إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [8]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يخالف في إثبات الصفات لله تعالى كثير من الفرق، وهم درجات في الإنكار، وقد رد عليهم أهل السنة، وألزموا من أثبت صفة بإثبات جميع الصفات، ومن أثبت الأسماء فقط بإثبات الصفات، بل ألزموا من أنكر الأسماء والصفات بإثباتها بناء على إثباته للذات، وليس هذا فحسب، فقد ألزموا الدهرية بإثبات خالق واجب الوجود له أسماء وصفات.

    1.   

    وسطية أهل السنة بين المشبهة والنفاة

    تقدم أن التوحيد قسمان:

    توحيد في المعرفة والإثبات، وهو توحيد الذات.

    وتوحيد الأسماء والصفات.

    يسمى الأول: توحيد الربوبية.

    ويسمى الثاني: توحيد الصفات.

    وتوحيد الطلب والقصد، وتوحيد الطلب والقصد هو توحيد العبادة.

    وتوحيد الذات أو الربوبية قد أقر به المشركون، وإنما أنكره بعض الدهرية الذين يخالفون المعقول والمنقول، وهم الذين يقولون: مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية:24].

    وأما توحيد الصفات فقد تقدم أيضاً تعريفه، وأنه إفراد الله تعالى بصفات الكمال، واعتقاد أنه موصوف بكمال الصفات، وأنه منزه عن صفات النقص، وأن صفاته الثابتة له لا يشبهه فيها غيره، فينبني هذا النوع على النفي والإثبات، فالنفي هو نفي مماثلة المخلوقات، والإثبات هو إثبات صفات الكمال.

    وسماه السلف توحيداً لكثرة من خالف فيه في زمانهم فقد كان الخلاف في إثبات الصفات شديداً، حيث دخل في الإسلام من أنكر حقيقة الصفات، ونفى صفات الكمال عن الرب سبحانه وتعالى، فاحتاج السلف أن يعتنوا بالأدلة التي تبين ثبوت تلك الصفات لله سبحانه، والأدلة التي تبين توحده، وعدم مشابهة المخلوقات للرب تعالى في خصائصه أو شيء من صفاته.

    ثم ذكرنا عن السلف أنهم مع الإثبات ينفون التشبيه، ولكن المبالغة في النفي قد صارت سمة للمعطلة، ولذلك يقول بعض السلف: إذا رأيت الإنسان يبالغ في نفي التشبيه فاتهمه أنه من نفاة الصفات، وذلك لأن كثيراً من النفاة يرددون أن الله لا شبيه له لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] لا يشبهه شيء.. لا يشبه الأنام، ويقصدون بذلك نفي الصفات كلها، ويدعون أن كل صفة وجدت في المخلوق لا يجوز إثباتها للخالق، وهذا في الحقيقة تعطيل، وإنما الواجب أن تثبت على ما يليق بالخالق تعالى، وينفى عنها مشابهة المخلوق، هذه هي طريقة أهل السنة.

    وقد قرأنا الآيات التي فيها أن الله وصف نفسه بصفات موجودة في المخلوق، وسمى نفسه بأسماء قد سمى بها بعض الخلق، وأنه لا يلزم التماثل، فنحن نقول: إن الله تعالى سميع بصير، والإنسان سميع بصير، ولكن ليس هذا كهذا، وهكذا يقال في بقية الأسماء والصفات كما تقدم، فنستحضر أن المبالغة في نفي الشبيه قد يتخذها النفاة ذريعة إلى نفي الصفات كما تقدم، وسيأتي الكلام على هذه الجملة وما بعدها.

    1.   

    إلزام المخالفين لأهل السنة بإثبات إله متصف بما وصف به نفسه

    إلزام من أثبت بعض الصفات بإثبات الصفات الأخرى

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى : ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً [الروم:54] وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ [يوسف:68]، ومعلوم أنه ليس العلم كالعلم، ولا القوة كالقوة، ونظائر هذا كثيرة. وهذا لازم لجميع العقلاء، فإن من نفي صفة من صفاته التي وصف الله بها نفسه، كالرضى والغضب والحب والبغض ونحو ذلك، وزعم أن ذلك يستلزم التشبيه والتجسيم! قيل له : فأنت تثبت له الإرادة والكلام والسمع والبصر، مع أن ما تثبته له ليس مثل صفات المخلوقين، فقل فيما نفيته وأثبته الله ورسوله مثل قولك فيما أثبته، إذ لا فرق بينهما].

    هنا يرد على بعض النفاة، وهم من يدعون بالأشاعرة، فإنهم يثبتون أن الله يسمع ويبصر ويتكلم ويقدر ويعلم ويريد، ويثبتون له الحياة، ومع ذلك ينفون الصفات الفعلية، فنفوا أن الله يحب أو يبغض أو يفرح، وكذلك ينفون أن لله سبحانه وجهاً أو يداً كما أثبت لنفسه، وهكذا بقية الصفات.

    فإذا طلب منهم سبب النفي قالوا: إن هذه موجودة في المخلوق، فالمخلوق يغضب ويرضى ويحب ويبغض، فلا يكون الرب مثله.

    قيل لهم: عجباً لكم! إذاً: أنتم تقولون إن الله يريد ويعلم ويسمع ويتكلم ويقدر، والمخلوقون كذلك، لهم إرادة وسمع وبصر وعلم وقدرة، فما الفرق بين ما أثبتم وما نفيتم؟! ولا يجدون سبيلاً إلى الفرق، فتنقطع بذلك حجتهم، حيث فرقوا بين ما جمع الله بينه، فأثبتوا الإرادة ونفوا المحبة، ولا فرق بينهما.

    إلزام من أثبت الأسماء بإثبات الصفات

    قال رحمه الله: [فإن قال : أنا لا أثبت شيئا من الصفات! قيل له : فأنت تثبت له الأسماء الحسنى مثل : عليم حي قادر، والعبد يسمى بهذه الأسماء، وليس ما يثبت للرب من هذه الأسماء مماثلا لما يثبت للعبد، فقل في صفاته نظير قولك في مسمى أسمائه].

    هذه طائفة أخرى من النفاة وهم المعتزلة الذين لا يثبتون شيئاً من الصفات، فلا يثبتون أن الله حي ولا سميع ولا بصير ... إلخ، تعالى الله عن قولهم، ولكنهم يثبتون الأسماء فيقولون: إن الله سميع بصير عليم قدير حي مريد ملك قدوس.. يثبتون هذه كأسماء، ولكنهم لا يجعلونها دالة على صفات.

    فيقال لهم: المخلوق أيضاً يسمى حياً، ويسمى قديراً، ويسمى عليماً، فقد أثبتم أسماء موجودة في المخلوق، فإذا أثبتم الأسماء لزمكم إثبات الصفات فلا فرق.

    ويقال لهم فيما نفوا مثل قولهم فيما أثبتوا، إذا قالوا: إننا نثبتها على أنها أسماء ينادى بها الرب تعالى، قلنا: المخلوق ينادى بها، فإذا كان لا يلزم التشبيه مع كونها ثابتة للمخلوق، فلماذا لا تثبتون الصفات وتجعلونها مناسبة للموصوف.

    إلزام من أثبت الذات بإثبات الأسماء والصفات

    قال رحمه الله: [فإن قال : وأنا لا أثبت له الأسماء الحسنى، بل أقول هي مجاز، وهي أسماء لبعض مبتدعاته، كقول غلاة الباطنية والمتفلسفة!

    قيل له : فلا بد أن تعتقد أنه موجود وحق، قائم بنفسه، والجسم موجود قائم بنفسه، وليس هو مماثلا له].

    هذا قول طائفة أخرى أشد من المعتزلة، وأضل منهم، وهم غلاة الباطنية والملاحدة وغلاة الفلاسفة، يقولون: إنا لا نثبت الأسماء ولا نثبت الصفات وهذه الأسماء التي يسمى بها الله ليست حقيقة، وإنما هي مجاز، وهي أسماء لبعض المخلوقات أو المخترعات.

    فيقال لهم: لا بد أنكم تثبتون أن الله موجود وقائم بنفسه، والمخلوق كذلك موجود وقائم بنفسه، فإذا أثبتم هذا الوصف الذي هو موصوف به المخلوق فقد وقعتم فيما فررتم منه، فإنكم فررتم من التشبيه ووقعتم فيه، فلا محيد لكم عن ذلك، فهذا يبين تناقض هؤلاء النفاة.

    إلزام الدهرية بإثبات إله واجب الوجود

    قال رحمه الله: [فإن قال : أنا لا أثبت شيئا بل أنكر وجود الواجب.

    قيل له : معلوم بصريح العقل أن الموجود إما واجب بنفسه، وإما غير واجب بنفسه، وإما قديم أزلي، وإما حادث كائن بعد أن لم يكن، وإما مخلوق مفتقر إلى خالق، وإما غير مخلوق ولا مفتقر إلى خالق، وإما فقير إلى ما سواه.

    وإما غني عما سواه، وغير الواجب بنفسه لا يكون إلا بالواجب بنفسه، والحادث لا يكون إلا بقديم، والمخلوق لا يكون إلا بخالق، والفقير لا يكون إلا بغني عنه، فقد لزم على تقدير النقيضين وجود موجود واجب بنفسه، قديم أزلي خالق غني عما سواه، وما سواه بخلاف ذلك].

    هذه حجة على الدهرية والشيوعية ونحوهم الذين ينكرون واجب الوجود، فيحتج عليهم بحجة عقلية، فيقال لهم: إن هذه الموجودات حادثة، والحادث لا بد له من محدث، وإذا قلنا: إن المحدث الذي أحدثه يفتقر إلى محدث آخر لزم التسلسل، فيقال: إذاً هناك محدث لها وهو الله تعالى.

    ويقال أيضاً: إن الموجودات قسمان: واجب الوجود، وممكن الوجود، وواجب الوجود هو الخالق، وممكن الوجود هو المخلوق؛ لأنه يمكن أن يوجد ولأنه يأتي عليه الفناء.

    وتنقسم أيضاً إلى قسمين: غني بنفسه لا يحتاج إلى غيره وهو الخالق، وفقير بالذات مفتقر إلى غيره وهو المخلوق، فالمخلوق مفتقر ووصف الفقر لازم له، ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في قصيدة له:

    والفقر لي وصف ذات لازم أبداً كما الغنى أبداً وصف له ذاتي

    يقول: إن الفقر وصف ذاتي للمخلوقات، وأن الغنى الذاتي وصف للخالق تعالى، فالله غني بذاته، والمخلوق فقير بذاته: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15].

    وإذا سألنا العاقل عن هذه الأشياء، اضطر إلى الاعتراف بأن هناك خالقاً غنياً قائماً بنفسه، قديماً أزلياً غير مسبوق بعدم، ولا يأتي عليه الفناء، وذلك أخذاً بعين الاعتبار من هذه الموجودات التي وجدت وتفنى، أن الموجود لا بد له من موجد، قال تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35]

    فإذا لم يكونوا خلقوا من غير شيء، تعين أنهم مخلوقون من شيء، وإذا لم يكونوا هم الخالقين تعين أن لهم خالقاً خلقهم، فليس الإنسان يخلق نفسه، وإلا لحرص على أن يكمل خلقه، وكذلك ليس هو يخلق ولده، وإلا لحرص على أن يكون ولده على أحسن ما يكون، فنحن نشاهد أن الإنسان يولد له ولد مشلول، ويولد له أولاد ناقصو الخلقة، ويولد له من هم ناقصو العقلية، وكذلك قد يولد له ذكور، أو إناث، أو إناث وذكور، وذلك دليل على أنه ليس هو الذي يختار، وليس هو الذي يقدر لنفسه، بل هناك من يخلق هذا الخلق ويقدره، وهو الخالق وحده، فعرف بذلك أن هذا الوجود مفتقر إلى موجد واجب الوجود.

    إذاً: ما دام أن هذا الوجود مفتقر إلى موجب، فيلزم أن يكون ذلك الموجد موصوفاً بصفات تناسبه لا تشبه صفات المخلوق، وإلا لأتى عليه ما يأتي على المخلوق من الفناء.

    إذاً: فهناك فرق كبير بين الخالق والمخلوق، فالخالق حي لا يموت، والمخلوق يموت، والخالق قديم غير مسبوق بعدم، والمخلوق مسبوق بعدم، يخلق ثم يفنى، كما هو مشاهد، والخالق غني بنفسه، والمخلوق فقير بالذات لا غنى له عن ربه طرفة عين.

    فهذا يحتج به على هؤلاء النفاة الذين ينكرون أن يكون للوجود موجد، ويسندون الأشياء إلى الطبائع، تعالى الله عن قولهم، والطبائع لا بد لها من طابع، فليس هناك معتمد يعتمدونه ويستندون إليه إلا عقول فاسدة، فلا يلتفت إلى ترهاتهم وأباطيلهم.

    وجود المخلوقات يدل بالضرورة على وجود خالقها

    قال رحمه الله: [وقد علم بالحس والضرورة وجود موجود حادث كائن بعد أن لم يكن، والحادث لا يكون واجباً بنفسه، ولا قديماً أزلياً، ولا خالقاً لما سواه، ولا غنياً عما سواه، فثبت بالضرورة وجود موجودين: أحدهما واجب، والآخر ممكن، أحدهما قديم والآخر حادث، أحدهما غني والآخر فقير، أحدهما خالق والآخر مخلوق، وهما متفقان في كون كل منهما شيئاً موجوداً ثابتاً، ومن المعلوم أيضا أن أحدهما ليس مماثلا للآخر في حقيقته، إذ لو كان كذلك لتماثلا فيما يجب ويجوز ويمتنع، وأحدهما يجب قدمه وهو موجود بنفسه، والآخر لا يجب قدمه ولا هو موجود بنفسه، وأحدهما خالق والآخر ليس بخالق، وأحدهما غني عما سواه والآخر فقير.

    فلو تماثلا للزم أن يكون كل منهما واجب القدم ليس بواجب القدم، موجوداً بنفسه غير موجود بنفسه، خالقاً ليس بخالق، غنياً غير غني، فيلزم اجتماع الضدين على تقدير تماثلهما، فعلم أن تماثلهما منتف بصريح العقل، كما هو منتف بنصوص الشرع].

    هذا تكميل للحجة العقلية في الرد على الشيوعيين والدهريين، فهو يقول: إننا نشاهد أن على الأرض هذا المخلوق، الذي هو الإنسان والحيوان والدواب والأشجار والنباتات ونحوها، ونعرف أنها كائنة حية، ونعرف أنها موجودة وأنها أشياء، ونعرف أنها حادثة مسبوقة بعدم، ونعرف أنه يأتي عليها الفناء والعدم، فتيبس الأشجار وتنقطع الثمار مثلاً، وتموت الدواب والحشرات ونحوها وتتوالد، ويموت الإنسان ويخلفه غيره وهكذا، فهذا الدليل يبين أنها حادثة، والحادث فقير، فلا بد أن يكون الذي أحدثه غني، والحادث عاجز، ولا بد أن يكون الذي أحدثه قادر كامل القدرة، والحادث مستجد ولا بد أن يكون الذي أحدثه قديم، فإذا كان كذلك فالذين ينكرون هذا الدليل العقلي قد أنكروا المحسوس.

    ونعرف الفرق الكبير بين الحادث والمحدث.. بين المخلوق والخالق.. بين الغني والفقير.. بين واجب الوجود وممكن الوجود أو جائز الوجود.. بين الموجود بنفسه وبين الموجود بغيره، ففرق كبير بين هذا وهذا، فبهذا الدليل العقلي يرد على هذه الطوائف.

    وأما الأدلة السمعية فإنها أشهر وأظهر، وكثيراً ما يحتج الله تعالى بالآيات الظاهرة على وجوده وعلى عظمة شأنه ونحو ذلك، وقد تقدم لنا شيء من الأدلة على ذلك.

    1.   

    الاتفاق في التسمية بين ما للخالق والمخلوق لا يلزم منه المشابهة

    قال رحمه الله: [فعلم بهذه الأدلة اتفاقهما من وجه واختلافهما من وجه، فمن نفى ما اتفقا فيه كان معطلا قائلا بالباطل، ومن جعلهما متماثلين كان مشبهاً قائلاً بالباطل والله أعلم؛ وذلك لأنهما وإن اتفقا في مسمى ما اتفقا فيه، فالله تعالى مختص بوجوده وعلمه وقدرته وسائر صفاته، والعبد لا يشركه في شيء من ذلك، والعبد أيضاً مختص بوجوده وعلمه وقدرته، والله تعالى منزه عن مشاركة العبد في خصائصه].

    أي: أن الخالق والمخلوق مشتركان في الأسماء، فالخالق شيء والمخلوق شيء، الخالق موجود والمخلوق موجود، الخالق ثابت والمخلوق ثابت، وكذلك في بعض الصفات، يقال مثلاً: الله حي، والإنسان حي، وما أشبه ذلك، لكن هذا الاتفاق لا يلزم منه التشابه، بل بينهما فرق كبير، إذا عرفنا دلالة العقل على وجود خالق قدير قديم أزلي قادر لا يعجزه شيء، ولا يخرج عن قدرته شيء، عرف بذلك أن المخلوق ينافي هذه الصفات، فهو محدث وفقير.. إلى آخر ما تقدم.

    فيثبت بذلك وجود الخالق، واتصافه بالصفات التي يتصف بها المخلوق، ولكن لا يلزم التشابه بين صفة الخالق وصفة المخلوق، كما لا يلزم التشابه بين الذاتين.

    قال رحمه الله: [وإذا اتفقا في مسمى الوجود والعلم والقدرة، فهذا المشترك مطلق كلي يوجد في الأذهان لا في الأعيان، والموجود في الأعيان مختص لا اشتراك فيه، وهذا موضع اضطرب فيه كثير من النظار، حيث توهموا أن الاتفاق في مسمى هذه الأشياء يوجب أن يكون الوجود الذي للرب كالوجود الذي للعبد].

    أي: وهذا خطأ، فإنه إذا اتفق اثنان في اسم لم يلزم أن يكون هذا كهذا، فإننا نسمي الشجر حياً، ونسمي الحيوان حياً، فالبعير حي والإنسان حي، والشجر حي، ولا يلزم أن يكون هذا كهذا، ويقال: موجود في هذه البلد جبال، فالجبال موجودة والحيوانات موجودة، فاتفقت في كلمة الوجود، ولا يلزم أن تكون الجبال كالحيوانات، بل بينها فرق، فما دام كذلك فلا يلزم إذا قلنا: الله حي والإنسان حي، أن يكون هناك تشابه بينهما، فليست هذه الحياة كهذه الحياة، ولا العلم كالعلم، ولا القدرة كالقدرة، وعرف بذلك ضلال هذه الطوائف في هذه التقديرات.

    قال رحمه الله: [وطائفة ظنت أن لفظ الوجود يقال بالاشتراك اللفظي، وكابروا عقولهم؛ فإن هذه الأسماء عامة قابلة للتقسيم، كما يقال : الموجود ينقسم إلى واجب وممكن وقديم وحادث، ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام، واللفظ المشترك كلفظ المشتري الواقع على المبتاع والكوكب، لا ينقسم معناه، ولكن يقال : لفظ المشتري يقال على كذا أو على كذا، وأمثال هذه المقالات التي قد بسط الكلام عليها في موضعه].

    وهذه طوائف من المتكلمين يبالغون في مثل هذه الأشياء، ويرد عليهم فيقال مثلاً: إن هناك وجوداً في الأعيان ووجوداً في الأذهان، والمعنى الموجود في الأذهان هو ما يتخيله الإنسان بعقله، ولكن قد يتخيل وقد يصور بعقله أشياء غير حقيقية، فعرف بذلك أن الوجود في الأذهان لا يلزم منه التماثل، فإذا مثل الإنسان في ذهنه شيئاً أو تخيل أشياء لم يلزم أن تكون واقعية.

    وأما الذين قالوا إن الوجود لفظ مقول بالاشتراك اللفظي، فلا شك أن هؤلاء أيضاً أخطئوا، ومعلوم أن هناك كلمات تشترك فيها موجودات ولكن تختلف المسميات، فعندنا كلمة (المشتري) تقع على الذي يشتري منك سلعة، وتقع على الكوكب المشهور، فيقال: هذا الكوكب اسمه المشتري، ومعلوم أن هذا كوكب وهذا إنسان.

    وأما قولهم إن كلمة (موجود) مشتركة لفظاً، فهذا خطأ، فإن اللسان الذي تكلمت به العرب تدل على أن الموجود هو الذي له وجود في الأعيان ويدرك بالعين.

    ولا يقال للموجود في الذهن إنه موجود حيث إنه لا يدرك بالأعيان، فلا بد أن يكون الوجود مدركاً بالأعين لا مقدراً في الذهن، فظهر بذلك خطأ الذين يقولون إنه من باب الاشتراك اللفظي.

    بيان خطأ النفاة في توهمهم أن الأسماء الكلية يكون مسماها ثابتاً في الأعيان

    قال رحمه الله: [وأصل الخطأ والغلط : توهمهم أن هذه الأسماء العامة الكلية، يكون مسماها المطلق الكلي، هو بعينه ثابتاً في هذا المعين وهذا المعين، وليس كذلك، فإن ما يوجد في الخارج لا يوجد مطلقاً كلياً، بل لا يوجد إلا معيناً مختصاً، وهذه الأسماء إذا سمي الله بها كان مسماها معيناً مختصاً به، فإذا سمي بها العبد كان مسماها مختصاً به، فوجود الله وحياته لا يشاركه فيها غيره، بل وجود هذا الموجود المعين لا يشركه فيه غيره، فكيف بوجود الخالق ؟ ألا ترى أنك تقول: هذا هو ذاك، فالمشار إليه واحد لكن بوجهين مختلفين].

    إن الكلام على ما يتعلق بالوجود في الذهن وبالوجود في العين كلام يتعلق بالاحتجاج على الملاحدة ونحوهم، فهم يحتاجون إلى بسط في الكلام، وإلى إقناع لهم، لأجل ذلك نقل الشارح هذا الكلام من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره؛ ليبين أنهم يفرضون وجوداً في الذهن مخالفاً للوجود في العين، ثم يعتقدون أنه لو أطلق أنه موجود في العين لحصل بذلك تشابه، فلذلك نفوا الوجود في العين، وقدروا وجوداً في الذهن، وكل ذلك كلام لا طائل تحته، والمسلم على فطرته يعتقد أن كل صفة ثبتت للخالق فإنه لا يشبه فيها خلقه، وأن المخلوق بصفاته ناقص وحادث، وصفاته تناسبه، كما أن صفات الخالق تناسبه.

    قال رحمه الله: [وبهذا ومثله يتبين لك أن المشبهة أخذوا هذا المعنى وزادوا فيه على الحق فضلوا، وأن المعطلة أخذوا نفي المماثلة بوجه من الوجوه، وزادوا فيه على الحق حتى ضلوا، وأن كتاب الله دل على الحق المحض الذي تعقله العقول السليمة الصحيحة، وهو الحق المعتدل الذي لا انحراف فيه.

    فالنفاة أحسنوا في تنزيه الخالق سبحانه عن التشبيه بشيء من خلقه؛ ولكن أساءوا في نفي المعاني الثابتة لله تعالى في نفس الأمر، والمشبهة أحسنوا في إثبات الصفات ولكن أساءوا بزيادة التشبيه].

    أي: وكلا الطائفتين مخطئة ضالة، الذين غلوا في الإثبات حتى جعلوا صفات المخلوق كصفات الخالق، قالوا: لله يد كأيدينا، ووجه كوجوهنا، تعالى الله عن قولهم، نعم هم أحسنوا في إثبات الصفة ولكنهم أخطئوا في التشبيه.

    وأما النفاة فهم الذين غلوا في النفي، فقالوا: كل صفة موجودة في المخلوق لا يمكن أن تثبت للخالق فإن إثباتها يئول إلى التشبيه، والله تعالى ليس كمثله شيء، فأحسنوا في نفي التشبيه ولكنهم أساءوا حيث نفوا الصفات الثابتة الموجودة.

    والوسط أن يقال: صفات الخالق تليق به، وصفات المخلوق تليق به، وليست هذه كهذه، ويثبت ما أثبته الله لنفسه، وينفى ما نفاه عن نفسه.

    المخاطب لا يفهم معاني الألفاظ إلا بعد معرفة عينها أو ما يناسب عينها

    قال رحمه الله: [واعلم أن المخاطب لا يفهم المعاني المعبر عنها باللفظ إلا أن يعرف عينها أو ما يناسب عينها، ويكون بينها قدر مشترك ومشابهة في أصل المعنى، وإلا فلا يمكن تفهيم المخاطبين بدون هذا قط، حتى في أول تعليم معاني الكلام بتعليم معاني الألفاظ المفردة، مثل تربية الصبي الذي يعلم البيان واللغة، ينطق له باللفظ المفرد ويشار له إلى معناه إن كان مشهوداً بالإحساس الظاهر أو الباطن؛ فيقال له : لبن.. خبز.. أم.. أب.. سماء.. أرض.. شمس.. قمر.. ماء، ويشار له مع العبارة إلى كل مسمى من هذه المسميات، وإلا لم يفهم معنى اللفظ ومراد الناطق به، وليس أحد من بني آدم يستغني عن التعليم السمعي، كيف وآدم أبو البشر وأول ما علمه الله تعالى أصول الأدلة السمعية وهي الأسماء كلها، وكلمه وعلمه بخطاب الوحي ما لم يعلمه بمجرد العقل].

    معلوم أن هذه المسميات لا تفهم إلا بعد التفهيم، فلو قدم إنسان أعجمي إلى هذه البلاد، ولا يعرف ما نتكلم به، احتاج إلى مدة وزمان حتى يعرف المسميات، فيسمع كلمة (رجل)، ولا يدري ما تدل عليه حتى يقال له: هذا هو الرجل، ويسمع كلمة (كرسي) ولا يدري ما هو حتى يقال: هذا هو الكرسي، يسمع كلمة (مسجد) ولا يدري ما هو حتى يقال له: هذا هو المسجد، وهذا هو السقف، وهذا هو الفراش، وهذا هو العمود، وهذه هي الألواح، فيأخذها بالتدريج، كالصبي عندما يلقن كلمة كلمة، فيقال له مثلاً: هذا هو الأب، وهذه هي الأم، وهذا هو الخبز، فإذا سمع كلمة الخبز فقد لا يفهم حتى يشار إليه، وهذا هو اللبن، وهذا هو اللحم، فيأخذها بالتدريج.

    فمعلوم أن هذه الأسماء لا بد أن تفهم بالتدريج، والله تعالى علّم آدم الأسماء كلها كما ورد في الحديث، اسم الإنسان، وأسماء الحيوانات والدواب والأدوات، والكواكب، والحشرات، والنباتات .

    هذا التعليم لا شك أنه لقنه تلقيناً، قيل له: هذا اسمه كذا، هذا اسمه كذا، فكذلك هذه الكلمات التي نتكلم بها في هذه اللغة، وكذلك الأعاجم، لا نعرف اصطلاحاتهم حتى يسموها لنا، فتؤخذ بالتعلم وبالتدريج، فإذا كان معلوماً أن هذه المسميات لها معان، فكلمة (الحب) قد لا نستطيع أن نعبر عن معناها ولكن فهمت باصطلاحنا، والأعاجم لا يدرون ما معناها، حتى يشار لهم.

    الله تعالى أثبت المحبة فنحن نفهمها ونقول: إن معناها كذا فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [آل عمران:76] إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195] ونحو ذلك، وكلمة العجب أثبتها الله بقوله: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ [الرعد:5] فنحن نفهمها بلغتنا، ونترجمها باللغات الأخرى، ونعرف مدلولها ومعناها، وكذا كلمة الغضب، وكلمة الرضا، وكلمة البغض، وكلمة الرحمة، وما أشبه ذلك.

    هذه كلمات تدل على صفات، فلا بد أن العرب الذين نزلت عليهم يفهمون مدلولها، وإذا كان مدلولها واضحاً عندهم، عرف بذلك أنها مفهومة المعاني، وأنها دالة على صفات، وأن الذين قرئت عليهم فهموا مدلولها.

    فهؤلاء الذين أنكروها يقال لهم: أنكرتم شيئاً مفهوماً معقولاً في عقولكم وفي عقول من قبلكم، فأنكرتم الحس والعقل والشرع، فيعرف بذلك أن الألفاظ التي تأولوها أو أنكروها، أو قالوا إنها ذهنية، أو إنها مشتركة اشتراكاً لفظاً، أو إنها مجاز، أو ما أشبه ذلك، لا حجة لهم في ذلك، وذلك كتأويلهم للرحمة وللغضب وللرضا، لليد وللعلو وللنزول وللاستواء وما أشبه ذلك، مع أنها كلمات مفهومة عند الذين نطقوا بها، ومعلوم معناها عندهم كما يعرفون مسمى الخبز ومسمى اللبن ومسمى اللحم وما أشبه ذلك، فيعرفون هذه ويعرفون هذه، فما الذي جعلكم تتأولون الصفات وتتكلمون فيها، ولا تؤولون كلمة الخبز وكلمة اللحم وكلمة التمر وما أشبه ذلك، فالذين تكلموا بهذا يفهمونه كالذين تكلموا بهذا.

    فهذا يبين أن تأويلاتهم بعيدة عن العقل والفطرة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    757009271