا يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن سبعة من هذه الأمة من أفرادها يظلهم الله عز وجل في هذا اليوم في ظله؛ حيث لا ظل إلا ذاك الظل الإلهي.

    لا بأس أن أستطرد فأذكر أن قوم شعيب عليه السلام لما استوجبوا العقوبة وتهيئوا لنقمة الله؛ لأنهم عبدوا غير الله، واستحلوا ما حرم الله، وسخروا من نبي الله، وفي القرآن قصتهم مفصلة، لما أراد الله عز وجل أن يعذبهم أرسل عليهم حراً، فارتفعت درجة الحرارة إلى قدر لا يطاق، وقد يرينا الله ذلك من وقت لوقت تذكرة، كما حصل في السنة الماضية في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا فضلاً عن بلاد العرب الصحراوية، خرج الناس من البيوت، وصاحوا من شدة الحر، حين ارتفعت نسبة الحرارة إلى قدر معين.

    فقوم شعيب وهم أصحاب الأيكة أخذهم عذاب يوم الظلة، إنه كان عذاب يوم عظيم، ارتفعت درجة الحرارة فكادوا يموتون، وأرسل الله تعالى سحباً سوداء وأخذت تدنو من ديارهم، فما إن شاهدوها حتى فزعوا إليها يستظلون بها، فتجمعوا بنسائهم ورجالهم وأطفالهم؛ يطلبون الظل، فانقضت عليهم الصاعقة فأتت عليهم أجمعين: فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء:189] ففي ذلك الموقف تكون البشرية كلها واقفة حفاة عراة غرلاً، لا يتقون الحر بشيء.

    هناك من أراد الله إكرامهم، ذكر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مجموعة منهم، سبعة ذكروا في هذا الحديث.

    وآخرون ذكروا في أحاديث مفرقة من بينهم: (التاجر الصدوق الأمين..) الذي لا يعرف الكذب، ولا ينفق أو يروج بضاعته بالكذب، (الأمين) في معاملاته مع إخوانه، هذا أحد الذين يكرمون بهذا الإكرام.

    وأذكر من بينهم: الذي ينظر معسراً، يكون له على مؤمن دين ويكون المؤمن معسراً غير موسر، لم يجد سداداً يسدد به دينه، ويحل الأجل فيأتي صاحب الدين ويقول: أنظرتك إلى شعبان، أو إلى الحصاد، أو الجذاذ، أو موسم كذا.. حتى إذا جاء الأجل وبقي الإعسار ينظره مرة ثانية، هذا الذي ينظر المعسرين يفوز بهذه الكرامة الإلهية يوم القيامة.

    ومنهم كذلك الذي يتنازل عن دَينه ويضعه بالكلية عن المدين، فلا يطالبه به، وفي القرآن: وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:280] لا سيما إذا كان المدين تقياً براً صالحاً، وابتلاه ربه بالحاجة والفقر؛ ليرفعه درجات، وليكمله، فتنازل المؤمن لأخيه عن دينه، فهذا يستحق أن يكون من هؤلاء الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.

    وقد جمع هؤلاء وغيرهم الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) ونظم ذلك نظماً، واعتز به وفرح حيث وفقه الله عز وجل لجمع عدد كبير ثبت بالسنة الصحيحة.

    ومنهم الذي يرسل الغازي في سبيل الله ليغزو أيام كان هناك غزو، أو أراد أن يجاهد كالمجاهدين الآن في أرض الأفغان فيرسله، فيقول: سر على بركة الله، وأنا كافل أهلك، فلا ينقص أهله شيئاً مما كان عائلهم ينفق عليهم، فيتولاه ويخلفه في أهله، ويزوده بما يحتاج إليه من عتاد، ويذهب يجاهد في سبيل الله، فهذا المرسِل معدود من الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

    إذاً: فلنتحدث عن أول هؤلاء ألا وهو: الإمام العادل.

    وأرجو من الأبناء الذين يلازمون هذه الحلقات أن يحفظوا هذا الحديث؛ فإنه من أجل الأحاديث.

    قوله: ( سبعة يظلهم الله في ظله ) وورد في ألفاظ أخرى: ( في ظل عرشه ) والإضافة هنا للتشريف؛ إذ الله تعالى مالك كل شيء، يملك العرش ويملك ظله، والذي يكون تحت العرش في كنف الله وفي رحمة الله، لا يمسه سوء ولا يناله حر، وحسبه أنه تحت عرش الرحمن.

    ونتصور أو نقدر فرحة عبد يؤويه الله ويدخله في ظله، كيف تكون فرحته؟ أليست هذه مقدمة عظمى وبشرى كبرى أنه سوف ينجو من أهوال الموقف، وسوف ينجو في عرصات القيامة من كل ما فيها، ويدخل في دار السلام؟

    هذه بشرى عاجلة، فبمجرد أن يدخله الله تحت ظل عرشه يعرف أنه أصبح من أهل الجنة، والناس في الموقف لم يقض بينهم، فهذه هي البشرى العاجلة، ويأتي بعد ذلك الحساب، ثم الوزن للأعمال، ثم العبور على الصراط إلى دار السلام، فالذي يحصل على هذا الكمال في ساحات القيامة وعرصاتها اطمأن على أنه ناج من عذاب الله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088520953

    عدد مرات الحفظ

    777094109