أيها الأحبة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أحمد الله إليكم الذي هو أهلٌ للحمد على كل حال، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأسأله في مستهل اجتماعنا ولقائنا هذا أن يجعل لي ولكم من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل بلوى عافية، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل فاحشة أمناً، نسأل الله جل وعلا كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسأله سبحانه وتعالى العزيمة على الرشد، والسلامة في الأمر كله، كما نسأله أن يحبب إلينا دينه، وأن يجعلنا وإياكم من أنصار كلمته، وأن يرفعنا وإياكم بطاعته، وألا يخزينا أو يذلنا بمعصيته، وأن يبارك لنا فيما أباح لنا.
أيها الأحبة في الله: لا أشك أن من بينكم من هو أجدر بالحديث في هذا الموضوع، ولكن نعاتب أنفسنا بتقصيرنا في أمر دعوتنا، ونلوم أنفسنا بأننا ندَّعي ما ليس لنا.
وكلٌ يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاك |
قد يسميك بعض إخوانك داعية، وأنت لا تعطي دعوتك إلا فضول الأوقات، ووالله لو قام في المنابر أبناؤها ورجالها لما وقفنا فيها، ولو قام في الساحة علماؤها لما قام أبناؤها، ولكن إذا غاب من تقوم به الكفاية انتقل الأمر إلى من ينوب عنه، وهذا زمنٌ صيَّر التلميذ أستاذاً، وكما قال سفيان الثوري أو سفيان بن عيينة رحمهما الله:
خلت الديار فساد غيـر مسود ومن الشقاء تفردي بالسؤدد |
إننا نعلم أن في صفوفنا رجالاً هم أعلم منا، ونحسبهم ولا نزكي على الله أحداً على قدرٍ من التقى والصلاح، والعلم والفقه والاجتهاد، ولكننا نلومهم أيضاً بأن الكثير قد استعذب الخلوة بالكتب، وتلذذ بالمناجاة دون الاختلاط بالناس، ووجد حلاوة العزلة في البعد عن رؤية المنكرات وأصحابها، وهذا مسلكٌ سهل يسير على النفوس؛ أن تخلو في عزلتها وأن تستعذب جميل الألفاظ والعبارات، والأبيات والنكات والنوادر في الكتب، بعيداً عن الإنكار، ومواجهة الإنكار، ومواجهة أصحاب المنكر، وما يوسوس به الشيطان ويعد به ويخوف به: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:268].
عفواً أيها الأحبة! أن نبدأ بهذا العتاب، ولكن كما يقول القائل:
فإذا صرخت بوجه من أحببتهم فلكي يعيش الحب والأحباب |
............... ويبقى الود ما بقي العتاب |
لابد أن نكون صادقين حتى في عتابنا، والله جل وعلا كما قال في محكم كتابه: لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ [الأحزاب:8] فليس الصدق وحده هو نهاية المطاف أو منتهى الأمر، لا والله. بل حتى الذين ظهر منهم الصدق أو ادعوا الصدق سيسألون عن صدقهم، فما بالكم بغيرهم؟! نسأل الله جل وعلا ألا يفتننا وألا يفتن بنا، وألا يجعلنا وإياكم فتنةً للقوم الظالمين.
وما أكثر أن ترى هذه الصورة في مسجدك أو في بيتك، أو في اجتماعك مع إخوانك، تحمد الله جل وعلا على أن الغيرة لا زالت باقية، وهذا دليل حياة القلوب، وإلا لو كانت القلوب قد ماتت في مجموع الأمة لما وجدت من ينزعج من هذه الصورة، ومن هذه الحال؛ لأن الهوان إذا حل بالنفس لا تجدها تعرف معروفاً، أو تنكر منكراً:
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرحٍ بميتٍ إيلام |
فالحاصل أيها الإخوة! أن الغيرة موجودة لدى كل واحد منكم، التمعُّر، الغضب، الانزعاج، التقلب، التغير موجودٌ لدى كل واحد منكم حينما يرى منكراً من المنكرات، وكما في الأثر: "يكاد في آخر الزمان يذوب قلب المؤمن، كما يذوب الملح في الماء، قيل: لِمَه؟ قيل: مما يرى من المنكر فلا يستطيع تغييره" وهذا والله شعورٌ يطوف ويلم بكل واحدٍ منا ومنكم -أيها الأحبة!- ولكن ليبتلي الله ما في قلوبكم، وليمحص ما في صدوركم، وليتخذ منكم شهداء، ليثبت الذين يرجون الحب والإخلاص للدعوة، والذين يرجون منازل الدعاة، ومجاورة النبي صلى الله عليه وسلم في مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر.
إن العبادة أمرٌ قاصر، لا تحتاج فيه إلى مواجهة، ولا تحتاج فيه إلى كثير من المعاناة، أسهل ما عليك أن تأكل لقمة السحر، ثم تضع رأسك على وسادتك، ثم تصلي تتقلب بين بيتك ومسجدك، ثم تعود لتفطر هنيئاً مريئاً، لا تجد شيئاً قد غير ما أنت فيه، أسهل ما عليك أن تفتح كتابك في مكتبتك فتقرأ وتلخص وتجمع، وتُخَرِّج وتُحقق، وهذا خيرٌ عظيم.
وموت العابد القوام ليلاً يناجي ربه في كل ظلمة |
من الذين يبكى عليهم.
ولكن أيها الإخوة! لا يستوي هؤلاء مع الذين يجمعون مع هذا الدعوة والإنكار والتغيير بقلوبهم وبألسنتهم وبأيديهم حسب الضوابط الشرعية المرعية.
إذاً أيها الإخوة: ينبغي أن نعلم أولاً: أن الناس يتفاضلون في دين الله جل وعلا، ليس بقدر عبادتهم في شكلها أو طولها، أو قصرها، وإنما يتفاضلون بحسب ما يقوم في قلوبهم، ولذلك لما ورد عن أبي بكر رضي الله عنه: (أنه لو وضع إيمان الأمة في كفة ووضع إيمان
ولكن [أَمَا إنه ما سبقهم بكثير عمل، ولكنه بشيءٍ وقر في قلبه] ولما وقر هذا الأمر في قلبه استحق كرامةً ومنـزلة من عند الله، والفضل لله أولاً وآخراً.
(لما تلا الرسول صلى الله عليه وسلم قول الله جل وعلا: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30] قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله! ما أحسن من يقال له هذا، فقال صلى الله عليه وسلم: إنك يا أبا بكر ! ممن يقال له هذا عند موته).
وفيه نزل قوله تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:17-21].
قد يكون الإنفاق يسيراً، لكن الإنفاق في مواجهة المجتمع الجاهلي في بداية الدعوة يكون صعباً جداً، لا سيما وأنت في موقف الضعف، والجاهلية في موقف المنتصر، ويعتق عبداً من عباد الله بلال بن رباح لكي ينضم إلى معسكر الإيمان، الحالة حينئذٍ صعبة جداً.
قد تقول خطبة عصماء في مشهد جمعٍ غفير، ولكن قد تكون كلمة مكونة من سطرين أو من حرفين أبلغ وأعظم وأقوى وأقبل عند الله حينما تكون في موقفٍ فيه الخوف على الروح والنفس، والخوف على الرزق، أو في مواجهة إمامٍ جائر، ينبغي أن يعلم هذا جيداً.
وبفضل الله جل وعلا، ومن عظيم وواسع منه وكرمه أن هذا الدين لا يحتاج إلى تصريحٍ حتى تكون واحداً من الدعاة إلى الله فيه، لا يحتاج إلى أن تنال اجتياز المقابلات الشخصية، وإنما تحتاج أن تعلم ما تدعو إليه، قال صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرءاً سمع منا مقالةً فوعاها، فبلغها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع) وهذه مسألة عظيمة (ومن دعا إلى هدى فله أجره، وأجور من عمل به إلى يوم القيامة) ولم يشترط لهذا الداعية أن يكون على هذا القدر، أو المكانة أو المجموع قل أو كثر فيما يحفظ أو يروي أو يفقه أو يعلم، وإنما يكفي أن يدعو ولو إلى مقالة واحدة يدعو إليها يريد بذلك وجه الله جل وعلا.
وليت عدم رؤيته لهذا الأمر من اجتهادٍ توصل إليه بعد باعٍ طويل في علمٍ وفقه، وليس كذلك إلا أنه يظن أن حركاته وسكناته مراقبة ومتابعة، وهب أنك توبعت وروقبت في كل صغيرة وكبيرة، هل سيصدك هذا عن الدعوة إلى الله جل وعلا؟ هل سيردك هذا عن الدعوة إلى الله جل وعلا؟ هل هذا سوف يمنعك أن تنال حظك في منازل الأبرار والشهداء والصديقين والصالحين عند الله سبحانه وتعالى؟
إذاً: لماذا نبني هذه الخيوط، يقول لي ذات مرة شاب من الشباب الصالحين: أنا رأيت أربعة رجال يراقبونني، فسقطت ضحكاً، من أنت حتى يراقبك أربعة، أو واحد أو نصف واحد أو امرأة أو نصف امرأة؟ لماذا تخلق حول نفسك هذا الوهم العنكبوتي الذي لا حجة لك به؟ هل عشت في مجتمع الثورة البلشفية؟ أم أنك تعيش في لينين قراد أو تعيش في المجر ، أو في دول الكتلة الشرقية قبل تحول الوضع الشيوعي؟
لماذا تخلق هذا الوضع حول نفسك؟ لست بحاجة أن تتصور هذا، ولكن الشيطان سول لك وخيل، وجعلك تتصور أنك تعيش في هذه الدائرة، وبالمناسبة هذا من الأساليب النفسية التي يؤثر بها على دعاة الإسلام في بعض بلدان العالم، ويسمونها بالمضايقة النفسية أو بعبارة تشابه هذا المعنى، يبدأ الإنسان يتضايق، يرفع السماعة يخشى أن يقول كلمة، يخرج من البيت يخشى أن ينظر إليه أحد، يمد شريطاً يتوقع أن الكاميرا قد صورته، يقرأ كتاباً يظن أنه قد حقق به .. وهلم جراً !!
إن الله جل وعلا قد خلقك حراً، وأبقاك حراً، بل ولعن من أراد أن يجعلك رقيقاً: (ثلاثة لعنهم الله جل وعلا -وذكر منهم- رجلٌ باع حراً فأكل ثمنه) أنت تعيش حراً وستمضي حراً، وستفضي إلى الله حراً، فلا تخلق حول نفسك هالة من الأوهام العنكبوتية التي تتخيل أو تتوقع بها أنك يوم أن تفعل شيئاً في دين الله جلا وعلا سوف تنتهي من قائمة الناس الأسوياء وغيرهم، ربما يأتيك الشيطان ويقول لك: لا حرج. ولكن هذا قد يعرقل مواصلة سيرك الوظيفي، إذا كنت رجلاً طموحاً في الوظيفة وترغب أن ترشح لأعلى المراتب، فانتبه، قف عند حدٍ معين، لا تتمادى بوضع معين حتى تستطيع أن تصل يوماً ما.
وأقول: ربما يكون الإنسان على خطرٍ في معتقده إذا أوغل في هذا الظن واعتقده، وظن أن الخلق يستطيعون أن يكفوا أو يمنعوا رزقاً قسمه الله له.
وكما في حديث ابن عباس الذي تحفظونه: (يا غلام! احفظ الله يحفظك -إلى أن قال- واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) إذا كان الإنسان يخشى على رزقه، فالله جل وعلا هو الذي خلقك وتكفل برزقك: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا [هود:6] وكما في الحديث: (جاءني جبريل ونفث في روعي: يا محمد! إنه لن تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها ...) والله لو بقي لك في الدنيا عشرة ريالات لتقاتلت الدنيا حتى تصل: (لن تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب) ما قال: تشاحوا، تخوفوا، خافوا على الطلب، بل أجملوا في الطلب، أدنى أمرٍ من أمور بإذن الله جل وعلا يكون سبباً لوصول ما كتبه الله جل وعلا لك.
وإذا كان الخيط العنكبوتي الذي ينسجه الشيطان حولك أيها الأخ المسلم بأنك ربما تموت أو ربما ينتهي أجلك، أو ربما تخترم روحك قبل بلوغ أجلها، فهذا أخطر من الذي قبله، أن تعتقد أن قوةً من قوى البشرية تستطيع أن تخترم من أجلك يوماً أو ساعة واحدة قبل تمام أجلك، وكما كان الإمام علي رضي الله عنه يردد أبياته المشهورة:
أي يوميَّ من الموت أفر يوم لا يقدر أم يوم قدر |
يوم لا يقدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذر |
فلماذا التخوف إذاً؟ أقول: إن كثيراً من الشباب تجد فيهم عزوفاً عن الدعوة إلى الله جل وعلا، ليس كرهاً في الدعوة، وربما ليس عجزاً أو ضعفاً، بل هو قادر، ولو ناقشته لوجدته أفقه منك أيها المحاضر! وأعلم منك أيها الخطيب! وأصلح منك أيها المتكلم! وأجدر وأقدر في مخاطبة الناس، ولكن فيه أمرٌ لا زال ممسكاً به لم يجعله ينطلق في عالم الدعوة إلى الله جل وعلا، ألا وهو الخوف أو الأوهام العنكبوتية التي نسجها حول نفسه، إما على خطرٍ وإما على رزقٍ وإما على موت.
أقول: ليس هذا مجال تفصيل، وهذه الأمور كلها بيد الله، ولكن هذا واحدٌ من الأسباب التي تجعل كثيراً من الشباب يا للأسف يعزف عن هذا الأمر.
أزف الترحل غير أن ركابنا لما تزل برحالنا وكأن قد |
يا فلان! انطلق، يا فلان! ادع إلى الله جل وعلا، يا فلان! انظر أعداء الله جل وعلا، هذا سافل ساقط خبيث حقير حداثي، جرثومة حداثية .. تبدأ تنشر قصيدة، يأتي من بعده بالتلميع والتعقيب وتسليط الأضواء، والشرح والاختصار، والتحقيق والتخريج فيجعل من كلمة الساقط التافهة مطولة من المطولات.
وأنت يا من تملك هذا! يا من تقدر على أن تأتي بالكثير الكثير! لا تزال تظن أنك لم تستطع، لم تقدر، ولذلك لما تأملت ذات مرة وكنت في زيارة لطلاب جامعة الإمام في السكن الجامعي، فلما نزلنا إلى صلاة المغرب في المسجد، وإذ بالمسجد يمتلئ قرابة ألفي شاب، الله أكبر! جامعة إسلامية وكل هؤلاء أغلبهم قد اجتاز المعاهد العلمية ونال حظاً وافراً من العلوم الشرعية، والأحكام الفرعية، والأصول والفقه، والتفسير، ولا تجد من بين هؤلاء كما في البخاري : (الناس كإبلٍ مائة لا تكاد تجد فيها راحلة) لا تكاد تخرج من قرابة المائة طالب من ذوي التخصصات الشرعية واحداً أو اثنين أو ثلاثة، كلهم صالحون وعلى درجة من الصلاح والتقى، من قيام الليل، من صيام الإثنين والخميس، لكن أين أثرهم في الدعوة؟ أين بصماتهم في واقعهم؟ أين جهودهم في مجتمعاتهم؟ لا توجد.
وربما بعضهم من أهل منطقة نائية تبعد عن المدينة أو العاصمة أربعمائة كيلو، ثلاثمائة كيلو، قرية بعيدة جداً، وإذا جاء الخميس أو الجمعة أو يوم الأربعاء تجده أول من يخرج من الكلية لزيارة أهله والمكوث معهم بقية الأربعاء والخميس والجمعة، وربما جاء فجر السبت أو مساء الجمعة ما نقل إلى قريته شريطاً أو كتاباً واحداً، وما أقام في قريته درساً واحداً، ما دعا إلى الله جل وعلا في قريته، يذهب ويأوي فقط، تغدو خماصاً وتروح خماصاً، يعني: يذهب جائعاً ويعود جائعاً، أو ربما يروح بطاناً أي: مليئاً لكنه لا ينفق ولا يعطي مما عنده شيئاً، لماذا البخل؟ أهو غرورٌ أم احتقارٌ للذات، إن كان غروراً، أو أن قريتك أو أن مجتمعك حتى ولو كنت في هذه المدينة، أو الحي الذي تسكن فيه ليس بكفءٍ أن تدعوهم إلى الله، أو قد اكتملت جوانب صلاحهم واستقامتهم فليسوا بحاجة إلى طرح مواضيع تنفعهم، أو أنه احتقارٌ للذات، فترى أنك لست بشيء أبداً.
أما إذا كانت المشكلة (مشكلة احتقار الذات) مشكلة نفسية، فهذه تحتاج إلى وقتٍ طويل، وربما بعضهم اجتهدت في زيارته، وبعضهم والله زرته في بيته مراراً: يا فلان! والله إني أجدك أفصح مني، وأفضل مني، وأحسن مني، وأحفظ مني، وأرى لك مكاناً وموقعاً ومنـزلاً، لو نزلت الميدان لنفع الله بك خلقاً عظيماً، فيقول: لا، لا يزال. تقنعه: الذي يقصرني هل يقصرك؟ فصاحة، هل يقصرك معلومات؟ يقول: أنا عندي معلومات أكثر منك، هل يقصرك مقدرة؟ يقول: ربما أنا أكثر جلداً منك، إذاً: ماذا تنتظر؟ يقول: فقط الناس لا يعرفون هذا الشيء ولا يعترفون بهذا الشيء، أو لا يسلمون لي بهذا الشيء، هنا خطرٌ من أمرين:
الأمر الأول: أن المشكلة النفسية لا تزال قائمة.
والأمر الثاني: أنك تريد أن يجتمع الناس لك كما يجتمع الناس لـابن عثيمين وابن باز حينما تلقي محاضرة.
ابدأ ولو لم يحضر معك إلا خمسة، سبعة، عشرة، عشرون .. مائة، المهم ابدأ، وثق بنفسك تمام الثقة، والله جل وعلا حينما يعلم منك الإخلاص والصدق في هذا الطريق سيجمع الناس لك، وسييسر لك وإن لم يحضر معك إلا أربعة، فربما سجل كلامك، وانتقل إلى أضعاف الذين حضروا معك، فنفعهم بإذن الله واهتدى من اهتدى بسبب كلامك هذا ولم تشعر بذلك، ولم تر ذلك إلا في موازين أعمالك يوم القيامة: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89] تأتي يوم القيامة وأنت تنظر: يا ربِّ! حسناتي قليلة، يا ربِّ! هفواتي كثيرة:
إلهي لا تعذبني فإنـي مقرٌ بالذي قد كان مني |
يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعف عني |
خائف على نفسك، فإذا البشارة تأتيك في سجل أعمالك: أبشر يا فلان! فقد تقبل الله هدايتك، أو كلمتك أو نصيحتك، أو دعوتك أو محاضرتك، فهدى الله بها فلاناً وفلاناً وفلاناً، وهاهم في موازين أعمالك، فيطيش ميزانك بالحسنات فتكون من أهل الجنة بسبب هذه الكلمة التي ربما ما حضرها إلا أربعة أو خمسة.
أيها الإخوة: ينبغي أن ندرك هذا الأمر جيداً، يقال: إن أحد السلف -ولا يحضرني اسمه الآن- ألف منظومة لا أدري أهي الشاطبية أم الرحبية أم كتاباً غيرهما، لما ألفها في نفسه سراً جعلها في رقعة ورمى بها في البحر، وقال: اللهم إن كانت خالصةً لوجهك فانفع بها، وإن كانت غير ذلك فلا تجعل بها لبشر حظاً ولا نصيباً. فكتب الله لهذه الرقعة أن تطفو ووجدها قومٌ في مركب، فأخذوها وتناقلوها، وما زال الناس يحفظونها ويتدارسونها إلى يومنا هذا، فكلمة الحق حينما تقولها تريد بها وجه الله جل وعلا، والنصيحة والدعوة إلى الله؛ حينما تبذلها تريد بها وجه الله فأنت أديت ما عليك أولاً.
وثانياً: لن تكون أفضل من الأنبياء والرسل، كما في الحديث الصحيح: (وعرضت عليَّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط، ورأيت النبي ومعه الرُهيط، ورأيت النبي ومعه الرجل، ورأيت النبي ومعه الرجلان، ورأيت النبي وليس معه أحد) الله أكبر! نبي مؤيد بالوحي والعصمة والمعجزة ولا يأتي معه يوم القيامة أحد، فما آمن معه من قومه إلا قليل: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ [هود:38] وهم قلة، ومع ذلك هل ضاعت ثمار دعوته؟ هل ضاعت أجور أعماله وسعيه؟ لا والله.
إذاً أيها الأحبة: لابد أن نفقه أننا ينبغي أن نبدأ حتى لو كانت البداية مع الجيران في أربعة أشخاص، أو بخمسة أشخاص، ثم قليلاً قليلاً، وإذا كان الإنسان صادقاً مديماً على ما يعمل، مخلصاً لما يعمل، بإذن الله سيأتي اليوم الذي يكون له شأن، ويهتدي على يديه الخلق العظيم.
المشكلة الثانية التي هي مشكلة العقدة النفسية: واسمحوا لي أن أضرب هذا المثل الذي ربما ضربته في أكثر من مكان، يقولون: إنه يوجد رجل كان يعتقد -عنده مشكلة نفسية- عن نفسه أنه حبة شعير، رجل بطوله وعرضه كان يعتقد عن نفسه أنه حبة شعير، ولذلك لا يزور أناساً عندهم دجاج، أو أحداً عنده حمام، لماذا؟ يعتقد عن نفسه أنه حبة شعير وأن الدجاجة أو الحمامة سوف تأكله، فعالجوه، وأقول: حبة الشعير الآن هو بعض إخواننا الذين عنده خيرٌ عظيم لكنه يعتقد أنه ليس بشيء، فهذا رجل لكنه يعتقد أنه حبة، فعالجوه ثلاث سنوات في علاج نفسي واختبارات نفسية حتى تماثل للشفاء وشفي بإذن الله، فلما جاء أوان خروجه من المستشفى، قالوا: هاه يا فلان! بشر اقتنعت أنك رجل، اقتنعت أنك إنسان، ولست بحبة شعير؟ قال: نعم. أنا اقتنعت لكن أقنعوا الدجاج. وهذه مشكلة أن نبدأ ننفخ في شخصية: يا فلان! فيك خير، يا فلان! عندك نفع، يا فلان! عندك مقدرة، يا فلان! عندك معلومات، يقول: أنا مقتنع لكن أقنعوا الناس أيستمعوا إليَّ، أقنعوا الناس أن يستفيدوا مني، اقنعوا الناس أن يتجمهروا لي. يا أخي! أنت ابدأ، دعنا من عقدة الدجاجة والشعيرة هذه، فبإذن الله من سار على دربٍ في إخلاصٍ وصل إلى عاقبة حميدة.
إن الحاجة تبدأ في هذه الظروف الصعبة التي تجد فيها الربا شامخاً، وتجد فيها الاختلاط يشق طريقه، وتجد فيها الفساد ينخر في المجتمع، وتجد فيها المنافقين يتسللون إلى بصفوف الأمة، حينئذٍ تكون المسئولية أعظم، والواجبات أكبر، والأمانة أخطر، وتتعلق بالأعناق بقدر كل واحدٍ في موقعه ومكانته.
تجد بعضهم يقول: متى يأتي اليوم الذي نجد فيه هذه البنوك كلها أصبحت مصارف إسلامية؟ ومتى يأتي اليوم الذي نجد فيه كل هذه المحلات التي تبيع الملاهي والأفلام الخليعة، وتمارس الترويج للدعارة والزنا والفساد قد انتهت؟ ومتى نجد الاختلاط قد انتهى؟ ومتى ومتى؟ فهو يعيش على هذه الآمال ويعيش على هذه الأماني، لا والله، لسنا بحاجةٍ إلى من يضيع أوقاته وأثمن ساعات حياته التي هي لحظة شبابه، ولحظة حرقته، ولحظة حماسه، لمجرد الآهات والأماني، كلٌ يحسن الآهات:
ولست بمرجعٍ ما فات مني بليت ولا لعل ولا لو اني |
لو أني قلت كذا لفعلت كذا، لو أني كنت كذا لفعلت كذا، أو لعل الأمر كذا، أو ليتني فعلت كذا، كلها لا تجدي في الدعوة شيئاً، أنت صادق فشق طريقك برائحةٍ طيبة ولو كان نتـنُ النجاسات من حولك، تشق طريقك ولو على خيطٍ رفيع، ولو كانت الأشواك عن يمينك ويسارك، تشق طريقك وأنت ترجو حسن العاقبة والخاتمة من عند الله سبحانه وتعالى، ووالله إن لنا في رسول الله أسوةً حسنة كما قال الله جل وعلا: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ [الأحزاب:21] من كان يرجو بعمله أن يلقى الله جل وعلا راضياً عنه لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ [الأحزاب:21] أن يكون يوم تكور الشمس، وتنكدر الجبال وتنفطر السماء، وتسجر البحار وتمد الأرض، من كان يرجو في ذلك اليوم من أهل الكرامة ومجالس النور؛ مع الأنبياء والشهداء، مع الذين هم في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله، فليبدأ طريقه منذ هذه الأيام، من هذه اللحظة التي يرى فيها أن الحق والباطل أصبح يعيش مواجهة، لم يعد هناك غزل يعيش في الكواليس أو عمل في الخفاء، لا. فليبدأ طريقه صريحاً واضحاً ولا يهدأ له بال، ولا تكتحل له عينٌ بنوم، ولا يلذ بطعام وشراب إلا وهو يمارس هذا العمل، ويجتهد فيه بإذن الله سبحانه وتعالى.
دواؤك فيك وما تشعر وداؤك منك وما تبصر |
وتحسب أنك جسمٌ صغيرٌ وفيك انطوى العالم الأكبر |
البداية منك أنت، إذا زالت الأوهام وتحررت منها، ومزقت الخيوط العنكبوتية، وما نسجت دودة القز على جسمك وثوبك وعن يمينك وعن يسارك من هذه الأوهام التي كبلتك واستطعت أن تمسح الزجاج أمام عينيك، وأن تزيل بحرارة اليقين هذا الضباب المتكاثف في طريقك حينئذٍ ستبدأ.
والبداية كما قلت فيك أنت، فإذا بدأت بحق فاعلم أن الله جل وعلا قد قال: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى [آل عمران:195] سواء كان الداعية في هذه الظروف أو في غيرها رجلاً أو امرأة، ذكراً كان أم أنثى: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى [آل عمران:195].
أيها الإخوة: نقول: فلان رجل لا يضيع المعروف عنده، فلان رجلٌ بذول معطاء، كريم سخي، حينما تعامله بالهدية يردها بأضعافها، أفتظنونه أكرم من رب العالمين؟ جل ربنا أن يعامله العبد نقداً فيجازيه نسيئة، الله جل وعلا أكرم الأكرمين، ومن كرمه أن سيئاتك لا يكتبها عليك إذا هممت بها ولم تفعلها، ومن كرمه أن نياتك بالحسنات تكتب لك وفعلك بالحسنات يضاعف لك إلى عشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف: وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261] أكرم الأكرمين: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة:7] الذرة لا تضيع عند الله من الخير، فلماذا تتردد في البداية؟ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47] إذاً فلا تخش شيئاً، بعض الناس يقول: من الذي ينظر؟ من الذي يجازي؟ من الذي يكافئ؟ أعملنا؟ وكما قلنا ليس من شرطك أن تهتدي البشرية على يدك، أو أن ترفع برقيات الشكر والثناء لك أنها هداها الله على يديك، فلست أفضل من الأنبياء الذين يأتون يوم القيامة وأحدهم معه الرُهيط، وآخر معه رجل ورجلان، وآخر ليس معه أحد.
ثم أيضاً الله جل وعلا بيَّن لنا وظيفة الداعية: إنما أنت منذر، ليست النتيجة عليك: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [الرعد:7].. فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:15].. يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة:67] واستمر حتى تجد النتيجة؟ لا. ما طلبت منك ذلك لكن بلغ، إنما عليك البلاغ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67].
فيا أخي المسلم: لست بحاجةٍ أن تضمن النتائج، أو أن تعلق عملك على تكوين النتائج.
نعم. إذا كان موقف من المواقف من خلال حكمتك في الدعوة، أو حكمة من تستشيرهم في الدعوة إلى الله ظهر لك أن المنكر الذي ستغيره يفضي إلى منكرٍ أكبر فقف، أو يفضي إلى منكرٍ يساويه فتوقف، ولكن إذا كنت تظن أن سعيك يقلل المنكر، ففي هذا خيرٌ عظيم، وهذه مشكلة نواجهها أحياناً مع بعض إخواننا ولنكن صرحاء، حينما تقوم بعمل معين في مجال معين، وأنت تعرف أن هذا المجال الذي ستدخل فيه: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة:219] المسألة فيها أخذ وعطاء، مختلطة، فيها مصالح وفيها مفاسد، إذا غلب على ظنك أن هذا أفضل مكانٍ تعمل فيه وتنتج فيه، وتقدم نتائج إيجابية فيه، وسيكون حصيلة عملك التقليل من المنكر، فنقول: هذا خيرٌ عظيم، لا نظن أن المنكر بمجرد أدنى سعي منك سينتهي إلى غير رجعة، أو سيزول إلى غير بدل، لا. قد يزول المنكر، لكن إلى بدلٍ أضعف منه، فيأتي آخر يتدخل في الوضع، فيزول المنكر إلى ما هو أضعف منه حتى يصبح المنكر شيئاً قليلاً لا يكاد يرى بل يضمحل وينتهي إلى غير رجعة.
فلابد أن نتصور هذه المسائل لكي لا نضعف حينما نريد أن نعمل، وكثير من الناس يقول: أغلقت السبل والأبواب، ما عاد هناك أمل، العلمانية تفرق، الفساد ينتشر، الواقع إلى جهنم وساءت مصيراً، الناس قد ضلوا ضلالاً بعيداً، وتجده مسكيناً كما في الحديث: (من قال هلك الناس فهو أهلَكَهم أو أهلَكُهم) فيصبح لا يرى إلا ظلاماً، ولا يرى إلا شراً، ولا يرى في الناس إلا جانب الشر، وهذه مصيبة نفسية عند بعض إخواننا أهل الخير، أن تجد الإنسان حينما يرى رجلاً في يده السيجارة وهو متوجه إلى المسجد، ينظر إلى السيجارة ولا ينظر إلى ذهابه إلى المسجد، لماذا لا تنظر فقط إلا بالعين التي تبصر المعصية؟ ولماذا لا تستعمل العين الأخرى فتنظر إلى جانب الطاعة؟ ولماذا لا تجتهد وتحول عينيك إلى جانب الطاعة، فتتسلط على هذا الجانب بالموعظة، بالنصيحة، بالكلمة، بالابتسامة، باللباقة، بالرفق، بلين الجانب، بالتواضع، بخفض الجناح، بما شئت حتى تستطيع أن تقضي على المنكر الذي بيدك؟ أما أن تعيش ناظراً إلى معاصيهم فلا، والله إني أعجب أحياناً، وأمل -لا أكتمكم- من مجالسة بعض إخواني، تجد إذا جلست معه لا يُسمعك إلا ما يحطم نفسيتك، لا يُسمعك إلا ما يجعلك تتحطم، لا. تعيش في جو هذا كذا، هذا صار كذا، اختلاط، فساد، منكر، نشرة، مجلة، مقالة .... إلخ، فتجد أنك أينما التفت يميناً يساراً، فوق تحت، أمام خلف، تجد أنك محاط بالمعاصي ويخيل إليك الشيطان.
لماذا العبث؟ ولماذا مكانك سر؟ ولماذا الجنون هذا؟
انتهت المسألة فالمنكر استحوذ على الوضع من جميع جهاته، ما عاد هناك حاجة لأن تعمل، ما عاد بيدك شيء؟ وهذا هو ما يريده الشيطان؛ أن يجعلك تقنط، وتيأس من رحمة ومن روح الله، ثم لا تبدأ تقدم شيئاً، وينعكس هذا عليك؛ ترى منكراً: ما رأيت إلا المنكر هذا، يحلو لك: رأينا أكبر، وترى منكراً آخر: رأينا ما هو أكبر، وترى مصيبة أخرى: يا شيخ! سيذبحنا العلمانيون، ما عاد هناك أمل لأن تصلح الأحوال .. وهلم جراً، لا والله. إن وقفة الشاب الغيور المناصح المخلص، الذي يغار على حرمات الله بالاتصال بالعلماء، بطلبة العلم، بالآمرين بالمعروف، كتابة مقالة، كتابة برقية، مناصحة مسئول، التردد في هذا الأمر، والله إنه يشغلهم.
ثم يا إخواني! إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ [النساء:104] والله إن أهل الباطل، والله إن العلمانيين يتقلبون أسىً ومضضاً ومرضاً لا تشعرون به، حدثني أحد الإخوة وكان في مكانٍ بالقرب من واحدٍ من العلمانيين الذين أخزاهم الله وفضحهم، فقال: إنه لما علم بكذا وكذا سقط مريضاً أياماً عديدة، الله أكبر!
والله أيها الإخوة! إن لدعائكم على أهل الباطل في الليل لآيات بينات واضحات، وإن لسعيكم في مقارعة المنكر وأهله لأثراً بالغاً عظيماً، الله جل وعلا يبتليكم وهو بأمره بكلمة (كن) يحول الأمور رأساً على عقب، ولكن حتى ينظر هل تقوم أنت أيها الداعية! أو أيها المسلم! أو أيها الملتزم المتدين بواجب الدعوة! هل وقف التزامك عند توفير لحيتك وتقصير ثوبك فقط؟ أم أصبحت أيضاً تتمعر وتتغيض وتتقلب وتنكر المنكر لأن فيه مخالفة ومعصية لله؟
لو وقف إنسان وقال: يا فلان! من أي قبيلة أنت؟ قلت: من قبيلة بني فلان، قال: اللعنة!! هل تسكت؟ لا. لن تسكت، ستذب عن عرضك وعن قبيلتك وجماعتك، وربما وصل الأمر إلى الثأر والدم، وهو عند من يفتخر بعظمٍ نخر أصبحت الأنهار تجري دماءً عصبية للقبيلة والأرومة، ولكن حينما يكون الأمر لدين الله، ما كأن الأمر يعنيك.
يقاد للسجن إن سب الرئيس وإن سب الإله فعند الناس أحرار |
لا ينبغي أن يكون هذا الميزان أبداً، أبو هريرة رضي الله عنه كانت أمه قبل أن تسلم على الجاهلية والكفر، وكان إذا دعاها: يا أمه! يا أميمه! أسلمي وآمني وصدقي بنبوة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فكانت ربما شتمت أبا هريرة وسبته وطردته، وذات يومٍ جاء وقال: يا أماه! إلى متى وأنتِ حكامة في ضلالك، ألا تصدقين بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم؟ ألا تشهدين أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؟ فقامت أمه وسبته وسبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتهى الأمر بالنسبة لـأبي هريرة ؟ جاء ينتفض إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبكي: يا رسول الله! -ماذا بك يا أبا هريرة ؟- قال: كنت أحتمل ما ينالني، أما وقد سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أرضى بهذا ولا أحتمل، يا رسول الله! ادع الله أن يهدي أم أبي هريرة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اهد أم
أن يتغير الإنسان ويتمعر، وأن يضيق لأن دين الله يخالف فيه ما يخالف أو ينتهك فيه ما ينتهك، هذا هو الأمر، ولذلك علل نوح عليه السلام الضلال والبعد والإمعان والإصرار من قومه: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً [نوح:5] بعض الناس مزاجه لا يفتح إلا في الليل، فلابد أن تزوره في الليل، أما في النهار فليس عنده استعداد أن يقبل الدعوة، مزاجه على الرصيف في الليل يقبل الدعوة، فلا حرج أن تزوره في رصيفه العادي، ومن الناس من لا يقبل الزيارة والدعوة إلا في النهار، وفي الليل كالدجاجة ينام بعد العشاء مباشرةً، فلا حرج أن تزوره في النهار: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ [نوح:7-9] أي: استخدمت الأساليب العلنية معهم: وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً [نوح:9] الأسلوب السري في الدعوة، وأصبح يذكرهم بنعم الله: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً [نوح:10-12] ما وجد فيهم نتيجة. أخيراً ختم العبارة بقوله: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً [نوح:13] إذا ذكر فلانٌ من الناس قام الوقار والتعظيم والثناء، وإذا ذكر دين الله أصبح الأمر لا يعني أحداً: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [الزمر:45] أي شيء؛ المال، المنصب، الجاه، المتاع، الدنيا، الثروة، الأسهم، الرصيد: وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزمر:45] سبحان الله!
نريد أيها الإخوة! أن يقوم في النفوس هذا المبلغ الذي يجعل الإنسان في حرقةٍ صباح مساء، أن يدعو الناس إلى دين الله جل وعلا، فالبداية منك أنت، في إصلاح نفسك، في إخلاص هذا الأمر لله جل وعلا، في أن تثق بأنك إنما عليك البلاغ، والنتيجة هي بيد الله سبحانه وتعالى، ثم إياك وخبيئة السر، إياك وخبيئة السر، إياك وخبيئة السر؛ الفاحشة أو المعصية في السر هي التي تفسد عليك عملك، ولذلك كما في الحديث عند أهل السنن والحديث صحيح: (إن أقواماً يأتون يوم القيامة بأعمالٍ وصلاةٍ وصيامٍ كالجبال يجعلها الله هباءً منثوراً، فارتعد الصحابة، قال: أمَا إنهم يأخذون من الليل كما تأخذون، ويتصدقون كما تتصدقون، ويصومون كما تصومون، فانزعج الصحابة، قالوا: صفهم لنا، جلهم لنا يا رسول الله! قال: إنهم كانوا إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها).
نعم. لن تصلح الناس وأنت فاسد، سواء كان الفساد سرياً أو علنياً، لن تصلح الناس وأنت فاسد هيهات، ما أبعد أن تكابد، لا يمكن: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ [هود:88] .. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:3].
أيها الإخوة! من الأشياء والأسباب التي تعيق عليك المضي في طريق دعوتك قدماً عدم إصلاح النفس، فإصلاح النفس هي البداية، من هنا نبدأ، من هذه النفس؛ أن نقنعها بأن عليها مسئولية، وأنها صالحة للعمل، هل يعقل أن إنساناً يحتاج إلى أن يأخذ مطيةً يمشي عليها، فوجد سيارة لكن الإشارة معطلة، والمنبه معطل، فيقول: لا هذه سيارة تصلح أن نسافر عليها؟! لا والله. لكن أصلح هذا المنبه، وأصلح هذه الإشارة، وامش عليها، فكذلك نفوسنا، نحن لا ندعي الكمال أو السلامة من الذنوب، ولكن نقول: لا يعني أن وقوع الإنسان في حال غفلةٍ أو زلةٍ أن يصر على ذلك، نستغفر الله من الإصرار على معصية، هذه مسألة.
المسألة الثانية: ألا تعني هذه المعصية أنك قد أفلست من جانب الحق، كما يأتي الشيطان إلى أحدهم، وما أكثر ما سمعته من بعض إخواني، يقول: زللت، أخطأت، وماذا بعد ذلك؟ وداعاً أيها الإخوان! وداعاً أيها الأحباب! وداعاً إلى غير رجعة، سأسلك سبيل الفاجرين.
ألأنك أخطأت خطأ واحداً، أتاك الشيطان وأصبح يعبث بك: أنت منافق، أنت فاجر، أنت كافر، أنت فاسق، أنت تظهر، أنت تبطن، أنت .. أنت .. أنت، وتبدأ تظن أنك لم تعد تصلح لشيء أبداً؟
وما الفائدة إذاً من آيات التوبة، وآيات الاستغفار، وآيات المسرفين، التوبة على المسرفين على أنفسهم: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ [النساء:48].. إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا [النساء:40].. وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً [النساء:64].
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: [خمس آيات في سورة النساء ما أود أن لي بها الدنيا وما فيها].
فيا أحباب! هذه من أصول البداية أن تعرف أن نفسك أنت أنت، والله لو كان فيك من التقصير ما فيك، فإن هذا لا يعفيك من أن تقوم بواجب الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.
أنت قد صلحت، وأن يقال: أسلم فحسن إسلامه، تفقه فزاد فقهاً وعلماً، كثيرٌ منا معلوماتنا في العام الماضي هي نفس معلوماتنا هذه السنة، وهي معلوماتنا بعد سنتين وبعد ثلاث سنوات إن كنا من الأحياء، لا تجد الإنسان يطور في برنامجه شيئاً، أو يحاول أن يغير من وضعه، تمر السنون الطوال وهو لا يزال على ركعة واحدة وتراً، تمر السنون الطوال وهذا شأنه لا يعرف إلا ست شوال فقط، تمر السنون الطوال وهو لا يعرف من النوافل إلا مسائل محدودة، أين مجاهدة النفس ولو رويداً رويداً، ولو قليلاً قليلاً؟ وسترى حسن عاقبة هذا، وستجد له أثراً إذا أنت أخذت النفس على رياضة مستمرة ولو تدريجية، بعض الناس ربما صام الشهر كله، أو صامه إلا قليلاً ثم انقطع مرةً واحدة، أو ربما قام الليل كله، ثم فاتته صلاة الفجر في أيامٍ متتابعة، أو تجده ربما انكب على محاضرات مدداً طويلة، ثم انشغل بعد ذلك بمجالس لهوٍ وغفلة، وتجد المنحنى البياني بالنسبة لاستقامته في هبوط وصعود، مرة طائراً فوق، ومرة نازلاً تحت.
المعروف أن الإنسان المستقيم الداعية، الخط البياني بالنسبة في الارتفاع، يحصل زلة ولكنه يرجع من جديد إلى ارتفاع، رب ذنبٍ أورث توبةً فأورثت عملاً وندماً واجتهاداً وعزيمة، قال ابن القيم : سألت شيخنا ابن تيمية عن الحديث: (ما يقدر الله لعبده قدراً إلا كان له به خير) قال: أليس الله يقدر الشر؟ قال: بلى. -المعصية أليست من قدر الله؟ بلى. المعصية من قدر الله- قال: إذاً كيف يكون للإنسان فيها خير، قال: بما يتبع ذلك من الذل والندم والانكسار، والإكثار من الحسنات الماحيات لهذا.
بالأمس وقت صلاة الظهر ولعل الكثير منكم حضر جنازة أبي عبد الملك الأخ في الله إبراهيم الشارق، أسأل الله أن يجمعنا به في الجنة، أسأل الله أن يجمعنا به في الجنة، كان صديقاً محباً، ربما زارني في سرٍ وزرته في سر، وجلسنا لوحدنا، وجلوسي معه وجلوسه معي على انفراد أكثر من جلوسنا على اجتماع، فكان الشيخ محمد الفراج جزاه الله خيراً يستغل فرصة اجتماع الشباب من أجل الصلاة على الجنازة ومن ثم التشييع واتباعها، فذكر كلاماً، والله قال كلمة تمنيت أني كنت الجنازة، والله أيها الإخوة! قال: وقد عرفنا الأخ إبراهيم عفيف اللسان عن الغيبة والنميمة، الله أكبر! أيها الإخوة! من يجد هذه المنقبة؟ هي مسألة سهلة، قد يقول واحد: ظنناك ستمدحه بأنه حفظ الصحاح أو السنن، أو القرآن بسبع قراءات، هذه خير، ولكن العفة عن الغيبة والنميمة أخير وأعظم، من منا أيها الإخوة! في تهذيبه وانطلاقه بالدعوة من نفسه، يبدأ مع إخوانه، فإذا بدأت أتكلم في عرض فلان قال: ما أنت بالشيخ سعد ، أنت أقل من الأخ سعد ، اصمت هذه غيبة، إن شئت قلها صراحة، إن شئت قلها بتورية، إن شئت قلها كناية، إن شئت أومئ ببصرك، إن شئت خذني على انفراد، إن شئت انصحني بأي طريقة، المهم ألا نسكت عن بعض، وألا يجامل بعضنا بعضاً.
من هنا نبدأ أيها الإخوة! أن نكون صادقين في علاقاتنا، ألسنا نتحاب في الله؟ ألسنا ندعي أن العلاقة والرابطة بيننا هي الحب في الله والبغض في الله؟ فلماذا إذاً يتزيا ويتزين ويتجمل بعضنا أمام بعض بالمديح المتبادل؟ ربما تفعل خيراً فتسمع ثناءً، وتلك عاجل بشرى المؤمن كما في الحديث، لكن والله يا أيها الإخوة! إن الإنسان يأتيه الشيطان، وأيضاً يحاسب نفسه، يقول: الله أكبر! مر شهر كامل ما واحد من إخوانك دس لك رسالة تحت الباب ينصحك، ما شاء الله، أنت الكامل!! أنت المثل الأعلى، والقدوة الأسنى!! ما فيك خطأ أبداً!! رغم مجالساتك وكثرة حديثك ولقائك وكلامك، ما نصحك أحدهم، وما أهداك عيباً من عيوبك. لماذا؟
لأننا نكره أن ينصحنا إنسان في عيوبنا، نحب المديح، نتلذذ له: جزاك الله خيراً، أحبك الله كما أحببتني فيه .. وهلم جراً، لكن نصيحة، يا أخي! بعض الناس معقد، بعض الناس ما يفهم.
أعجبني ذات مرة أحد الإخوان، قلت له: أتمنى أن أكون ممن حفظ القرآن كله عن ظهر قلب كسائر الحفاظ، قال: تريد أن تحفظ القرآن وأنت تجمع في حياتك بين شغل الدنيا والآخرة؟ لا يمكن أن تحفظ إلا إذا تفرغت للآخرة تماماً، أعجبتني هذه الكلمات، والله تلذذت بها، قلت: يا أخي! الله يجزيك خيراً، لطالما اشتقت أن أسمع كلمة كهذه، لو كان غيره: لا يا أخ سعد! أنت مشغول في الدعوة، وهؤلاء الإخوان يشغلون وقتك وأنت وأنت .. وهلم جراً، وأخذ كل واحد منا يلمع ويرقع ويزين للآخر، لكن الصدق في العلاقة هو خير ما نربي به بعضنا البعض.
هذا المشروع بدأ بحيٍ من الأحياء، كان قبيل انفجار أزمة الخليج، ومع مواكبة الوضع في الأزمة وانتهائها بفضل الله جل وعلا، نسأل الله أن يجعل العواقب حميدة، ألا وهو أن المجالات عديدة وواسعة وخصبة، ولو أن كل واحد منكم، وأنا أخاطب الآن كل واحد منكم عرف أنه ينتمي إلى مسجدٍ -أقرب مسجد له في الحي- أنت تنتمي إلى جماعة بحكم أنك من جماعة هذا المسجد، تعد الشباب الطيبين الذين هم من أهل الحي، وكل الشباب المصلين على مستوى جيد من الخير والصلاح والاستقامة، تجمع هؤلاء الأخيار الأبرار، تقول: تعالوا أيها الإخوة! هذا الحي كم فيه من بيت؟ مثلاً قرابة مائتا بيت، اعتبر فقط أننا في قرية ليس فيها إلا مائتا بيت نريد أن نتعهد هذه البيوت بالدعوة والنصيحة بمختلف الأساليب، وقد طبق هذا البرنامج مجموعة من إخوانكم جزاهم الله خيراً على حي من الأحياء، أنت يا فلان! في الجهة الفلانية، البلكة التي تسكن فيها فيها عشرة بيوت، بيت فلان وفلان وفلان، كم عدد أولاد الحي؟ فلان كذا وفلان كذا وفلان كذا، وأنت في البلكة الفلانية، وأنت في البلكة الفلانية .. وهلم جراً، أول قرار: نجتمع أسبوعياً نحن شباب الحي، أو شباب المسجد، وهذه الفكرة لابد من نقلها وتوزيعها وانتشارها في مختلف أحياء مدينة الرياض ومن ثم في جميع مدن المملكة، بل في العالم الإسلامي كله.
أي أن يبدأ الإنسان بمن حوله، ثم تحدد أنت وإخوانك يوماً من الأيام تجتمعون فيه أسبوعياً بعد صلاة المغرب، وإذا أحضرت من المكتب العقاري (الكروكي) المختص بالحي: يحد الحي الشارع الفلاني شمالاً، ويحده جنوباً شارع العشرين، وشرقاً السوق الفلاني، هذا الحي أمامك في ورقة، الحي بين يديك في ورقة، هذا الحي فيه بيوت آل فلان وآل فلان، ادرس أحوالهم، طبعاً أنت لا تعرفهم كلهم، لكن أنا في طرف هذا الحي، وأعرف الذين هم بجواري، وأنت في طرف هذا الحي وتعرف الذين هم بجوارك، أنا بجواري أناس لا يصلون الفجر، بجواري أناس أرى منهم تساهلاً، أجد الموسيقى صاخبة مزعجة في بيتهم، أجد هناك تساهلاً وتبرجاً في وضعهم، وأنت ماذا ترى؟ قال: أرى أناساً يدخلون في أوقات متأخرة، وأجد أموراً أعرف شيئاً منها وأشك في بعضها.
وأقول أيها الإخوة! خذوا هذا البرنامج وطبقوه، اكتبوه معكم، اجتهدوا في تطبيقه، فلعل الله جل وعلا أن يوقظ به مجتمعنا من الإثم، أن يرفع به المصيبة عن الأمة، أن يدفع به البلاء عن الأبناء والآباء والأمهات، والكبار والصغار، هذا وجهٌ من وجوه الدعوة، وأسلوبٌ من أساليبها وفيه خيرٌ عظيم، والله كنت أسمع في الحي الذي أنا فيه من بعض الجيران موسيقى وأغاني مزعجة، فلما قام الشباب في الحي جزاهم الله خيراً وبدءوا بهذه الطريقة؛ وزعوا على كل بيت كل أسبوع الظرف هذا وفيه شريط وكتيب، إذ بي أسمع تارة صوت القرني يجلجل، وتارةً مواعظ الحماد تجلجل، وتارةً خطب القطان تجلجل، قلت: اللهم لك الحمد، الناس بخير، الناس عندهم استعداد، الناس -أيها الإخوة!- وبالذات النساء في البيوت أرق أفئدة، أقرب عواطف، يتأثرن بسهولة، وربما التزمت واستقامت وتابت، واجتهدت في الطاعة قبل الرجل، وأعرف هذا جيداً، بعض البيوت الأب الأشهر الطويلة يقضيها في مانيلا وفي بانكوك وفي البيت الفتاة التي تحفظ القرآن وتملأ البيت بذكر الله، وتعليم أخواتها الدين والستر والحجاب.
فيا أيها الإخوة! لماذا نحرم أنفسنا؟ الكثير منا لم يجرب يوماً ما أن يكون داعيةً في الحي، أنا لا أريدك أن تسافر إلى جدة والدمام والشرقية وتلقي بها المحاضرات وتجمع الجماهير من كل مكان، لا. أريد كل واحد منكم أن يبدأ التجربة في الحي، من هنا نبدأ، ومن الحي ننطلق.
ثم ماذا بعد ذلك؟ قام إخوانكم الشباب جزاهم الله خيراً، وأقول هذا بكل علنية، بكل صراحة، لا أخشى في ذلك شيئاً؛ لأنه ليس أمر يخشى منه، بعض الناس يقول: لا. كيف تنشر أسلوبك في الدعوة، وتخطيطك للدعوة؟ هل أنا في دولة بلشفية؟ من أين جاءتني أفكار تجعلني أضع وأدس الحق الذي مكانه المقل والجبين والرءوس تحت الكواليس؟
من أين جاءني هذا الوهم الذي جعلني أنسج خيوطاً عنكبوتية حول نفسي، ولا أصارح وأعلن بدعوتي في منهجي وفي أسلوبي وطريقتي؟
لست بحاجةٍ إلى هذا، أنا لا أعيش بدولة كافرة؛ شيوعية أو بلشفية، أو بعثية؟ لا. أنت في أمة مسلمة، فإياك إياك أن تحقق ظن إبليس فيك، فمن ثم يستطيع أن يقيدك ويكبلك وتظن أنك عاجز.
ماذا بعد ذلك؟ قام الشباب جزاهم الله خيراً وكل هذا أنا فيه شاهد عيان، فأنا أصف ما رأيت لا أصف ما نقل إليَّ، بعض الشباب رتبوا محاضرة، كتبوا إلى مركز الدعوة الإذن بمحاضرة، ولكن اجتهدوا أن تكون المحاضرة مخصصة لأهل الحي، إذا حضر أحد من حيٍ آخر فلا مانع، لكن اجتهدوا أن تكون المحاضرة لأهل الحي، جاء الإذن من مركز الدعوة بإقامة المحاضرة، فأرفقوا مع الإذن دعوة -صوروا هذا الإذن بعدد بيوتات الحي وصوروا مع الإذن دعوة-: جارنا العزيز! ندعوك ونتشرف بدعوتك لحضور هذه المحاضرة بالوقت الفلاني بحضور إمام المسجد، ووجهاء وكبار الجماعة في المسجد، نرجو أن نحضر سوياً، ووزعت الدعوة والإذن من مركز الدعوة مع دعوة إمام المسجد أو الجامع، مع شباب جماعة الحي إلى كل بيت، مع المظروف الذي تعودنا أن نضع فيه شريطاً ورسالة، ثم اجتمع الجيران في الوقت المحدد، وكان الحديث عن حقوق الجوار، اجتمع الجيران وإذا بنا نرى وجوهاً ما كنا نراها، وهذا يعني أن لنا جيراناً عندهم الاستعداد أن يشاركونا.
نعم. رأينا وجوهاً متباينة مختلفة ليست على مستوى واحد من الصلاح، لكن الإطار العام فيهم: حب الخير، فيهم حب حقوق الجوار، التعاون، التناصح، التآلف، التقارب، فبدأ إمام المسجد مع ضيوف الندوة يتناقشون في قضية الجوار: نحن جيران الآن، أول مشكلة تواجهنا أطفالنا في الحي، لماذا يتعلم الطفل في الحي ألفاظاً بذيئة، نناقش هذه المشكلة يا جيراننا! ما رأيك يا أبا فلان؟ فهل من شرط الندوة: وأما الآن يتقدم فلان، ثم يقوم فلان، ويسكت الجمهور، ثم ينتهي ويقدم الأسئلة؟ لا. ممكن أن يتناقش أهل الحي في اجتماع شهري، أو كل شهرين، المهم أن شباب الحي بدءوا يعملون فأنتجوا، ماذا تبع ذلك؟
تبع ذلك أن أصبح عدد العاملين في الحي بدل أن كانوا ثمانية شباب وهم الذين قاموا بالفكرة، أصبح عدد الدعاة في الحي أكثر من خمسة وعشرين أو ثلاثين شاباً، وهؤلاء لم يقف حد الواحد منهم عند مسألة نفع الجيران أو العمل مع الجيران فقط، لا. بل أصبح الواحد منهم يتطعم ويتلذذ حلاوة العمل في الدعوة إلى الله جل وعلا، فلما وجد أثر الشريط والكتيب على بيته وجيرانه، وأثر الرسالة والاجتماع أصبح يدعو زملاءه في العمل ويتناقش معهم، ويعطيهم الأشرطة، ويواعدهم بالذهاب إلى المحاضرة، ويخرج معهم الرحلة، يرتب معهم العمرة، يخطط معهم الذهاب في رحلة للحج .. وهلم جراً، ومن ثم استطاع هؤلاء أن يقدموا أنموذجاً جيداً، فنحن أيها الإخوة! وشباب الصحوة في مختلف أنحاء الجزيرة عددٌ لا يحصيه إلا الله، عدد هائل كبير جداً، لكن حقيقة الأمر أشبههم برجل عنده ألف عامل، وكلهم ما شاء الله يلبسون الزي الرسمي للشركة، افرض هذه الشركة شركة دعوة، وزي الشركة البدلة الكاملة مكتوب على صدر العامل (دعوة) فتجد رئيس الشركة قد وظف مائتي عامل، ثمانمائة عامل مكملين بالزي لا أحد يمارس أي نشاط أو أي دور أو وظيفة في الدعوة، فأقول: هذا ينطبق على كثيرين من شباب الصحوة، تجده ملتزم الزيِّ الكامل؛ السمت، توفير اللحية، تقصير الثوب، الحرص على أمور طيبة، تجد الرجل متصفاً بالزي المناسب أو المطلوب شرعاً في هذه المهمة، لكن أين العمل؟ أين الخطوات الإيجابية؟ لا تجد شيئاً أبداً، لماذا يا أخي؟!
أليس القادة، أليس الدعاة يقولون للناس: تعالوا نقودكم إلى نهج الخير والصلاح؟ جاء العامة والناس والتزموا، قالوا: يا الله! ها قد جئناكم ولحقناكم؛ وفرنا لحانا، وقصرنا ثيابنا، واستقمنا، أعطونا الجديد، مما عندكم، نقول: تعال وقف جنبنا، والحقني وقف جنبي ما استطعت، إذاً أن أقدم معه شيئاً ووقفت أنا ومن أدعو في خطٍ واحد، وهنا يكمن الخطر، ربما ضياع البرنامج أو عدم وجوده هو الذي يشغل هذه النفوس، يردها إلى انتكاسة، إلى انحرافٍ بعد استقامة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فالمسألة -أيها الإخوة!-: حساسة جداً جداً، يتطور الأمر، بدأ عند هؤلاء الشباب لما كثروا بعد أن كانوا في البداية ثمانية، أصبحوا قرابة خمسة وعشرين أو ثلاثين داعية، لما كثروا ماذا حصل؟ قالوا: الآن ما شاء الله صرنا كثرة، كم عدد محلات الفيديو عندنا في الحي؟ عندنا ثلاث محلات فيديو، ما رأيكم أن ننقسم إلى ثلاث مجموعات؟ المجموعة هذه تزور المحلات يوم السبت، وهذه تزور المحلات يوم الإثنين، وهذه تزور المحلات يوم الأربعاء، لا صراخ ولا زعاق ولا تعويل، ولا صياح ولا نياح، تدخل على صاحب المحل: السلام عليكم، كيف الحال؟ (عساك طيب؟) (ويش لونك؟) إنَّا والله جيرانك في هذا الحي، وتفضل هذه رسالة، رسالة التنبيه بخطر، أكل الحرام، شرب الحرام، ما ظنك لو مت وأنت في هذا المحل؟ ما ظنك لو مت: هلك هالك عن خمسة آلاف شريط فيديو وستين جهاز gvc، وثلاثين جهاز سوني، هذه التركة، والمسألة من ستة، للأم السدس أم كيف نفعل بها؟ لو مت؛ أيسرك أن تلقى الله وهذه تركتك.
أيها الأخ! ربما لا تجد في السوق كتيباً أو رسالة مناسبة لصاحب محل فيدو أو محل أغاني، لكن إذا لم توجد رسالة جاهزة، اجتمع أنت وإخوانك وصوغوا رسالة بهذا الموضوع حساسة جميلة، اعرضوها على أحد طلبة العلم يُحبِّرها لكم، ثم تطبعها أنت، وربما تأخذ بها الإذن، وقد لا تحتاج إذناً وتوزعها أول ما تزور صاحب المحل، أو تكتبها رسالة خطية: تفضل يا أخي! هذه رسالة أرجوك، لست أرجو منك إلا أن تقرأها في لحظةٍ من هدوء نفسك وفراغها.
فيا أيها الإخوة! أصبح العمل متطوراً، بدل أن كان عمل جيران فقط، تطور إلى مسألة دعوة الوجوه الموجودة، وأضرب لكم مثالاً: واحد من الشباب الذين يعملون معنا في الحي جزاهم الله خيراً، قال لي: أريدك، قلت: ماذا عندك؟ قال: هناك شاب يعمل في بنك يريد أن يتوب. المسألة تطورت، الدعاة بدءوا يدخلون البنوك، كيف ندخل إلى هذا الشاب؟ قلت: ابحثوا عن شاب كان يعمل في بنك فتاب إلى الله، وائتوا به معنا، فأخذنا هذا الشاب الذي كان يعمل في بنك من البنوك، ثم التقينا بهذا الشاب الذي لا يزال يعمل في البنك، وبدأنا نتحدث ونتكلم .. وهلم جراً، حتى دار الكلام عن العمل، فقال: والله إني أريد ترك العمل، أريد الفرار من هذا البنك، لكن بصراحة المؤهل بسيط، والراتب مغرٍ، والبديل مفقود، قلت: اسمع تجربة فلان، كان يوماً ما مثلك، سوبر فايزر أو مديراً أو مشرفاً، ها هو أمامك، كيف تركت البنك يا فلان؟! في أي بنك كنت تعمل؟ ما الذي دعاك وحملك على ترك البنك؟ أين البديل الذي وجدته؟ كيف وجدت نفسك؟ فكان مما قال: والله كنت استلم أكثر من عشرة آلاف وأستدين آخر الشهر، والآن أنا في عمل راتبه سبعة آلاف، وعندي ما أكفل به يتيماً، وما أتصدق به، وأجد به سعةً في نفسي ورزقي ومالي.
إذاً أيها الإخوة! نحن نملك الشيء الكثير، لو أن كل شاب تاب واستقام واهتدى دعا بقدر ما استطاع، والعلماء يقولون: الفقه بالقوة أو بالآلة، ليست القوة كمال الأجسام، لا. بل هي القوة العقلية والمَلَكَة، أن يكون عندك قدرة على حفظ الأدلة واستنباطها وإسقاط أو تنـزيل الوقائع والنوازل على الأدلة، ومن ثم الخروج بالحكم الشرعي، أو بالآلة: أن تبحث عن حكم هذه النافلة في كتب الفقه، القوة الذاتية الشخصية، الآلة استخدام آلة الكتاب أو السؤال .. وهلم جراً.
فكذلك أقول: الدعوة بالقوة أو بالآلة، بقوتك الشخصية في الدعوة، وخبرتك ومعلوماتك، أو بالآلة من خلال استخدام الشريط والرسالة والكتاب والمخطط.
وأقول: نحن بحاجة إلى أن نخطط للدعوة، هذا البرنامج الذي أطرحه أمامكم لو أن كل المجتمعات أو الأحياء في مدينة الرياض خططت له، والله ثقةً بالله الذي أنزل هذا الحق من فوق سبع سماوات وجعله نوراً وبرهاناً للأمة، عشر سنوات وتجدون مدينة الرياض بأكملها تقاطع المنكرات إلا من ضل ونفر إذا صلح المجتمع، وأنا لا أريد يوم أن أعرض عليكم هذه الفكرة وأقول: من هنا نبدأ، لا انتظر النتيجة بعد سنة أو سنتين، لا. أريد أن نستمر في هذا البناء، ونستمر في هذا العمل، وأضع خطة لهذا العمل لمدة خمس عشرة سنة قادمة، أو عشر سنوات قادمة، أليس أهل المنكر خططوا تخطيطاً طويل المدى؟
إن أهل الحق بحاجة إلى التخطيط، ونحن للأسف لا نزال نعمل في دوائر ارتجالية، وحب النتائج المستعجلة، تجد الإنسان يدخل على محل فيديو: السلام عليكم، وعليكم السلام وكذا، والإخوان ينتظرونه عند الباب وعندما يخرج: هاه بشر، تاب من أول لحظة؟!! صحيح والله تريد أن يستقيم من أول لحظة، فأول وهلة مودة، رسالة، كلمة، هدية، زيارة، نستضيفه، نخالطه.
أحد الشباب أعجبني جزاه الله خيراً، ولعله ممن معكم في هذا المسجد، يقول: أنا أعمل في دائرة ومعنا كفار، ونحن مخططون أن نخرج بواحد من الكفار خميساً وجمعة (ناوين غسل مخه) قلت: ما البرنامج؟ قال: برنامج تضبيب -صيد ضبان- هذا هو البرنامج، لكن بشرط اتفاق الشباب على أن يكونوا على مستوى رائع جداً بفضل الله، وهذا خلقهم وسجيتهم، لكن يحرصون ألا يرى هذا الكافر منهم شراً أو أمراً ينتقده، إما أنانية أو عداوة، أو أثرة أو شيئاً من هذا.
الله أكبر! أعجبني والله، أعجبني وملأ عيني، جميل جداً أن يوجد هذا من شبابنا، لكن ربما لو عرضت الأمر، قال: تف على وجه هذا الكافر تريدني أظهر معه، يا أخ! رقده في خيمة ثانية، تخاف أن تفتح العقوبة أنت وهو، صحيح والله، أنت ما أتيته موالاةً فيه، وفرق بين مقام الولاء والبراء ومقام الدعوة: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6] هذا رجل عنده بوادر، عنده إقبال، تجد منه ارتياحاً لك، أفيمنعك هذا أن تخرج به للبر أو المزرعة أو الاستراحة خميساً وجمعة، وتعطيه شيئاً تتألف به قلبه، أليس في الزكاة سهمٌ للمؤلفة قلوبهم؟
أين تخطيطنا للدعوة؟ للأسف لا يوجد هناك تخطيط، لو كان هناك تخطيط ما غادرت مئات الآلاف من العمالة الوافدة مطاراتنا كما دخلت على كفرها وبوذيتها وهندوسيتها، وعقائدها المنحرفة، أخيراً بدأنا نلتفت إلى مكاتب الجاليات، ومكاتب التعاون.
إذاً: نريد تخطيطاً طويل المدى للدعوة، وهذا الأمر لا يكون ما لم يشارك كل واحد منكم، وإياك أن تقول: أنا حليق اللحية، أنا والله أحب الخير، وأحب الدعوة، وأحب وأحب .. لكن أنا حليق لا أنفع لشيء، نقول: أنت مقصر، واسأل الله أن يتوب عليك، لكن أيضاً نريدك أن تعمل، لا نريد أن نجعل في مجتمعنا المسلم شخصيةً عاطلة، أحد المستشفيات فيها رجل أمن موظف -متعاقد- سوداني الجنسية، وأعرفه، رأيته وكلمته، حليق اللحية، أسلم على يديه حتى الآن عدد من الممرضات وعدد من الكفار في المستشفى، هل يعني كون الإنسان صاحب معصية استحالة أن يحصل منه حسنة واحدة؟ أليس ميزان أهل السنة والجماعة أنه ربما اجتمع في الشخص ما يحب، ويبغض في آنٍ واحد أنت لا تبغض الشخص أو تحبه لذاته، ولكن أحببت فيه جانب دعوته، وكرهت جانب تقصيره في هذا، وربما كان اجتهاده في جانب الدعوة سبباً في استقامته وفلاحه في إكمال نفسه بإذن الله جل وعلا.
إذاً فيا إخواني: نحن في الحقيقة عندنا الارتجالية، الإنسان إذا قلت له: اتق الله، وقع يبكي ويصبح يعد ذنوبه، ورجعنا على توبة صادقة، وإلا فلا فائدة، لا يا أخي! قد لا يتوب لا في المرة الأولى ولا الثانية، ولا في الثالثة ولا الرابعة، لكن مثلما يقول العوام: الناقوط يخرج الحجر، الناقوط جربه نقطة نقطة ماء، تجد على مر الأيام والأشهر منذ مكان الحجر، يعني النقطة تسقط على هذا المكان في الحجر، فإذا بها قد أحدثت فيه فجوة أو خرقاً، أو مساماً معيناً، فأنت تحتاج إلى هذا التخطيط طويل المدى.
المسألة الأخرى: أيها الأخ الكريم! قد لا تستطيع أن تجعل مجتمعك يخلو من المعاصي والمنكرات لأول وهلة. لكن كما قال الله جل وعلا: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً [الفرقان:33] فقد يوجد من يحاجك ويجادلك في الربا، لا يمكن أن توجد أمة إلا بقوة، ولا قوة إلا ببنوك، ولا بنوك إلا بفوائد، كما يقول الملهم صاحب النظرية الاقتصادية، لكن إذا أنت تتمنى أن الله جل وعلا يبعد عن أمتك وعن بلادك شؤم الربا: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279] إذا تمنيت هذا ولم يتحقق فإنك تستطيع أن تحقق إثبات خطر الربا في كل مقام، في كل مناسبة، في كل خطبة، في كل منتدى، في كل لقاء، في كل مقالة، استغل كل ما يمكن أن يقع بين يديك؛ مقالة، إذاعة، تلفاز، أي شيء تستطيع من خلاله أن تحذر من خطر هذا الشيء الذي لم تستطع تغييره، ما استطعت أن تغير الربا، هل يعني ذلك أن تسكت، لم تعد تذكر بخطر الربا وشؤمه على الأمة، وأنه لعنة وبوار وهلاك؟ لا. لابد أن تذكر: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً [الفرقان:33] تأتي بالحق وتبينه، وتفسره وتوضحه؛ تبين خطر الربا، خطر الاختلاط، خطر الفواحش، خطر ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهكذا.
إذاً: أيها الأحبة: باختصار: كل واحد منكم يعتبر نفسه الوحيد في الحي، لا تنتظر أن يأتي أحد يطرق الباب يقول: فلان! تعال لكي نبدأ، اعتبر نفسك أنت الوحيد، فإذا اعتبرت هذا الأمر تحركت لكي تدعو جارك، وإذ بجارك يقابلك تحرك ليدعوك، فالتقيت أنت وإياه، والتقيتم بمجموعة شباب، وجلستم في مجلس أسبوعي لكي تخططوا لهذا الحي.
أنا أقول لكل واحد منكم الآن: كم لك سنة وأنت ملتزم؟ أربع سنوات، خمس سنوات، ماذا قدمت للحي الذي أنت فيه؟ هل وزعت على جيرانك أشرطة أو كتيبات؟ هل جمعت أفراد الحي بمناسبة عامة؟ ألسنا نجتمع في العيد؟ أمر ليس غريب، إذا جاء العيد كل واحد منا يأتي بعيده معه، هذا يأتي بقرصان، وهذا بجريش، وهذا بدجاج، وهذا بغنم، وهذا بلحم جزور، وصفوا أصنافاً، وجلس الجيران وكلٌ يذوق من عيد فلان قليلاً، ما المانع أن نجعل لنا عيداً شهرياً؟ واحد يقول: والله فلان ابتدع علينا عيد النيروز، وإلا عيد الفصح، لا. أقول: لقاء شهري يجمع الجيران في مكان معين، في فناء المسجد، في المكان الفلاني، ويجتمع الجيران، يتحدث بعضهم مع بعض، نفكر ما هي المشاكل التي عندنا، ما هي القضايا التي نواجهها في المجتمع، أطفال الحي ماذا يواجههم، النساء في الحي ماذا خططنا لهن، هل استطعنا أن نرسل كل شهر شريطاً يتعلق بالمرأة، هل رتبنا محاضرة للنساء، نجعل في ليلة من الليالي حراسات على أبواب المسجد، نستأذن باستضافة داعية من الداعيات، ندعو جميع نساء الحي فيحضرن المسجد، وتلقي فلانة محاضرة: ماذا ينبغي على المرأة أن تفعل.
هذه أيها الإخوة! مجالات نحن في غفلة عنها، وأنا أظن كما قلت في بداية المحاضرة أننا إن لم نر الربا يسقط، والاختلاط ينتهي، ومحلات الفيديو تغلق، إذا لم نر هذا فلا نعمل لا. نريد العمل، من كل مستوى ومن كل لحظة، ومن كل مرحلة، وثقوا بالله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النور:55] والله لتجدن الحق مستخلفاً: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا [القصص:5] وعد ما أنت مستضعف، من باب أولى أن تمكن، ومن باب أولى أن تجد للحق تمكين وقوة وقدرة: وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ [القصص:5] فلماذا هذا الضعف؟ ولماذا هذا التكاسل؟ لماذا هذا الخور؟ لماذا هذا الجمود أيها الإخوة؟! كل واحد منكم أخاطبه، وكل واحد منكم أشهد الله عليه أنه عرف وعلم وسمع ودرى وخبر، وأشهد الله على كل من سمع هذا الشريط أن يتقي الله في نفسه، وأن يبدأ ولو بخطوة واحدة إلى الأمام، ما أكثر ما جلسنا في المجالس نسب العلمانيين والفساد والمنكرات، وما أندر ما نجد من كل من سب أولئك كلهم يقوم بخطوةٍ إيجابية (لأن توقد شمعةً في الظلام خيرٌ من أن تلعن الظلام ألف مرة).
أسأل الله جل وعلا أن يثبتني وإياكم، أسأل الله أن يثبتنا، أسأل الله أن يثبتنا، أسأل الله أن يثبتنا، وألا يكلنا إلى أنفسنا، اللهم اقبضنا إليك هداةً مهتدين، راضين مرضيين، غير خزايا ولا مفتونين، اللهم لا تفتنا، اللهم لا تفتنا، اللهم ولا تفتن بنا، ولا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، اللهم توفنا من غير انتكاسة أو ضعف، أو تقلب حال أو حورٍ بعد كور، أو ضلالة بعد استقامة، أو زيغٍ بعد هدى، نسألك اللهم الثبات إلى أن نلقاك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر