يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عن ابن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا). رواه مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين) المقسطون: هم العادلون كما فسرها صلى الله عليه وسلم في نفس الحديث، فبدأ الحديث بقوله: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور)، ثم قال في آخره: (الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)، ففسرها في آخر الحديث بأن المقصود بـ(المقسطين): العادلون، والإقساط والقسط: العدل، يقال: أقسط إقساطاً إذا عدل، ومنه قوله تبارك وتعالى: وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9]. وأما بفتح الياء وكسر السين قسط يقسط قسوطاً وقسطاً فهو قاسط وهم قاسطون فيعني الجائرون الظالمون، أما المقسطون فالعادلون، ومنه قوله تبارك وتعالى: وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً [الجن:15] يعني: وأما الجائرون الظالمون (فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً)، فقوله: (إن المقسطين -يعني: العادلين- عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن) يعني: يجلسون على منابر، وسمي المنبر بهذا الاسم لارتفاعه، فهم على منابر حقيقة، ومنازلهم رفيعة عن يمين الرحمن عز وجل، وهذا الحديث من أحاديث الصفات التي يسلك فيها مسلك السلف الصالح، ونقول فيها: نؤمن بالله وبما جاء من عند الله، على مراد الله عز وجل، ونؤمن بهذه الصفات أن لها حقيقة، وإن كنا لا يمكن أن ندرك كيفية اتصاف الله تبارك وتعالى بها، فهذه صفات الله عز وجل تعرف بها إلينا، وما علينا إلا أن نثبتها كما أراد الله، وبلا كيف، مثل قوله تبارك وتعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، فأثبت صفة السمع والبصر، وفي نفس الوقت رفع علم الكيفية وقال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) يعني: ليس كالله شيء.
فأي شيء من آيات أو أحاديث الصفات مهما حاولت أن تجتهد، أو تصل بعقلك إلى تخيل صورة لها، فلابد أن تقطع حتماً أن الله عز وجل على خلاف هذه الصورة التي يمكن أن تتخيلها، فكل ما تتخيله فالله جل وعلا بخلافه، فإذا قال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فليس كالله تبارك وتعالى شيء، فلا يعلم كيف هو إلا هو تبارك وتعالى، فلذلك علينا أن نيئس تماماً وأن نيئس العقول ألا تطمح أبداً في أن تعرف كيفية اتصاف الله تبارك وتعالى بهذه الصفات، ثم نحن لا نشبه الله بخلقه، وفي نفس الوقت لا نعقل صفات الله تبارك وتعالى.
بعض الناس إذا سمعوا نصوصاً في صفات الرب عز وجل تبادر إلى ذهنهم المعنى الذي يليق بالمخلوقين، فيستبشعونه فيقعون في التشبيه أولاً، ويترتب على التشبيه أن يستبشعوا هذا الوصف، فالبتالي يلجئون ويفرون إلى التعطيل، فينفون صفات الله تبارك وتعالى، ولو أنهم من البداية ما شبهوا لما وقعوا في الورطة الثانية، وهي ورطة التعطيل، أما السلفيون الموحدون فإنهم يقولون كما قال سلفهم الصالح: آمنا بالله، وبما جاء من عند الله، على مراد الله، ونحن نقول أيضاً كما قالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف.
تنبيه: جاءت وصف الله تبارك وتعالى باليمين كما في قوله تبارك وتعالى: وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]، وفي هذا الحديث يقول: (وكلتا يديه يمين)، وهذا تنبيه على أن اتصاف الله تبارك وتعالى بهذه الصفة لا كاتصاف المخلوقين، بل كلتا يديه تبارك وتعالى يمين، فيده لا تشبه صفات المخلوقين التي تستحيل في حق الرب عز وجل.
(الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا) هذا الجزاء، وهذا الفضل العظيم، وهو أن يتبوأ هؤلاء المقسطون منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وحتى ينال الإنسان هذه الفضيلة فلابد أن يتصف بصفة العدل.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله -جعل أولهم- إمام عادل) فكل ما تقلده الإنسان يجب أن يعدل فيه؛ من خلافة أو إمارة أو قضاء أو حسبة أو نظر على يتيم أو صدقة أو وصف، وأيضاً فيما يلزمه من حقوق أهله وعياله ونحو ذلك كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله سائل كل راع عما استرعاه، حتى ليسأل الرجل عن أهل بيته) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وقال: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته).
الشاهد: أن من اتصف بصفة العدل وعمل بها فيما يتولاه من أمور؛ فإن جزاءه عند الله ما ورد في هذا الحديث الذي رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا). هذا العدل الذي نوه به هذا الحديث، ووعد عليه هذا التشريف والتعظيم، لا يقتصر فقط على الإمارة أو الخلافة، أو ولاية الرجل أهله، والمدير مع موظفيه وهكذا، وإنما ينبغي أن يتصف به الإنسان في كل شيء حتى في حكمه على الأمور، وتقويمه للناس ولمنازلهم، وحكمه على الأفكار والمؤلفات والشيوخ، وهكذا ينبغي أن يتصف الإنسان بالعدل كما أمر الله تبارك وتعالى في قوله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة:8] فهذه الآية توضح منهجاً عظيماً يجعل العدل لازماً أصيلاً من لوازم الإيمان؛ فقد بدأ الخطاب في الآية بمخاطبة المؤمنين.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فأمور الناس إنما تستقيم في الدنيا مع العدل الذي قد يكون فيه الاشتراك في بعض أنواع الإثم، أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم يشترك فيها إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام، وذلك أن العدل نظام كل شيء؛ فإذا أقيم نظام الدنيا بالعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الدين من خلاق، ومتى لم تقم بالعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة.
هذا قانون من قوانين وسنن الله في هذه الحياة الدنيا: أن الدولة التي تقوم على العدل فإنها تمكن ويقوم أمرها، والدولة التي تقوم على الظلم -حتى لو كانت مسلمة- فإنه لا يقوم لها أمر، وإن كانت تجازى بالإسلام في الآخرة.
ونحن نحتاج أيضاً إلى العدل والإنصاف حينما نرجع إلى منهج السلف الصالح لنزن الأمور كلها بالميزان القسط، حيث أصبحت الأهواء اليوم هي التي تتحكم بالآراء والتوجهات، حتى أن الإنسان قد يتغاضى عن أخطاء من يحبهم وإن كانت كبيرة، ويسوغها ويلتمس لها المعاذير، بل قد تتحول هذه الأخطاء إلى محاسن في نظره، ويجعل محبوبه في أعلى المنازل؛ ولا يقبل فيه نقداً أو مراجعة، وفي المقابل تراه إذا أبغض أحداً لهوىً في نفسه، أو تقليداً لغيره؛ جرده من جميع الفضائل، ولم ينظر إلا إلى سيئاته وزلاته، فيفخمها وينسى أو يتناسى محاسنه الأخرى مهما كانت بينة، فالاضطراب ليس فقط في تقويم الرجال بل أيضاً في عالم المؤلفات والمصنفات، ترى بعض الناس إذا رأى خللاً في كتاب ما رمى به عرض الحائط، أو إذا رأى شيخاً زل في مسألة فلا يعرف هذا الشيخ إلا بهذه الزلة، كأنه ليست له محاسن على الإطلاق، ولا يقبل منه أي شيء، ويقول: الشيخ صاحب البدعة الفلانية. الشيخ سالك الخطأ الفلاني في الكتاب الفلاني. ولا يلتفت إلى أنه ينبغي أن يلتزم بقوله عز وجل: كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ [المائدة:8].
فعامل الهوى وغيره من العوامل تجعل الإنسان يميل وينحرف عن ميزان العدل، وميزان القسط، فبعض الناس إذا رأى خللاً في كتاب من الكتب رمى به عرض الحائط، وشن على مؤلفه وعلى من اقتناه أو قرأه غاره، وهو في ذلك مغفل إغفالاً شديداً الجوانب الإيجابية التي قدمها صاحبه. أما إذا كان هذا الكتاب لأحد ممن ينتمي إلى حزبه مثلاً، أو إذا كان مرضياً عنده؛ فإنه يرفع الكتاب فوق منزلته، ويغض الطرف عن زلل المؤلف أو تقصيره؛ ظناً منه بأنه إن اعترف بوجود بعض جوانب النقص في هذا الكتاب فإن هذا يحط من قيمة صاحبه، أو يقلل من شأنه، وقد قيل:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا
لم يقف الخلل الفكري والقصور المنهجي عند هذا الحد، بل تعداه إلى ما هو أعظم من التنازع والتقاطع والبغي، فتفرقت كلمة المسلمين في الوقت الذي يحتاجون فيه إلى الترابط والتآلف أمام أعدائهم، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في الوصية الكبرى: وإذا تفرق القوم فسدوا، وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا، فإن الجماعة رحمة، والفرقة عذاب.
والاضطراب صفة مميزة لأهل البدع الذين ينحرفون عن ميزان أهل السنة والجماعة.
يقول شيخ الإسلام وهو يتحدث عن أصحاب المقالات: فإن أكثرهم -يعني: أصحاب البدع والمقالات- قد صار لهم في ذلك هوى أن ينتصر جاهلهم أو رياستهم على ما نسب إليهم، ولا يقصدون أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، بل يغضبون على من خالفهم وإن كان مجتهداً معذوراً لا يغضب الله عليه، ويرضون عمن يوافقهم وإن كان جاهلاً سيئ القصد ليس له علم ولا حسن قصد، فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويذموا من لم يذمه الله ورسوله، وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء أنفسهم لا على دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا حال الكفار الذين لا يطلبون إلا أهواءهم، ويقولون: هذا صديقنا وهذا عدونا، لا ينظرون إلى موالاة الله ورسوله، ومعاداة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن هنا تنشأ الفتن بين الناس. انتهى كلام شيخ الإسلام .
فينبغي التثبت تماماً مع من لا تحب كما تتثبت في حق من تحب، وحسن الظن بالمسلمين واجب، فكل المسلمين سواء من هؤلاء أو هؤلاء ينبغي أن تنضبط بميزان العدل معهم، بعض الناس تراه يجرح ويعدل ويخطئ ويصوب قبل أن يستوعب الأمر، وقيل: أن يجمع أطرافه ويدرسه من جميع جوانبه، فيغلب على أحكامه الجور وعدم القسط، وحينما تتفلت الألسنة من قيود الشرع والعقل فإنها تتبارى في الوقيعة في أعراض المسلمين، وتجلب العداوة والبغضاء بين الأحباب، ولو تأمل الإنسان ما ورد في مثل هذا من النصوص لتردد كثيراً قبل أن يزل لسانه ليرمي به من هنا ومن هناك، يقول الله تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، فيا ويح غافل وليس بمغفول عنه! (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ)، ولو أنك بكل ذنب ترتكبه بلسانك رميت حجراً في غرفة لامتلأت هذه الغرفة في زمن يسير جداً بالأحجار؛ بحيث لا تتسع بعدها لشيء آخر، فالإنسان في غفلة عن هذا الذي يحصى عليه كل يوم، (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)، وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ فقلت: بلى يا نبي الله، فأخذ بلسانه فقال: كف عليك هذا، فقلت: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا
من أجل ذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم الضمان الذي يؤمن لك دخول الجنة هو حفظ اللسان، يقول صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة).
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ومن العجب! أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر ومن النظر المحرم وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى يرى الرجل يشار إليه بالدين وبالزهد وبالعبادة وهو يتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يزل بها أبعد مما بين المشرق والمغرب.
وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات ولا يبالي بما يقول، وتزداد الخطورة ويعظم الذنب إذا كان هذا القدح الجائر في العلماء، فهم سادة الأمة وقادتها ونورها، ولا خير في قوم لا يعرفون لعلمائهم قدرهم.
وفي هذا الزمان قد ابتلينا بهذه الجماعات التي تبدأ تعرض وتزين وتزخرف فكرها للآخرين ليقبلوا عليه، وأول ما يهتمون به هو تحطيم علماء المسلمين في نظر الشباب، وأكل لحوم العلماء بالغيبة والنميمة والبهتان أحياناً، والتنقص من شأنهم، والازدراء لهم، والتطاول عليهم، وهذا من أعظم الذنوب، والله عز وجل يعجل لفاعله العقوبة؛ لأن الطعن في علماء المسلمين ذنب عظيم، يقول الحافظ ابن عساكر رحمه الله: اعلم أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك ستر منتقصيهم معلومة. فعادة الله وسنته جرت أن كل من يتناول ويقع في أعراض علماء المسلمين فإن الله سبحانه وتعالى جرت سنته أنه لابد أن يهتك ستر من هتك ستر أئمة العلم والهدى، فقوله: اعلم أن لحوم العلماء مسمومة. يعني: من أكل منها هلك ومات، وأهلكه الله تبارك وتعالى، يعني: من أكل منها بالغيبة والنميمة؛ فلا ينبغي أبداً أن يقر أحد على التطاول على علماء المسلمين، أو هتك أعراضهم، أو الخوض فيهم بغير حق، بل ينبغي أن تحمل أقوال العلماء وأفعالهم على أحسن وجه ممكن، ويجتهد الإنسان في ذلك، وهو مثاب على هذا الاجتهاد وإن أخطأ.
الإمام ابن ناصر الدين الدمشقي رحمه الله تعالى له كتاب (الرد الوافر)، وقد طبع الكتاب الشيخ زهير جزاه الله خيراً، وكأنه تعمد ألا يكمل عنوان الكتاب على الغلاف؛ لأن هذا الكتاب هو في على العلاء البخاري الذي تطاول على شيخ الإسلام ابن تيمية ، وقال: إن من قال: ابن تيمية شيخ الإسلام فهو كافر! فرد الإمام ابن ناصر الدين عليه بهذا الكتاب القيم جداً، والذي لا يليق بكم ألا تقرءوه، والعنوان هو: الرد الوافر على من قال: من سمى ابن تيمية شيخ الإسلام فهو كافر! فمراعاة لحرمة شيخ الإسلام ما أتم الشيخ زهير طبع العنوان على الغلاف، لكن سماه فقط الرد الوافر، ويقول الإمام ابن ناصر الدين الدمشقي رحمه الله تعالى في هذا الكتاب: لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة، ومن وقع فيهم بالسلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب، فأعراض المسلمين حفرة من حفر الناس، ومن وضع قدمه في أعراض المسلمين فقد وضعها على شفا جرف هار يخشى أن ينهار به في نار جهنم، وكما قال أحد الحكماء:
يموت الفتى من عثرة بلسانه وليس يموت المرء من عثرة الرجل
فعثرته من فيه ترمي برأسه وعثرته في الرجل تبرى على مهل
إذاً: العلاج الأول للجور في الحكم على الآخرين: ورع اللسان، والخوف من الله تبارك وتعالى، وخوف العقوبة من التطاول بغير حق في أعراض العلماء.
فلذا كان التجرد في التقويم من الأسباب المهمة التي تجعل الحكم صواباً أو قريباً من الصواب، ومثال عدم التجرد: حينما أسلم عبد الله بن سلام رضي الله عنه، لقي النبي صلى الله عليه وسلم اليهود فقال لهم: (أي رجل
يقول الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135] فالهوى من الأنواع الخفية التي تتسلل إلى قلب المرء تدريجياً حتى تسيطر عليه من حيث لا يشعر، فهو باب عريض من أبواب الضلال يجثم على صدر الإنسان، ولا يولد إلا الجور والظلم في أحكام المرء، يقول تبارك وتعالى مخاطباً نبيه داود عليه السلام: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص:26]، ويقول صلى الله عليه وسلم: (تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير القلوب على قلبين: أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة مادامت السماوات والأرض، وآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه) والقرآن دائماً يأتي بالوحي في مقابلة الهوى كما في هذه الآية: فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى [ص:26].
ويقول أيضاً: وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:119]، ويقول عز وجل: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ [القصص:50]، ويقول تبارك وتعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4]، لذلك كان السلف الصالح رحمهم الله يسمون أهل البدع والتفرق الذين يخالفون الكتاب والسنة: أهل الأهواء؛ لأنهم قبلوا ما أحبوه، وردوا ما أبغضوه بأهوائهم بغير هدىً من الله.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه، فلا يحب لحب الله ورسوله في ذلك، ولا يرضى لرضى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه، ويغضب إذا ما حصل ما يغضب له بهواه، ويكون مع ذلك معه شبهة دين: أن الذي يرضى له ويغضب له أنه السنة، وأنه الحق وهو الدين، فإذا قدر أن الذي معه هو الحق المحض لدين الإسلام، ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، بل قصده الحمية لنفسه وطائفته، أو الرياء ليعظم هو ويثنى عليه، أو فعل ذلك شجاعة؛ فليس مجاهداً في سبيل الله. يعني: أنه ممكن أن يوافق الحق ويتحمس له، لا لأن البحث المتجرد أدى إلى أن هذا حق، لكن لأن الطائفة التي ينتمي إليها يقولون بهذا القول، ولأن من يحيطون به يقولون بهذا القول، أو ينتصر للحق ليثنى عليه به، ولا يقول ذلك خالصاً لله بل لغرض من الدنيا، فهذا ليس مجاهداً في سبيل الله، ولا يفعل هذا لله، لكن يرى الحمية لطائفته التي ينتمي إليها، أو الحزب الذي ينتمي إليه، أو ليقال عنه: شجاع أو جريء، أو عالم، أو لينال غرضاً من الدنيا؛ فهذا ليس عاملاً لله، وليس مجاهداً في سبيل الله، وإن كان يدافع عن حق، فكيف إذا كان الذي يدعي الحق والسنة هو نظيره أيضاً معه حق وباطل وسنة وبدعة، ومع خصمه حق وباطل وسنة وبدعة، فالمقصود: أن التجرد بالقول والعمل وسلامة القصد، مقصد مهم في تقويم الرجال وأعمالهم، فينبغي أن يقصد بالبحث أو الكلام وجه الله عز وجل، والنصيحة للمسلمين، كما قال عز وجل: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5].
وينبه شيخ الإسلام أيضاً تنبيهاً مهماً جداً إلى أمر النية في ذلك فيقول رحمه الله: وهكذا الرد على أهل البدع من الرافضة وغيرهم، إن لم يقصد منه بيان الحق، وهدي الخلق ورحمتهم والإحسان إليهم، لم يكن عملهم صالحاً، وإذا غلظ في ذم بدعة ومعصية كان قصده بيان ما فيها من الفساد ليحذرها العباد، كما في نصوص الوعيد وغيرها، وقد يهجر الرجل عقوبةً وتعزيراً، والمقصود بذلك ردعه وردع أمثاله للرحمة والإحسان لا للتشفي والانتقام.
فالهجرة المقصود منها معالجة هذا الشخص، وزجره عن المعصية أو الباطل أو البدع، وليس المقصود منها التشفي منه، وإنما المقصود الإحسان إليه بهجره لينبذ هذا الضلال، كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الثلاثة الذين خلفوا لما جاء المتخلفون عن الغزاة يعتذرون ويحلفون وكانوا يكذبون، وهؤلاء الثلاثة صدقوا وعوقبوا بالهجر، ثم تاب الله عليهم ببركة الصدق.
وقال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: وعلى المتكلم في هذا الباب وغيره أن يكون مصدر كلامه عن العلم بالحق، وغايته النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولإخوانه المسلمين، وإن جعل الحق تبعاً للهوى فسد القلب والعمل والحال والطريق، قال تعالى: وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [المؤمنون:71]، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به). فالعلم والعدل أصل كل خير، والظلم والجهل أصل كل شر، والله تبارك وتعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، وأمره أن يعدل بين الطوائف ولا يتبع هوى أحد منهم، فقال سبحانه: فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [الشورى:15].
يقول الإمام الفذ ابن ناصر الدين الدمشقي رحمه الله تعالى: هيهات هيهات؛ إن في مجال الكلام في الرجال عقبات، مرتقيها على خطر، ومرتقبها هوى لا منجى له من الإثم ولا وزر، فلو حاسب نفسه الرامي أخاه ما السبب الذي هاج ذلك، لتحقق أنه الهوى الذي صاحبه هالك. وقديماً كان سلفنا الكرام رضي الله عنهم يقولون: احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا أعمته دنياه.
وقال الشوكاني رحمه الله في التقليد: هو قبول رأي من لا تقوم به الحجة بلا حجة، فثمرة التقليد إهمال النصوص الشرعية، وتعطيل العقل البشري، فالإنسان يرى بعين غيره بدون معرفة دليله، ولسان حاله يقول: إن إمامه قد اقتبس شعلة من نور العصمة، فلا يمكن أن يفوته حديث، ولا يمكن أن يفوته فهم حديث؛ فيصبح فكر الإنسان أسيراً لا حراك به، ليس له قدرة على التأمل أو التفكير أو النظر، وإن وجد فيه بقية من تأمل أو فكر فإنه يسخرها لتحليل أقوال شيخه ودراستها، فمنها المبدأ وإليها المنتهى!
كثير من النزاعات والخلافات التي تحدث بين العلماء وبين طلبة العلم قديماً وحديثاً حصلت بسبب هذا التقليد، والتعصب لأقوال الرجال، ومعرفة الحق عن طريق أقوال الرجال، وجعلها حجة في كل صغيرة وكبيرة.
يقول الإمام ابن القيم : اتخاذ أقوال رجل بعينه بمنزلة نصوص الشارع لا يلتفت إلى قول من سواه، بل ولا إلى نصوص الشارع إلا إذا وافقت نصوص قوله، فهذا والله هو الذي أجمعت الأمة على أنه محرم في دين الله، ولم يظهر في الأمة إلا بعد انقراض القرون الفاضلة.
فمسألة التقليد والتعصب لأقوال الرجال خطأ كامن وخطير جداً في منهج التلقي، فينبغي تجاوز أقوال الرجال، والتحرر من هذا الداء العضال إلى تقديم قول الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وما يعلم أحد من الأئمة الربانيين إلا وقد نهى عن تقليده، وأخذ كلامه بدون برهان، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً، إن آمن آمن وإن كفر كفر، فإنه لا أسوة في الشر. ربيعة شيخ الإمام مالك يعرف بـ: ربيعة الرأي ، واسم أبيه فروخ ، خرج هذا الأب إلى الجهاد وبقي سنوات طويلة، وكان ربيعة ما يزال حملاً في بطن أمه، ثم ولدته أمه وعلمته حتى صار إماماً، وقصته طويلة معروفة، يقول سفيان بن عيينة رحمه الله: اضطجع ربيعة مقنعاً رأسه وبكى، فقيل له: ما يبكيك؟! فقال: رياء ظاهر، وشهوة خفية، والناس عند علمائهم كالصبيان في حجور أمهاتهم، ما نهوهم عنه انتهوا، وما أمروهم به ائتمروا! يعني: يتحسر لحال بعض العلماء لاتصافهم بالرياء الظاهر، والشهوة الخفية، وأن الناس عند علمائهم كالصبيان في حجور أمهاتهم، والعلماء هم الذين يتولون صياغتهم وتربيتهم.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يحل لمن يفتي من كتبي أن يفتي حتى يعلم من أين قلت.
وقال مالك بن أنس رحمه الله: إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه.
وبعض تلامذة الإمام مالك كان يحضر مجلسه في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر عن الإمام مالك أنه إذا تكلم وناظره أحد في مسألة وناقشه في الدليل، فكان يرفع صوته بهذه العبارة المشهورة: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر، ويضع يده على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقال الشافعي رحمه الله: ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه، فمهما قلت من قول، أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت، فالقول قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قولي، وجعل يردد هذا لكلام.
وقال الإمام أحمد: من قلة علم الرجل أن يقلد دينه الرجال، وقال أيضاً: لا تقلد دينك الرجال، فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا.
فهذا هو منهج الأئمة الكرام بصفائه ونقائه، ومع وضوح هذه القضية عند أهل العلم إلا أن شريحة كبيرة من الأمة تعاني من هذا الداء المستحكم، ليس فقط في مسائل الفروع، لكن أيضاً في مسائل الأصول وأمور العقيدة.
يقول الشيخ أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى: وهذه عادة ضعفاء العقول، يعرفون الحق بالرجال لا الرجال بالحق، الحق هو حق لأن فلاناً قاله، وليس حقاً لأنه قام عليه الدليل، والعاقل يقتدي بسيد العقلاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين قال: لا تعرف الحق بالرجال، بل اعرف الحق تعرف أهله، والعاقل ينظر في القول نفسه فإن كان حقاً قبله، سواءً كان قائله مبطلاً أو محقاً، بل ربما يحرص على انتزاع الحق من أقاويل أهل الضلال عالماً بأن معدن الذهب الرغام، والرغام هو التراب، فالذهب تحصل عليه من التراب، فكذلك حتى لو كان في أقاويل أهل الضلال شيء من الحق فتأخذ هذا الحق ولا تعرض عنه. قال: ولا تأس على الصراف إذا أدخل يده في كيس القلاب. لماذا؟ لأن الصراف ناقد وبصير يستطيع أن يميز الذهب من غيره. قال: وانتزاع الإبريز الخالص من الزيت والبهرج دون الصيرفي البصير، ويمنع من ساحل البحر الأخرق دون السباح الحاذق. أي: فيمنع من الدخول في البحر الشخص الأخرق الذي لا يحسن السباحة، لكن السباح الماهر يسمح له بذلك حتى يغوص ويستجلب الدرر. قال: ويصد عن مس الحية الصبي دون المغرم البارع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فأما الصديقون والشهداء والصالحون فليسوا بمعصومين، وهذا في الذنوب المحققة، أما ما اجتهدوا فيه فتارة يصيبون وتارة يخطئون، فإذا اجتهدوا فأصابوا فلهم أجران، وإذا اجتهدوا وأخطئوا فلهم أجر على اجتهادهم، وخطؤهم مغفور لهم، وأهل الضلال يجعلون الخطأ والإثم متلازمين، فتارة يغلون فيهم ويقولون: إنهم معصومون -لأنهم لا يريدون أن يخطئوا الأئمة كما يفعل الرافضة- وتارة يجفون عنهم، ويقولون: إنهم باغون بالخطأ، وأهل العلم والإيمان لا يعصمون ولا يأثمون.
يقول الإمام ابن الأثير الجزري رحمه الله: وإنما السيد من عدت سقطاته، وأخذت غلطاته، فهي الدنيا لا يكمل فيها شيء، فالشخص النبيل هو الذي تعد أخطاؤه، وتكون معدودة، فلا يوجد إنسان بدون خطأ:
من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط
يقول ابن القيم رحمه الله: وكيف ينجو من الخطأ من خلق ظلوماً جهولاً، ولكن من عدت غلطاته أقرب إلى الصلاح ممن عدت إصاباته.
بلقيس لما كانت كافرة وقالت: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [النمل:34]، في بعض وجوه التفسير أن قولها: (وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ)، هو من عند الله عز وجل، وأنه أقر بلقيس على ما قالته وإن كانت كافرة، لكن لأن هذا حق، ولذلك يقول بعض الشعراء:
لا تحقرن الرأي وهو موافق حكم الصواب إذا أتى من ناقص
فالدر وهو أعز شيء يقتنى ما حط قيمته هوان الغائص
فمن أجل ذلك ينبغي أن يتصف الإنسان بالإنصاف.
يقول الله عز وجل وهو يذكر صفات بعض أهل الكتاب مبيناً منهج العدل والإنصاف: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمران:75] يعني: مال الأميين أو الأمميين أو الجويين -وهم كل من عادى اليهود- حلال، لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:75].
وجاء في صحيح البخاري في حديث طويل فيه قصة رجل من بني إسرائيل استقرض من صاحب له ألف دينار إلى أجل مسمى، فلما جاء الأجل التمس مركباً ليركبه ليقدم عليه للأجل الذي أجله، فلم يجد مركباً، وكان قد قال له صاحب المال: أريد شهيداً، قال: كفى بالله شهيداً، قال: أريد كفيلاً، فقال: كفى بالله كفيلاً؛ فأقره على ذلك، وأخذ منه هذا القرض، فلما أراد الرجل أن يؤدي إليه المال، وحاول أن يصل إليه بالمركب في الموعد ما استطاع، فلما عجز أتى بخشبة، وجعل فيها تجويفاً ووضع فيها الألف دينار، وصحيفة منه إلى صاحبه، ثم أصلح موضعها ولحمها، ثم انصرف وهو في ذلك يلتمس مركباً يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركباً قد جاء بماله، فوضع الآخر الخشبة في البحر، ودعا الله أن تصل إلى الرجل، فإذا بالرجل صاحب المال خرج في الموعد ينتظر المركب لأجل أن يسدد له الدين، فوقف ينتظر المركب فما رأى مركباً، وما أتى الرجل في الموعد، فحينئذ وجد الخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله كحطب يحتطب به، فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الذي كان أسلفه فأتى بالألف دينار مرة أخرى، فقال: والله! ما زلت جاهداً في طلب مركب لآتيك بمالك، فما وجدت مركباً قبل الذي جئت به، فقال: فإن الله قد أدى عنك، وبعث بالخشبة، فانصرف بالألف دينار راشداً، فهذا مثل قوله تعالى: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران:75]، فمن الإنصاف أن تصف هؤلاء بما هم فيه من خير حتى وإن كانوا أعداء.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: ويعلمون -يعني: أهل السنة- أن جنس المتكلمين أقرب إلى المعقول والمنقول من جنس الفلاسفة، وإن كان الفلاسفة قد يصيبون أحياناً، كما أن جنس المسلمين خير من جنس أهل الكتابين، وإن كان يوجد في أهل الكتاب من له عقل وصدق وأمانة لا توجد في كثير من المنتسبين إلى الإسلام، كما قال تعالى: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران:75]، فمن الإنصاف أن تصف هؤلاء حتى وإن كانوا أعداء بما هو فيهم حقيقة.
وقال الله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219] فالله سبحانه وتعالى أثبت النفع في الخمر والميسر، وهو ما يحصل من الربح المادي نتيجة التجارة فيهما، ولكنه حرمهما لغلبة مفاسدهما على هذه المنافع.
وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: (يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال: نعم، وفيه دخن) فمع أنه وصفه بأنه خير، لكن خالطه دخن، فأدرجه في جملة الخير، (قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر)، فأثبت الخيرية لبعض القوم على الرغم من وجود الدخن بينهم؛ فالعبرة بكثرة المحاسن وغلبتها.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم اسمه عبد الله ، وكان يلقب حماراً، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في شرب الخمر، فأتي به يوماً فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه! ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنوه، فوالله! ما علمت أنه يحب الله ورسوله).
كلمة: (ما)، هنا موصولة بمعنى الذي، أي: لا تلعنوه؛ فإن الذي أعلمه منه أنه يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا الصحابي رضي الله تعالى عنه زلت قدمه وتكررت منه هذه المعصية، ولكن هذا لا يعني أنه فاسد بالكلية، بحيث تهمل الصفات الحميدة الأخرى التي توجب محبته وموالاته.
فلابد أن يعرف للمحسن إحسانه، وللمسيء إساءته إتماماً للعدل والإنصاف، فلا يجوز أن يغلب جانب النظر إلى المعصية على جانب النظر إلى الطاعات وبقية الحسنات والفضائل، فهذا هو الحد الفاصل بين أهل السنة والخوارج، فالخوارج يكفرونه، ويتبرءون من فعل المعصية، ويعدونه قد خرج من الملة تماماً، ويعادونه كما يعادون الكافر، بل ربما يكونون على أهل الإسلام أشد منهم على أهل الأوثان، كما جاء في صفتهم: أنهم يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان. وهذا من شدة انحرافهم عن هذا الأصل القويم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي هريرة رضي الله عنه في حق الشيطان الذي علمه آية الكرسي لتحفظه من الشيطان إذا أراد أن ينام: (أما إنه صدقك وهو كذوب)، فانظر إلى الإنصاف؛ مع أنه شيطان، لكنه كان صادقاً في هذه الجزئية، فوصفه بالصدق مع أن الأصل فيه أنه كذاب، فأثبت الصدق للشيطان الذي ديدنه الكذب، ولم يمنع ذلك من اتباع الخير الذي دل عليه، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في ضمن فوائد هذا الحديث: ومنها: أن الحكمة قد يتلقاها الفاجر فلا ينتفع بها، وتؤخذ عنه فينتفع بها، وبأن الكذاب قد يصدق.
كذلك السلف الصالح أيضاً رسخوا وأصلوا هذا الأصل الأصيل، فمن ذلك قول سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى: ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، فمن كان فضله أكثر من نقصه، وهب نقصه لفضله يعني: من كان الخير الذي فيه أكثر من الشر الذي فيه، فيعفى عن النقص؛ لأجل غلبة الخير فيه، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (إن من المروءة جبر نقص ذوي الهيئات)، وجاء في حديث صحيح: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود) أي: الشخص الذي يعلم من غالب أحواله الاستقامة إذا زل مرة أو مرتين ما لم يكن حداً من حدود الله تغاضوا عنه، ولا تؤاخذوه به؛ لأن الغالب عليه الخير. وقال ابن المسيب: إنه ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، ومن كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله.
وقال محمد بن سيرين : ظلم لأخيك أن تذكر منه أسوأ ما تعلم، وتكتم خيره.
وقال عبد الله بن الزبير الحميدي رحمه الله: كان أحمد بن حنبل قد أقام عندنا بمكة على سفيان بن عيينة ، فقال لي ذات يوم: هاهنا رجل من قريش له بيان ومعرفة، فقلت: فمن هو؟ قال: محمد بن إدريس الشافعي ، وكان أحمد قد جالسه بالعراق، فلم يزل بي حتى اجترني إليه -حتى يحضر عنده- وكان الشافعي قبالة ميزاب الكعبة، فجلسنا إليه، ودارت مسائل، فلما قمنا قال لي أحمد بن حنبل : كيف رأيت؟ -أي: كيف رأيت الإمام الشافعي رحمه الله؟- فجعلت أتتبع ما كان أخطأ فيه. أي: جعل يذكر الأخطاء التي أخطأ فيها الإمام الشافعي في أثناء هذه المناظرة، قال: وكان ذلك مني بالقرشية -يعني: كان ذلك حسداً مني للإمام الشافعي رحمه الله تعالى- فقال لي أحمد بن حنبل : فأنت لا ترضى أن يكون رجل من قريش يكون له هذه المعرفة وهذا البيان؟ تمر مائة مسألة يخطئ في خمس منها أو عشر هل من العقل أن تترك خمسة وتسعين مسألة من الصواب، وتتمسك بخمس؟ ألا يساوي الشافعي عندك إلا هذه الأخطاء الخمسة؟! اترك ما أخطأ وخذ الصواب، فإنك في هذه الحالة تكسب.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ومما يتعلق بهذا الباب: أن يعلم أن الرجل العظيم في العلم والدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة أهل البيت وغيرهم، قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقروناً بالظن، ونوع من الهوى الخفي، فيحصل بسبب ذلك ما لا ينبغي اتباعه فيه، وإن كان من أولياء الله المتقين، مثل هذا إذا وقع يصير فتنة لطائفتين: طائفة تعظمه فتريد تصويب ذلك الفعل واتباعه عليه، وطائفة تذمه فتجعل ذلك قادحاً في ولايته وتقواه، بل في بره وكونه من أهل الجنة، بل في إيمانه حتى تخرجه عن الإيمان، وكلا هذين الطرفين فاسد، والخوارج والروافض وغيرهم من أهل الأهواء دخل عليهم الداخل من هذا، ومن سلك طريق الاعتدال عظَّم من يستحق التعظيم وأحبه ووالاه، وأعطى لذي الحق حقه، فيعظم الحق ويرحم الخلق، ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئاتٌ فيحمد ويذم، ويثاب ويعاقب، ويحب من وجه ويبغض من وجه، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافاً للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم.
ويقول شمس الدين الذهبي رحمه الله تعالى، وهو شمس وأنفس من الذهب رحمه الله: ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه واتباعه؛ يغفر له زللـه، ولا نضلله ونطرحه، وننسى محاسنه، ولا نقتدي به في بدعته وخطؤه، ونرجو له التوبة من ذلك.
وقال أيضاً في ترجمة القفال الشاشي : قال أبو الحسن الصفار : سمعت أبا سهل الصعلوكي وسئل عن تفسير أبي بكر القفال فقال: قدسه من وجه. ودنسه من وجه، أي: دنسه من جهة نصره مذهب الاعتزال قلت: قد مر موته، والكمال عزيز، وإنما يمدح العالم بكثرة ما له من الفضائل، فلا تدفن المحاسن لورطة، ولعله رجع عنها قد يغفر له في استفراغه الوسع في طلب الحق، ولا حول ولا قوة إلا بالله. انتهى كلام الإمام الذهبي .
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعاً أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالحه، وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان، قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور، بل مأجور لاجتهاده، فلا يجوز أن يتبع فيها، ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين.
وقال أيضاً الإمام ابن القيم: فلو كان كل من أخطأ أو غلط ترك جملة، وأهدرت محاسنه؛ لفسدت العلوم والصناعات والحكم، وتعطلت معالمها.
والحقيقة أن كثيراً جداً من الشباب هم محتاجون إلى التدبر في هذه القاعدة بالذات، فقد كثر فيهم تصيد الأخطاء، وتتبع العثرات، والبحث عن الهفوات، وكل ذلك مع التغافل عن الحسنات، وهذا دليل على فساد القصد، وسوء الطوية، وقلة الدين.
يقول الإمام الشعبي رحمه الله: لو أصبت تسعاً وتسعين وأخطأت واحدة، لأخذوا الواحدة وتركوا التسعة والتسعين!
وللأسف أننا نلاحظ هذا في كثير من الشباب، لما يكون عالم من الأئمة له فضل عظيم جداً في خدمة الإسلام والسنة والجهاد في سبيل الله، فبمجرد أنه أخطأ في مسألة أو مسألتين أو في بعض القضايا، فالغالب عليه الخير والاتباع، إلا أنه يشنع على هذا الإمام، ويقال: الشيخ الفلاني صاحب البدعة الفلانية، وربما أخطأ في هذه المسألة فقط، وهذه حيدة عن هذا الأصل.
يقول الإمام أبو حاتم ابن حبان وهو يصف معالم هذا المنهج: لسنا ممن يوهم الرعاع ما لا يستحله، ولا ممن يحيف بالقدح في إنسان وإن كان لنا مخالفاً، بل نعطي كل شيخ حظه مما كان فيه، ونقول في كل إنسان ما كان يستحقه من العدالة والجرح.
محاور هذا المنهج متعددة، وتفاصيلها تراجع في مظانها من كتب الحديث والمصطلح، لكن هنا إشارة عابرة إلى ثلاث مسائل حتى يتبين لنا بها مدى عدلهم وإنصافهم رحمهم الله.
المسألة الأولى: تقويم المبتدعة: فالعلماء ينظرون في الراوي إلى جهتين: جهة الضبط والإتقان، وجهة الصدق، فإذا توافرت فيه هاتان الصفتان اعتمدت رواية الراوي حتى لو كان ممن عرف تلبسه ببدعة غير مكفرة تخالف منهج السلف الصالح، وكانوا يقولون: لنا صدقه وعليه بدعته؛ لأنه عرف بالصدق، لاسيما إن كان خارجياً يعتقد أنه يكفر لو كذب، وإن كان قد وجد أيضاً كذب في الخوارج، لكن هذا في حق من قبلوه من أهل البدع إذا ثبت صدقه، فليس هذا تهوين من أمر البدع وأهلها، وإنما تعظيم للعدل، واعتراف بالحق لأهله.
يقول الإمام الطبري رحمه الله: لو كان كل من ادعي عليه مذهب من المذاهب الرديئة، ثبت عليه ما ادعي به، وسقطت عدالته، وبطلت شهادته بذلك؛ للزم ترك أكثر محدثي الأمصار؛ لأنهم ما منهم إلا وقد نسبه قوم إلى ما يرغب به عنه مجرد الاتهام. فالقدح هكذا جزافاً لا يصح، لكن ينبغي التحري والتدقيق في هذا.
ويقول الحافظ ابن حجر : فالمعتمد أن الذي ترد روايته من أنكر أمراً متواتراً من الشرع معلوماً من الدين بالضرورة، وكذا من اعتقد عكسه، فأما من لم يكن بهذه الصفة، وانضم إلى ذلك ضبطه لما يرويه مع ورعه وتقواه؛ فلا مانع من قبوله. فلذلك لا نعزب إذا رأينا بعض علماء الحديث وأئمتهم حتى البخاري نفسه قد يروي لبعض أهل البدع لتوفر هاتين الصفتين: الصدق والضبط، فهذا يدل على عظم العدل الذي اتصف به هؤلاء السلف في تقويمهم للرجال مع شدتهم على أهل البدع، وحساسيتهم في هذه المسألة.
ولذلك نجد شيخ الإسلام نفسه أحياناً كان يعترف بفضائل المبتدعة إذا ثبتت عنهم، ولا يتردد في ذلك، يقول رحمه الله: وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين من الرافضة والجهمية وغيرهم إلى بلاد الكفار؛ فأسلم على يديه خلق كثير وانتفعوا بذلك، وصاروا مسلمين مبتدعين، وهو خير من أن يكونوا كفاراً. فانظر إلى دقة فهم شيخ الإسلام ، وشدة إنصافه في هذا الباب.
نجد أيضاً في صفوف من ينتسبون إلى الدعوة الإسلامية أخذهم على بعض الجماعات أنهم ينتشرون في كل أقطار العالم كجماعة التبليغ، حتى في داخل روسيا وجنوب أفريقيا وأمريكا وأوروبا وكل العالم؛ ينتشرون للدعوة إلى الإسلام على بعض البدع التي يتلبسون بها، ولهذا يقولون: كيف يعلمون الناس إسلاماً بهذه البدع؟ فالأولى أن من يرى فهماً أصح للإسلام أن ينشط نشاطهم ويتحرك حركتهم، لكن مع الكسل نتفرغ فقط للرثاء لحال هؤلاء الذين يسلمون على أيديهم، وهذا كلام شيخ الإسلام يقول: وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين من الرافضة والجهمية وغيرهم إلى بلاد الكفار، فأسلم على يديه خلق كثير، وانتفعوا بذلك، وصاروا مسلمين مبتدعين، وهو خير من أن يكونوا كفاراً، وكذلك بعض الملوك قد يغزو غزواً يظلم فيه المسلمين والكفار، ويكون آثماً بذلك، ومع هذا فيحصل به نفع خلق كثير كانوا كفاراً فصاروا مسلمين، وذلك كان شراً بالنسبة إلى القائم بالواجب، وأما بالنسبة إلى الكفار فهو خير، وأكثر المتكلمين يردون باطلاً بباطل، وبدعة ببدعة، لكن قد يردون باطل الكفار من المشركين وأهل الكتاب بباطل المسلمين؛ فيصير الكافر مسلماً مبتدعاً، وأخص من هؤلاء من يرد البدع الظاهرة كبدعة الرافضة ببدعة أخص منها وهي بدعة أهل السنة.
ثم يقول شيخ الإسلام في نفس الباب رحمه الله: والرافضة فيهم من هو متعبد متورع زاهد، لكن ليسوا في ذلك مثل غيرهم من أهل الأهواء، فالمعتزلة أعقل منهم وأعلم وأزين، والكذب والفجور فيهم أقل منه في الرافضة، والزيدية من الشيعة خير منهم، وأقرب إلى الصدق والعدل والعلم، وليس في أهل الأهواء أصدق ولا أعبد من الخوارج، ومع هذا فأهل السنة يستعملون معهم العدل والإنصاف ولا يظلمونهم؛ فإن الظلم حرام مطلقاً كما تقدم، بل أهل السنة لكل طائفة من هؤلاء خير من بعضهم لبعض، بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض، وهذا مما يعترفون هم به، ويقولون: أنتم تنصفوننا ما لا ينصف بعضنا بعضاً، وهذا لأن الأصل الذي اشتركوا فيه أصل فاسد مبني على جهل وظلم، وهم مشتركون في ظلم سائر المسلمين، فصاروا بمنزلة قطاع الطريق المشتركين في ظلم الناس، ولا ريب أن المسلم العالم العادل أعدل عليهم وعلى بعضهم من بعض.
ومن جميل ما سطره يراع الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى في كتابه سير أعلام النبلاء، وهو من أنفس كتب الرجال وأعظمها، يقول رحمه الله: غلاة المعتزلة وغلاة الشيعة وغلاة الحنابلة وغلاة الأشاعرة وغلاة المرجئة وغلاة الجهمية وغلاة الكرامية قد ماجت بهم الدنيا وكثروا، وفيهم أذكياء وعباد وعلماء، نسأل الله العفو والمغفرة لأهل التوحيد، ونبرأ إلى الله من الهوى والبدع، ونحب السنة وأهلها، ونحب العالم على ما فيه من الاتباع والصفات الحميدة، ولا نحب ما ابتدع فيه بتأويل سائغ، وإنما العبرة بكثرة المحاسن.
هذه هي المسألة الأولى فيما يتعلق بتقويم أهل الحديث في تقويم المبتدع.
المسألة الثانية في منهج أهل الحديث: أن الخطأ اليسير في جنب الصواب الكثير مغفور: فالحكم يكون على غالب مرويات الرجل، وضبط الراوي شرط أساسي من الشروط، لكن هذا لا يعني سلامته من الخطأ تماماً، بل ينظر إلى مجموع ما يرويه الرجل، فإذا كان الغالب على ما يرويه السلامة من الخطأ؛ اعتبر الراوي ضابطاً وقبلت روايته، لكن إذا كثرت الأخطاء، ومخالفة الراوي لغيره من الثقات؛ رد حديثه.
يقول سفيان الثوري رحمه الله: ليس يكاد يفلت من الغلط أحد، إذا كان الغالب على الرجل الحفظ فهو حافظ، وإذا كان الغالب عليه الغلط ترك.
ويقول عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى: الناس ثلاثة: رجل حافظ متقن، فهذا لا خلاف فيه، وآخر يهم والغالب على حديثه الصحة. فهذا لا يترك حديثه، وآخر يهم والغالب على حديثه الوهم، فهذا يترك حديثه.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: ما رأيت أحداً أقل خطأ من يحيى بن سعيد ، ولقد أخطأ في أحاديث، ثم قال: ومن يعرى من الخطأ والتصحيف؟!
وقال أبو عيسى الترمذي : وإنما تفاضل أهل العلم بالحفظ والإتقان، والتثبت عند السماع؛ مع أنه لم يسلم من الخطأ والغلط أحد من الأئمة مع حفظهم.
وقال الحافظ ضياء الدين المقدسي : ولو كان كل من وهم في حديث اتهم؛ لكان هذا لا يسلم منه أحد.
المسألة الثالثة والأخيرة من ضوابط أهل علم الحديث في الحكم على الرجال، وهي مهمة جداً، وقل ما يتفطن لها كثير من الناس، وهي: أن كلام الأقران يطوى ولا يروى: فقد يحصل أن بعض الأقران المتقاربين في السن والعلم ممن يكونون في عصر واحد يحصل بينهم شيء من الاختلاف لسبب من الأسباب، فيؤدي ذلك إلى وقوع بعضهم ببعض دون عدل أو تأن، حتى أن الواحد منهم قد يصف غيره أحياناً بأوصاف يعلم يقيناً أنه بريء منها، ولكن حب الذات والانتصار للنفس يذكي فيه روح الغيرة والاعتداء، من أجل ذلك كان النقاد الجهابذة من المحدثين يهملون الجرح بين الأقران، إذا تبين لهم أن سبب صدوره نزاعات شخصية بين الطرفين، والعبرة بالأدلة والبراهين، صحيح أن الجرح مقدم على التعديل، لكن إذا كان الجرح ناشئاً عن خصومة مذهبية أو عصبية، أو نوع من التحاسد، وثبت ذلك؛ فلا يقبل هذا الجرح، ولا ينبغي أن يحكى، لكنه يطوى ويخفى، فهذه الصورة أيضاً لا تقف عند المحدثين، بل قد تتعداه في مثل هذا العصر إلى العلماء والدعاة وشتى العاملين في حقل الدعوة الإسلامية؛ فبعض الناس قد يعجب مما يراه في كتب بعض علماء الدعوة السلفية من الخلاف والمساجلات والمحاورات الشديدة؛ لأنهم ينحرفون عن هذا المنهج، ولكن كلام الأقران يطوى ولا يحكى، فالمنهج القسط: أن ينظر إلى الخلفيات التي تبنى عليها الأحكام، ومن ثم توزن بما يقتضيه الحال من التحري والإنصاف حتى لا يتهم أحد بما ليس فيه، فليس كل جرح مؤثراً، وليس كل اتهام مقبولاً، يقول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: كل رجل ثبتت عدالته لم يقبل فيه تجريح أحد يتبين ذلك عليه بأمر لا يحتمل غير جرحه.
قال الإمام أبو عمر بن عبد البر رحمه الله تعالى: هذا باب غلط فيه كثير من الناس، وضلت فيه نابتة جاهلة لا تدري ما عليها في ذلك، والصحيح في هذا الباب: أن من صحت عدالته، وثبتت في العلم أمانته، وبانت ثقته وعنايته بالعلم؛ لم يلتفت فيه إلى قول أحد، إلا أن يأتي في جرحه ببينة عادلة تصح بها جرحته على طريق الشهادات، والعمل فيها من المشاهدة والمعاينة لذلك بما يوجب قوله من جهة الفقه والنظر، وأما من لم تثبت إمامته، ولا عرفت عدالته، ولا صحت لعدم الحفظ والإتقان روايته، فإنه ينظر فيه إلى ما اتفق أهل العلم عليه، ويجتهد في قبول ما جاء به على حسب ما يؤدي النظر إليه.
يقول الإمام الذهبي : كلام بعض الأقران في بعض لا يعبأ به، لاسيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد، وما ينجو منه إلا من عصمه الله، وما علمت أن عصراً من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئت لذكرت من ذلك الشيء الكثير. وذلك مثل ما حصل بين العز بن عبد السلام وابن الصلاح ، وبين السيوطي والسخاوي ، وهكذا في كل عصر تحصل مثل هذه الأشياء، فإذا تناطحت النسور في آفاق السماء ما ينبغي للكتاكيت أن تتدخل في مثل هذا الصراع، فنحن نأخذ منهم العلم والفضل، وننتفع بالخير الذي عند كل أحد منهم.
إذا تلاقت الفحول في لجب فكيف حال الفصيص في الوسط
فنأخذ الخير الذي عندهم، ونطوي ما يكون بينهم من هذه النزاعات.
يقول السبكي رحمه الله: والحذر الحذر من هذا الحسبان، بل إن الصواب عندنا: أن من ثبتت إمامته وعدالته، وكثر مادحوه ومزكوه، وندر جارحوه، وكانت هناك قرينة تدل على سبب جرحه من تعصب مذهبي أو غيره؛ فإننا لا نلتفت إلى الجرح فيه، ونعمل فيه بالعدالة، ولو فتحنا هذا الباب، وأخذنا تقديم الجرح على إطلاقه؛ لما سلم لنا أحد من الأئمة، إذ ما من إمام إلا وقد طعن فيه طاعنون، وهلك فيه هالكون.
ويقول الحافظ ابن حجر العسقلاني : واعلم أنه قد وقع من جماعة الطعن في جماعة بسبب اختلافهم في العقائد؛ فينبغي التنبه لذلك، وعدم الاعتزاز به إلا بحق.
وسئل علي المديني عن أبيه فقال: سلوا غيري. يعني: لا يريد أن يتكلم في أبيه، فأعادوا فأطرق ثم رفع رأسه فقال: هو الدين، يعني: هي مسئولية الدين، فكأن هناك تحفظ من أن يوثق أباه في الرواية أو من ناحية حفظه مثلاً، حتى مع أبيه، فهذا تصديق لقوله تعالى: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [النساء:135]، فهو يتحرج من أن يقع في أبيه، ويستخدم كل وسيلة ليهرب من هذا الأمر، وفي نفس الوقت يقول: هو الدين.
و أبو داود السجستاني كان يكذب ابنه ويقول: هو كذاب لا تقبلوا روايته.
وقال عبيد الله بن عمرو : قال لي زيد بن أبي أنيسة : لا تكتب عن أخي؛ فإنه كذاب.
وقال الذهبي : لو حابيت أحداً لحابيت أبا علي ، لمكان علو روايته في القراءات عنه؛ لأنه صاحب الروايات العالية في القراءات التي أخذها عنه الإمام الذهبي رحمه الله تعالى.
ونذكر مثالاً في معرض حديث شيخ الإسلام عن أبي ذر الهروي ، وهو أحد الرواة المشهورين لصحيح البخاري ، يقول: أبو ذر فيه من العلم والدين والمعرفة بالحديث والسنة، وانتصابه لرواية البخاري عن شيوخه الثلاثة وغير ذلك من المحاسن والفضائل ما هو معروف. ثم ذكر بعض أصحابه ممن فيهم نظر، وفيهم بعض البدع، ووضح أيضاً ما هم عليه من الخطأ في هذه الأبواب.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في الإمام أبي محمد بن حزم رحمه الله: كذلك أبو محمد بن حزم فيما صنفه من الملل والنحل إنما يستحمد بموافقة السنة والحديث، مثل ما ذكره في مسائل القدر والإرجاء ونحو ذلك، بخلاف ما انفرد به من قوله في التفضيل بين الصحابة، وكذلك ما ذكره في باب الصفات، فإنه يستحمد فيه موافقة أهل السنة والحديث، لكونه يثبت الأحاديث الصحيحة، ويعظم السلف وأئمة الحديث، ويقول: إنه موافق للإمام أحمد في مسألة القرآن الكريم وغيرها، ولا ريب أنه موافق له في بعض ذلك، لكن الأشعري ونحوه أعظم موافقة للإمام أحمد بن حنبل ومن قبله من الأئمة في القرآن الكريم والصفات.
وكذا يفصل الإمام ابن تيمية القول في حق الإمام الكبير ابن حزم رحمه الله، ثم يقول في النهاية بعد أن ذكر بعض المؤاخذات: وإن كان له من الإيمان والدين والعلوم الواسعة الكثيرة ما لا يدافعه إلا مكابر، ويوجد في كتبه من كثرة الاطلاع على الأقوال والمعرفة بالأحوال، والتعظيم لدعائم الإسلام، ولجانب الرسالة ما لا يجتمع مثله لغيره، فالمسألة التي يكون فيها حديث يكون جانبه فيها ظاهر الترجيح، وله من التمييز بين الصحيح والضعيف، والمعرفة بأقوال السلف ما لا يكاد يقع مثله لغيره من الفقهاء.
كذلك انظر إلى كلام الذهبي في ترجمة القاضي أبي بكر بن العربي مشيراً إلى وقوع القاضي أبي بكر بن العربي في ابن حزم رحمه الله، فقال بعدما مدح القاضي أبا بكر بن العربي رحمه الله تعالى: ولم أنقم على القاضي رحمه الله إلا إقذاعه في ذم ابن حزم واستجهاله له، وابن حزم أوسع دائرة من أبي بكر في العلوم، وأحفظ بكثير، وأصاب في أشياء وأجاد، وزلق في مضايق كغيره من الأئمة، والإنصاف عزيز.
أيضاً يقول الإمام الذهبي في ترجمة ابن حزم : وكان قد مهر أولاً في الأدب والأخبار والشعر، وفي المنطق وأجزاء الفلسفة، فأثرت فيه تأثيراً ليته سلم من ذلك، ولقد وقفت له على تأليف يحض فيه على الاعتناء بالمنطق، ويقدمه على العلوم؛ فتألمت له، فإنه رأس في علوم الإسلام، متبحر في النقل، عديم النظير، على يبس فيه، وفرط ظاهرية في الفروع والأصول، وصنف في ذلك كتباً كثيرة -أي: في المذهب الظاهري- وناظر عليه، وبسط لسانه وقلمه، ولم يتأدب مع الأئمة في الخطاب، بل فجج العبارة وسب وجدع، فكان جزاؤه من جنس فعله؛ بحيث إنه أعرض عن تصانيفه جماعة من الأئمة وهجروها، ونفروا منها، وأحرقت في وقت، واعتنى بها آخرون من العلماء، وفتشوها انتقاداً واستفادة وأخذاً ومؤاخذة، ورأوا فيها الدر الثمين ممزوجاً في الرصف بالخرز المهين -يعني: كأنهم عملوا منها عقداً فيه درر ثمينة وفيه خرز مهين- فتارة يطربون، ومرة يعجبون، ومن تفرده يهزءون!
وفي الجملة فالكمال عزيز، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ينهض بعلوم جمة، ويجيد النقل، ويحسن النظم والنثر، وفيه دين وخير، ومقاصده جميلة، ومصنفاته مفيدة، وقد زهد في الرئاسة، ولزم منزله مكباً على العلم، فلا نغلو فيه، ولا نجفو عنه، وقد أثنى عليه قبلنا الكبار. اهـ
أيضاً الإمام أبو إسماعيل الهروي له كتاب معروف اسمه: ذم الكلام، وكتاب في التصوف اسمه: منازل السائرين شرحه الإمام ابن القيم في مدارج السالكين، والإمام الهروي ممن يلقب بشيخ الإسلام، لكن الحافظ ابن القيم استدرك عليه في كتابه مسائل عديدة، وتعقبه في ألفاظ مختلفة، يقول الإمام ابن القيم في بعض المواضع التي ما استطاع أن يتجاوز عنها وهو يشرح كتاب الإمام الهروي: في هذا اللفظ قلق وسوء تعبير يجبره حسن حال صاحبه وصدقه وتعظيمه لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبى الله أن يكون الكمال إلا له.
ولذلك تجد الفرق بين عبارات الإمام ابن القيم في بعض الطبعات من كتاب مدارج السالكين، وبين عبارات بعض علماء الدعوة السلفية، فقد كانت عباراتهم شديدة جداً في مثل الإمام الهروي، ففي الغالب الشباب يميلون إلى هذه الشدة ويتجاوبون معها، ولا ينضبطون بهذا الذي نتحدث فيه الآن، وهو العدل والإنصاف، فتجد من السهل جداً أن تخرج منهم كلمة الكفر والشرك، ويوصف رجل بأنه صوفي؛ فيظن أن كلمة صوفي تطلق دائماً على أهل الإلحاد والاتحاد، وتعني كذا وكذا، وهذه لفظة مشتبهة، وينبغي أن تفتش عن المعنى المقصود لمن اتصف بها؛ لأنها كلمة تحتمل عدة معانٍ، وبسط هذا له موضع آخر.
يقول ابن القيم في بعض الألفاظ قبل أن ينتقده شيخ الإسلام حبيب، ولكن الحق أحب إلينا منه، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: عمله خير من علمه، أي: عمل الهروي خير من علمه. وصدق رحمه الله، فسيرته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد أهل البدع لا يشق له فيها غبار، وله المقامات المشهورة في نصرة الله رسوله، وأبى الله أن يكسو ثوب العصمة لغير الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، وقد أخطأ في هذا الباب لفظاً ومعنى.
ثم في موضع آخر يستنكر ابن القيم على الهروي بعض هذه المواضع ويقول: ولا توجب هذه الزلة من شيخ الإسلام إهدار محاسنه، وإساءة الظن به، فمحله من العلم والإمامة والمعرفة والتقدم في طريق السلوك المحل الذي لا يجهل، وكل أحد فمأخوذ من قوله ومتروك إلا المعصوم صلوات الله وسلامه عليه، والكامل من عدّ خطؤه، ولاسيما في مثل هذا المجال الضنك، والمعترك الصعب الذي زلت فيه أقدام، وضلت فيه أفهام، وافترقت بالسالكين فيه الطرقات، وأشرفوا إلا أقلهم على أودية الهلكة.
ومن هذه النماذج أيضاً، وهو نموذج واضح جداً ونحتاجه كثيراً، نقد العلماء لكتاب إحياء علوم الدين لـأبي حامد الغزالي ، وكتاب قوت القلوب لـأبي طالب المكي ، يقول شيخ الإسلام بعد كلام طويل في حق الإحياء: والإحياء فيه فوائد كثيرة، ولكن فيه مواد مذمومة، فإن فيه مواد فاسدة من كلام الفلاسفة تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد، فإذا ذكر معارف الصوفية كان بمنزلة من أخذ عدواً للمسلمين ألبسه ثياب المسلمين، وقد أنكر أئمة الدين على أبي حامد هذا في كتبه، وقالوا: أبو حامد أمرضه الشفاء! وهو كتاب لـابن سيناء اسمه الشفاء في الفلسفة فكانوا يقولون: إن أبا حامد لما قرأ في كتاب الشفاء أمرضه.
يقول الإمام الذهبي رحمه الله تعالى في الإحياء أيضاً: وأما الإحياء ففيه من الأحاديث الباطلة جملة، وفيه خير كثير لو لا ما فيه من آداب ورسوم وزهد من طرائق الحكماء، ومنحرفي الصوفية نسأل الله علماً نافعاً. ويقول أيضاً: الغزالي إمام كبير، وما من شرط العالم أنه لا يخطئ، ويقول الذهبي أيضاً: رحم الله أبا حامد فأين مثله في علومه وفضائله؟ ولكن لا ندعي عصمته من الغلط والخطأ، ولا تقليد في الأصول.
فهذان إمامان من أئمة أهل السنة؛ شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام الذهبي رحمهما الله يثبتان الاضطراب والانحراف في منهج أبي حامد الغزالي رحمه الله، ولم يمنعهما ذلك من تقرير الجوانب الإيجابية في منهجه الفكري إحقاقاً للحق، وإتماماً للعدل المأمور به شرعاً، فإذا فقدنا هذه الضوابط التي ذكرناها، تشيع الاتهامات وتكثر الافتراءات، ويصل الحال عند بعض الناس إلى أن يرموا بالكتاب جملة وتفصيلاً، وقد يتطاولون بألفاظ السب والتجديع لمؤلفه.
منهج أهل الحق أهل السنة والجماعة وضحه ابن القيم رحمه الله تعالى بقوله: فإن كل طائفة معها حق وباطل، فالواجب موافقتهم فيما قالوه من الحق، ورد ما قالوه من الباطل، ومن فتح الله له بهذه الطريق فقد فتح له من العلم والدين كل باب، ويقصر عليه فيهما الأسباب.
يقول الإمام أبو حامد رحمه الله: اعلم وتحقق أن المناظرة الموضوعة لقصد الغلبة والإفحام، وإظهار الفضل والشرف، والتشدق عند الناس، وقصد المباهاة والمماراة، واستمالة وجوه الناس؛ تعد من الأخلاق المذمومة عند الله، المحمودة عند عدو الله إبليس، ونسبتها إلى الفواحش الباطنة من الكبر والعجب والحسد والمنافسة وتزكية النفس وحب الجاه وغيرها كنسبة شرب الخمر إلى الفواحش الظاهرة من الزنا والقذف والقتل والسرقة، وكما أن الذي خير بين الشرب وسائر الفواحش استصغر الشرب فأقبل عليه، فدعاه ذلك إلى ارتكاب بقية الفواحش في سكره، فكذلك من غلب عليه حب الإفحام والغلبة في المناظرة، وطلب الجاه والمباهاة، دعاه ذلك إلى إضمار الخبائث كلها في النفس، وهيج فيه جميع الأخلاق المذمومة.
في نفس الوقت لا ننكر أن النقد البناء ضرورة لا غنى عنها؛ لأن هذا من تمام العدل والإنصاف أن يحق الحق نصيحة لله ورسوله وللمؤمنين.
أخيراً نختم بكلمة الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في بيان هذا المنهج: عادتنا في مسائل الدين كلها دقها وجلها: أن نقول بموجبها، ولا نضرب بعضها ببعض، ولا نتعصب لطائفة على طائفة، بل نوافق كل طائفة على ما معها من الحق، ونخالفها فيما معها من خلاف الحق، لا نستثني من ذلك طائفة ولا مقالة، ونرجو من الله أن نحيا على ذلك، ونموت عليه، ونلقى الله به، ولا قوة إلا بالله.
هذا حاصل تلخيص هذا البحث منهج أهل السنة والجماعة في تقويم الرجال ومؤلفاتهم للشيخ أحمد بن عبد الرحمن الصويان، وقد ذكر أولاً أسباب النجاة، ومن ذلك ورع اللسان، ثم ذكر ثانياً أهمية التجرد، وبيان أن الهوى من أسباب الظلم، ثم ذكر ثالثاً: قاعدة معرفة الحق في الرجال. ثم رابعاً: أن كل بني آدم خطاء. ثم خامساً: أنه ينبغي الموازنة بين الإيجابيات والسلبيات. ثم سادساً: ذكر منهج أئمة الحديث في تقويم الرجال، وانتقى منها ثلاثة مواضيع من طريقة أهل السنة في تقويم المبتدعة، ثم بيان أن الخطأ اليسير في جنب الصواب الكثير مغفور، ثم قاعدة: كلام الأقران يطوى ولا يروى. وذكرنا أمثلة تطبيقية في تقويم الرجال، وأمثلة تطبيقية في تقويم الكتب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت؛ أستغفرك وأتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر