الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.
أما بعد:
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب: البكاء على الميت.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (اشتكى
هذا الحديث متفق عليه.
وله هذا الحديث فيه فوائد:
ويستحب للإنسان أن يبادر في الزيارة، وألا يتعذر بالمعاذير؛ لأن الطوارق والمشاغل كثيرة.
فالذين يبكون من غير صوت لا يعذبون، وأما الذي يبكي بصوت فإنه ممنوع، وقد كان الإمام أحمد في مرض موته يئن، فدخل عليه أحد طلاب العلم فقال: يا أبا عبد الله حدثنا فلان عن فلان أن طاوساً قال: الأنين توجع قال: فسكت عن الأنين مع شدة ألمه، وهذا من محبته للأثر، ولو لم يكن مرفوعاً أو موقوفاً.
عن أبي مالك الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة، وقال: النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب ) ].
هذا الحديث رواه مسلم في صحيحه، ورواه البخاري معلقاً موقوفاً على ابن عباس بنحو هذا الحديث.
هذا الحديث يفيد أن مفاخرة الناس بأحسابهم ليست محمودة في الشرع، وأنها من أمر الجاهلية، وقد تحصل من الصالح وغيره، وهو يفيد أن الشخص الصالح ربما يقع في أمر من أمور الجاهلية، كالطعن في الأنساب واستنقاص النسب.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ليس منا من ضرب الخدود أو شق الجيوب أو دعا بدعوى الجاهلية )، وفي رواية: وشق ودعا ].
هذا الحديث متفق عليه.
قوله: (ليس منا) يعني: ليس من هدينا، ولا من طريقتنا، ولا من شريعتنا، وهل هذا يفيد أنه كبيرة أو أنه محرم؟ الذي يظهر والله أعلم أن ذلك لا يفيد الكبيرة، ولكنه يفيد التحريم، والله أعلم.
عن عمرة بنت عبد الرحمن أنها سمعت عائشة رضي الله عنها، وذكر لها أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: ( إن الميت ليعذب ببكاء الحي، فقالت
هذا الحديث متفق عليه.
وهذه من المسائل التي ذكرها بعض العلماء في مخالفة عائشة رضي الله عنها لبعض الصحابة، وهذه المسألة تكلم فيها أهل العلم، والذي يظهر والله أعلم هو اختيار أبي العباس بن تيمية رحمه الله، وهو أن الحديث ثابت عن عمر و ابن عمر و المغيرة وغيرهم، وليس كما ذكرت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بأن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما ذكر ذلك أشار إلى واقعة عين، فالراجح أنها ليست قضية عين، وهذه من المسائل التي استدل بها علماء الأصول على أن القصور موجود حتى في عهد الصحابة، فـعائشة كأنها تقول: إن هذه قضية عين، وليست حكماً عاماً.
ومعناه على الراجح أن الميت يتألم، والتألم ليس عذاباً بمعنى العقوبة، وقد جاء في الحديث: ( ما من مسلم ينوح عليه أهله إلا وملكان يلهزانه يقولان له: أكنت كما قيل؟ ) فهذا يدل على أنه يتألم ويتضجر ويحزن، وهذا نوع من الألم؛ لأن المشقة عذاب، كما جاء في الصحيحين: ( السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم طعامه وشرابه ) ومعنى (قطعة من العذاب) قطعة من المشقة والألم، هذا الذي يظهر والله أعلم.
فالعذاب أعم من أن يكون عقوبة، وبهذا تأتلف الأحاديث والقواعد الشرعية؛ لأنه من المعلوم قول الله تعالى: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]، فالإنسان إذا أخطأ أهله، فإنه لا يعذب، وبعض العلماء يقول: إن معناه أن الميت ليعذب ببكاء الحي عليه إذا كان قد أوصى بذلك، أو أشعر أنه يريد ذلك، وهذا وإن كان معناه صحيحاً، لكن الذي يظهر أن هذا ليس ظاهر الحديث إلا إذا كان من باب دلالة الالتزام، والله أعلم.
عن أبي قتادة بن ربعي رضي الله عنه: ( أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر عليه بجنازة فقال: مستريح ومستراح منه. قالوا: يا رسول الله! ما المستريح وما المستراح منه؟ فقال: العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب ) ].
هذا الحديث متفق عليه، وزاد البخاري : (العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا إلى رحمة الله).
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المستريحين، والحياة متاع ولهو، متاع بما يحصل للإنسان من مال أو ولد أو زوجة، ولهو بما يحصل له وراء ذلك، من الفخر والسمعة والجاه كل ذلك سماه الله متاعاً ولهواً، وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا [الكهف:46].
عن أم عطية رضي الله عنها قالت: ( لما ماتت
هذا الحديث متفق عليه، وفي رواية: ( اغسلنها ثلاثاً أو خمساً، أو أكثر من ذلك إذا رأيتن ذلك ) وزيادة: ( أو أكثر من ذلك إذا رأيتن ذلك بماء وسدر واجعلنها في الآخر )، رواها البخاري و مسلم.
هذا الحديث يفيد ما ذهب إليه جمهور أهل العلم من أن غسل الميت واجب، وهل هو فرض عين أم فرض كفاية؟ الصحيح أنه فرض كفائي؛ لأن من أشهر الفروق بين الفرض الكفائي وفرض العين أن الفرض الكفائي: طلب تحصيل الفعل، وأما فرض العين فهو طلب تحصيل فعل المحل، وليس الفعل نفسه، وهذا منها والله أعلم.
ويفيد أيضاً استحباب الغسل ثلاثاً.
ويفيد أيضاً جواز التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم حيث أنه أمر أن يشعرنها شيئاً كان يتجسده صلى الله عليه وسلم، ومعنى (أشعرنها إياه) يعني: اجعلنه ملتصقاً بجسدها؛ ولهذا قال: ( الأنصار شعار وغيرهم دثار ) كما جاء في صحيح مسلم وغيره، ومعنى (شعار) يعني: أنهم إليه أقرب، والشعار هو الذي يلتصق بالجسد، وأما الدثار فهو الذي يكون من الخارج.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف ليس فيها قميص ولا عمامة، أما الحلة فإنما شبه على الناس فيها أنها اشتريت له ليكفن فيها، فتركت الحلة وكفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية، فأخذها
هذا الحديث متفق عليه، لكن قولها: (أما الحلة) إلى آخر الحديث فرواها مسلم يعني: ( كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف ليس فيها قميص ولا عمامة )، هذا الحديث متفق عليه بهذا اللفظ.
وهو يفيد استحباب أن يكفن الإنسان في ثلاثة أثواب، وطريقة الكفن معروفة أن يؤخذ الثوب الأول، ويكون الثاني فوقه، ويكون الثالث فوقه، ثم يوضع الميت؛ العريض طرفه على رأسه، والقصير على رجليه، ثم يؤتى بالأعلى الأول فيلف على الميت، ويكون أكثره على رأسه، ثم يؤتى بالثاني ويضم، ثم الثالث هكذا، ثم يبرم من جهة رجليه، ثم يؤخذ الزائد على رأسه ويعاد إلى جسده، (ثلاثة أثواب بيض سحولية). ويوضع مع كل ثوب حنوط وكافور وشيء من الطيب، غير ما يطيب به جسده. ويجوز أن يكفن بأقل من ذلك، فقد كفن أبو بكر في ثوبين، وقد كان أوصى بأن يكفن في ثوبيه، وقال: الجديد إنما هو للحي والخلق للميت، وهذا من تواضعه رضي الله عنه وأرضاه.
وأما الحلة فهي ثوبان: إزار ورداء، وصدق عبد الله بن أبي بكر لو كان رضيها الله لنبيه لكفنه فيها، والله أعلم.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوماً، فذكر رجلاً من أصحابه قبض فكفن في كفن غير طائل وقبر ليلاً، فزجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلى عليه إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه ) ].
هذا الحديث رواه مسلم في صحيحه.
هذا الحديث يفيد النهي عن صلاة الجنازة ودفنها ليلاً، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم العلة، وهي أنه إذا كان لن يصلى عليه، أو سينتقص في ثيابه، فإنه لا بأس بتأخير الصلاة، ويكون ذلك مقيداً لحديث أبي هريرة (أسرعوا بالجنازة).
ومما يدل على جواز الدفن ليلاً ما ثبت عند أبي داود وغيره من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دفن جليبيب في الليل.
وقوله: (إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك) يعني: يضطر إلى ذلك لوجود الحاجة، وأما إذا زالت الحاجة فلا يظهر بأس والله أعلم في دفنه ليلاً، وقد روي أن فاطمة رضي الله عنها دفنت ليلاً، ويستحب للإنسان أن يكفن في ثيابه إذا استطاع إلى ذلك، ومن الغرائب أن الغني إذا مات يكفن بثياب تبرع له بها سواء كان عظيماً أو غير ذلك، وهذا من قدر الله.
ولا يشترط في الكفن أن يكون أبيض لكن ذلك أفضل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما عند الإمام أحمد وغيره من حديث ابن عباس : ( البسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم ).
ويجوز التكفين بأقل من ذلك، كما حصل لـمصعب بن عمير.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة فخير -لعله قال- تقدمونه عليه، وإن تكن غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم ) ].
هذا الحديث متفق عليه.
هذا الحديث يفيد استحباب الإسراع في دفن الميت، والإسراع بحسبه فإذا حملت الجنازة فإنه يهرول بها، والحكمة من ذلك: أنها إن تك خيراً فإنها تقول: قدموني قدموني، وإن كانت غير ذلك قالت: يا ويلها.
ويفيد أيضاً أنه إذا تأخر الإنسان بسبب قلة الكفن أو بسبب دفنه ليلاً ويحب أهله أن يحضر الناس فلا حرج كما ثبت عن ابن عباس في صحيح مسلم ( أنه لما مات ابن له بقدير حبسه حتى اجتمع الناس فقال
والعدد لا مفهوم له، فالمهم أن يصلي عليه أربعون، لكن كلما زاد فهو أفضل.
والإسراع نوعان: إسراع في تجهيزه، وإسراع عند حمله ووضعه.
عن أم عطية رضي الله عنها قالت: ( كنا ننهى عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا ) ].
هذا الحديث متفق عليه.
واستدل به بعض العلماء على مسائل:
والقول الثاني: هو التحريم، وهو رواية عند الإمام أحمد اختارها أبو العباس بن تيمية قال: وأما قولها: (ولم يعزم علينا)، فهذا من فهم أم عطية وليس من قوله صلى الله عليه وسلم.
والذي يظهر والله أعلم أن زيارة المرأة للمقابر منهي عنها، إما للكراهة وإما للتحريم، والذي جعلني أقول هذا هو قول عائشة رضي الله عنها، وكان ذلك في آخر حياته قالت: ( يا رسول الله! ماذا أقول عند زيارة القبور؟ قال: قولي: السلام عليكم أهل الديار من المسلمين والمؤمنين، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين )، وهذا يفيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرها أن تقول ذلك، وبعضهم يقول: تقول إذا مرت على المقابر ولا تدخل المقبرة، وهذا ليس بظاهر، ولكنه يدل على الكراهة.
وأما في زماننا هذا فإني أقول: تمنع قولاً واحداً لما يحصل فيه من منكرات أعظم من مسألة جزع المرأة وغيرها، ومن اطلع على بعض البلاد التي تدخل فيها النساء إلى المقابر ورأى من بكائهن وعويلهن فلن يجزم إلا بالتحريم، فكون المسألة تبحث من حيث هي هذا شيء، وما يقع من الناس فيها هذا شيء آخر، فالنساء في الغالب إذا جوز لهن فإن الذي سيذهب منهن هن أهل الميت والمرأة لا تستحيي من أحد أحياناً بسبب شدة الحزن؛ ولهذا أرى المنع في هذا الزمان والله أعلم.
ومنع كبيرات السن من باب أولى لأنهن يجزعن لأجل ميتهن ولأجل أنفسهن.
وحديث عائشة دليل قوي لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينهها عن ذلك؛ ولهذا قلت: الأقرب والله أعلم الكراهة من حيث هي كنظرة، لكن كواقع التحريم عندي واضح جداً في هذا الزمان.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ( مرت جنازة فقام لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقمنا معه، فقلنا: يا رسول الله! إنها يهودية، فقال: إن الموت فزع، فإذا رأيتم الجنازة فقوموا ) ].
هذا الحديث متفق عليه دون قوله: (إن الموت فزع)، فلم يروها إلا مسلم ، أما البخاري فقد رواه بلفظ: (يا رسول الله! إنها يهودية، قال: إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها).
وقد جاءت روايات في سبب قيامه، ففي رواية أنه قال: (إنما قمت للملائكة).
هذا الحديث فيه استحباب القيام إذا مرت الجنازة بين يدي المرء، وهذا هو الذي يظهر والله أعلم؛ لأنه جاء في حديث علي رضي الله عنه أنه في آخر حياته لم يقم، والذي يظهر أن عدم قيامه لبيان الجواز، وقد جاء في حديث عقبة و جابر و أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قام، والذي يظهر والله أعلم استحباب القيام للجنازة حتى تخلفه أو توضع من قبل أن تخلفه.
وبعضهم قال: إن القيام نسخ لحديث ( كنا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم نقوم للجنازة ثم قعد فقعدنا )، قالوا: فهذا يدل على آخر الأمرين، ولكن الذي يظهر والله أعلم أن قعوده من باب الجواز؛ لأن القاعدة: الأصل إذا فعل خلاف ما قال دل على فعل الجواز وهذا أحسن شيء في هذا الباب.
وقوله: (حتى توضع من قبل أن تخلفه) هذا من قول أبي سعيد فهو الذي فهم التحريم، والصحيح الاستحباب وهو قول أكثر أهل العلم.
عن علي رضي الله عنه قال: ( رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فقمنا وقعد فقعدنا -يعني: في الجنازة- ) ].
هذا الحديث رواه مسلم ، وزاد الإمام أحمد : (وأمرنا بالقعود)، ولكن هذه الزيادة فيها نكارة.
عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: ( صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وصلى على
هذا الحديث متفق عليه، لكن رواية (صلى على أم كعب ) تفرد بها مسلم ، وأما التي في الصحيحين: ( صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وصلى على امرأة ).
وقد اختلف العلماء في مكان قيام الإمام من الميت، فقال بعضهم: يقوم على الميت عند رأسه إن كان ذكراً، وإن كانت امرأة عند وسطها؛ لأجل أن يحبس الإمام الناس عن نظرها، كما قالوا، وقد تكلم أبو عمر بن عبد البر في هذه المسألة، وأشار إلى أنه ليس في ذلك شيء ثابت صريح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأقول: إن وقف في وسط المرأة وعلى رأس الرجل فهذا حسن؛ لفعل بعض الصحابة كـأنس وغيره؛ لأن كلمة (وسطها) مختلف في معناها، هل وسطها من جهة السرة أو وسطها من جهة الثديين وغير ذلك؛ فلهذا الذي يظهر إن كانت الحكمة هي التغطية فإن وقوعه من جهة الصدر أولى، والعلم عند الله.
وبعضهم يقول بعدم التفريق بين الذكر والأنثى لأن الوسط قريب من الرأس، فليس فيه فرق.
عن أبي هريرة رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى للناس
هذا الحديث متفق عليه.
أقول: ومن النياحة ما تفعله بعض الصحف إذا مات كبير من العلماء أو المسئولين، فتذكر من رثائهم وتبالغ في ذلك، فأرى أن المبالغة في ذلك من النياحة ولو كان عالماً.
وأما تكبيرات سبع وتسع فهي ضعيفة ولا شك، وأما تصحيحات الشيخ الألباني لها، فإنه يدل على أنها كلها في أهل أحد، ومن المعلوم أن الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصل على شهداء أحد أصلاً، فتكون الروايات ضعيفة.
وأقول: إنه يجوز خمساً لحديث زيد بن ثابت الذي سوف يأتي بعد هذا، ويكون في الرابعة: الدعاء للميت. فبعد التكبيرة الأولى الفاتحة، وبعد التكبيرة الثانية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد الثالثة الدعاء للميت، فإذا أراد أن يسلم في الرابعة يسكت، وإذا كبر بعد ذلك يدعو بعد الرابعة وقبل الخامسة، وما جاء أنه كان يدعو حتى بعد الرابعة ثم يسلم، فهذا الحديث يرويه الإمام أحمد وغيره من حديث عبد الله بن أبي أوفى وسنده ضعيف، فإن في سنده إبراهيم الهجري وقد ضعفه يحيى بن معين وغيره.
وقد ذكر أبو عمر بن عبد البر إجماع الصحابة، فقد روى عن عبد الرزاق أن الصحابة اجتمعوا في عهد عمر واتفقوا على ألا يزاد على أربع، أقول: في هذا الإجماع محل نظر، وإن كان هو الأفضل؛ لأن علياً رضي الله عنه بعد موت عمر خالف فكبر على سهل كما عند البخاري ستاً، لكنه يفيد أنه أفضل، أولاً: لأنه أكثر فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: لأنه فعل أكثر الصحابة.
وهل التكبيرات الأربع ركن؟
روى ابن المنذر عن ابن عباس أنه كبر ثلاثاً، ورأى أنها مجزية له؛ وذلك لأن التكبيرات الثلاث يحصل بها المشروع، ولا أعلم رواية صحيحة عن الصحابة أنهم كبروا أقل من ثلاث، وهذا يدل على أنه لا ينبغي للإنسان أن يكبر أقل من أربع، وإن كبر ثلاثاً فلا ينبغي أن يفعله إلا على سبيل السهو والنسيان، والله أعلم.
عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: ( كان
هذا الحديث رواه مسلم في صحيحه.
هذا الحديث يفيد أنه كبر أحياناً خمساً، والأصل أربعاً، وأن الأربع لا ينبغي أن ينقص منها، ولو قيل بأن الثلاث ركن والأربع واجبة أو مستحبة استحباباً شديداً فهذا حسن، والله أعلم، لكن من كبر أقل من ذلك، فإن الراجح والله أعلم أنه يلزمه إذا طال الفصل أن يعيد الصلاة، وأذكر أني كنت في مسجد وأنا قريب من الإمام فكبر الإمام على الجنازة التكبيرة الأولى، ثم كبر التكبيرة الثانية، ثم دخل ولي أمر صبي، فوضعه أمام الإمام فكبر الإمام تكبيرتين ثم سلم، وهذا يفيد أنه كبر على الميت أقل من ثلاث تكبيرات، فذكرت لهم هذه المسألة وأخبرتهم أنه يجب أن يذهبوا إلى ولي أمر الميت ويخبروه أن يعيد الصلاة عليه؛ لأنه لم يصل عليه.
ولا ينبغي للإنسان أن يدعو لنفسه في صلاة الجنازة؛ لقول أبي سعيد الخدري مرفوعاً كما رواه أبو داود وغيره: ( إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء ).
أسأل الله أن يرزقنا الفقه في الدين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر