إسلام ويب

تفسير سورة الزخرف [61-71]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإنه لعلم للساعة...)

    قال تعالى: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [الزخرف:61]. ((وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ))، الضمير في قوله: (وإنه) إما للقرآن كما قال ذلك بعض المفسرين، فيكون المعنى أن القرآن الكريم يعلم بالساعة ويخبر عنها وعن أهوالها، وفي جعلها عين العلم مبالغة، والعَلَم بمعنى العلامة. وقيل: الضمير لعيسى عليه السلام أي أن ظهور المسيح عليه السلام من أشراط الساعة، ونزوله إلى الأرض في آخر الزمان دليل على فناء الدنيا، قال بعضهم: معناه أن عيسى سبب للعلم بها، وفي قراءة: ((وإنه لعَلَمٌ للساعة)) أي: شرط من أشراط الساعة وعلامة من علاماتها، فالمعروف أن من علامات الساعة الكبرى نزول المسيح عيسى عليه السلام في آخر الزمان. أو إنه سبب للعلم بالساعة؛ لأن عيسى عليه السلام والمعجزات التي أجراها الله سبحانه وتعالى على يده من أعظم الدلائل على إمكان البعث والنشور، فعيسى عليه السلام في حد ذاته خلق من غير أب فهو آية من آيات الله التي تظهر قدرته على كل شيء، ومن ذلك الإحياء بعد الإماتة، وكذلك المعجزات الأخرى من شفاء الأكمه والأبرص، وإحياء الميت بإذن الله، كل هذا يدل على إمكان البعث والنشور، كما تقول: أمطرت السماء نباتاً، أي: أرسلت ماء يتسبب في إنبات النبات. كالجبل الذي يهتدى به إلى معرفة الطريق ونحوه، فبعيسى عليه السلام يهتدى إلى طريقة إقامة الدليل على إمكان الساعة وكيفية حصولها؛ لأننا نستدل بخلقه من غير أب، وبإحيائه الموتى بإذن الله على إمكان حصول الساعة أيضاً.

    نزول عيسى عليه السلام ثابت في القرآن وفي السنة المتواترة

    ((فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)) أي: اتبعوا هداي أو اتبعوا شرعي أو رسولي، أو هو أمر للرسول أن يقول: ((هذا)) أي: القرآن أو ما أدعوكم إليه ((صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)) ((وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ))، أي: عن الاتباع ((إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)). فصل العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى الكلام في هذه الآية يقول: التحقيق أن الضمير في قوله: ( وإنه ) راجع إلى عيسى لا إلى القرآن ولا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى قوله: ((لعلم للساعة)) على القول الحق الصحيح الذي يشهد له القرآن العظيم والسنة المتواترة، هو أن نزول عيسى في آخر الزمان حياً علم للساعة، أي علامة لقرب مجيء الساعة؛ لأنه من أشراطها الدالة على قربها، وإطلاق علم الساعة على نفس عيسى جار على أمرين كلاهما أسلوب عربي معروف. أحدها: أن نزول عيسى المذكور لما كان علامة لقرب الساعة كانت تلك العلامة سبباً لعلم قربها، فأطلق في الآية المسبب وأريد السبب. وإطلاق المسبب وإرادة السبب أسلوب عربي معروف في القرآن وفي كلام العرب، ومن أمثلته في القرآن قوله تبارك وتعالى: وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا [غافر:13]، فالزرق مسبب عن المطر، والمطر سببه، فأطلق المسبب الذي هو الرزق وأريد سببه الذي هو المطر للملابسة القوية التي بين السبب والمسبب. والثاني من الأمرين: أن غاية ما في ذلك أن الكلام على حذف مضاف، والتقدير وإنه لذو علم للساعة، أي وإنه لصاحب إعلام الناس بقرب مجيئها لكونه علامة لذلك، وحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه كثير في القرآن وفي كلام العرب، وإليه أشار في الخلاصة بقوله: وما يلي المضاف يأتي خلفا عنه في الاعراب إذا ما حذفا وهذا الأخير هو أحد الوجهين اللذين وجه بهما علماء العربية النعت بالمصدر كقولك: زيد كرم وعمرو عدل، تقصد: زيد ذو كرم، وعمرو ذو عدل، كما قال تعالى : وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق:2] وقد أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله: ونعتوا بمصدر كثيرا فالتزموا الإفراد والتذكيرا أما دلالة القرآن الكريم على هذا القول الصحيح، فقد قال تعالى في سورة النساء في حق المسيح عليه السلام: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:159]، ومعروف أنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا ويؤمن بعيسى قبل موت عيسى عليه السلام، وذلك صريح في أن عيسى حي وقت نزول آية النساء هذه.

    إثبات الشنقيطي لحياة عيسى عليه السلام بالأدلة

    فقوله هنا: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:159] أي: ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى، وذلك صريح في أن عيسى حي وقت نزول آية النساء هذه، وأنه لا يموت حتى يؤمن به أهل الكتاب، ومعلوم أنهم لا يؤمنون به إلا بعد نزوله إلى الأرض. فإن قيل: قد ذهبت جماعة من المفسرين من الصحابة فمن بعدهم إلى أن الضمير في قوله: ((وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ)) راجع إلى الكتابي، أي: إلا ليؤمنن به الكتابي قبل موت الكتابي، يعني: يقولون إن عيسى يمثل له عند موته، فيراه ويؤمن عند احتضاره وخروج روحه أنه عبد ورسول وليس رباً. فالجواب: أن كون الضمير راجعاً إلى عيسى يجب المصير إليه دون القول الآخر؛ لأنه أرجح منه من أربعة أوجه: الأول: أنه هو ظاهر القرآن المتبادر من السياق، وعليه تنسجم الضمائر بعضها مع بعض، أما القول الآخر فبخلاف ذلك. وإيضاح هذا: أن الله سبحانه تعالى قال: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ [النساء:157]، ثم قال تعالى: (( وَمَا قَتَلُوهُ ))، أي: عيسى، (( وَمَا صَلَبُوهُ )) أي: صلبوا عيسى، (( وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ))، والذي شبه لهم هو عيسى عليه السلام، (( وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ )) أي: في عيسى، (( لَفِي شَكٍّ مِنْهُ )) أي: عيسى، (( مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ ))، أي: عيسى، (( وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا )) أي: عيسى، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء:158] أي: عيسى، وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ [النساء:159] أي: عيسى (( قَبْلَ مَوْتِهِ )) أي: عيسى، (( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا )) أي: يكون عيسى عليهم شهيداً. فهذا السياق القرآني الذي ترى ظاهر ظهوراً لا ينبغي العدول عنه في أن الضمير في قوله: (قبل موته) راجع إلى عيسى. هذا هو الوجه الأول الذي يترجح به عود الضمير إلى عيسى عليه السلام. الوجه الثاني من مرجحات هذا القول: أنه على هذا القول الصحيح، فمفسر الضمير ملفوظ مصرح به في قوله تعالى : (( وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ )). وأما على القول الآخر فمفسر الضمير ليس مذكوراً في الآية أصلاً، بل هو مقدر تقديره: (ما من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به قبل موته)، أي: موت أحد أهل الكتاب المقدر. أي: فعلى القول بأن الضمير في قوله: (موته) راجع إلى الكتابي، لا يجود ما يفسر الضمير في الآية، فيحتاج إلى تقديره بما ذكر، وهو تكلف، ولا شك أن التفسير الذي لا يحتاج إلى تقدير أرجح وأولى مما يحتاج إلى تقدير؛ فإذا فسرناه: ((وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ)) أي: قبل موت المسيح ما احتجنا إلى أي تقدير؛ لأن كل الضمائر كما ذكرنا سياقها في شأن المسيح عليه السلام، أما على القول الآخر فلا بد من تقدير. الوجه الثالث من مرجحات هذا القول الصحيح: أنه تشهد له السنة النبوية المتواترة؛ فلقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن المسيح عيسى عليه السلام حي الآن، وأنه سينزل في آخر الزمان حكماً مقسطاً، ولا ينكر تواتر السنة بذلك إلا مكابر. وللأسف الشديد أنه تورط بعض من له فضل على مذهب السلفية في مصر، وهو الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى وعفا عنه، حيث تابع شيخه الشيخ محمد عبده في هذه الضلالة، وهي إنكار نزول المسيح عيسى عليه السلام آخر الزمان! رغم خدمات الشيخ رضا للمنهج السلفي، وأنه ممن أحيوا هذا المنهج هنا في مصر، ومع ذلك كان في متابعاته لـمحمد عبده ما نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعفو عنه فيه، أو عنهما جميعاً، فهذا مما ضل فيه وزل الشيخ رشيد رضا رحمه الله تعالى، والعلماء ردوا عليه في عدة كتب. قال ابن كثير بعدما نصر هذا القول: هذا القول هو الحق كما سنبينه بعد بالدليل القاطع إن شاء الله تعالى ا هـ. ويعني بالدليل القاطع: الأحاديث المتواترة تواتراً معنوياً؛ لأن الروايات كثيرة جداً؛ لكن القدر المجمع المتفق عليه هو إثبات نزول المسيح عليه السلام، وليس مثلاً كحديث: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)؛ لأن التواتر هنا تواتر لفظي. يقول الشنقيطي معلقاً على قول ابن كثير : هذا القول هو الحق كما سنبينه بعد بالدليل القاطع إن شاء الله تعالى ا هـ . يقول: وقوله: بالدليل القاطع، يعني السنة المتواترة؛ لأنها قطعية، وهو صادق في ذلك، وقال ابن كثير في تفسير آية الزخرف ما نصه: وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بنزول عيسى عليه السلام قبل يوم القيامة إماماً عادلاً وحكماً مقسطاً، وأما القول بأن الضمير في قوله (قبل موته) راجع إلى أهل الكتاب فهو خلاف ظاهر القرآن، ولم يقم عليه دليل لا من كتاب ولا سنة. الوجه الرابع : هو أن القول الأول الصحيح واضح لا إشكال فيه، ولا يحتاج إلى تأويل ولا تخصيص بخلاف القول الآخر، فهو مشكل لا يكاد يصدق إلا مع تخصيص، والتأويلات التي يروونها فيه عن ابن عباس وغيره، ظاهرة البعد والسقوط؛ لأنه على القول بأن الضمير في قوله (قبل موته) راجع إلى عيسى فلا إشكال ولا خفاء، ولا حاجة إلى تأويل، ولا إلى تخصيص . أما على القول بأنه راجع إلى الكتابي فإنه مشكل جداً بالنسبة لكل من فاجأه الموت من أهل الكتاب! يعني: لا يمكن الأخذ بهذا القول الثاني إلا بتأويل أو تخصيص؛ لأنه من الممكن أن يأتي الموت لأي رجل كتابي فجأة، فلا يمكنه أن يرى عيسى ولا غيره، كمثل من سقط من مكان عال إلى أسفل، أو من قطع رأسه بالسيف فجأة وهو غافل، أو من مات وهو نائم.. ونحو ذلك، فلا يصدق هذا العموم المذكور في الآية على هذا النوع من أهل الكتاب إلا إذا ادعى إخراجهم منه بمخصص. فيقال: كل أهل الكتاب ما من منهم أحد حينما يموت إلا ويؤمن بالمسيح قبل موته إلا من سقط من أعلى إلى أسفل، وإلا من صدمته سيارة فمات فجأة، وإلا من مات وهو نائم، وإلا من قطع رأسه بالسيف وهو غافل، وإلا من كذا وكذا ممن لن يستطيعوا أن يروا المسيح قبل الموت ويؤمنوا به. وهذا التخصيص ليس عليه دليل. ولا سبيل إلى تخصيص عمومات القرآن، إلا بدليل يجب الرجوع إليه من المخصصات المتصلة أو المنفصلة. وبهذا كله تعلم أن الضمير في قوله (قبل موته)، راجع إلى عيسى، وأن تلك الآية من سورة النساء تبين قوله تعالى هنا: (وإنه لعلم للساعة)، كما ذكرنا.

    إبطال الشنقيطي بأن عيسى قد توفي من أربعة أوجه

    فإن قيل: إن كثيراً ممن لا تحقيق عندهم يزعمون أن عيسى قد توفي، ويعتقدون مثل ما يعتقده ضلال اليهود والنصارى، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران:55]، وقوله تعالى على لسان المسيح: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ [المائدة:117]. وهذا السياق للأسف الشديد أورده الشيخ محمد رشيد رضا وهو شيء مؤلم حقيقة وددنا لو لم يقع في مثل هذه الزلات! فالجواب: أنه لا دلالة في إحدى الآيتين البتة على أن عيسى قد توفي فعلاً، أما قوله تعالى: (إني متوفيك) فإن دلالته المزعومة على ذلك منفية من أربعة أوجه: الأول: أن قوله: (متوفيك) حقيقة لغوية في أخذ الشيء كاملاً غير ناقص، والعرب تقول: توفى فلان دينه يتوفاه فهو متوف له، إذا قبضه وحازه إليه كاملاً من غير نقص. فمعنى: (إني متوفيك) في الوضع اللغوي أي حائزك إلي كاملاً بروحك وجسمك، وعيسى عليه السلام رفع بجسده وروحه، ولو سلمنا جدلاً أن قوله: (إني متوفيك) معناها: إني مميتك، فلا إشكال فيها فإننا نؤمن بأن الله سوف يميت المسيح يوماً من الأيام بعد ما ينزل، كل ما في الأمر أنه لم يحدد متى سيتوفاه، فلم يقل مثلاً: إني متوفيك قبل رفعك إلى السماء، وإنما قال: ( إني متوفيك )، فهذا لا يدل على تعيين الوقت، ولا يدل على كونه مضى، وهو متوفيه قطعاً يوماً ما. وبعض الناس قد يقول: ألم يقل الله: (إني متوفيك ورافعك إلي) فربط التوفي بالرفع على أساس أن العطف يقتضي التتابع أو الترتيب؟! فنقول: لا دليل في ذلك؛ لإطباق جمهور أهل اللسان العرب على أن الواو لا تقتضي الترتيب ولا الجمع، وإنما تقتضي مطلق التشريك، وقد ادعى السيرافي والسهيلي إجماع النحاة على ذلك، وعزاه الأكثر للمحققين وهو الحق، خلافاً لـقطرب والفراء وثعلب وأبو عمرو الجاحظ وهشام والشافعي من أنها تفيد الترتيب لكثرة استعمالها فيه، وقد أنكر السيرافي ثبوت هذا القول عن الفراء وقال: لم أجده في كتابه، وقال ولي الدين: أنكر أصحابنا نسبة هذا القول إلى الشافعي. وخلاصة الكلام أن الواو تقتضي مطلق التشريك، تقول: جاء محمد وعلي وحسن، فالعطف هنا يقتضي أنهم كلهم اشتركوا في المجيء، لكن لا يفيد أن مجيئهم كان مرتباً، بخلاف ما إذا قلت: جاء علي ثم محمد ثم حسن، فإن (ثم) تقتضي الترتيب. وقد استدل القائلون بالترتيب بقول النبي عليه الصلاة والسلام: (أبدأ بما بدأ الله به (( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ )))، ولكن لا يدل ذلك على اقتضائها الترتيب، وإنما تدل على الاهتمام بالشيء المقدم، فقد يكون العطف بها مع قصد الاهتمام بالمذكور الأول، كقوله: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158]، وأحياناً يكون المعطوف بها مرتباً، كما قال حسان: هجوت محمداً وأجبت عنه وعند الله في ذلك الجزاء على رواية الواو، لأن هناك رواية أخرى: هجوت محمداً فأجبت عنه وقد يراد بالواو المعية، كما في قوله: فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ [العنكبوت:15]، يعني مع أصحاب السفينة، وقوله: وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ [القيامة:9]، يعني مع القمر، لكن لا تحمل الواو على الترتيب ولا على المعية إلا بدليل منفصل يدل على ذلك. فهذا هو الوجه الأول في الجواب. الوجه الثاني: أن معنى ( إني متوفيك ) أي: منيمك، ( ورافعك إلي )، أي في تلك النومة. كأنه ألقي عليه النوم ثم رفعه الله سبحانه وتعالى إليه، وقد جاء في القرآن إطلاق الوفاة على النوم في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ [الأنعام:60]، وقال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا [الزمر:42] وعزا ابن كثير هذا القول للأكثرين، واستدل بالآيتين المذكورتين. الوجه الثالث: أن (متوفيك)، اسم فاعل توفاه، إذا قبضه وحازه إليه، ومنه قولهم: توفى فلان دينه إذا قبضه إليه، فيكون معنى ( متوفيك ) على هذا: قابضك منهم إلي حياً، وهذا اختيار شيخ المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى. ثم أعاد التنبيه في بيان أن (متوفيك) حقيقة لغوية في أخذه بروحه وجسمه كاملاً من غير نقصان، فالمعنى أنه توفاه بالروح والجسد، في حين أن معنى: إني مميتك فيها التوفي بالروح فقط وليس الجسد، فيكون قوله: (إني متوفيك) دالاً على نقيض ما يستدلون له. الدليل الثاني: أن ( متوفيك ) وصف محتمل للحال والاستقبال والماضي، ولا دليل في الآية على أن ذلك التوفي قد وقع ومضى، بل السنة المتواترة والقرآن دالان على خلاف ذلك، أي على أن ذلك في المستقبل بعدما ينزل إلى الأرض. الثالث: أنه توفي نوم، وقد ذكرنا الآيات الدالة على أن الوفاة تطلق على النوم. أما قوله تعالى: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ [المائدة:117]، فدلالته على أن عيسى مات، ودلالة هذا القول على أن عيسى مات منفية من وجهين: الأول منهما: أن عيسى عليه السلام يقول ذلك يوم القيامة، ولا شك أنه يموت قبل يوم القيامة،، فإخباره يوم القيامة بموته لا يدل على أنه الآن قد مات كما لا يخفى. والثاني منهما: أن ظاهر الآية أنه توفي رفع وقبض للروح والجسد لا توفي موت. وإيضاح ذلك أن مقابلته لذلك التوفي بالديمومة فيهم في قوله: وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ [المائدة:117]، تدل على ذلك؛ لأنه لو كان التوفي هنا توفي موت لقال: وكنت عليهم شهيداً ما دمت حياً فلما توفيتني؛ كما قال: وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا [مريم:31]؛ لأن الذي يقابل بالموت هو الحياة، أما التوفي الذي يقابل بالديمومة فيهم والبقاء فيهم فالظاهر أنه توفي انتقال عنهم إلى موضع آخر، وهو الرفع إلى السماء، فيكون المعنى: (وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني) أي: نقلتني من الأرض إلى السماء، ولم أعد دائماً فيهم. وأما الوجه الرابع من الأوجه المذكورة سابقاً: أن الذين زعموا أن عيسى قد مات، قالوا: إنه لا سبب لذلك الموت، إلا أن اليهود قتلوه وصلبوه، فإذا تحقق نفي هذا السبب وقطعهم أنه لم يمت بسبب غيره، تحققنا أنه لم يمت أصلاً، وذلك السبب الذي زعموه منفي يقيناً بلا شك؛ لأن الله جل وعلا قال: (( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ))، وقال تعالى: (( وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ )). فإذا أتى اليقين من الله سبحانه وتعالى بنفي موت المسيح عليه السلام بالقتل ونفي موته بالصلب لم يبق إلا أنه رفعه إليه، ومن ادعى أن المسيح مات لم يدع إلا بسبب من هذين السببين إما القتل وإما الصلب، فإذا نفى الله قطعاً كلا السببين لم يبق إلا أنه باق على الحياة، قال تعالى: ((وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ))، وقال أيضاً: (( وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ))، وانظر إلى الإضراب والانتقال من الضد إلى الضد، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:158]، وفيها إشارة إلى معنى العزة والقهر والغلبة، وأن الله ينفذ إرادته ضد إرادة من أراد قتل المسيح عليه السلام أو صلبه. وضمير (رفعه) في قوله: (بل رفعه الله إليه) ظاهر في رفع الروح والجسم معاً. وقد بين الله جل وعلا مستند اليهود في اعتقادهم أنهم قتلوه بأن الله ألقى شبهه على إنسان آخر، فصار من يراه يعتقد اعتقاداً جازماً أنه عيسى عليه السلام، وهذا هو السبب في أنهم أنفسهم يقولون: (( إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ))، فهم رأوا صورة المسيح على شخص آخر، فرآه اليهود لما أجمعوا على قتل عيسى فاعتقدوا لأجل ذلك الشبه الذي ألقي على هذا الشخص اعتقاداً جازماً أنه عيسى فقتلوه، فهم يعتقدون صدقهم في أنهم قتلوه وأنهم صلبوه، ولكن العليم اللطيف الخبير أوحى إلى نبيه في الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أنهم لم يقتلوه ولم يصلبوه، فمحمد صلى الله عليه وسلم والذين اتبعوه عندهم علم من الله بأمر عيسى لم يكن عند اليهود ولا النصارى، كما أوضحه تعالى بقوله: ((وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ )). والحاصل أن القرآن العظيم على التفسير الصحيح والسنة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم كلاهما دال على أن عيسى حي، وأنه سينزل في آخر الزمان، وأن نزوله من علامات الساعة، وأن معتمد الذين زعموا أنهم قتلوه ومن تبعهم هو إلقاء شبهه على غيره، واعتقادهم الكاذب أن ذلك المقتول الذي شبه بعيسى هو عيسى، وقد عرفت دلالة الوحي على بطلان ذلك، وأن قوله: (متوفيك) لا يدل على موته فعلاً، وقد رأيت توجيه ذلك من أربعة أوجه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولما جاء عيسى بالبينات... هذا صراط مستقيم)

    قال تعالى: وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [الزخرف:63]. ((تَخْتَلِفُونَ فِيهِ)) أي: من أحكام التوراة وغيرها، كاختلاف اليهود في القيامة لعدم صراحتها في كتبهم، وقد جاء في نحوها آية: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران:50]، وقد وضع عيسى عن اليهود شيئاً من إصر التوراة وأغلال الناموس كما فعل في يوم السبت. قال بعض المحققين: وإنما لم يقل: لأبين لكم كل ما تختلفون فيه، بل قال: ((وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ))، لأنه لم يفعل ذلك، بل ترك بيان كثير من الأشياء كالفساد الذي دخل في أغلب كتبهم تركه للفارقليد، أي: لمحمد صلى الله عليه وسلم الذي يأتي بعده، وجاء في آخر طبعات الأناجيل في قصة نهاية مواقف المسيح عليه السلام أنه قال لمن حوله من الحواريين: إنني ينبغي أن أنصرف عنكم الآن؛ لأني إن لم أنصرف لا يأتيكم الفارقليد روح الحق الذي هو من عند الله سبحانه وتعالى، يأتيكم ويخبركم بكل ما كنت أريد أن أقوله لكم، وإنه ينطق بالحق على فمه، ولا بد أن أمضي الآن، حتى يأتيكم الفارقليد. والذي سوف يدين العالم ويفعل كذا وكذا. فتكرر استعمال لفظ الفارقليد أو الفارقليتوس باللغة اليونانية القديمة، وقد كان صاحب كتاب صصد الأنبياء على معرفة بأستاذ اسمه كارلون لينو وهو إيطالي متخصص ومتعمق جداً في اللغة اليونانية القديمة، فقال له: ما معنى كلمة الفارقليد فقال له: إن القسس يزعمون أن معناها المعزي أو المخلص أو المحامي إلى آخر كلامهم، فقال له: أنا لا أسأل القسس أو القساوسة، ولكني أسأل الدكتور كارلون لينو الحاصل على الدكتوراة في آداب اللغة اليونانية القديمة، فقال: إنها تعني الشخص الذي في اسمه حمد كثير، قلت له: هل يعني ذلك صيغة أفعل التفضيل من حمد أو أحمد، قال: نعم، قال: كذلك اسم نبينا محمد وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6]، قال: يا أخي إنك تقرأ كثيراً وسكت اكتفاء بهذا التعليق! وهناك بحوث كثيرة جداً وخاصة من علماء النصارى الذين يدخلون في الإسلام عن علم وعن خبرة وبحوث في غاية العمق، خاصة عبد الأحد داود الذي كان من أكبر قساوسة الطائفة الكلدانية في العراق، ثم أسلم، وله كتب في غاية القوة، ولهم بحوث مستفيضة في ذلك، الذين قاموا بالترجمة من اللغة العبرانية التي تكلم بها المسيح عليه السلام على هذه الكلمة (الفارقليد) لم يحافظوا على اللفظ، بل ترجموا الكلمة بمعناها، مع أن المفروض أن الأعلام لا تغير، فالذي اسمه كريم يظل اسمه في كل العالم (كريماً)، وتكتب حتى بالإنجليزي (KAREEM) مثلاً، لكن الذي حصل أنهم لما ترجموا أحمد ترجموها بالمعنى، مثل أن تحول كريم إلى: جنرس!! فحولتها لمعنى اللغة التي ترجمتها، فهذا الذي فعلوه بكلمة أحمد، حيث ترجمت على أنها صيغة أفعل التفضيل من المدح، والشخص الذي في اسمه حمد ومدح وثناء كثير هو محمد أو أحمد. فهذا هو السبب في أن هذه الكلمة الفارقليد التي تعني أن هذا الاسم شخص في اسمه حمد كثير، على وزن أفعل التفضيل من حمد، يعني: أحمد بالضبط، فالذي حصل أنهم تناقلوه، لما كثر استدلال المسلمين بهذه الآية، وكثر دخول النصارى في الإسلام بسبب ورود نص في الإنجيل على الفارقليد وأن المسيح مضى كي يأتي الفارقليد ، وأنه سوف يغير كل شيء، وأنه ينطق بالحكمة ويعلمهم كل ما يحتاجونه، وأنه هو الذي سيدين هذا العالم وغير ذلك من صفات النبي عليه السلام؛ عندها بدءوا مهنة التحريف، فبدأوا يتجنبون في الطبعات الأخيرة من الأناجيل كلمة الفارقليد ويقولون: المعزي أو المخلص كي يهربوا من ذلك، لكن الأناجيل القديمة كلها كانت تستعمل الفارقليد. فقوله: وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ [الزخرف:63]، إنما قال: (بعض) لأنه ترك مهمة تبيين كل ما يختلفون فيه إلى من سيأتي بعده، وهو النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي أتى بكتاب يهيمن على كل الكتب السابقة، وذلك لعدم استعداد الناس في زمانه لقبول كل شيء منه، كما قال هو عن نفسه في إنجيل يوحنا في الإصحاح السادس عشر: وخصوصاً إذا تعرض للطعن في كتبهم، وهي رأس مالهم الوحيد، وتراث أجدادهم، ولو أنه كشف لهم التزييف الذي زيفوه لشك فيه الكثيرون منهم وكذبوه، ولما اتبعه إلا الأقلون أو النادرون. وأما قول الله تعالى على لسانه: وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ [آل عمران:50]، فالمراد بمثل هذا التعبير أنه بمجيئه عليه السلام تحققت نبوات التوراة عنه، وبه صحت وصدقت، يعني: أن المسيح أخبرت به التوراة، فمجيئه بعد ذلك مما يصدق أن التوراة من عند الله، وكلمة التوراة تطلق على كتب العهد القديم، فالمعنى أن النبي عيسى كان وفق ما أنبأ به النبيون عنه من قبل، ولولاه لما صدقت تلك النبوات فإنها لا تنطبق إلا عليه، وليس المراد أن عيسى يقر كل ما في التوراة كما يتوهم النصارى الآن من مثل هذه الآية، وإلا لما قال بعدها مباشرة: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران:50]، فكيف يقرها وهو قد جاء ناسخاً لبعض ما فيها؟! فتدبر ذلك ولا تكن كهؤلاء الذين يهرفون بما لا يعرفون، والمفسرون ما لا يفهمون. انتهى كلامه، وهو وجيه جداً. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ [الزخرف:64]. قال ابن جرير : أي إن الله الذي يستوجب علينا إفراده بالألوهية وإخلاص الطاعة له عز وجل هو ربي وربكم جميعاً، فاعبدوه وحده لا تشركوا معه في عبادته شيئاً. ((هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)) أي: هذا الذي أمرتكم به من اتقاء الله وطاعته، وإفراده بالألوهية هو الطريق القويم، وإذا كان هذا قول عيسى عليه السلام فلا عبرة بقول الملحدين فيه والمفترين عليه ما لم يقله، ثم أشار إلى وعيد من خالف الحق بعد وضوحه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم)

    قال سبحانه وتعالى: فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ [الزخرف:65] أي: اختلفت الفرق المتحزبة اختلافاً نشأ من بينهم، ولم ينشأ الاختلاف من كلام الله، ولا من كلام عيسى، وإنما نشأ من بينهم هم، فهم الذين اختلفوا في الحق ظلماً وعناداً. ((فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ)) أي: مؤلم من شدة الأهوال وكثرة الفضائح، وظلمهم بترك النظر في الدلائل العقلية والنقلية. ((فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ)) ولا بد من تفسير الذين ظلموا بالذين كفروا، وفي القرآن يطلق الظلم على الظلم الأكبر: الكفر والشرك، ويطلق كذلك على ظلم دون ظلم وهو المعصية، فهنا لا بد من تفسير ظلموا بالذين كفروا، بدليل ما جاء في سورة مريم: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ [مريم:37] في نفس المناسبة، وقال تبارك وتعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، وقال أيضاً: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:254]، وقال عز وجل: وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [يونس:106]، وقال عز وجل: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82]، وقد جاء في الحديث تعيين الظلم هنا بأنه الشرك.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (هل ينظرون إلا الساعة... إلا المتقين)

    قال تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:66-67]. ((هَلْ يَنظُرُونَ)) أي قريش، وينظرون أي: ينتظرون، والاستفهام هنا بمعنى النفي، أي: لا ينتظر الكفار ((إِلَّا السَّاعَةَ)) أي القيامة، ((أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً)) أي: في حال كونها مباغتة، أو مفاجئة لهم، وهم لا يشعرون بمفاجأتها في حال غفلتهم وعدم شعورهم بمجيئها. والمصدر من (أن) وصلتها في قوله: ((أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً)) في محل نصب على أنه بدل اشتمال من الساعة. قال تعالى: ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [الأعراف:187]، وقال تعالى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا [محمد:18]، وقال تعالى: مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ [يس:49]. ((الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ)) أي: المتخالون على المعاصي والفساد والصد عن الحق يوم القيامة ((بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)) أي: معادٍ يتبرأ كل من صاحبه ((إِلَّا الْمُتَّقِينَ)) إلا المتصادقين في طاعة الله ومحبته عز وجل.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا عباد لا خوف عليكم...أنتم وأزواجكم تحبرون)

    قال تعالى: يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ [الزخرف:68-69]. ((يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ)) يعني: يؤمنهم من العذاب، ((وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)) أي: على فوات لذات الدنيا، لكونهم على حال ألذ منها وأحسن حالاً وأجمل. ((الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا)) أي: صدقوا بكتاب الله ورسله، وعملوا بما جاءتهم به رسلهم، ((وَكَانُوا مُسْلِمِينَ)) أي: أهل خضوع لله بقلوبهم وقبول منهم لما جاءتهم به رسلهم عن ربهم على دين إبراهيم عليه السلام، حنفاء لا يهود ولا نصارى ولا أهل أوثان ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ [الزخرف:70]. قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: ((يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)): ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة بعض صفات الذين ينتفي عنهم الخوف والحزن يوم القيامة، فذكر منها هنا الإيمان بآياته والإسلام، وذكر بعضاً منها في غير هذا الموضع، فمن ذلك -يعني: مما ينفي عن الإنسان الخوف والحزن يوم القيامة-: الإيمان والتقوى، قال سبحانه وتعالى في سورة يونس: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63] ومن ذلك أيضاً: الاستقامة، وقولهم: (ربنا الله) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]، وقال في الأحقاف: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأحقاف:13]. والخوف في لغة العرب: الغم من أمر مستقبل. والحزن: الغم من أمر ماض. وربما استعمل كل منهما في موضع الآخر. وإطلاق الخوف على العلم أسلوب عربي معروف. قال بعض العلماء: ومنه قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ [البقرة:229]، يعني: إلا أن يعلما ألا يقيما حدود الله، ومنه أيضاً قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى [النساء:3] يعني: إذا علمتم أنكم لن تعدلوا في اليتامى. ومنه قول أبي محجن الثقفي : إذا مت فادفني إلى جنب كرمة تروي عظامي في الممات عروقها يعني: من شدة ما يحب شرب الخمر يتمنى أن يدفنوه بعد موته إلى جنب شجرة عنب، حتى تروي عظامه بالكرم، فالعروق والجذور تتغلغل في الأرض وتصل للعظام. ولا تدفنني في الفلاة فإنني أخاف إذا ما مت ألا أذوقها في الفلاة: أي في الصحراء الخالية، بل ادفني في بستان فيه شجرة عنب. (فإني أخاف): أخاف هنا معناها: أعلم، أنني إذا مت لن أستطيع أن أذوقها؛ لأنه لا يشك في أنه لا يشربها بعد موته. قوله تعالى: ((الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ)) ظاهره المغايرة بين الإيمان والإسلام، وقد دلت بعض الآيات على اتحادهما كقوله تعالى: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:35-36]، ولا منافاة في ذلك، فإن الإيمان يطلق تارة على جميع ما يطلق عليه الإسلام من الاعتقاد والعمل، كما قال عليه الصلاة والسلام: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)، وثبت في الصحيح حديث وفد عبد القيس، وفيه أنه جعل من الإيمان الأعمال الظاهرة: أن تشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وأن تحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً. وقال تبارك وتعالى: ((ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ)) أي: تسرون سرواً يظهر حبوره أي أثره على جلودكم، كما قال تعالى: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين:24]. قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: ((ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ)). قوله تعالى: ((أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ)) فيه لعلماء التفسير وجهان: أحدهما: أن المراد بأزواجهم نظراؤهم وأشباههم في الطاعة، ومن هم على شاكلتهم في الإيمان وتقوى الله، وهذا القول اقتصر عليه ابن كثير القول الثاني: أن المراد بأزواجهم: نساؤهم في الجنة، قالوا: لأن هذا الأخير أبلغ في التنعم والتلذذ من الأول؛ ولذا يكثر في القرآن ذكر إكرام أهل الجنة بكونهم مع نسائهم دون الامتنان عليهم بكونهم مع نظرائهم وأشباههم في الطاعة، قال تعالى : إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ [يس:55-56]، وقال تعالى: وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ [الدخان:54] وقال: وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ [الواقعة:22-23]، وقال: فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ [الرحمن:70]، إلى قوله: حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ [الرحمن:72]، وقال: وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ [ص:52]. ومفرد الأزواج زوج بلا هاء -يعني هذا هو الأصل في اللغة- والزوجة بالهاء لغة وليست لحناً، خلافاً لمن زعم أن الزوجة من لحن الفقهاء، وأن ذلك لا أصل له في اللغة، ومنها قول الفرزدق : وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي كساع إلى أسد الشرى يستبيلها وقول الحماسي : فبكى بناتي شجوهن وزوجتي والظاعنون إلي ثم تصدعوا وفي صحيح مسلم من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صفية : (إنها زوجتي). وقوله: ((تحبرون)) معناه: أنهم يكرمون بأعظم أنواع الإكرام وأتمها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يطاف عليهم بصحاف من ذهب... وأنتم فيها خالدون)

    قال تعالى: يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الزخرف:71]. الصحاف: جمع صحفة وهي آنية الأكل، والأكواب: جمع كوب، وهو ما يشرب منه كالكوز، لكن الكوب ما لا عروة له، قال الشهاب : ما يمسك منه، ويسمى أذناً، ولذا قال من قال فيه: وذي أذن بلا سمع له قلب بلا قلب إذا استولى على صب فقل ما شئت في الصب (وذي أذن بلا سمع) يعني: هو الشيء الذي له أذن لكن لا يسمع بها، وهو الإبريق الذي يكون له أذن يمسك منها (إذا استولى على صب) الصب: يعني المولع بالغرام والشوق. (فقل ما شئت في الصب) يعني: صب الماء. ومن اللطائف هاهنا أنه قيل: إنه لما كانت الأواني للمأكولات أكثر بالنسبة لأواني المشروب في العادة جمع الأول جمع كثرة، والثاني جمع قلة؛ لأن أواني الأكل تكون أكثر، وأواني الشرب تكون أقل. ((وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ))، أي: تلتذ الأعين برؤيته لحسنه، كما قال تعالى: صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ [البقرة:69] وأسند اللذة إلى العين وإن كان المقصود الرائي بالعين، وهذا كإسناد الكذب والخطيئة إلى الناصية نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ [العلق:16]، والمقصود صاحب هذه الناصية أي: الشخص نفسه، كذلك أيضاً إسناد الخشوع إلى الوجوه وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ [الغاشية:2-3]، المقصود بها الشخص كله، لكن عبر عنها بالوجوه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767424369