يبتلى الناس على قدر إيمانهم، فأكثرهم بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل.
وإن من توفيق الله لأهل البلاء أن يوفقهم للصبر على البلاء وعدم التسخط، فإن التسخط على القضاء لا يرفع البلاء ولا يجبر المصيبة، وإنما يذهب الأجر ويجلب الوزر.
أما الصبر على المصيبة فإنه يجبر الكسر ويجلب الأجر. وإن من أروع من سطر الصبر في التاريخ نبي الله أيوب عليه السلام، حتى إن الصبر لا يذكر -غالباً- إلا معه، فهو قدوة وأسوة في الصبر عليه السلام.
وما زال الصابرون يسطرون أروع الأمثلة على مر الزمان، وحتى في زماننا الحاضر، وذلك لأن أمر المؤمن كله له خير، فإن أصابته ضراء صبر، وإن أصابته سراء شكر.
-
نبي الله أيوب عليه السلام نموذج للصبر
الصبر لغة: المنع والحبس.
والصبر شرعاً: حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكي، وحبس الجوارح عن المعاصي.
وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام: صبر على المأمور، أي: صبر على الطاعة، وصبر عن المحظور، أي: صبر عن المعصية، وصبر على المقدور، أي: على ما قدره الله عليك من المصائب والمحن والبلايا.
والصبر الجميل: هو الذي يبتغي به العبد وجه الله الجليل, لا تحرجاً من أجل ألا يقول الناس: جزع، ولا أملاً في أن يقول الناس: صَبَر، وإنما يصبر ويبتغي بصبره وجه الله جل وعلا، يصبر واثقاً بالله، مطمئناً بقضاء الله وقدر الله، مستعلياً على الألم، مترفعاً عن الشكوى.
والتحقيق أن الشكوى نوعان: شكوى إلى الله، وشكوى من الله, أعاذنا الله وإياكم من الأخيرة.
فالشكوى إلى الله لا تنافي الصبر، فلقد مدح الله نبيه يعقوب، وأثبت له الصبر في قرآنه فقال حكاية عنه:
فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف:18] ومع ذلك فقد رفع يعقوب شكواه إلى مولاه، فقال:
إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف:86] وأثنى الله على عبده أيوب فقال جل وعلا:
إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44] ومع ذلك فقد رفع نبي الله أيوب شكواه إلى الله كما قال الله جل في علاه:
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83] فالشكوى إلى الله لا تنافي الصبر.
أما الشكوى من الله -أعاذنا الله وإياكم منها- فهي شكوى للمخلوق من الخالق.
فإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم!
وإذا ذكر الصبر ذكر نبي الله أيوب، على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فلقد ابتلى الله أيوب بماله وولده وبدنه: فقد المال كله! مات جميع أبنائه جملة واحدة! ابتلاه الله في جسده بمرض أقعده في الأرض وألزمه الفراش؛ فصبر، وامتلأ قلبه بالحب لله والرضا عن الله، ولم يسلم من بدنه البتة إلا قلبه ولسانه! أما قلبه: فقد امتلأ بالحب لله والرضا عن الله، وأما لسانه: فلم يفتر عن ذكر الله جل وعلا، وهذه والله هي الحياة، ففي الصحيحين من حديث
أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (
مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت) ، فالذاكر لله حي وإن ماتت فيه الأعضاء، والقاعد عن ذكر الله ميت وإن تحرك بين الأحياء، لم يبق إلا لسانه وقلبه، أما القلب: فقد امتلأ بالحب لله والرضا عن الله، وأما اللسان: فلم يفتر عن ذكر مولاه، وفزعت زوجته الصابرة الوفية حينما قالت له: ادع الله أن يفرج كربك، فقال نبي الله أيوب: لقد عشت سبعين سنة وأنا صحيح، ولله عليَّ أن أصبر له سبعين سنة وأنا سقيم، ففزعت زوجته!
-
دعا أيوب ربه فاستجاب الله دعاءه
-
صبر امرأة في زماننا المعاصر
ثانياً: قصة مثيرة لامرأة صابرة بالمنصورة: وهي التي دفعتني لاختيار هذا الموضوع في هذه الجمعة، ولولا أنني وقفت على هذه القصة بنفسي, ورأيت هذه المرأة المسلمة الصابرة بعيني، لظننت أن قصتها ضرب من الخيال! امرأة من أمة الحبيب المصطفى تجسد لنا في قرننا العشرين صبر نبي الله أيوب! الحمد لله أن رأينا من أمة الحبيب من يحاكي صبر الأنبياء.
هذه المرأة تبدأ قصتها بميلادها في قرية بمركز المنصورة، وفي الثامنة عشرة تتزوج، وبعد سنتين تنجب طفلها الوحيد، الذي توفي في الرابعة من عمره، فتصبر وتحتسب، وفي عام سبعة وستين يهاجمها المرض، فتحس بآلام حادة في بطنها، فتنقل على الفور إلى المستشفى الجامعي بالمنصورة، ويشخص الأطباء المتخصصون الحالة بأنها امتداد في الأمعاء الدقيقة، ويقرر الأطباء للمريضة المسلمة الصابرة جراحة عاجلة؛ لاستئصال جزء من الأمعاء، وبعد الجراحة لم تشعر المرأة بتحسن، وبعد ستة أشهر قرر الأطباء جراحة ثانية؛ لاستئصال جزء آخر من الأمعاء! وبعد ستة أشهر قرر الأطباء جراحة ثالثة؛ لاستئصال جزء جديد من الأمعاء! وفي هذه المرة اكتشف الأطباء أن المرأة مصابة بمرض خطير مشهور ألا وهو مرض الدرن المعروف عالمياً، وهنا قرر الأطباء عدم التدخل الجراحي، واكتفى الأطباء بالعقاقير والحقن وتركوا أمرها لله جل وعلا، صبرت المرأة واستسلمت لقضاء الله جل وعلا، ونامت على سريرها الأبيض في آخر غرفة في القسم الرابع عشر باطني بمستشفى المنصورة، مستسلمة لقضاء الله وقدر الله جل وعلا، لا يفتر لسانها عن ذكر الله سبحانه وتعالى، ثم هاجمها المرض هجوماً عنيفاً بعد ذلك، فانتقل هذا المرض الخطير إلى الأمعاء الدقيقة كلها، ثم انتقل المرض بعد ذلك إلى كليتها اليمنى، ففشلت الكلية اليمنى تماماً، ثم انتقل المرض بعد ذلك إلى الرحم، فأصيب الرحم بهذا المرض، ثم انتقل المرض بعد ذلك إلى العظام، فنخر المرض العظام نخراً، وأصبحت العظام هشة متآكلة، ثم فقدت عينها اليسرى، فلم تعد ترى بعينها اليسرى تماماً، انظروا إلى هذه المراحل من مراحل الابتلاء! ومع كل مرحلة، إذا ما علمت من الطبيب المسلم ما ابتلاها الله به، تبتسم وتنظر إلى السماء، وتقول: الحمد لله! الحمد لله! جبل من جبال الصبر! منذ عام سبعة وستين لم تفارق سريرها في المستشفى الجامعي! وطلقها زوجها بعد ست سنوات من المرض، ومات ولدها الوحيد واحتسبته عند الله جل وعلا! انظروا إلى هذه المفاجأة العجيبة، انظروا إلى هذه المفاجأة الغريبة، ففي عام خمسة وثمانين وقبل موسم الحج سمعت شريطاً لأحد المحاضرين يتحدث منه عن الحج، فقررت قراراً عجيباً! قررت أن تحج بيت الله الحرام! ما هذا؟! وقالت للطبيب المختص: أريد أن أحج بيت الله! فابتسم وقال: كيف ذلك؟! قالت: لقد عزمت وتوكلت على الله، فهددها الأطباء بأنها لو فارقت سريرها ستعرض حياتها للخطر في التو واللحظة، فقالت بكل ثقة ويقين: أريد أن ألقى الله وأنا على طاعة الله، فقررت أن تلقى الله على طاعة، فباعت ما تملك من الأرض، وقررت حج بيت الله الحرام، واقترب منها طبيب تقي نقي، فحثها على ذلك، وسأل الله عز وجل لها الثبات، ولما تقرر السفر, وجيء بالسيارة التي ستحملها إلى الطائرة في القاهرة، وتقدم الأطباء لنزع الخراطيم من هذا الجسد النحيل الضئيل، فهي امرأة ما تعيش إلا بهذه الخراطيم، استغفر الله! بل لا تعيش إلا بأمر الملك رب العالمين.
فالخرطوم الأول: وظيفته توصيل المحاليل الغذائية؛ لأن المرأة لا تأكل منذ عام سبعة وستين، بل تعيش عبر هذه المحاليل الغذائية وعبر هذه الخراطيم!
والخرطوم الثاني: للبول -أعزكم الله- عن طريق القسطرة.
والخرطوم الثالث: لأكياس الدماء التي يوصلونها إلى هذا البدن الضئيل.
والخرطوم الرابع: لإخراج الفضلات من الأمعاء الدقيقة عن طريق الأنف.
ووقف الأطباء ينتظرون لها الموت مع أول دقيقة ينزع فيها أول خرطوم، فنزعت الخراطيم، والمرأة تتحدث وتبتسم، وهي سعيدة أنها ذاهبة لحج بيت الله الحرام! وحملت في السيارة، ثم إلى الطيارة، وحملت في جميع مناسك الحج، وأدت فريضة الله جل وعلا بإعجاز الملك الذي يقول للشيء كن فيكون، وهي تحكي هذه القصة وتتعجب وتقول: ما أكلت شيئاً إلا عن طريق الفيتامينات، وعن طريق الأدوية، بل عن طريق فضل رب الأرض والسماوات جل وعلا.
وهي تحكي صورة الرحلة وتشكر الله الذي أعانها في هذه الحالة أن رأت بيته، وزارت ربها في بيته جل وعلا، وانطلقت إلى المدينة لزيارة المسجد النبوي، ثم للسلام على الحبيب النبي -صلى الله عليه وسلم- وعادت مرة أخرى إلى سريرها، ونامت في فراشها على سريرها الأبيض، وطلبتني لزيارتها لأول مرة، فذهبت لأزورها مع بعض الأحبة، ووالله يا إخوة! ذهبت لأذكرها بالله فذكرتني هي بالله جل وعلا، وخرجت من عندها وقد احتقرت نفسي واحتقرت شأني، واحتقرت عملي لله جل وعلا! امرأة عجيبة لا يفتر لسانها عن ذكر الله، ولا يفتر لسانها عن الحمد والثناء على الله جل وعلا، وقبل الموت بأربعة أيام -وقد ماتت يوم الأربعاء الماضي، العاشر من شهر إبريل لعام ستة وتسعين- وطلبتني لزيارتها مرة أخيرة، فذهبت إليها مع بعض أحبابنا، ودخلت عليها وجلست إلى جوارها، وهي تبتسم في وجهي، وتقول: أين أنت؟! فأعتذر لها عن تأخري عنها، فقلت لها: كيف حالك؟ فقالت: الحمد لله، تحمد الله على هذه الحالة.
أما غرفتها فقد قسمت الغرفة بستارة إلى قسمين: فجعلت نصفها مسجداً لله جل وعلا، وجعلت النصف الآخر لسريرها، ووضعت إلى جنبها صندوقاً لجمع التبرعات، فمن أراد أن يتبرع لفقراء المرضى ممن يعجزون عن شراء الدواء فعل ذلك، ووضعت إلى جوارها مكتبة صغيرة للأشرطة مع التسجيل، فإذا ما دخل عليها طبيب أو ممرضة، أعارته شريطاً لمحاضر من المحاضرين! تدعو إلى الله وهي في هذه الحالة! إنها الحياة، هذه والله هي الحياة، فكم من أناس يتحدون الله بعافيته، كم من أناس يتحدون الله بنعمه، وهي التي سلب منها كل شيء, لا تغفل عن الدعوة إلى الله جل وعلا! تدعو إلى الله بالأشرطة، تدعو إلى الله بالصدقة، تدعو إلى الله بالإصلاح بين الأطباء وبين الطبيبات، تدعو إلى الله بالإصلاح بين المرضى، استثمرت حياتها كلها في طاعة الله جل وعلا، فلسانها ذاكر، وقلبها شاكر، وجسدها على البلاء صابر!
ذهبت إليها قبل الموت بأربعة أيام، وجلست إلى جوارها، فقلت: كيف حالك؟ قالت: الحمد لله، فأثنيت عليها خيراً، فردت عليَّ وقالت: والله يا شيخ! أنا خائفة. قلت: لماذا؟ قالت: أخشى أن لا يتقبل الله مني صبري طيلة هذه السنوات! ولكن ادع الله لي أن يرزقني حسن الخاتمة. قلت: أبشري! لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه: أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه، وصدق الله إذ يقول:
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ *
نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ *
نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:30-32] ما أرخصها من حياة إن عشت لشهواتك ونزواتك! ما أرخصها من حياة يا من لا تعيش إلا من أجل متاع الدنيا الحقير! ما أرخصها من حياة يا من تعيش من أجل كرسيك الزائل ومنصبك الفارغ! وما أغلاها من حياة يا من بذلت وقتك كله لطاعة الله! ما أغلاها من حياة يا من استخدمت كل نعمة من نعم الله في مرضاته جل وعلا.
-
رسالة إلى أصحاب الأَسِرّة البيضاء
-
رسالة إلى أهل العافية من البلاء
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وكل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأختم هذا اللقاء برسالة أوجهها إلى أهل العافية من البلاء,أذكر نفسي وإياكم جميعاً، وأقول: اسجدوا لله شكراً على العافية بعد الإسلام، فإن الصحة تاج يتلألأ على رءوس الأصحاء لا يراه ولا يعرف قدره إلا المرضى! يا مَن مَنَّ الله عليك بالعافية بعد الإسلام! اسجد لربك شكراً على هذه النعمة، واعلم بأن نعم الله عليك بالعافية بعد الإيمان لا تعد ولا تحصى
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34] يا من تستغل العافية -وهي نعمة من نعم الله- في معصيته أما تستحي! أما تستحي بعد سماع هذا الموضوع! يا من استخدمت بصرك لتتبع العورات والحرام أما تستحي! تذكر من فقد بصره! يا من استخدمت سمعك في سماع الحرام أما تستحي! تذكر من فقد سمعه! يا من استخدمت يدك للبطش والظلم أما تستحي! تذكر من فقد يده! يا من استخدمت قدمك للسعي في معصية الله أما تستحي! تذكر من ألزمه المرض الفراش! يا من استخدمت منصبك وكرسيك الذي جلست عليه لظلم العباد، وللتسفيه والتحقير لخلق الله أما تستحي! تذكر ضعفك وفقرك وعجزك، فأنت مسكين وضعيف، ولولا أن الله -عز وجل- قد أطلق البدن للزمت الأرض وللزمت الفراش، فإياك أن يغرك مركزك، إياك أن يغرك منصبك، إياك أن يغرك جاهك ووجاهتك، فأنت ضعيف أيها المسكين! تحمل البصاق في فمك، وتحمل المخاط في أنفك، وتحمل العرق تحت إبطيك، وتحمل البول في مثانتك، وتحمل النجاسة في بطنك، وتمسح عن نفسك النجاسة بيدك كل يوم مرة أو مرتين!
يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار:6] تذكر ضعفك يا من غرك جاهك! اعلم بأن الله عز وجل قادر على أن يسلبه منك، واعلم بأن كرسيك إلى زوال، وأن منصبك إلى فناء، إذ لو دام الكرسي الذي جلست عليه لأحد ما وصل إليك! فاعلم بأن الدنيا كلها إلى زوال، وبأن المناصب كلها إلى فناء.
أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي بل أين فرعون وهامان
أين من دوَّخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان
هل أبقى الموت ذا عز لعزته أو هل نجى منه في السلطان إنسان
لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان
وصدق الله إذ يقول:
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ *
وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27] تذكروا هذا يا أهل العافية.
وهناك من الناس من يظن أن الرزق هو المال، وينسى نعمة العافية، ونعمة الصحة، ونعمة الإسلام قبل ذلك.
النفس تجزع أن تكون فقيرة والفقر خير من غنى يطغيها
وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها
هي القناعة فالزمها تكن ملكا لو لم تكن لك إلا راحة البدن
وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الطيب والكفن
وقيل:
دع الحرص على الدنيا وفي العيش فلا تطمع
ولا تجمع من الحرام فلا تدري لمن تجمع
فإن الرزق مقسوم وسوء الظن لا ينفع
فقير كل من يطمع غني كل من يقنع
واعلم بأن الشكر يدور على ثلاثة أركان: الاعتراف بالنعمة باطناً، والتحدث بالنعمة ظاهراً، واستغلال النعمة في طاعة الله جل وعلا، فالحمد باللسان والجنان، أما الشكر فباللسان والجنان والجوارح والأركان، قال الرحيم الرحمان:
اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً [سبأ:13] وفي الصحيحين من حديث
عائشة : قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تفطرت قدماه، فقيل له: ألم يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال المصطفى: (
أفلا أكون عبداً شكوراً) , فالشكر يدور على اللسان، وعلى الجنان، يعني: على القلب، وعلى الجوارح والأركان، فإن منَّ الله عليك بالعافية فاشكر الله عليها، والشكر لا يكون إلا باستغلالها في كل ما يرضيه، إن منَّ الله عليك بالأولاد فاشكر الله على هذه النعمة، ولا يكون الشكر إلا بتربية الأولاد على كتاب الله، وسنة الحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن من الله عليك بالزوجة فاشكر الله على هذه النعمة، واتق الله فيها وربِّها على كتاب الله، وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن منَّ الله عليك بمنصب أو كرسي فاشكر الله على هذه النعمة، وسخر الكرسي والمنصب في تفريج هموم الناس وكربات الناس، إن من الله عليك بالأموال فاشكر الله على هذه النعمة، واعلم بأن الشكر لا يكون إلا بالبذل والعطاء والإنفاق، وهكذا إن منَّ الله عليك بالعلم فاعلم بأن الشكر لا يكون إلا بالتعليم والتحرك هنا وهناك للدعوة إلى الله جل وعلا.
الشكر يدور على اللسان والجنان والأركان، فاشكروا الله يا أهل العافية! واسألوا الله أن يثبتها وأن يديمها عليكم، وأن يعيننا وإياكم على شكرها، وأن يعيننا وإياكم على استغلالها فيما يرضيه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
-
الدعاء للمرضى وزيارتهم واجب على أهل العافية