قال رحمه الله تعالى:
الفصل التاسع والخمسون: في فضل ذكر الله عز وجل، والحث عليه.
قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الأحزاب:41-42].
وقال عز وجل: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) متفقٌ عليه.
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَأَنْ أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إلي مما طلعت عليه الشمس) رواه مسلم .
وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَن قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، عشر مرات، كان كمن أعتق أربع أنفس من ولد إسماعيل) متفقٌ عليه.
فيا أخي: إن فضل ذكر الله عز وجل عظيمٌ جداً، وإن ثوابه كثير: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الأحزاب:41-42].
وقال عز وجل: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45].
فمن أراد الفلاح، والفوز بالمطلوب، والنجاة من المرهوب، فليُكْثِر من ذكر الله، وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45].
وقال سبحانه: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ... [الأحزاب:35] إلى قوله جل وعلا: ... وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الأحزاب:35]، ففي هذه الآية نكَّر سبحانه المغفرة ونكَّر الأجر؛ ليدل على عظمة هذه المغفرة وهذا الأجر، وكثرتهما.
إن بعض الصالحين لما نزل به الموت بكى، وصار يتأسف كثيراً، فقيل له: علامَ تتأسف؟! وعلامَ تبكي؟! فقال: على ليلة ما قمتُها -يعني: ما قام يصلي نافلة-، وعلى يومٍ ما صمتُه -يعني: ما صامه نافلة-، وعلى ساعة غفلتُ فيها عن ذكر الله عز وجل.
واحتُضِر بعضهم أيضاً فبكى، فقيل له: على ماذا تبكي؟! قال: على أن يصلي المصلون ولستُ منهم، ويصوم الصائمون ولستُ فيهم، ويذكر الذاكرون ولستُ معهم.
وعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يُصْبِح على كل سُلامَى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحةٍ صدقة، وكل تحميدةٍ صدقة، وكل تهليلةٍ صدقة، وكل تكبيرةٍ صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة، ونهيٌ عن المنكر صدقة، ويُجْزِئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى) رواه مسلم .
أبواب الخير كثيرة، والأعمال التي تسبب لك الخير كثيرة!
(يُصْبِح على كل سُلامَى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحةٍ صدقة ...) إذا قلت: سبحان الله؛ لك صدقة. (... وكل تحميدةٍ صدقة ...) إذا قلت: الحمد لله؛ لك صدقة. (... وكل تهليلةٍ صدقة ...) إذا قلت: لا إله إلا الله؛ لك بها صدقة. (... وكل تكبيرة صدقة ...) إذا قلت: الله أكبر؛ لك بها صدقة.
فأين الآمرون بالمعروف؟! أين الناهون عن المنكر؟! إن أرادوا الفضل العظيم! إن أرادوا ثواب الله! إن أرادوا الخيرات العظيمة؟! والنبي عليه الصلاة والسلام يقول في حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - الذي رواه مسلم : (مَن رأى منكم منكراً -و(مَن) مِن صِيَغ العموم كما يقول أهل اللغة، مَن رأى: يعني: شاهد وأبصر- مَن رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده) يعني: إن قدر على تغييره باليد وجب عليه أن يغيره باليد (فإن لم يستطع؛ فبلسانه)، إن لم يستطع تغيير المنكر باللسان فإنه يغيره بقلبه (فإن لم يستطع؛ فبقلبه)، ولا يُعْذَر أحد في تغيير المنكر بالقلب (وذلك أضعف الإيمان. وفي رواية: وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
ينبغي لك -أيها الأخ المسلم الكريم- أن تغير المنكر حسب قدرتك واستطاعتك؛ ليقلَّ الشر، ويكثُرَ الخير!
إذا رأيتَ من لا يصلي والناس في المساجد يصلون، فعليك أن تأمره بفعل الصلاة، وتحذِّره من تركها.
إذا رأيتَ من يتعامل بالربا، فعليك أن تحذِّره من الربا، وأن تبيِّن له أضراره، ومفاسده، وعواقبه، تبيِّن له أن الربا عارٌ، ونارٌ، ودمارٌ، وخسار.
إذا رأيتَ مَن يستمع الغناء، والمزامير، والألحان، فإنه يجب عليك أن تأمره بتركها، والابتعاد عنها، وتبيِّن له أضرارَ الغناء، ومفاسدَه، وشرورَه، وعواقبَه الوخيمة.
إذا رأيتَ مَن يطفِّف في المكاييل، والموازين، والمقاييس، فعليك أن تحذِّره من تطفيف المكاييل، والموازين، والمقاييس، وتبيِّن له هذه الأضرار التي تنتج عن هذا.
وهكذا إذا رأيتَ منكراً من المنكرات فعليك أن تغيِّره حسب القدرة والاستطاعة.
لكن -يا أخي- ينبغي أن يكون باللين، واللطف، والرفق، حتى يقبل الداعي، وحتى يقبل المنهيُّ كلامَك، ويَمْتَثِل.
والمقصود -أيها الأخ الكريم-: أن الأمر بالمعروف صدقة، وأن النهي عن المنكر صدقة، وإذا لم يتيسر لك ذلك كله، فإنه يجزئ من ذلك ركعتان تركعهما من الضحى، يعني: في وقت الضحى.
فاحرص -رحمك الله- على فعل الخير ما دمتَ قادراً مستطيعاً قبل أن يُحال بينك وبينه، عليك أن تكون دائماً في طاعة ربك جل وعلا، وابتغاء مرضاته.
وهذا جهاد واجتهاد في الذكر، فهي ما زالت رضي الله تعالى عنها في مصلاها تذكر ربها، وتسبح ربها، وتحمد ربها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد قلتُ بعدَكِ أربع كلماتٍ ثلاث مراتٍ، لو وُزِنَت بما قلتِ منذ اليوم لوَزَنَتْهُنَّ: سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزِنة عرشه، ومداد كلماته) رواه مسلم.
وفي رواية له: (سبحان الله عدد خلقه، سبحانه الله رضا نفسه، سبحان الله زِنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته).
هذا الذكر يسمى الذكر المضاعف، يقول النبي عليه الصلاة والسلام لـجويرية بنت الحارث أم المؤمنين - رضي الله عنها -: (لقد قلتُ بعدَكِ أربع كلماتٍِ ثلاث مراتٍ، لو وُزِنَتْ بما قلتِ منذ اليوم لَوَزَنَتْهُنَّ: سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزِنة عرشه، ومداد كلماته)، كلماتٌ يسيرة، لا تستغرق وقتاً طويلاً، وثوابها عظيمٌ جداً.
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقيتُ إبراهيم صلى الله عليه وسلم ليلة أسري بي، فقال: يا محمد! أقرئ أمتك مني السلام، وأخْبِرْهُم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخيرٍ لكم من إنفاق الذهب والفضة، وخيرٍ لكم من أن تَلقَوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى، قال: ذكر الله تعالى) رواه الترمذي ، قال الحاكم أبو عبد الله : إسناده صحيح.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام الصادق الناصح الأمين: (ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخيرٍ لكم من إنفاق الذهب والفضة، وخيرٍ لكم من أن تَلقَوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى، قال: ذكر الله تعالى) فضلٌ عظيم أيها الإخوان! ذكر الله أفضل من إنفاق الذهب والفضة، وخير من أن يلقى الإنسان عدوه فيضرب عنقه.
وهذا الذكر يتيسر وأنت جالس، وأنت قائم، وأنت في عملك، وأنت في المسجد، وأنت في بيتك، وأنت في مكتبك، وأنت في مزرعتك، وأنت في وظيفتك، فاحمدِ الله الذي سهَّل لك ويسر لك ذلك.
أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ [الرعد:28-29].
بذكر الله تنشرح الصدور، وتطمئن القلوب، وتزول الهموم، والغموم، والمصائب، والآفات، والشدائد، والكروب، ويحصل به المطلوب، والقرب من علام الغيوب.
وذكر الله يكون بالقلب، واللسان، والجوارح.
يكون ذكر الله بالقلب، واللسان، والجوارح، فتذكر ربك بقلبك، ولسانك، وجوارحك.
وكن ذاكراً لله في كل حالـةٍ فليس لذكر الله وقتٌ مقيدُ |
فذكر إله الـعرش سراً ومعلَناً يزيل الشقا والهم عنك ويطردُ |
ويجلب للخيرات دنياً وآجـلاً وإن يأتك الوسواس يوماً يشرِّدُ |
وينهى الفتى عن غيبةٍ ونميمـةٍ وعن كل قولٍ للديانة يفسدُ |
وتَسْلَم أيضاً من (قيل وقال)، وتَسْلَم من أعراض المسلمين من الغيبة والنميمة، فإن شغلتَ لسانك بالخير والحق، وإلا شغَلَكَ بضده؛ بالباطل، (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله)، الذين لا تزال ألسنتهم رطبة من ذكر الله، يدخل أحدهم الجنة وهو يضحك.
النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لَأَنْ أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إلي مما طلعت عليه الشمس).
عبيد بن عمير رحمه الله يقول: تسبيحة بحمد الله في صحيفة مؤمن خيرٌ له من جبال الدنيا تجري معه ذهباً، يعني: إذا قَبِلَها الله. تسبيحة واحدة في صحيفة المؤمن خيرٌ له من جبال الدنيا تجري معه ذهباً، ومن يحصي جبال الدنيا؟! بتسبيحة واحدة يقبلها الله منك يكون لك أفضل من جبال الدنيا تجري معك ذهباً.
"وقال الآخر:
وساعة الذكر فاعلم ثروةٌ وغنى وساعة اللهو إفلاسٌ وفاقاتُ |
ساعة الذكر ثروة وغنى، وساعة اللهو إفلاس وفاقات وخسارة، ذهبت عليك، (ما من قومٍ يجتمعون ويقومون على غير ذكر الله إلا قاموا عن مثل جيفة حمار)، أو كما ورد، (ما من قومٍ يجلسون مجلساً ولم يذكروا الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار) أو كما ورد.
وقال آخر:
وأكثر ذكره في الأرض دومـاً لتُذْكَرَ في السماء إذا ذكرتَ" |
أكثر ذكر الله دائماً في الأرض ليذكُرَك ربك في السماء، وقد ورد في الحديث القدسي أن الله عز وجل يقول: (مَن ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي، ومَن ذكرني في ملأ - يعني: في قومٍ وجماعة - ذكرتُه في ملأ خيرٍ منهم).
وقال الآخر:
لله در السادة العُبَّادِ في كل كهف قد ثووا أوتاد |
ألوانهم تنبيك عن أحوالهم ودموعهم عن حرقة الأكبادِ |
هجروا المراقد في الظلام لربهم واستبدلوا سهراً بطيب رقادِ |
لا يفتُرون إذا الدجى وافـاهمُ من كثرة الأذكار والأورادِ |
ورأوا علامات الرحيل فبادروا تحصيل ما التمسوا من الأزوادِ |
فإذا استمال قلوبَهم داعي الهوى ذكروا البِلَى في ظلمة الألحادِ |
نظروا إلى الدنيا تفر بأهلها بوصالها، وتكر بالإبعادِ |
فتجنبوها عفةً وتزهداً وتزودوا من صالح الأجوادِ |
ومضوا على منهاج صحب نبيهم فنجوا غداً مِن هول يوم معادِ |
اشتغل الناس بدنياهم؛ ببيعهم، وشرائهم، وأخذهم وعطائهم، وتجاراتهم، وهم اشتغلوا بذكر محبوبهم، ذِكْرُ الله ألهاهم عن كل ذلك، وعن كل شيء.
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:191].
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [النور:36-37] يخافون يوم القيامة.. يخافون يوم الشدة.. يخافون يوم الفزع.. يخافون يوم الصَّعْق.. يخافون يوم الأهوال.. يخافون يوم قيام الساعة.. يخافون يوماً تُبَرَّز فيه جهنم.. يخافون يوماً تُبْلَى فيه السرائر.. يخافون يوماً يوضع الصراط على متن جهنم.. يخافون يوماً توضع فيه الموازين.. يخافون يوماً يؤتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام.. يخافون يوماً يشيب مِِن هوله الولدان.. يخافون يوماً تكثُر فيه الأحزان.. يخافون هذا اليوم، فاشتغلوا بذكر الله، وعزفت نفوسهم عن الدنيا، لا يأخذون منها إلا الاضطرار، الناس في دنياهم وهم في ذكر ربهم جل وعلا، ألهاهم ذكر ربهم عن كل شيء، فيا سعادتهم! ويا فوزهم! ويا فلاحهم إذا قدموا على الله عز وجل!
يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:191] اكتفوا من الليل بيسير النوم.
تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:16-17].
وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً [الفرقان:64].
كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17-18].
يأتي أحدهم إلى فراشه فيضع يده عليه ويقول: والله إنك لَلَيِّن، وإن فراش الجنة لَأَلْيَن منك فيطوي فراشه ويقوم يصلي، يحبون الراحة، ويحبون النوم، كما نحب الراحة والنوم، ولكنهم يفضلون طاعة الله، يريدون الراحة الكبرى، ولذلك لَمَّا تعبد عُتْبة الغلام ، كان لا يهنأ بطعامٍ ولا شرابٍ ولا منام، فتقول له أمه: يا بني! ارفق بنفسك، فيقول: يا أماه! الرفق أطلب، دعيني أتعب قليلاً، أسترح طويلاً.
إن لذة الراحة لا تنال بالراحة، مَن جَدَّ وَجَدَ، ومَن زَرَعَ حَصَدَ، أيُّ مطلوبٍ نِيْلَ من غير مشقة؟! ومَن طلب العلا سهر الليالي.
عباد الله: اغتنموا هذه الأيام وهذه الليالي، املئوا صحائفكم بالخيرات، فإن صحائفكم ستنشر علانية على رءوس الخلائق يوم القيامة، فاحرصوا -رحمكم الله- على أن تكون صحائفُكم يوم القيامة بيضاء، فيها الخيرات، وفيها السرور، وفيها الفرح، وفيها الفوز، وفيها الحسنات، واحذروا من أن تكون الصحائف بضد ذلك.
يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:191] اكتفوا من الليل بيسير النوم.
اكتفوا من الليل بيسير النوم، لا ينامون إلا قليلاً: كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [الذاريات:17]، كان بعضهم يقول: إن ذكر جهنم لا يدعني أنام.
يتذكرون النار، وزفيرها، وأغلالها، وأنكالها، وسلاسلها، وحياتها، وعقاربها، وغسلينها، وزقومها، وأهوالها، فتهون عليهم طاعة الله.
ويتذكرون الجنة، ونعيمها، وحورها، وغرفها، وخيامها، وقبابها، وقصورها، وبساتينها، وأشجارها، وأنهارها، فتشتاق نفوسهم إلى ذلك.
كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [الذاريات:17].
لبسوا ثياب السفر، ورحلوا على أسوار السهر، فلو سمعتم وقت السحر تَرَنُّمَ طروبين.
يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:191]، تناولوا كئوس الدمع يتجرعون، فلو رأيتهم في طريق الخضوع يتضرعون، والقوم يقلقون، ويضرعون إلى ربهم ليستر عيوبهم.
يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:191]، يعتذرون من زلل القدم، ويتمنون بعد الوجود العدم.
مع اجتهادهم في الطاعة، وابتعادهم عن المعصية مع ذلك يتمنون بعد الوجود العدم، مع الطاعة، والاجتهاد، والخوف من الله، وسَهَر الليل في طاعة الله يتمنون أنهم ما خُلِقوا.
كان بعضهم يقول: ليتني كنت تِبْنَة.
وبعضهم يقول: ليتني شجرة أكلتني ناقة، ولم أكابد الحساب.
وبعضهم يقول: ليتني كنت نسياً منسياً.
وبعضهم يرى طائراً قد وقع على شجرة فيقول: هنيئاً لك يا طائر! تَرِدُ الماء، وتأكل من الثمر، ولا حساب عليك غداً، يا ليت أبا بكر مثلك، وذلك مع اجتهاده في الطاعة.
فيا إخواني: أكثروا من ذكر الله لتَعْمُر قلوبُكم، وتنشرح صدورُكم، أكثروا من ذكر الله لتزولَ الشدائد والمصائب والهموم والغموم.
" يعتذرون من زلل القدم، ويتمنون بعد الوجود العدم، وقد بعثوا رسالة الندم مع مندوبهم، يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:191] رحمة الله عليهم.
هكذا كانوا يعرفون قدر الدنيا وقدر الآخرة، فصار لهم الأثر الطيب، والذكر الحسن.
فيا إخواني: إن ذكر الله لذة لقلوب العارفين، به تنشرح الصدور، وتطمئن القلوب، فأكثروا من ذكر الله، ولا تملوا من ذكر الله، فإنه غنيمة وأي غنيمة، ذكر الله جل وعلا مطردة للشياطين.
وأكثر ذكره في الأرض دومـاً لتذكر في السماء إذا ذكرتَ |
قراءة القرآن هذه ذكرٌ لله، بل أعظم الأذكار قراءة القرآن، والتسبيح، والتهليل، والاستغفار.
فعليكم -أيها الإخوان- بالإكثار من ذكر الله، فإن من أكثر من ذكر الله برئ من النفاق، فإن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، إن الحشرات والحيوانات بل والجمادات تسبح الله: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً [الإسراء:44].
لا يا أخي! اجعل في بيتك ذكر الله، اجعل في بيتك (قال الله، وقال رسوله، وقال الصحابة)، لا تجعل بيتك -يا أخي- مأوىً للشياطين، لا تفسد بيتك، لا تخرب بيتك بيدك، اسعَ -رحِمَك الله- في صلاح أهلك وأولادك على قدر الاستطاعة، لماذا تدخل التلفاز، وأعظم من ذلك الدش؟! لماذا يا أخي؟! لماذا وقد هداك الله؟! لماذا وأنت تعرف قيمة الوقت، وثمن الوقت، وأن الحياة قليلة؟ فاتقِ الله هداك الله، وراقب الله.
اللهم أعنا على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك، يا رب العالمين!
اللهم أصلح أولادنا، ونساءنا، يا أرحم الراحمين!
اللهم أصلح إمام المسلمين، وارزقه الجلساء الصالحين الناصحين، يا ذا الجلال والإكرام!
واغفر اللهم لنا، ولوالدِينا، ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين!
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر