الحمد لله الذي كبَّرنا من صِغر، وأطعمنا من جوع، وسقانا من ظمأ، وسترنا من عورة، فقد خرجنا من بطون أمهاتنا عراةً حفاةً جياعاً عالةً، فأغنانا من فقر، وكسانا من عري، وأطعمنا من جوع، وقوانا من ضعف، ورفعنا من ذلة، وكثَّرنا من قلة، وهدانا من ضلالة، وثبتنا من فتنة، كم من كائد كادنا فحمانا الله، وكم من ماكرٍ مكر بنا فوقانا الله ما نعلم ومما لا نعلم فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ [الحاقة:38-39] وأعداؤنا الذين لا نبصرهم أكثر من الذين نبصرهم، وأولهم الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وله حبائل ومن حبائله النساء، وله حيل وفتن لا ينجي منها إلا الله.
فله الفضل المتقدم .. أعطانا قبل أن نسأل، ومنحنا قبل أن نطلب، فنرجوه ألا يردنا ونحن نسأل ونطلب، فبإحسانك المتقدم إلينا ربنا نتوسل إليك، وأصلي وأسلم على قدوتي وقرة عيني محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر الصديق، وعمر الفاروق، وعثمان الحيي، وعلي رضي الله عنه أمير المؤمنين، الخليفة الراشد الرابع.
أحبتي في الله: إني أحبكم في الله، وحديثي اليوم إليكم هو من أحاديث ودروس العقيدة كما وعدتكم في الدرس الماضي أن نستكمل عقيدة أهل السنة والجماعة ، ونتطرق إلى بعض فقراتها على حسب الحاجة إليها، فالإنسان عندما يصاب بالصداع -بعد أن يرفع صحيفة الدعاء- يأخذ وصفة الدواء وإذا فيها (اسبرين)، وإذا آلمه رأسه لا يذهب يأخذ له دواء المعدة، أو دواء لأمراض أخرى، وهذا هو السر الذي جعلني أتطرق في دروس العقيدة إلى الخلفاء الراشدين، والعشرة المبشرين بالجنة، والصحابة رضي الله عنهم؛ وذلك لحاجتنا في هذه الأيام إلى إلقاء الضوء عليهم، لأن هناك من يظن -ولعله لا يعلم الحقيقة- أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم قد ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك من يقول لهم ذلك، وأمة محمد عليه الصلاة والسلام من كان منها على الحق، نسأل الله أن يزيده حقاً، ومن كان منها على باطل وهو يظن أنه على حق، نسأل الله أن يرده إلى الحق رداً جميلاً، هذا هو القصد من هذه الدروس.
وأما الذي يحارب الله ورسوله، فمن يقدر على ذلك؟!
يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، وهل يستطيع مخلوق أن يطفئ نور السماوات والأرض؟!
لو نفخ شخص هذا المصباح الصغير الذي فيه ستين شمعة طول عمره بفيه ما استطاع أن يطفئه، فكيف بمن يريد أن يطفئ نور الله، لو اجتمعت المخاليق كلها تنفخ، ما استطاعت.
عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه حكم عشر سنوات، أقام فيها العدل على نفسه قبل أن يقيمه على غيره، حتى تغير لونه وشحب، كان يسهر الليل في البرد الشديد، يخاف أن يوقفه الله يوم القيامة فيسأله عن عنـزة أو بغلةٍ عثرت في العراق لم يصلح لها الطريق ولم يمهده، فكان إمام العادلين رضي الله عنه وأرضاه.
وفي خلال الفتوحات الإسلامية الكبرى كانت جيوشه تضرب في وقت واحد دولتي الروم في الشام والفرس في العراق، وبطبيعة الحال أن الأسرى والسبايا من النساء والغلمان، وكان المجاهدون يأخذون غنيمتهم من الأسرى.
والفاروق رضي الله عنه حرص حرصاً شديداً على أن تظل عاصمة الدولة الإسلامية -المدينة المنورة- طاهرة، فقد شرفها الله بجثمان محمد صلى الله عليه وسلم، وبشهداء معارك المسلمين الأول من المهاجرين والأنصار، ولأن أكثر من نصف الوحي نزل فيها؛ لذا أراد عمر أن يطهرها تطهيراً كاملاً مائة بالمائة من كل ما يلوثها من الجانب المادي والمعنوي.
فكان طوال الليل يتحسس ويتلمس ويسهر ويتسمع ويراقب ويشاهد والدرة بيده يؤدب هذا، ويزجر هذا، ويؤنب هذا، وكان حريصاً كل الحرص على أن يظل مجتمع المدينة آمناً مطمئناً مستقراً، ولكن استمرار الجهاد، واستهلاك المجاهدين لآلة الحرب من سيوف ورماح ودروع ومجن وخناجر إلى آخره، حتمت الضرورة أن يأذن عمر -وهو كاره- ببعض الصناع من الحدادين في داخل المدينة لإنتاج السلاح، ففي ذلك الزمن لم تكن عندهم جيوش مهرجانات وتلميع.
كانت الجيوش في جهاد مستمر تستهلك السيوف والرماح والنبال، فلابد من المصانع، وكانت المصانع في ذلك الوقت عبارة عن دكان حداد. هذا هو المصنع، ما كان عندهم طيارات، ولا دبابات، فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في خلال جهادهم إذا وقعوا على خبير سلاح أرسلوه مباشرة إلى عمر ، فكان المغيرة بن شعبة عنده غلام حداد ماهر في صناعة السيوف والخناجر، فاستأذن عمر أن يرسله إلى المدينة ، فيزود المجاهدين بالسلاح، فوافق عمر، لكن كان في موافقته كراهة، وخاصة أن عمر -كما تعلمون- مُحدَث، يعني: مُلهَم من الله، مثل ما يقول أهل الكويت: (والله قلبي قرصني)، وكان قلب عمر طول النهار يقرصه، وكلما قرصه قلبه يتحقق بالذي يدور في قلبه ونفسه، لأنه محدث من الله سبحانه وتعالى، وذلك ثابت في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
الشاهد: بأن هذا الحداد كان كلما جاء المجاهدون ومعهم السبايا والأسرى يبكي من شدة الغضب والغيظ، فكان يمسح على رءوس أطفال الفرس من أبناء الأمراء والملوك، ويقول: آه، لقد أكل عمر كبدي، هذا التصريح باللسان يدل على ما انطوى عليه الجنان، والقرآن يقول: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد:30] فإن القول يعبر عن المكنون.
ولكن لعدالة عمر رضي الله عنه وأرضاه ما كان ليتخذ قراراً، أو حكماً إلا بعمل، تكلم كلاماً، دعه يتكلم ينفس على ما في نفسه؛ لأنه بطبيعة الحال مغلوب مقهور، ولكن لا، إن استخدام أمثال هؤلاء الذين يظهرون خلاف ما يبطنون في المواقع الحساسة فإنهم من أخطر ما يكون على الأمة، وأول من يتعرض إلى هذا الخطر هو رئيس هذه الأمة عمر، وخاصة أن هؤلاء بمثابة الجواسيس والعيون ... إلى آخره، وكلما جاء الغلمان الصغار استقبلهم على مشارف المدينة ، ويسأل: أنت ابن من؟ وأنت ابن من؟ وما هي أخبار أبيك؟ فيقول: أبي قتل، وأمي أسروها، وأنت كذا .. ويمسح على رأسه ويطيب خاطره، كل هذا والدولة الإسلامية صابرة ساكتة على أساس أنه لا يقام حد أو تعزير إلا على عمل واضح مكشوف.
هذا الرجل التقى في السر باثنين، فصاروا ثالوث خطر يدير مؤامرة سرية على عمر، وهؤلاء الثلاثة أولهم: الهرمزان. وهو من كبار قادة جيوش الفرس، لما أسر أرسل إلى المدينة، وعمل حيلة حتى أخذ الأمان من عمر، قال: أنا عطشان فقال عمر: أحضروا له الماء، فأحضروا له ماء، فلما رآه في قحفة عافه، قال: أنا أمير، وسلطان ألبس الذهب وعندي من الحشم والخدم أشرب من هذا!
فتصور كرامة الأسير على هذه الأمة! أمر عمر بن الخطاب أن يبحث له عن كأس من زجاج، وكانوا يشربون في كئوس في ذلك الوقت ويعرفون الزجاج، فحضارة الفرس دفعت الكثير من الغنائم والأواني إلى المدينة المنورة .. هذا من أجل أن تعرف كيف كانت أمتك في الماضي: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً [الإنسان:8].
الشاهد: بأنه لما حضروا له كأساً نظيفاً، قال: لا أشرب، قال له عمر : لم؟ قال: أنا لا آمن أن يقطع رأسي وأنا أشرب، لكن أمِّني، قال: لك الأمان حتى تشرب، فكفأ الماء، قال: أنت أعطيتني الأمان حتى أشرب، وأنا لم أشرب، إذا أنا في أمانك، فقال عمر: لست بالخب ولا الخب يخدعني، إما أن تسلم أو أقتلك، فأسلم، وهذا الإسلام الذي يكون تحت وطأة السيف من أخطر ما يكون، لأنه يظهر لك الإسلام، ويبطن لك المؤامرة.
في ليلة من الليالي مر عبيد الله بن عمر أخو عبد الله ، وإذا هؤلاء الثلاثة يتناجون في الظلام أبو لؤلؤة الحداد والهرمزان وغلام للهرمزان ، فلما مر عبيد الله بهم وسلم ارتبكوا، هذه الربكة أسقطت منهم شيئاً، فنظر إليه عبيد الله فإذا هو خنجر مقبضه في الوسط وله نصلين عن يمين وشمال، وله حدين بحيث إن من يمسكه في الوسط يضرب ويقتل بكل اتجاه .. لم يشاهد مثله من قبل من السلاح، فمباشرة نزل أبو لؤلؤة وأخذ الخنجر وأخفاه، وعبيد الله ما وضع للأمر أي اعتبار، لأن هذا حداد وصانع سلاح، ولعل هذا مكلف من قبل الدولة بصنع هذا النوع من الأسلحة للجهاد الإسلامي، دائماً المسلمين نياتهم طيبة، ويظنون بالناس ظناً حسناً، ولا يفسرون هذه الأحداث تفسيراً سيئاً.
وإذا هذا الخنجر هو الذي قتل به عمر ، وقتل معه في المسجد سبعة من الصحابة بهذا الخنجر.
والقصة تتلخص في أن عمر رضي الله عنه وأرضاه في صلاة الفجر دخل، ولم تكن المساجد في ذلك الوقت مضاءة كمساجدنا الآن الليل كالنهار، لا. وإنما كانت مظلمة، والصحابة أعدادهم كبيرة جداً، فاجتمعت كثرة السواد مع كثرة الظلام، وسواد الأجساد مع الظلام يجعلها ظلمة قاتمة.
[وقف عمر على حذيفة وعثمان بن حنيف رضي الله عنهما، فقال: كيف فعلتما؟ أتخافان أن تكونا قد حملتما الأرض ما لا تطيق؟ قالا: حملناها أمراً هي له مطيقة، وليس لها فيه كبير فضل، قال: انظرا أن تكونا قد حملتما الأرض ما لا تطيق].
ما معنى هذا الكلام؟ حذيفة وعثمان بن حنيف هما من المجاهدين الفاتحين، ومن رسل عمر إلى الولاة، يعني: ينظمون الدول، والجهاد، والإنفاق، ويبينون الصدقات والأعطيات، فـعمر كان في عهده لو تصرف أحد منهم تصرفاً يشق فيه على أمة محمد فهو يحقق معه تحقيقاً، عمر الآن يقوم بتحقيق حرصاً على سلامة الأمة رضي الله عنه وأرضاه.
[قالا: لا. فقال عمر : لئن سلمني الله] انظر كلمة (سلمني الله) هذه تبين لك أن عمر عنده إحساس خاص بأنه هذه الأيام سيقتل، وما كان يعلم الغيب، ولكن ألفاظه وعباراته تدل على شعور خاص لديه، لأنه هو كان دائماً يسأل الله الشهادة في المدينة حتى إن أم المؤمنين حفصة ابنته تقول: [يا أمير المؤمنين من سأل الله الشهادة فليذهب إليها في مظانها، أي: في مواطن القتال، فقال: أي بنية! إن كتبها الله لي ساقها إلي ولو كنت على فراشي] وهذه هي أفضلية سؤال الله الشهادة، فاسألوا الله الشهادة وإن كنتم على فرشكم وفي بيوتكم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من سأل الله الشهادة بصدق، بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه).
قال: [لئن سلمني الله، لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبداً] هذه نيته الطيبة، أرامل المجاهدين في العراق سوف يعطيهن من المال بحيث يتركهن غنيات طول عمرهن هن وذراريهن، فلا يحتجن إلى خليفة أو إنسان بعده أبداً رضي الله عنه وأرضاه، وذلك لاهتمامه بزوجات المجاهدين وأسرهم.
وكان الإمام حينها يمر بين الصفين، ليس مثلنا الآن يقف الإمام ويقول: استووا استووا .. الله أكبر، لا. كان الصحابة رضي الله عنهم يحريصون على تسوية الصف، فكان يصف الصف الأول ويمسح أرجلهم وأكتافهم وبعد ذلك ينتقل إلى الصف الثاني ويمسح أكتافهم ويرتبهم ترتيباً كأنهم يخوضون معركة، ثم بعد ذلك يصلي بالناس، اليوم لو يعمل الإمام بهذه الطريقة لأزعجه العالم في المسجد، فالله يغفر لنا إن شاء الله ضعفنا ويرحمنا برحمته الواسعة.
الشاهد: [أن عمر رضي الله عنه وأرضاه كان إذا مر بين الصفين، قال: استووا استووا حتى إذا لم ير فيهن خللاً تقدم -أي: تقدم إلى الصلاة، فكبر- وربما قرأ سورة يوسف أو النحل في الركعة الأولى] كانت أجسادهم قوية ليست مثلنا الآن، كانوا مجاهدين, وأهل جبال، يتحملون الوقوف لسورة يوسف أو النحل كاملة -لكن نحن الآن يرحم الله ضعفنا- وكان إذا فعل ذلك في الركعة الأولى حتى يجتمع الناس، وقصده بالتطويل في الركعة الأولى حتى يدرك الناس الصلاة.
يقول: [فما هو إلا أن كبر وبدأ -يعني: بالقراءة- وإذا هو قبل أن يقرأ يقول: قتلني قتلني] هكذا يردد كلمات بعد أن جاءته الضربة، وهذا المجرم ضربه بالخنجر الذي صنعه ذو النصلين والحدين في خاصرته ومررها من الشمال إلى اليمين، فاندلقت أمعاؤه، ثم سحبه إلى أعلى، ففتح بطنه إلى الضلوع، ثم أخذ يدور على المصلين مخترقاً الصفوف من الأول إلى الأخير، ولكن في اختراقه للصفوف يضرب هذا في قلبه فيسقطه، ويضرب هذا في قلبه فيسقطه، فقتل سبعة وجرح إحدى عشر رجلاً.
وكان رجلاً من الصحابة قوياً في آخر الصف ألقى عليه كساءً ثم لفه به، فلما رآهم ضيقوا عليه، ذبح نفسه بخنجره من الوريد إلى الوريد، وتساقط الناس، الصفوف الأخيرة في الظلام سمعوا تكبيرة عمر، لكن ما يدرون ما الذي قطع القراءة، فكانوا يسبحون بصوت مرتفع: سبحان الله! سبحان الله! ما يعرفون ماذا حدث، فالصفوف الأخيرة تسبح، والجثث في الصفوف الأولى ساقطة تتلبط بدمائها، والجرحى يئنون، وعمر بن الخطاب أمسك جرحه بيديه، وقال مرتين: قتلني، ثم لما رآه يخترق الصفوف لم يميز هل هو رجل أم كلب، فقال: [عقرني الكلب] فظن بأن كلباً مفترساً نهشه ومزق أمعاءه.
[وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه، فمن يلي عمر ، فقد رأى الذي أرى، وأما نواحي المسجد، فإنهم لا يدرون غير أنهم فقدوا صوت عمر ، وهم يقولون: سبحان الله! سبحان الله! فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة، فلما انصرفوا، قال عمر : يـابن عباس انظر من قتلني، فجال ابن عباس بين الصفوف وبين القتلى، ثم جاء، قال: غلام المغيرة بن شعبة ، الغلام -أي: الحداد الذي أرسله إليك المغيرة بن شعبة - قال: الصنع -يعني: الصناع الذي يصنع السلاح- قال: نعم. قال: قاتله الله! لقد أمرت به معروفاً]، كان عمر قد أمر بأن يكرم، ويوسع دكانه، ويزيد معاشه.
قال عمر : [الحمد لله الذي لم يجعل منيتي على يد رجل يدعي الإسلام] الآن وجه الكلام إلى ابن عباس بغضب؛ لأنه هو وأبيه العباس بن عبد المطلب وكانا أكثر الناس عبيداً وصناعاً، يعني: معظم الصناع الذين يعملون السلاح كان يملكهم ابن عباس وأبوه عم الرسول رضي الله عنهم أجمعين.
قال: [قد كنت أنت وأبيك تحبان أن تكثر العلوج بـالمدينة ، وكان العباس أكثرهم رقيقاً، فقال ابن عباس : إن شئت فعلت] يعني: إن شئت طردناهم كلهم، أو قتلناهم بأمرك، أي شخص ترى فيه خطراً نقتله، قال عمر : [كذبت بعدما تكلموا بلسانكم] يعني: صاروا عرباً الآن يتعلمون منكم اللغة كيف تقتلوهم بعدما تكلموا بلسانكم [وصلوا في قبلتكم] أي: أظهروا الإسلام، وأبطنوا العداء، كيف الآن تحكم عليه؟ ما دام قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ومحسوب عليك وفي بلادك ودولتك ومسلم انفلت الأمر.
فالآن من الذي يقتدى به؟ فكانت مصيبة الأمة في دينها من أعظم المصائب قال الراوي: [فقائل يقول: لا بأس عليه، وقائل يقول: أخاف عليه، فأتي بنبيذ فشربه] والنبيذ هو غير الخمر، زبيب ينقع بالماء حتى يلين وينتفخ ويصير طعم الماء حلواً، فكانوا حريصين أنهم يسقونه شيئاً حلواً مثل: السكر أو كذا، لأن أمعاءه أو معدته لا تتحمل الأكل الغليظ، فالأمعاء تمتص السكر حتى توصله إلى الجسم إلى طاقة حرارية.
قال: [فشربه، فخرج من جوفه] كما شربه في ذلك الوقت لم يكن عندهم جراحين وأطباء، قال: [فخرج من جوفه، ثم أتي بلبن فشربه فخرج من جوفه، فعرفوا أنه ميت، قال: فدخلنا عليه، وجاء الناس يثنون عليه] وهذا من السنة: إذا كان الإنسان في الاحتضار يأتيه من يثني عليه ويرغبه بالرجاء، لا يأتيه من يقول له: يا ويلك! لا صليت، ولا صمت تذكر أنك اغتبت، لا.
وإنما يقول له: أنت من المحسنين، وبفضل الله أنت كنت تحرص على صلاة الجماعة، وكنت من المتصدقين، وتذكره أنه كافل يتيم، وتذكره بالعبادات والطاعات حتى يقبل على الله بالرجاء، خاصة في لحظات الموت الأفضل للعبد أن يقبل على الله برجاء فيحسن الظن بربه، فيحسن الله الظن بعبده.
انظر الآن الإنسان يعمل عملاً هل رآه من أحد؟ هل كتبوا عنه في الصحف؟ قال: [وددت أن ذلك كفاف لا علي ولا لي] فلما أدبر ذلك الشاب الذي مدحه، ألقى عمر نظره إلى ثوبه وإذا ثوب الشاب طويل يمس الأرض ويمسحها، قال: [ردوا علي الغلام، فردوه مرة ثانية، قال: يابن أخي! ارفع ثوبك، فإنه أنقى لثوبك، وأتقى لربك].
عمالقة رضي الله عنهم! حتى في لحظات الموت لم يترك النصيحة لأمته، لا يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لم تشغله كربات الموت وسكراته
أبو بكر وعمر إذا جاءهم مسلم محتاج يقترض ويعطيه، وبعد ذلك الله يسدد، فكان عمر عليه آلاف الدنانير من الديون بسبب قضاء حاجات الناس، ما يرد أحداً، ما كانوا أثرياء، ولكن كانت أنفسهم غنية، قال لابنه عبد الله : [انظر ما علي من الدين؟ فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألف درهم أو نحوه، قال: إن وفى له مال آل عمر فأده من أموالهم] يعني: إذا أموالك أنت وإخوانك تسدد الدين فسدده، [وإلا فسل في بني عدي بن كعب] التي هي قبيلة عمر ، خذ عانية من القبيلة وسدد الدين، أحرص ما يحرص عليه الشهيد سداد الديون؛ لأن الله يغفر الذنوب كلها إلا الدين، انتبهوا فهو من أخطر ما يكون، قال: [فإن لم تف أموالهم -يعني: القبيلة- فسل في قريش ولا تعداهم، فأد عني هذا المال] أي: لا تتعدى قريشاً إلى غيرهم.
فالآن هو يسحب هذا اللقب منه حتى يهيئ نفسية الأمة إلى أمير مؤمنين جديد، من يفكر في هذا المعنى في لحظات الموت؟
لكنه رضي الله عنه وأرضاه تربية محمد صلى الله عليه وسلم وتربية القرآن، قال: [لا تقل: أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميراً، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه] عمر يستأذن أم المؤمنين في بيتها، لأن قبر النبي صلى الله عليه وسلم دفن في بيتها، لأنها أحب النساء إليه، كما في الحديث الصحيح الثابت عن عمرو بن العاص يقول: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحب النساء إليك؟ قال:
وعندما يحب الرسول صلى الله عليه وسلم ليس عن هوى، وإنما الله أيضاً يحب من يحبه نبيه، ويرضى برضاه، ويغضب بغضبه، هذه حقيقة يجب أن يفهمها الذين يسبون عائشة وأبا بكر رضي الله عنهما.
عمر الفاروق لم يستبد ويأمر، وإنما يستأذن أن تأذن له بأن يدفن مع صاحبيه، فماذا قالت عائشة؟
قال: [فسلم ابن عمر واستأذن، ثم دخل عليها، فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي -أي: كنت أريد هذا القبر بجوار زوجي وأبي- ولأوثرن به اليوم على نفسي، فلما أقبل قيل لـعمر : هذا عبد الله بن عمر قد جاء، قال: ارفعوني -انظر أهمية الموضوع عند عمر - ارفعوني -أي: أجلسوني- فأسنده رجل إليه، قال لابنه عبد الله : ما لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين أذنت. قال: الحمد لله ما كان شيء أهم إليَّ من ذلك] وهذا بفضل الله من حماية الله لهما، فأنت تخيل! لو أن أبا بكر وعمر دفنا في العراق، أو إيران، أو الكويت، أو أي مكان ماذا كان سيفعل بهم الآن؟ لهذا صان الله أبا بكر وعمر ووضعهما مع نبيه، وبطبيعة الحال أن النبي محمي من الله ومن الأمة، فلن يصل إليهما أحد، ومع هذا عبر التاريخ صارت محاولات ومحاولات حتى إن بعضهم وضع -أعزكم الله- الروث على شنبه ولحيته وإذا جاء إلى الشبك الحديدي وهو يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ينفض النجاسة بنية نفضها على أبي بكر وعمر، وقد صادوا كثيراً ممن فعل ذلك، وهو يعتبر فعله ذلك قربى إلى الله رب العالمين، فكيف لو كانت قبورهم في مكان بعيد؟!
انظر علم الله الأزلي! علم أنه سيأتي من يعاديهم ويحاربهم، فحماهم ووضع قبورهم في بيت النبي بجوار قبره إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج:38].. أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36].
قال: [الحمد لله ما كان شيء أهم إلي من ذلك، فإذا أنا قضيت، فاحملوني، -أي: مت، احملوني للدفن- ثم سلم، فقل: يستأذن عمر بن الخطاب ، فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن ردتني فردوني إلى مقابر المسلمين].
[فلما رأيناها قمنا، فولجت عليه رضي الله عنهما، فبكت عنده ساعة -وكان بكاؤهم من دون صوت، ودموعها تنـزل- واستأذن الرجال، فولجت داخلاً معهم، فسمعنا بكاءها -أي: أنينها بجواره- من الداخل. فقالوا: أوص يا أمير المؤمنين -أي: استخلف- قال: ما أجد أحق هذا الأمر من هؤلاء النفر -أي: الرهط- الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض -فذكر لهم أسماءهم- فسمى علياً وعثمان والزبير وطلحة وسعداً وعبد الرحمن بن عوف ، وقال: يشهدكم عبد الله بن عمر ] فـعبد الله شاهد إذا تعادلت الأصوات، ويرجح كفة إحدى القوائم، ثلاثة وثلاثة وعبد الله بصوته يرجح، ما جعل ابنه خليفة مع أن عبد الله بن عمر كفء لها، فلقبه شيخ الصحابة رضي الله عنه وأرضاه علماً وعملاً واقتداءً بالرسول صلى الله عليه وسلم.
قال: [وليس له من الأمر شيء -كهيئة التعزية له- فإن أصابت الإمارة سعداً فهو ذاك، وإلا فليستعن به أيكم ما أمر] أي: إذا صار الخليفة سعد فحسن ذلك، فإن لم يكن سعد فأي رجل خليفة من هؤلاء الستة يستعين برأي سعد، والسبب أن سعداً ذو دعوة مجابة، وخال الرسول صلى الله عليه وسلم، ومبشر بالجنة، وهو قائد عسكري يستفاد منه في الجانب العسكري، وعن الجانب الروحي قال عمر : [فإني لم أعزله من عجزٍ ولا خيانة] أي عن العراق.
عمر عندما أوصى بالمهاجرين لحكمة أوصى بهم؛ لأنهم السابقين الأولين، وتحملوا عبء الأمة، الجهاد، وجاهدوا وصبروا، فالذين يجوعون ويصبرون ويتحملون لهم خصوصية، ولكن هل يفقهون؟
ثم قال: [وأوصيه بالأنصار خيراً الذي تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم، أن يتقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم، وأوصيه بأهل الأمصار خيراً، -يعني: الدول الإسلامية- فإنهم ردء الإسلام -أي: حماية الإسلام- وجباة الأموال، وغيظ العدو، وألا يأخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم، وأوصيه بالأعراب خيراً -يعني: البدو- فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام، أن يأخذ من حواشي أموالهم، وأن ترد على فقرائهم، وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله أن يوفي لهما بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكلفوا إلا طاقتهم. فلما قبض خرجنا به -أي: خرجنا بجثته- فانطلقنا نمشي، فسلم عبد الله بن عمر. وقال: يستأذن عمر بن الخطاب ، قيل: أدخلوه، فأدخل، فوضع هنالك مع صاحبيه، أي: وضع في قبره مع النبي عليه الصلاة والسلام وأبي بكر
[فلما فرغ من دفنه، اجتمع الرهط، أي: الستة، قال عبد الرحمن : اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم -الآن يعملون تصفيات- قال الزبير : جعلت أمري إلى علي ، قال طلحة : قد جعلت أمري إلى عثمان ، قال سعد : قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف ].
الآن انتهت الشورى إلى ثلاثة بدلاً من ستة الذين هم عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم، فقال عبد الرحمن: أيكما تبرأ من هذا الأمر، فنجعله إليه والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه، فأسكت الشيخان -يعني: عثمان وعلي - قال عبد الرحمن بن عوف : من فيكم يرى نفسه لهذه الإمامة كفئاً من أجل أن نحمله مسئولية الأمة والإسلام، فسكتوا!!
ما يزكون أنفسهم رضي الله عنهم، فلما سكتوا قال: [أتجعلونه إلي -أي: تتركوني أنا أختار- والله علي ألا آلوا عن أفضلكم] أعاهد الله أني ما أختار إلا أفضلكم بحيث إني أسأل الصحابة، والمهاجرين، والأنصار، وأستشير أهل الحل والعقد، وأهل المعرفة حتى تتم الأمة وتجتمع على الأفضل، فأعلنه.
قالا: [نعم -أي: قال عثمان وعلي - فأخذ بيد أحدهما -كل هذه تأكيدات- فقال: لك قرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقدم في الإسلام ما قد علمت، فالله عليك لئن أمرتك لتعدلن، ولئن أمرت عثمان لتسمعن ولتطيعن؟] هذا الكلام موجه إلى علي.
قال: [ثم أخذ عثمان وقال له مثل ذلك: إذا أمرت علياً تسمع له وتطيع، وتعدل في الإسلام، فأجابا بنعم، فلما أخذ الميثاق عليهما وشاور الناس، استقر رأي الناس على عثمان رضي الله عنه وأرضاه، قال: ارفع يدك يا عثمان فبايعه عبد الرحمن ، وكان المبايع الثاني بعد عبد الرحمن هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وولج أهل الدار كلهم، فبايعوا عثمان رضي الله عنه وأرضاه].
وإلى هنا أيها الأحباب الكرام نقف عند مبايعة عثمان رضي الله عنه وأرضاه لكي ننتقل بالدرس القادم إلى خلافة عثمان بن عفان، ونسرد مقامه وأثره في خلافته حيث أكملت الفتوحات الإسلامية الكبرى، واستغنى الناس غناءً عظيماً حتى لم يبق فقيرٌ في أمة محمد، وكثر الخير على الناس حتى أصبحوا يأخذوا أرزاقهم وغنائمهم كل يوم من أيام السنة، وبارك الله في خلافته.
اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وشفاءً من كل داء، اللهم ارض عن الصحابة أجمعين، والخلفاء الراشدين، نشهدك على حبهم، اللهم احشرنا معهم في ظل عرشك، ومستقر رحمتك، علمنا كما علمتهم، وثبتنا كما ثبتهم، وفهمنا كما فهمتهم، واجعل موتنا شهادة في سبيلك بعد طول عمر وحسن عمل، واجعل دماءنا مسكاً، واغفر لنا ولوالدينا ووالديكم وأمواتنا وأموات المسلمين إنك على ذلك قدير.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر