إسلام ويب

هتاف المجدللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • هتاف المجد: صرخات صادقة انطلقت من قلوب مؤمنة، فاهتزت لها الأفئدة، وخشعت الأصوات، ورقت القلوب، ودمعت العيون.
    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

    أنا في مكة حيث أذن الخليل, وهبط الوحي, وصلَّى الأنبياء, وبُعث محمدٌ عليه الصلاة والسلام.

    أنا في مكة حيث الكعبة والمقام وزمزم، حيث الطهر والإيمان، حيث المجد والتاريخ، حيث الذكريات والمثل.

    لم تزالي على مرِّ الليالي     موئل الحق يا عروس الرمال

    في خدرك الوضيء التفاتات     ذهول وهينمات ارتحال

    فاستفاقت على أذان جديـد     ملء آذانها أذان بلال

    نعم (هتاف المجد) عنوان المحاضرة، وعناصرها:

    أولاً: صرخاته عليه الصلاة والسلام في مواقف البطولة.

    ثانياً: مواصلةٌ وإصرار.

    ثالثاً: لغة الأرقام.

    رابعاً: الوحي يهتف بالمؤمنين.

    خامساً: في سكرات الموت.

    وأختمها بدعاء علَّ الله أن يرحمنا.

    صرخات النبي عليه الصلاة والسلام في حنين

    اجتمع صلى الله عليه وسلم بالناس في حنين ، وهو يجاهد في سبيل الله، بل هو أعظم المجاهدين عليه الصلاة والسلام، بل هو أعظم من ابتلي في سبيل الله، واضطهد وشرد، وأوذي وما أوذي العالم إلا ذرة من ذرات أذاه عليه الصلاة والسلام.

    فلما انتصر عليه الصلاة والسلام في حنين وقف يوزع الغنائم لمن أراد الدنيا، نظر وإذا الجبال ممتلئة بالجمال وبالغنم وبالبقر، فيأتي صناديد قريش فيعطي الواحد مائة ناقة، والواحده ألف شاة، والواحد مائة بقرة، ويترك الأنصار المجاهدين الصادقين لما جعل الله في قلوبهم من إيمان، ويقول: (إني لأعطي أناساً وأدع أناساً لما جعل الله في قلوبهم من الإيمان) وفي لفظ مسلم : ( إني لأعطي أناساً لما في قلوبهم من الجشع والطمع، وأدع أناساً لما جعل الله في قلوبهم من الحب والإيمان منهم عمرو بن تغلب ، قال عمرو بن تغلب الصحابي: كلمة ما أريد أن لي بها الدنيا وما فيها ).

    أعطى صلى الله عليه وسلم الغنائم ووزَّع, ولكن قام أحد الناس عند أعدل الناس، من أعدل الناس ومن أعدل الخليقة إلا محمداً عليه الصلاة والسلام؟!

    وإذا حكمت فلا ارتياب كأنما     جاء الخصوم من السماء قضاء

    إن لم يكن محمد صلى الله عليه وسلم هو العدالة، وهو العدل فيا موت! زر، ويا دهر! انته، ويا قيامة! قومي.

    وزع الغنائم ولكن بعض الناس لمرضٍ في قلبه وخسة ونجاسة ونذالة قام ليواجه أشرف الناس وأعدل الناس في وجهه، قال: ( يا محمد! -اسمع الأعرابي الجلف الشقي- اعدل، إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، فتمعَّر وجهه صلى الله عليه وسلم ) الآن يصرخ، الآن يلقي هتاف المجد، فيقول: (خِبتَ وخسرت، من يعدل إذا لم أعدل؟!) من في العالم يدعي أنه العادل إذا لم يعدل محمد صلى الله عليه وسلم؟! قال: ( خِبتَ وخسرت ) وضبطت عند مسلم أيضاً: (خِبتُ وخسرتُ) يعني: إن لم أعدل وأقم بالميزان الذي أنزله الله عز وجل، إذاً أنا خاسرٌ خائبٌ عملي.

    أما الأنصار فتعجبوا وقالوا: غفر الله للرسول عليه الصلاة والسلام، يعطي صناديد قريش مائة ناقة ويدعنا ونحن أهل الدعوة وأهل التاريخ، والذين حملوا رءوسهم على أكفهم والذين سالت دماؤهم، والذين تقطعت لحومهم على شذرات السيوف!!

    وهذا عتاب المحب للمحب لا كاعتراض الزنديق المنافق ذاك، الذي لما اعترض قام عمر ليصفي حسابه ويقطع رأسه فقال: ( دعني أضرب عنقه يا رسول الله! فلقد كفر، قال: دعه يا عمر! إن من ضئضئ هذا أناسٌ يخرجون تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم, وصيامكم إلى صيامهم, وقراءتكم إلى قراءتهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ).

    أما الأنصار فقد دار الحديث بينهم، وبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم، فاستدعى سيدهم سعد بن عبادة وقال: (ما مقالة بلغتني عنكم؟ قال: هو كما سمعت يا رسول الله! قال: اجمع لي الأنصار) فاجتمعوا ليهتف بهم هتافاً ثانياً صلى الله عليه وسلم في مكانٍ طويلٍ عريض لا يحضره إلا الأنصار، فدلف عليهم حيث يصنع الكلمة الصادقة والجملة الآسرة، واللفظة المعبرة، أخطب من تكلم، وأفصح من نطق.

    وإذا خطبت فللمنابر هزةً     تعرو الندي وللقلوب بكاء

    وإذا أخذت العهد أو أعطيتـه     فجميع عهدك ذمةٌ ووفاء

    قال: (أيها الأنصار! -فسكتوا- أما أتيتكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ فطأطئوا رءوسهم وذرفت عيونهم، وقالوا: صدقت، المنة لله ولرسوله، قال: أما أتيتكم متفرقين فجمعكم الله بي؟ قالوا: صدقت، المنة لله ولرسوله، قال: أما أتيتكم فقراء فأغناكم الله بي؟ قالوا: صدقت، المنة لله ولرسوله، قال: والله يا معشر الأنصار! -انظر استحياء الكلمة وصنع اللفظ والبراعة في العطاء- والله يا معشر الأنصار! لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدقتم، أتيتنا طريداً فآويناك، وشريداً فنصرناك، وضعيفاً فقويناك -فما قالوا نعم- وطأطئوا رءوسهم وسالت دموعهم، وقالوا: المنة لله ولرسوله، قال -هذا الهتاف-: يا معشر الأنصار! أنتم الشعار، والناس الدثار، والله لو سلك الناس وادياً وشعباً لسلكت وادي الأنصار وشعب الأنصار، اللهم اغفر للأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار) فاختلط الجو بكاءً وأصبح المكان عويلاً، وختم صلى الله عليه وسلم موعظته بهذا الهتاف.

    وفيه درس العدل وعدم المواربة في الدين والمحاباة، وأن أعدل ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم.

    إن على كل مسئولٍ وأستاذٍ ومربٍ وموظف أن يأخذ من هذا الحدث عبرة في حياته، أن يكون تقياً في رعيته وما تحت يده، كما صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه) رواه مسلم .

    وفي حنين تعلق به الأعراب يطلبونه الإبل والغنم والبقر والدراهم، هؤلاء ليسوا من أهل صلاة الفجر والثلث الأخير، ليسوا من أهل تكبيرة الإحرام، يقول محمد بن واسع الأزدي : إذا رأيت الرجل يتهاون عن تكبيرة الإحرام فاغسل يدك منه.

    عند أهل السنة ثلاث: طيب المطعم .. سلامة الصدر .. تكبيرة الإحرام.

    إذا رأيت الإنسان مخلاً بالثلاث فشك فيه.

    فالمقصود تعلقوا به، فتعلق رداؤه الشريف بشجرة، فأصبح صلى الله عليه وسلم لا يدري هل يمتنع من الأعراب ويجيبهم أو يخطف رداءه، فقال عليه الصلاة والسلام: ( أيها الناس! فكوا عليَّ ردائي، فوالذي نفسي بيده لو أن لي مثل شجر تهامة إبلاً وبقراً وغنماً لأنفقتها، ثم لا تجدوني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً ).

    وفي حنين اجتمعت عليه الكتائب وفر الصحابة، كبار الصحابة فروا، مضيقٌ ضنك، شيءٌ خطير، الجبال ترمي بالحجارة من هوازن وغطفان، رمي كالسحاب، ففرت الإبل والخيول، فوقف صلى الله عليه وسلم في الضنك، ووقف في الكرب؛ لأنه مأمور ألا يفر خطوة: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ [النساء:84] فلما ضاقت به قال صلى الله عليه وسلم: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب ).

    إن أردتموها دينية فأنا النبي، وإن أردتموها دنيوية فأنا ابن عبد المطلب ، إن أردتم سماوية فأنا رسولٌ مبلغ بوحي، وإن أردتم أرضية فجدي عبد المطلب شيخ القبائل والأباطح، ومن زعم أنه أكثر منه فليأكل تراباً وليرغم أنفه.

    إن أردتم من السماء فمعي جبريل، وإن أردتم من الأرض فجدي عبد المطلب.

    فلما اجتمعت عليه الكتائب أخذ حفنةً من تراب وقال: (أنا ابن العواتك من سليل) العواتك أربع، وقد نظمها الأندلسي ، عاتكة من عماته وعاتكة من خالاته وعاتكة من مرضعاته وعاتكة من قريباته، قال: (أنا ابن العواتك من سليل) فأخذ حفنة فنثرها في الوجوه فدخلت في أعين عشرة آلاف مقاتل، فعموا وارتدوا مدبرين منهزمين.

    هذا هتافه وفيه:

    أولاً: درس شجاعة القلب بالاتكال على الرب.

    الثاني: رخص الدنيا في عينه صلى الله عليه وسلم.

    الثالث: الصمود والتحدي للأزمات.

    الرابع: الثقة بالله، يقول بعض أهل العلم: كان عليه الصلاة والسلام في قمة المعاناة ونهاية الأزمة يأتي بفرج، يأتي ببشرى.

    اشتدي أزمة تنفرجي     قد آذن ليلك بالبلج

    إذا رأيت الظلام يمتد فاعلم أن الصبح قريب، إذا رأيت الحبل يشتد فسوف ينقطع، مع ذروة المعاناة فرج.

    الصحابة رضوان الله عليهم في كرب في بدر فقيل لهم: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).

    ضيقوا عليه في الخندق ، وتألبت عليه الأحزاب والكتائب، فقال: (أريت قصور كسرى وقيصر وسوف يفتحها الله عليَّ) طارده سراقة فالتفت: (كيف بك يا سراقة! إذا طوقت بسواري كسرى) في نهاية المصيبة والأزمة يأتي فرج من فمه الطاهر صلى الله عليه وسلم.

    صرخته عليه الصلاة والسلام في موقف العدل في الحكم

    أما موقف العدل في الحكم، فهي صرخة أخرى من صرخات المجد، وهذا درس أقدمه إلى العلماء والحكام وأئمة المسلمين وعامتهم، مخزومية تسرق الحلي، أمر عليه الصلاة والسلام بعدما تبين ذلك بقطع يدها، وهي مخزومية من الدرجة الأولى، أسرة لها اعتبارها، أسرة خالد بن الوليد وأبي جهل ، فاجتمعوا وقالوا: المسألة ليست عادية، كيف تقطع يد ابنتنا المخزومية؟! ما موقفنا أمام العرب؟!

    هم يحسبون أن فيها وساطات وشفاعات، يظنون أنها لو كانت من بني تيم أو من بني عدي لكان الأمر سهلاً، قالوا لـعلي : اشفع، قال: من يشفع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا لـأبي بكر ، قال: لا. قالوا لـفاطمة ، قالت: ما يشفع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد، فأتوا إلى أسامة رضي الله عنه وكان حباً للرسول صلى الله عليه وسلم صبياً قريباً فأخبروه الخبر فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أشفع يا رسول الله في المخزومية لا تقطع يدها.

    عند من تشفع؟

    عند من لو كان العدل على قلبه لأمشاه، على جسمه؟ عرض جسمه في بدر وقال: (اقتص) يقول لـعكاشة بن محصن : (اقتص مني) تعرض العدل على أستاذ العدل، تحاول في الحكومة على أن تبطل على من أتى بالحكم الشرعي؟! على معلم الخير؟! قال: (أتيت تشفع في حد من حدود الله، قم -يقول: لأسامة- الصلاة جامعة).

    هذه صرخة المجد: الصلاة جامعة .. الصلاة جامعة.

    فأذن بلال في الناس، فانكثبت المدينة؛ ليلقي صلى الله عليه وسلم بياناً للدهر، وقراراً للتاريخ، وورقة عمل للساسة والحكام إلى يوم القيامة، اسمع يا دهر! وأنصت يا تاريخ! وقف على المنبر قال: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه, وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).

    اسمع وأنصت، فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم.

    قال الزهري وهو يروي الحديث ويبكى: وحاشاها أن تسرق، ونحن نقول: حاشاها أن تسرق، قال: (وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).

    مع العلم أنها فلذة كبده، وقد أراد أن يتزوج عليها علي بنت أبي جهل، فقال صلى الله عليه وسلم: ( سمعت أن ابن أبي طالب يريد الزواج من بنت أبي جهل ، وأنا لا أحرم حلالاً ولا أحلل حراماً، ولكن والذي نفسي بيده لا تجتمع بنت حبيب الله وبنت عدو الله تحت سقفٍ واحد، إن فاطمة بضعةٌ مني يريبها ما يريبني، ويرضيها ما يرضيني).

    فهي قطعة من قلبه. ومع ذلك يقول على المنبر: (وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) العدل .. القوة والصرامة، كان إذا أتت تزوره فاطمة يقوم ويستقبلها ويقبل جبينها، ويجلسها مكانه، أرحم الناس، وأبر الناس بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم!!

    إذا علم هذا ففي هذا درس، وهو إنصافه صلى الله عليه وسلم من نفسه، وأنه لا يحابي عليه الصلاة والسلام في الحكومة، وأنه صلى الله عليه وسلم لا تأخذه في الله لومة لائم.

    صرخة الخوف

    وأما صرخة الخوف -وهذا درس للخطباء، ودرس للدعاة، يا طلبة العلم! يا دعاة الأمة! يا علماء الإسلام! إذا خطبتم أثروا .. أحيوا القلوب .. حركوا المشاعر .. ألهبوا الحماس .. أسيلوا الدموع: وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً [النساء:63].

    أما الميت الذي يميت المشاعر فليس هذا من علم خطابة الرسول صلى الله عليه وسلم- فيقول جابر كما عند مسلم : ( كان إذا خطبنا صلى الله عليه وسلم علا صوته، واشتد غضبه، واحمرَّت عيناه كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم ).

    كان إذا أراد أن يخطب عليه الصلاة والسلام تكلم كلاماً في أسطر لكنه يدع المكان بكاءً وعويلاً، يقول ابن عمر : ( قام عليه الصلاة والسلام على منبره -المنبر هذا مبارك، ثلاث درجات تلقى منه الحكمة- فصعد الدرجة الأولى فقال: آمين، ثم صعد الثانية، فقال: آمين، ثم صعد الثالثة ثم قال: آمين ثم جلس ) سبحان الذي أعطاه الكلام، وفتح عليه من الفتوحات! قالوا: أمنت يا رسول الله -يريدون أن يسألوه، انظر فن الأداء، واستثارة الهمم وطلب العقول أن تنجذب، يقول: آمين، آمين، آمين، ثم يسكت- قالوا: ما لك يا رسول الله أمنت؟ قال: ( صعدت الدرجة الأولى فقال جبريل: رغم أنفه من ذكرتَ عنده فلم يصلِ عليك -صلى الله عليه وسلم- قل: آمين، فقلت: آمين، قال: وصعدت الثانية فأتاني جبريل فقال: رغم أنف من أدرك رمضان فلم يغفر له، قل: آمين، فقلت: آمين، فصعدت الثالثة فقال: رغم أنف من أدرك أبويه أو أحدهما فلم يغفر له، قل: آمين، قلت: آمين ).

    صعد المنبر وهو من خشب، فقال: ( أيها الناس! يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة بيمينه، والأرضين باليد الأخرى فيهزهن ويقول: أنا الملك، أنا الملك، أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ لمن الملك اليوم؟ لمن الملك اليوم؟ لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه ملكٌ مقرب ولا نبي مرسل، فيجيب نفسه بنفسه: لله الواحد القهار. قال ابن عمر : والله إني نظرت إلى المنبر يتحرك به صلى الله عليه وسلم كاد يسقط علينا ) وهذا من قوة الأداء والتأثير؛ فهذه صرخة منه صلى الله عليه وسلم وهي صرخة الخوف من الله عز وجل، واستثارة الأمة إلى أن تعي مصيرها، وأنها واقفة مجردة محاسبة عند الله في يومٍ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.

    صرختان لأبي بكر رضي الله عنه

    وهنا لـأبي بكر رضي الله عنه صرختان لما توفي صلى الله عليه وسلم، ووشى من وشى، وتكلم من تكلم، وتحدث من تحدث، فأعلن في بيانه القاطع وصرخ وقال: [أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌ لا يموت] فكانت من أبلغ خطب التاريخ رضي الله عنه وأرضاه.

    ويقول على المنبر: [والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه].

    صرخة العلماء

    يقول أهل العلم: إن الزهري كان يعلق على الآثار والأحاديث وأقف معه وقفة، وهو عالمٌ كبير انفرد بتسعين حديثاً كلها قوية كما قال العراقي في الألفية، وهو حافظ الدنيا في عصره، أتى يعلق على الحديث فقال: [وحاشاها أن تسرق].

    ودخل على هشام بن عبد الملك وإذا علماء السوء المرتزقة -خليفة يحكم اثنتين وعشرين دولة- قد طمأنوه، فقالوا: لا تخف أيها الخليفة! فإن الله في بعض الآثار قد ذكر أنه إذا بلغ الخليفة سبعين سنة لا يحاسبه، بل يحول السيئات حسنات، فقال: سبحان الله! ما كنت أعلم هذا! فقالوا: لا. اطمئن.

    فدخل الزهري فقال هشام بن عبد الملك : أصحيحٌ -يا زهري!- أن الخليفة من أئمة المسلمين إذا بلغ السبعين حوَّل الله سيئاته حسنات، وما يكتب عليه سيئة؟ قال الزهري : كذب من حدَّثك بهذا، من حدَّثك؟ قال: بعضهم، قال: أنت أفضل أم داود عليه السلام؟ قال: داود، قال: يقول الله لداود: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص:26].

    انظر الدليل الحاضر القاطع الجازم الساطع.

    وعاد إلى هشام في جلسةٍ ثانية، وإذا بـهشام أتى بالعلماء والسيوف تبرق مثل بروق تهامة -وتعرف الدم ليس برخيص، والرءوس إذا تطايرت تطايرت -فهو يريد أن ينيخ الزهري ويبرك الزهري الراوي لفتوى جائرة- فجلس، وكان هشام ناصبياً، يبغض علي بن أبي طالب رضي الله عن علي ، فسأل مسلم بن يسار قال: يا مسلم ! سمعنا أن علي بن أبي طالب هو الذي تولى كبره، قال: لا أدري، سمعنا أنه عبد الله بن أبي ، قال: كذبت. بل الذي تولى كبره علي بن أبي طالب ، قال: أمير المؤمنين أعلم بما يقول -يعني: إذا حمي رأسي سقطت كوفيتي، ماذا يفعل؟! إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ [النحل:106]-.

    فجاء عند عالم ثاني وهو مطرف ، فقال: يا مطرف ! سمعنا أن الذي تولى كبره علي ، قال: لا. سمعنا أنه عبد الله بن أبي، قال: كذبت. الذي تولى كبره علي . قال: أمير المؤمنين أعلم.

    قال: يا زهري ! سمعنا أن الذي تولى كبره علي بن أبي طالب ، قال: الذي تولى كبره عبد الله بن أبي بن سلول ، قال: كذبت، قال: بل كذبت أنت وأبوك وجدك، والله الذي لا إله إلا هو لو نادى منادٍ أن الكذب حلال ما كذبت، لكن حدَّثني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبي ، وحدَّثني عبد الله بن هشام بن عروة ، وحدَّثني علقمة بن وقاص ، فأخذ ينتفض الخليفة ويقول: هيجناك يا زهري هيجناك -أي: أغضبناك.

    فهذه صرخات الفتوى الصادقة من علماء الملة الذين يقولون كلمة الحق في وقت الحق، في يومٍ لا ينفع إلا الحق.

    فهذه وقفة مع الزهري رحمه الله رحمةً واسعة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088536559

    عدد مرات الحفظ

    777191220