إسلام ويب

المسؤولية في الإسلامللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • وعد الله عباده المؤمنين بالنصر والتمكين، وما عليهم إلا أن يسعوا لتحقيق وعد الله، ويشحذوا هممهم لنصرة الدين من خلال التأمل بعلاقتهم بربهم ونبيهم، والتفكر فيما يبذله الكفار والمنافقون لنصرة مذاهبهم وأديانهم الباطلة، ولا يكون ذلك إلا لمن علم الله فيهم خيراً، أما من كره الله انبعاثهم فقد ثبطهم، وجعل أمامهم الصوارف والعقبات كالخوف ونقص الثقة.

    1.   

    أقسام الحقوق الواجبة على الإنسان

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    أما بعد فإن ربنا جل جلاله قد أنعم علينا بأنواع النعم؛ فخلق أبانا آدم بيمينه، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وشرفه على الملائكة بالعلم، وعلمه ما لم يكن يعلم، ثم بعد ذلك كرمنا بأنواع التكريم فجعل منا الرسل، وأقام علينا الحجة، وأنزل إلينا الكتب، ثم أنعم علينا نحن بالخصوص بأن جعلنا من أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم وهي خير أمة أخرجت للناس، أرسل الله إليها أفضل الرسل، وشرع لها أفضل شرائع الدين، وأنزل عليها خير الكتب، وجعل فضلها زائداً على فضل سائر الأمم، وأجرها زائداً على أجر سائر الأمم، وقال في تكريمه لبني آدم: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً[الإسراء:70]، وهذا التشريف لا شك أن في مقابله يكون التكليف؛ لأن الإنسان إذا أنعم عليه بكل هذه النعم، لا يمكن في مقابل ذلك أن يترك سدى لا له ولا عليه؛ بل لا بد -وقد قامت عليه الحجة- أن يؤدي الحق الذي عليه، وهذا الحق الذي عليه ينقسم إلى قسمين:

    القسم الأول: يشترك فيه الجنس البشري مع الجن وهو تحقيق العبادة لله، كما قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ[الذاريات:56].

    القسم الثاني: تحقيق الاستخلاف في الأرض، وهذا مختص بالجنس البشري، وبه تشريفه على غيره، والاستخلاف في الأرض يقتضي المسئولية عن هذا الدين؛ فهذا الدين اختاره الله سبحانه وتعالى لنا، وبين لنا فيه ما يكفل علاقتنا بربنا جل جلاله وما ينظم علاقاتنا فيما بيننا، وما يحقق لنا مصالحنا الدنيوية ومصالحنا الأخروية، ولا يمكن أن يأتي أحد بأعظم منه ولا بأقوم؛ ولذلك لا استقامة لشيء من أمور الدنيا ولا من أمور الآخرة إلا باتباع هذا الدين والقيام بحقه، وهذا الدين الكريم الذي به شرفنا إذا أراد الإنسان أن يدرك قيمته فلينظر إلى عاقبته ونهايته، فهو سر دخول الإنسان الجنة، هو الذي يدخل الجنة ويباعد الإنسان من النار، وكل من قصر فيه كان آيلاً إلى النار؛ فلذلك لا بد أن نعلم أن هذا الدين هو مستقبلنا، وهو ضمان سلامتنا من عذاب الله.

    وهذا يقتضي حرصنا عليه وعملنا به وأخذنا به، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بتعلمه والعمل به وأدائه على وفق ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى، والسعي لنصره ونشره بين الناس حتى تقام الحجة على أهل الأرض جميعاً، وحتى يكونوا جميعاً على وفق مراد ربهم جل جلاله، وعلى وفق مراد نبيه صلى الله عليه وسلم؛ فمن حق البشرية أن تنال حظها من عدل الله، وعدل الله في الأرض هو هذا الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.

    ومن حق البشرية علينا أن نسعى لإنقاذها من النار؛ فهي وظيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد صح عنه في الصحيحين أنه قال: ( إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً، حتى إذا أضاءت ما حوله جعل الفراش يتساقط فيها وهذه الدواب، فجعل ينفيهن بيده وهن يقتحمن فيقعن فيها، ألا وإني ممسك بحجزكم عن النار، ألا وإني ممسك بحجزكم عن النار ).

    فهذا يقتضي أن نقوم نحن بعمل النبي صلى الله عليه وسلم ووظيفته، وأن نحسن خلافته، فإنه صلى الله عليه وسلم أدى إلينا هذا الدين كما أنزله الله عليه، ونحن نشهد جميعاً أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد الله حتى أتاه اليقين، ولا يستطيع أحد منا أن يطعن في ذلك؛ فقد زكاه الله وشهد له بالتبليغ، فقال تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ[الذاريات:54]، وقال تعالى: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ[النور:54]، هكذا شهد الله له أنه أدى الذي عليه، وبقي ما علينا نحن وقد أدى إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الدين كما أتاه من عند الله، ثم قال: ( ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع )، وقال: ( نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه )؛ وقال: ( بلغوا عني ولو آية )، فيجب على كل إنسان منا أن يتحمل أعباء هذا الدين، وأن يقوم بواجب نصرة الله سبحانه وتعالى ونصرة رسوله صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    حوافز تدعونا لنصرة الله ورسوله

    ولذلك كثير من الحوافز التي تدعونا إليه، ومن أهمها خمس حوافز:

    علاقتنا بربنا سبحانه وتعالى

    الحافز الأول: علاقتنا بهذا الرب جل جلاله، فنحن جميعاً نبوء له بنعمته علينا، ونقر له بأنه خلقنا ورزقنا وهدانا للإسلام، وأنعم علينا بأنواع النعم التي لا نحصيها قال تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا[إبراهيم:34]، وقال: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ[النحل:53]، فحقه علينا أن نشكر نعمته بنصره ونصر دينه، وذلك هو مقتضى بيعة قائمة في أعناقنا جميعاً؛ بيننا وبين ربنا جل جلاله، قد أكدها الله في التوراة والإنجيل والقرآن؛ فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[التوبة:111].

    وهذه البيعة هي حق في عنق كل واحد منا، ولو أن إنساناً منا صاحب دين ومروءة تحمل ديناً لإنسان مثله لا يملك له حياة ولا موتاً ولا نشوراً، لكان من العار والعيب عليه ألا يفكر في قضاء هذا الدين، وهذه البيعة دين في عنقه، فهل فكرت يوماً من الأيام في الوفاء بها لله تعالى والقيام في حق الله فيها. إنها بيعة ثابتة لا تستطيع التخلص منها ولا تستطيع إنكارها، فأنت قد أقررت بها بشهادتك أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقد أصبحت من المؤمنين الذين لزمتهم هذه البيعة.

    وهذا يقتضي منك يا أخي أن تحرص على الوفاء لله بحقه وبيعتك، فمن المؤسف أن يعيش أحدنا عشر سنوات أو عشرين سنة أو ثلاثين سنة أو أربعين سنة، حتى يشتعل الرأس شيباً ولم يفكر في الوفاء لله في بيعته، لو كان عليه التزام آخر أو لديه أي مشروع أو يفكر في أية مصلحة من مصالح الدنيا؛ لكان ذلك قد أخذ حيزاً في تفكيره وبذل جهوده في سبيل الوصول إليه؛ فلذلك لا بد أن نفكر في هذه البيعة التي بيننا وبين ربنا، ونحن لا ننكرها ولا نستطيع التخلص منها، ماذا نعمل في سبيلها؟ ماذا علينا أن نقوم به؟ لا بد أن يشغل هذا حيزاً في تفكيرنا واهتمامنا.

    علاقتنا برسول الله صلى الله عليه وسلم

    الحافز الثاني: هو علاقتنا بهذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فهو أمن الناس علينا؛ هدانا الله به من الضلالة وأنقذنا به من النار، وعلمنا به ما لم نكن نعلم، وجعلنا به خير أمة أخرجت للناس، وقد أخرجه الله لنا مثلاً يؤتسى به ويقتدى فقال: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ[الأحزاب:21]؛ فهذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هو أحب الناس إلينا وأمنّهم علينا؛ فإذا لم ننصره فإننا لم نؤدِ حقه، ونحن نعلم أن الله بعثه للفرقان بين الحق والباطل، وأن الناس قد اختلفوا فيه ما بين مصدق له ومكذب، وأنهم لم يزالوا كذلك ولن يزالوا حتى يرث الله الأرض ومن عليها؛ فأهل كل قرن ينقسمون إلى مصدق له ومكذب، فالحرب إذاً دائرة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأعدائه، وكل يوم من أيامنا هو مثل يوم بدر ويوم أحد ويوم حنين ويوم الأحزاب ويوم خيبر، وأنتم جميعاً تتمنون لو شهدتم يوم بدر فقاتلتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتتمنون لو شهدتم يوم أحد فدافعتم عنه كما دافع عنه طلحة بن عبيد الله ونسيبة الأنصارية ، وتتمنون لو شهدتم معه بيعة الرضوان فكانت أيديكم تسبق إلي يديه الشريفة الكريمة، وتبايعونه على الموت في سبيل الله، وتتمنون لو شهدتم معه النصر المبين والفتح الكبير في فتح مكة، تتمنون الشهادة في مشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعاً، ولا يسر أحداً منكم أن يتخلف عن رسول الله ولا أن يرغب بنفسه عن نفسه.

    لا أحد منكم يرضى بذلك؛ لأنه يعلم أن الذين تخلفوا عنه من المؤمنين الصادقين أرزأ أمرهم خمسين يوماً لا يرد عليهما أحد السلام، ولا يعاملهم بأية معاملة؛ حتى أنزل الله توبته عليهم فقال في ذلك: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا[التوبة:117-118].

    وتعلمون أن الذين تخلفوا عنه من المنافقين أنزل الله فيهم أسوأ الأوصاف فقال: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ * وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ[التوبة:81-84]، فلذلك لا يسر أحداً منكم أن يرغب بنفسه عن رسول الله، ولا أن يتخلف عنه في أية غزاة يغزوها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل يوم من أيامنا هذه هي غزوات لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومشاهد من مشاهد الإسلام، والله تعالى يناديكم لنصرة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فيقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ[التوبة:38-41].

    هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم تشهدون أنه رسول الله في شهادة الإسلام ودخوله، وفي التشهد في الصلاة، وتسألون عنه في قبوركم: ( ما كنت تقول في هذا الرجل )؟ وتدعون باسمه يوم القيامة: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً * وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً[الإسراء:71-72].

    وتريدون جميعاً الشرب من حوضه صلى الله عليه وسلم الذي لا يظمأ من شرب منه أبداً، ولا يرضى أحد منكم أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم يسقي الناس على الحوض من يده الشريفة وهو يطرد دونه كما تطرد غرائب الإبل.

    فإذا كان الحال كذلك فلا بد أن تحرصوا على نصرته، وأن تقوموا بحقه، وأن تعلموا أن كل يوم من أيام الدنيا تشن فيه حرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فالناس لم يقاتلوه على أساس نسبه فهو خير الناس نسباً، ولا على أساس خلقه فهو خير الناس خلقاً، ولا على أساس أنه منعهم شيئاً من الدنيا، فقد قال للأعراب يوم أوطاس: ( فلو كان عندي مثل شجر تهامة نعماً لقسمته بينكم، ثم لم تجدوني جباناً ولا بخيلاً ولا كذاباً )، فما قاتلوه إلا على أساس الدين الذي جاء به والدعوة التي دعا بها؛ فلذلك نحن لم نفقد إلا شخص النبي صلى الله عليه وسلم أما ما جاء به من عند الله وهو سر المعركة فهو باقٍ بين أظهرنا، لم يبدل ولم يغير، ولا يمكن أن يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ ولذلك تجدون في كل يوم من أيام الدنيا هجوماً شرساً عليه صلى الله عليه وسلم وعلى ما جاء به، فلا بد أن تحرصوا على أن تدفعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تقوموا بهذا الحق الواجب عليكم، وقد دعاكم الله إلى أن تتخذوه أسوة حسنة، ومعنى ذلك أن يفكر كل إنسان منكم لو أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج الليلة هنا في كيفية ماذا سيعمل؟ توقنون جميعاً أنه لا يغلق عليه غرفته ولن يأخذ سبحته؛ لأن هذا لن يغير شيئاً من حال الناس، وتعلمون أنه قطعاً لن يغرق مع الناس في ما هم فيه من جمع الدنانير والدراهم ومن أجل الدنيا؛ فهو معصوم.

    وتعلمون أنه لن يقدم ملفاً للوظيفة العمومية يريد التوظيف، فقد عرض عليه ملك مكة فامتنع من أن يغير شيئاً من أمر الله جل جلاله، ماذا سيصنع؟ تعلمون أنه لن يخرج على أهل السوق أو على الناس بسيفه في مغامرة محسومة فيقتل دون فائدة، ماذا سيعمل إذاً؟ قطعاً سيقول: من أنصاري إلى الله؟ لأن الله أمره بذلك وأمر من قبله من الأنبياء به كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ[الصف:14].

    سيقول النبي صلى الله عليه وسلم لو خرج الليلة قطعاً ما قال في مكة حين خرج فيها، قال: من أنصاري إلى الله؟ مكث ثلاث سنين لا يدعو إلا من يثق به، ثم أعلن الدعوة للناس عندما أنزل الله عليه: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ[الحجر:94]، فدعا الناس إلى ما جاء به من عند الله تعالى وبينه؛ فحينئذٍ التحق به من أراد الله به الخير وصدقوه واتبعوه، فهداهم الله لخير صراط، وأنعم عليهم بنعمة الإسلام، وشرفهم على من سبقهم ومن يأتي بعدهم، وجعلهم خير قرون الدنيا، تربوا على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذوا عنه القرآن والسنة، ورأوا عبادته وجهاده فعملوا بذلك، وبادروا وسارعوا إلى الخيرات، وكانوا فعلاً أهلاً لها، كانوا أهلها ومستحقيها؛ فلذلك شرفهم الله بهذه المنزلة التي لا تدرك، وأحل الله عليهم رضوانه الأكبر الذي لا سخط بعده، فكانوا يمشون على وجه الأرض لا تقع ذنوبهم إلا مغفورة، فقد سبقت المغفرة ذنوبهم: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً[الفتح:18-19].

    ثم بعد ذلك إذا أيقنت أنت يا أخي أن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان بين أظهرنا الليلة لدعا بهذه الدعوة، وقال: من أنصاري إلى الله؟ وربى الذين يلتحقون به هذه التربية المخالفة لتربية المجتمع؛ فلم تفعل ذلك ولم تهتم به فقد رغبت بنفسك عن رسول الله، والله تعالى يقول: مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ* وَلا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[التوبة:120-121].

    فلذلك حق رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا أن ننصره وأن نبذل جهودنا في سبيل ذلك، فما نراه اليوم من الاعتداء على دينه ودعوته وما جاء به، هو مثل ما لو كان يخرج في الشارع والناس يرمونه بالحجارة وأنتم جالسون متفرجون، لا ينتصر له أحد منكم، هل يمكن أن يقع هذا؟ لا يمكن أن يقع من مؤمن؛ فلذلك لا بد أن تبادروا لنصرته كما لو وجدتم أنفسكم في ذلك الموقف.

    فضل العمل قبل التمكين

    الحافز الثالث: أن هذا الوقت الذي أنتم فيه هو وقت قبل الفتح؛ فالإسلام الآن لم يمكن له، ليست له دولة ترعاه وليس مسيطراً على الأرض، لا تقام حدود الله على أرض الله، ولا يقام عدل الله بين عباد الله، فهذا الوقت إذاً وقت قبل الفتح، والوقت الذي قبل الفتح الأجر فيه مضاعف، كما قال الله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا[الحديد:10].

    وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه )، وكل ليلة من ليالي الدنيا يمكن أن يأتي فيها الفتح؛ لأن الله وعد بهذا الفتح وهو لا يخلف الميعاد؛ فقد قال الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ[النور:55].

    فلا بد أن يحقق الله هذا الوعد طال الزمان أو قصر، فالليلة يمكن أن تكون ليلة الفتح، والليلة الآتية يمكن أن تكون ليلة الفتح، والفرصة الآن لا يمكن أن تعوض؛ فلذلك علينا أن نبادر قبل أن يأتي الفتح؛ لأنه إذا أتى فسيفوتنا هذا الربح الطائل.

    مثال ذلك: لو أن قوماً عندنا أرادوا بناء خيمة الإسلام وهي ساقطة؛ فجلسنا ننتظر إقامتها ولم نساعد بأي شيء حتى قامت فابتدرنا ظلالها ندخل فيها، هل هذا من المروءة والنخوة والكرم؟ لا؛ لذلك لا بد أن نبادر إلى المشاركة في بناء خيمة الإسلام الساقطة، وأن نعلم أن من شارك الآن في هذا الوقت، فإن المد من الشعير يقدمه هو أفضل من مما لو قدم مثل جبل أحد من الذهب بعد الفتح، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في هذا الحديث.

    كذلك لا بد أن نتذكر في هذه النقطة أن الذين يتأخرون عن المبادرة إلى نصرة الله ورسوله وإعلاء كلمته، وإعزاز دينه، ولا يلتحقون بالركب ولا يسيرون في القافلة، إنما هم محرومون، فاتهم الخير الكثير؛ لأن الليلة الواحدة من السبق لا يمكن أن نتدارك بها، ليلة واحدة يسبقهم بها الداعون إلى الله والناصرون لدينه لا يستطيعون تعويضها أبداً؛ ولذلك قال الله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ[التوبة:100].

    كذلك فإن الذين يتأخرون ويتربصون وينتظرون يوشك أن يحول ذلك بينهم وبين المؤمنين يوم القيامة، فإن المنافقين يوم القيامة يحال بينهم وبين أهل الإيمان؛ فيضرب: بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ[الحديد:13-14]، كانوا معهم في هذه الحياة وأسماؤهم موحدة وأشخاصهم متفقة: ((أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ))، أي: عرضتم أنفسكم للفتنة، ((وَتَرَبَّصْتُمْ)) أي: انتظرتم، قلتم: حتى نعرف من الغالب في هذه المعركة، ((وَارْتَبْتُمْ)) أي: شككتم في وعد الله هل ينجز الله وعده للمؤمنين أو لا ينجزه، ((وَغَرَّتْكُمْ الأَمَانِيُّ)) كثير من الناس الآن يقولون: نحن الحمد لله من حزب الله، وسنكون من أهل الفردوس الأعلى من الجنة، وسنجاور النبي صلى الله عليه وسلم ونشرب من حوضه، وسيبيض الله وجوهنا يوم تبيض وتسود وجوه، وسيعطينا كتبنا بأيماننا، وسيظلنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وسننجو على الصراط ... إلى آخره، لكن هذه الأماني لا فائدة فيها إذا لم يصحبها عمل، قال تعالى: ((وَغَرَّتْكُمْ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ))، وأمر الله هو الموت، ((وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ)) وهو الشيطان.

    فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ[الحديد:15]، يعني: لو بذلتم كل أموالكم وأرواحكم وأهليكم لأن تنجو من عذاب الله في هذا الوقت من يوم القيامة ما قبل الله ذلك منكم؛ ((وَلا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا))، فهم ليسوا من الذين كفروا؛ بل هم من المنافقين؛ ولذلك قال: ((وَلا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمْ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)).

    ثم بعد هذا لا بد أن نعلم أن المتخلفين والمتخاذلين والمتأخرين عن نصرة هذا الدين يوشك أن يقال لهم ما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقوله في المنافقين: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ[التوبة:83].

    لا يرتضي الله فتنتهم في الدين فيقتلهم ويطردهم عنه.

    ما يبذله المنافقون ومرضى القلوب في نصرة باطلهم

    الحافز الرابع: ما يبذله المنافقون ومرضى القلوب في نصرة باطلهم.

    فنحن نشهد من بين جلدتنا، والذين يتكلمون بألسنتنا، ومن بني عمنا وأقاربنا كثيراً من الأشخاص الذين يبذلون أرواحهم وأموالهم وجاههم وعقولهم وتدبيرهم في سبيل نصرة بعض الأيدلوجيات التي لم يأتِ بها النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله، ولا نزل بها الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يتكفل الله لأصحابها بالجنة، يبذلون أنفسهم وأرواحهم، ويسهرون الليالي ذوات العدد ويضحون تضحيات جساماً من أجل الأيدولوجيات، هذه أيدلوجية أنتجها كارل ماركس ، وهذه أنتجها ميشيل عفلق وهذه أنتجها جمال عبد الناصر ، وهذه أنتجها فلان وهذه أنتجها علان، وهم يبذلون قصارى جهودهم في سبيل هذه الأيدولوجيات.

    إذا كان هؤلاء وهم من بني جلدتنا يبذلون قصارى جهدهم في سبيل نصرة الباطل، ويضحون في سبيله بأنواع التضحيات، ويتحملون في سبيله كل الأذى والسجون وغيرها؛ فلماذا يا إخواني لا نبذل نحن جزءاً من الجهود في سبيل نصرة هذا الرسول الكريم الذي نصره الله، وأيده بالمعجزات الظاهرة الباهرة، ومنها هذا القرآن الذي نحفظه في صدورنا، ونتلوه في مصاحفنا، وهو حجة الله القائمة علينا، لماذا لا ننصر هذا الدين الذي شرفنا الله به، وأنقذنا به من الضلالة وهدانا به؟ لماذا لا ننصر أولياء الله الذين يسعون لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه؟ لماذا لا نلتحق بالركب ونسير في القافلة ولو كنا في مؤخرتها، فإن من سلك الطريق لا بد أن يصل.

    ما يبذله الكافرون في نصرة دينهم المحرف

    الحافز الخامس: ما يبذله الكافرون في سبيل نصرة دياناتهم المحرفة المبدلة؛ فالنصارى دينهم مبناه على أن الواحد ثلاثة وأن الثلاثة واحد، أي: أن الرب واحد وهو في نفس الوقت ثلاثة تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

    وأن الرب -كما يزعمون- جل وعلا له ولد واحد، ولما كثرت عليه ذنوب عباده أنزله لهم ليقتلوه ويصلبوه، فيكون ذلك تكفيراً لسيئاتهم، وهذا لا يمكن أن يستوعبه مجنون ولا طفل صغير ولا أبله، لا يمكن أن يسلم به عاقل أبداً، ولا مجنون، فإذا كان الحال كذلك فكيف يبذلون هذه الجهود الطائلة في سبيل نصرة هذه الأباطيل التي ما أنزل الله بها من سلطان، وما جاء بها عيسى من عند الله؛ بل جاء بخلافها؛ ولذلك يقول لهم يوم القيامة عندما يسأله الله تعالى فيقول: أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[المائدة:116-118].

    وهم الآن يبذلون من الجهود ما لا يخطر على قلب أحد؛ فالمجلس العالمي للكنائس ميزانيته أكثر من ميزانية دول الخليج مجتمعة، وما من بلد من بلدان العالم الإسلامي -فضلاً عن غيره- إلا ولهم فيه الآثار البارزة، انظروا إلى جمعياتهم ومؤسساتهم هنا في مدينتكم، يبذلون الأموال الطائلة وهم يعلمون أنها لا تنفعهم في الآخرة، ولا يتقربون بها إلى الله.

    لماذا يأتون من أمريكا ومن ألمانيا ومن فرنسا إليكم هنا، وإلى البوادي والأرياف وإلى المستضعفين، فيقدمون لهم الأموال الطائلة والخدمات الجليلة؟ كل ذلك في سبيل نصرة باطلهم؛ لأنهم اقتنعوا بهذه القناعة فبذلوا جهودهم في سبيل نصرتها.

    واليهود عليهم لعائن الله أصل دينهم وما يدعون إليه مبناه على أن إسرائيل صنع الرب وخلقه حتى مد لسانه؛ فأخذ عليه العهد ألا يعذب أحداً من أولاده إلا أياماً معدودات -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- وهم يقولون: نحن أغنياء والله فقير: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ[آل عمران:181]، ويقولون: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا[المائدة:64]، وهذا الذي يقولونه لا يمكن أن يصدقه عاقل أبداً، فرب يصنع ويخلق لماذا يعبد؟! إذا كنت تستطيع أن تصرعه وتخرقه لماذا تعبده؟!

    مع ذلك يبذلون هذه الجهود التي ترونها في الشاشات وتسمعونها في الإذاعات، وتسمعون عنها، جهوداً طائلة وبروتوكولات ومؤتمرات وحرب كبيرة، من أجل نصرة هذا الباطل الذي لا يصدقه أحد، حتى أضعف المجانين عقلاً، وأضعف الصبيان عقلاً لا يمكن أن يصدق ترهاتهم، ومع ذلك يبذلون هذه الجهود في سبيل نصرته، فكيف يا إخواني لا ننصر نحن هذا الدين الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله، ونزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وعصمه الله من التحريف والتبديل والتغيير، وتولى حفظه بنفسه، وجعله موافقاً للفطرة ومحققاً للمصلحة؛ لا يخالف عقلاً ولا فطرة سليمة، وهو موافق لكل ما تتطلبه المصالح الدينية أو الدنيوية، لماذا لا نبذل جهوداً مثلما يبذله اليهود على الأقل أو النصارى أو غيرهم من أصحاب الديانات المحرفة، إن كل من اقتنع بقناعة إذا لم يصحبها عمل فلا فائدة فيها.

    لو أن أحدكم اقتنع الآن بأن عليه أن يكون عالماً من العلماء، لكنه لم يدرس أي مذهب ولم يحفظ أي كتاب ولم يجلس عند أي شيخ، ولم يسمع إلى أي درس، ما فائدة قناعته هذه؟ ستذهب بها رياح الصيف، ولو أنه اقتنع بأنه سيكون تاجراً من التجار وغنياً من الأغنياء، لكنه لم يبادر ولم يباشر الصفق بالأسواق، واضطجع في بيته عند أهله وعطل العمل؛ ما فائدة هذه القناعة؟ لا فائدة فيها.

    أكبر قناعة وأعظمها هي قناعتك بصدق محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله، هذه القناعة إذا لم يصحبها عمل، فإنها ستذهب ولن يبقى لها أثر في نفسك؛ ولذلك تجدون كثيراً من أولاد المسلمين الذين عاشوا في بيوت إسلامية، ولكن هذا الإيمان الذي يقولونه بألسنتهم -يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله- لا ينهاهم ولا يردعهم عن منكر ولا يأمرهم بالمعروف، ولا يتذوقون طعمه ولا يذوقون حلاوته، ولا يستشعرون نور العبادة، ولا ينالون بها أي أثر، هؤلاء إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها، وهذا الآن الحال الذي نشهده من بعض إيمان الناس هو ناشئ عن عدم تحقق بهذه القناعة، فالدين ليس مجرد ميراث ولا كلمة تقال، ولا مجرد رياضات يطبقها الإنسان.

    فالصلاة مثلاً إذا كانت مجرد قيام وركوع ورفع وسجود وجلوس وسلام، فهذه الرياضات يمكن أن يمارسها الإنسان في الملعب ولا يأتي بها هنا إلى المسجد.

    لكن الصلاة عبادة لله وتقرب إليه ومناجاة له جل جلاله، روحها الخشوع والإقبال على الله جل جلاله، فلا بد من تفهم روحها ومعناها، ولا بد أن تؤثر في الإنسان؛ فإذا كان الإنسان في المسجد يبتغي وجه الله ويعفر وجهه لوجه الكريم، ويتذكر قول عبد الحق الإشبيلي: (الحمد لله الذي أذن لعباده بطاعته، فخروا بين يده متذللين، ولوجهه متعظمين، لم يغلق بينه وبينهم باباً، ولا أسدل دونهم حجاباً، ولا خفض أودية ولا رفع شعاباً)، ولكنه إذا خرج برجله اليسرى من المسجد دخل إلى أماكن الفجور وكانت نصرته لغير الله ورسوله، كان ينصر على أساس دريهمات دنيوية، وكانت معاملته مع الناس ليست ناشئة عن دينه وقناعته، فما فائدة صلاته إذاً؟ والله يقول: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ[العنكبوت:45].

    فلذلك لا بد يا إخواني من أن ندرك أن الإسلام معناه قرار يتخذه الإنسان بالاستسلام لله رب العالمين لا شريك له، وأن يقول: إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، يقول ذلك بقلبه ويكون هذا مصدقاً بعمله؛ فإذا قال ذلك بلسانه ولم يصدق هذا العمل فما فائدته؟ بل إن هذا هو النفاق بعينه.

    فلذلك لا بد أن نحرص على أن يكون لإيماننا وقناعتنا فائدة، وأن يكون متملكاً لجوارحنا، ومتملكاً لأعمالنا، هذه القناعة الكبرى لا بد أن نتأثر بها في سلوكنا في أخلاقنا وقيمنا، وفي معاملتنا وبيعنا وشرائنا، فإذا كان أحدنا لا يبالي، هل هو يعمل في الحلال أو في الحرام، ولا يبالي هل نظره في الحلال أو في الحرام، هل سمعه في الحلال أو في الحرام هل مشيه في الحلال أم في الحرام، لا يسأل عن أي حكم؛ فإن هذا الشخص لم يحسن الإسلام، وحسن الإسلام لا بد منه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن العبد إذا أسلم فحسن إسلامه محا الله عنه كل سيئة كان زلفها، ثم كان بعد ذلك القصاص، الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنه ).

    1.   

    الصرف عن طريق الحق

    ثم بعد هذا لا بد أن نعلم أن هذا الطريق الميسر المسهل الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله، يستغرب الإنسان فيقول: لماذا لا يسلكه الجميع، مع أنه موافق للعقل وموافق للفطرة، وقد قامت عليه الحجج، وهو يحقق كل المصالح؟

    والجواب: أن الله تعالى تعهد بصرف الذين لا يرتضي ذمتهم للدين، يطردهم عن سبيله ويحجبهم عن سلوك طريقه، قال الله تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً[الأعراف:146]، وقال تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ[التوبة:46-47].

    وقال تعالى: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ[الذاريات:9]، وقال تعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ * يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ[الحج:11-13].

    فالذين لا يرتضي الله خدمتهم للدين يطردهم ويحجبهم ويجعلهم من حزب الشيطان.

    وهذه الدنيا التي نعيشها أهلها وسكانها ينقسمون إلى حزبين فقط: حزب الله وحزب الشيطان، ولا ثالث لهذين الحزبين ولا يمكن الحياد بينهما، والصراع مستمر أبدي بين هذين الحزبين حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وأنت يا أخي لا بد أن تراجع نفسك من أي الحزبين أنت؟ هل أنت من حزب الله أو من حزب الشيطان؟ فليس الانتماء لحزب الله مجرد كلمة تقولها؛ بل لا بد أن يكون عملاً يصدق ذلك؛ ولهذا فإن الله تعالى حسم النتيجة فبين أن حزب الله هم المفلحون، وأنهم هم الغالبون، وبين أن حزب الشيطان هم الخاسرون؛ فلذلك هذه الدنيا هي مسرح لهذا الصراع، وهذا الصراع أبدي فيها؛ لكن الله ينزل اللوائح من السماء فلان بن فلان مستغل لنصرة الله ورسوله في حزب الله، وفلان بن فلان مستغل لنصرة الشيطان في حزب الشيطان، ولا يمنع في ذلك نسب ولا حسب ولا مستوىً ثقافي ولا اجتماعي ولا اقتصادي، إنما هو على سابقة القدر واختيار الله جل جلاله: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ[الأنبياء:23].

    ولذلك يذكر أهل السير أن أول من يأخذ كتابه بيمينه يوم القيامة أبو سلمة بن عبد الأسد ، وأول من يأخذ كتابه بشماله شقيقه الأسود بن عبد الأسد ، خرجا من بطن واحد؛ لكن أحدهما اختاره الله أن يكون من حزب الله ومن الناصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والآخر اختاره الله أن يكون من حزب الشيطان، فخذله الله ليكون من حزب الشيطان، وسلطه على نفسه؛ فقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر فقتله حمزة بن عبد المطلب على الفور.

    وهذه اللوائح التي تنزل من عند الله تعالى تحدث للإنسان حكمة وإرادة، يكون الإنسان خالي البال لا يستشعر هذا الصراع، ولا يحس بالمعركة، ولا يحس بأن عليه أن يقوم بأي عمل تجاه هذا الدين، ولا يدري متى حصلت لديه الهمة، يزيد همة تجددت في حياته أن عليه أن ينصر الله ورسوله وأن يهتم بأمر المسلمين، وأن يكون منهم وأن يحصل لديه إرادة للنصرة وتضحية وبذلاً لا يدري متى قذف الله ذلك في قلبه؛ لأن الهداية جاءت من عند الله وهي من أمر الله جل جلاله، ومن الغيوب التي لا يطلع عليها الحس ولا يدركها.

    فإذا اختاره الله سبحانه وتعالى لأن يكون من حزب الله، فلا بد أن تحصل لديه هذه الإرادة واليقظة، فيستيقظ فجأة وينتبه ويجد أنه كان في غفلة، وكان سادراً لا يحس بمعركة ولا يحس بهم، ولا يحمل للإسلام هماً؛ بل لا يكون أمر الآخرة في صدره، ولا يستشعر الوقوف بين يدي الله وعرض الأعمال عليه ووزن الأعمال في الميزان، لا يحس بأي شيء في ذلك.

    1.   

    أنواع الخوف الصارف عن العمل لدين الله

    إن الذين يصرفهم الله سبحانه وتعالى عن طريقه وخدمة دينه يصرفون بأنواع الصوارف؛ فمنهم من يصرف بالكفر نسأل الله السلامة العافية، ومنهم من يصرف بالغفلة، ومنهم من يصرف بالمعصية، ومنهم من يصرف بالمرض، ومنهم من يصرف بالشغل بأمور الدنيا، لكن الجميع يشتركون في أنهم مصروفون عن طريق الحق، وأعظم الصوارف وأكثرها صرفاً للناس صارفان: أحدهما: صارف الخوف، والثاني: صارف نقص الثقة.

    أما صارف الخوف فهو أنواع:

    الخوف من أعداء الله وما يمتلكون من وسائل

    النوع الأول: الخوف من أعداء الله وما يمتلكونه من وسائل الإرهاب:

    فكثير منكم يقول: أنا مستعد لنصرة الله ورسوله، وهذا حق واجب عليّ تقتضيه بيعتي مع ربي، ولا يمكن أن أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدافعه الناس ويعتدون عليه ويقاتلونه فلا أدفع عنه، فلا بد أن أنصر هذا الدين وأن أقوم بالحق قبل أن أخرج من هذه الحياة الدنيا ملففاً بالأكفان إلى الدار الآخرة، لكن أعرف أن من سعى لنصرة الله ورسوله سيكون قبضة للأذى، وأعداء الله يمتلكون السجون والمشانق والدبابات والطائرات والمدافع وغيرها، فيتكلم فيما لدى أعداء الله من وسائل الإرهاب فترهبه هذه الوسائل، وهذه شبهة داحضة زائلة، وهي وهم من الأوهام؛ لأن هؤلاء الذين تفكر في قوتهم وما لديهم من الوسائل لا يملك أحد منهم لنفسه ولا لغيره حياةً ولا موتاً ولا نشوراً: وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ[الحج:73].

    إذا كتب الله على أحد منهم أن يموت فجاءه ملك الموت فجلس عند رأسه، هل يستطيع أن يتأخر؟ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ[الأعراف:34].

    وما لديهم من الوسائل إذا أراد الله تعطيله هل يستطيعون إعادة تشغيله؟ يقول الله تعالى: قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ[آل عمران:26-27].

    فلذلك الله سبحانه وتعالى هو الذي يستحق أن يخاف منه؛ لأنه هو الذي بيده الأمر كله وإليه يرجع الأمر كله، هو الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا، وهو الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، والقلوب كلها بين إصبعين من أصابعه، والأرواح كلها في يده متى شاء أخذها ومتى شاء أرسلها: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى[الزمر:42].

    فإذا عرفت أن الله وحده هو الذي يملك هذا العالم كله، وتدبيره نافذ فيك، فاعلم أنه وحده الذي يستحق أن يخاف منه، وأن من دونه لا يستحق الخوف أبداً؛ ولذلك جاء رسولا كسرى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أمرهما كسرى أن يأتيا به، فإذا امتنع أن يأتي معهما أن يذبحاه ويسلخاه ويملأا جلده من التبن ويأتيا به، فسافرا مسافة شاسعة من العراق إلى المدينة، فلما وصلا التفت إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بازدراء واحتقار، فقال: ( أرسلكما كسرى... )، قالا: نعم، قال: (قتله ابنه البارحة ).

    هذا الذي تخافه أنت أيضاً يمكن أن يكون مثل كسرى يقتل البارحة، أو يعزل أو يبدل، فلذلك ينبغي أن يقصر الخوف على من لا يموت، على الحي الذي لا يموت؛ ولذلك رد الله هذه الشبهة وهي شبهة الخوف من أعدائه بقوله: إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[آل عمران:175].

    ومعنى (يخوف أولياءه) أي: يخوفكم منهم، يخوفكم من أوليائهم، فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، وقال تعالى: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ[الأحزاب:37]، وقال تعالى: فَلا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً[المائدة:44]؛ فلذلك هذه الشبهة داحضة.

    الخوف على فوات المصالح

    النوع الثاني: هي الخوف على المصالح؛ فكثير من الناس يقول: أنا مستعد لنصرة الله ورسوله، وأعلم أن نصرة الله لا يمكن أن تتم بعمل جماعي مشترك، تنسق فيه الجهود، ويتم فيه التعاون على البر والتقوى، ولكني أعلم أن كل من التحق بعمل جماعي لنصرة الله ورسوله فهو عرضة لأن تسلب منهما مصالحه، وأن يمنع من هذه المصالح، سواء كانت مصالح حاصلة، لديه مال أوجاه أو وظيفة فيخاف أن تفوت هذه المصالح، أو لديه مصالح متوقعة يريد وظيفة في المستقبل، ويرى أن كل من سعى لنصرة الله ورسوله سيمنع ذلك، سيعزل عن مكانته الاجتماعية وستفوته مصالحه المادية، وهذا التصور كذلك خاطئ، فهذه المصالح نعم جاءت من عند الله، قال الله: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ[النحل:53].

    لم ينعم عليك أحد سوى الله بأية نعمة، لا بالخلق ولا بالرزق ولا بالحياة ولا بالهداية، كل نعمك هي من عند الله جل جلاله، ولا يستطيع أحد أن يسلبها إذا أعطاك الله إياها، فأنت تقول في الرفع من الركوع: (لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد)، وتقرأ في القرآن قول الله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[الأنعام:17]، وقوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ[يونس:107]، وتقرأ في القرآن يوماً قول الله تعالى: مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ[فاطر:2].

    فأنت إذا آمنت بالله وعرفت أن كل ما لديك من النعم من عند الله ستقول للمخلوقين: من كان لديه أية نعمة لدي فليأخذها، وما بكم من نعمة فمن الله، ولنتذكر قول الله تعالى: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ[الزمر:38].

    وهذا يقتضي منا أن نعلم أن كل من حال الخوف على المصالح بينه وبين نصرة الله ورسوله، والتحاقه بالناصر لدين الله، إنما هو مخذول؛ لأنه تقرب إلى قوم لا يستطيعون إبقاء نعمتهم، وأراد أن يمسكوا عليه أمراً لا يقدرون على إمساكه، وقد قال الله تعالى في رد هذه الشبهة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ[التوبة:28].

    و(خفتم عيلة) أي: خفتم فقراً، وهذا هو الخوف على المصالح.

    (فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء)، هذا ضمان من الله للعباد جميعاً.

    الخوف من التشويه

    النوع الثالث: هو الخوف من التشويه.

    كثير من الناس يقول: أنا مستعد لنصرة الله ورسوله، لكني أعلم أن الفرد لا يقيم دولة ولا ينصر مظلوماً ولا يجاهد عدواً ولا يقيم حداً من حدود الله، ولا يستطيع استخراج خيرات الأرض، ولا العدالة فيها، وهذا لا يمكن أن يتم إلا بعمل جماعي، لكن أخاف إذا قمت بأي عمل جماعي من التصنيف والتشويه، يقال: هذا كذا ويوصف بالأوصاف التي تعرفونها.

    وهذا الخوف وهمي كذلك، فرب العزة والجلال جل جلاله هو المتصف بصفات الكمال والجلال والجمال، وكل نقص عليه محال، ومع ذلك زعم الناس أن له صاحبة وولداً، وحصل ما سمعتم في كلام اليهود والنصارى؛ ولكن هل ضر هذا التشويه ربنا جل جلاله شيئاً؟ لا، لم يضره ولن يضره، ورسل الله هم خيرة الله من خلقه، اصطفاهم الله واصطنعهم على عينه وملأهم إيماناً وحكمة ونوراً، وكمل أجسامهم وكمل خلقهم وخلقهم، وحسن أخلاقهم ووسع أرزاقهم، وأنعم عليهم بأنواع النعم، ما منهم أحد إلا قيل فيه: مجنون ساحر كذاب كاهن شاعر، طالب سلطة، أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ[الذاريات:53].

    هل علمتم بنبي من الأنبياء لم يكذب؟ هل علمتم بنبي من الأنبياء لم يشوه؟ هل علمتم بنبي من الأنبياء أياً كان لم يواجه بنفس الكلام؟ وقد قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ[فصلت:43].

    هذا الذي يقوله مشركو مكة قاله أصحاب نوح، وأصحاب هود، وأصحاب صالح، وأصحاب موسى، وأصحاب عيسى، وأصحاب إبراهيم قبل ذلك، كل رسل الله ووجهوا بنفس الكلام، أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ[الذاريات:53].

    فإذا كان الحال كذلك فهل ضر هذا التشويه رسل الله شيئاً؟ لا، لم يضرهم ولن يضرهم.

    وأنتم تعلمون لو أن مسماراً هنا في هذا الباب دق أو شق جلد نوح عليه السلام، وجلد إبراهيم وجلد موسى وجلد عيسى وجلد محمد صلى الله عليه وسلم، وجرحهم جميعاً لابتدرتم إليه لتجرحوا به أنفسكم أليس كذلك؟ لأنه مسمار مبارك، جرح به من هو خير منك؛ فكذلك هذه النكبات التي تصيب الإنسان في سبيل الدعوة إلى الحق هي نكبات مباركة أصابت من هو خير منك؛ فأنت لست أكرم على الله من موسى كليم الله، ولست أكرم على الله من إبراهيم خليل الله، ولست أكرم على الله من عيسى روح الله، ولست أكرم على الله من محمد صلى الله عليه وسلم أفضل خلق الله، وقد أصابهم ما أصابهم في ذات الله.

    وأنت يا أخي حلقة واحدة من سلسلة طويلة، فيها نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومن على آثارهم من المخلصين، وكل نكبة أصابت حلقة من حلقات السلسلة؛ فستصيب كل حلقات السلسلة، فلا تتبرأ منها؛ بل ينبغي أن ترحب بكل ما يصيبك على سبيل الحق، كما قال موسى بن عمران عليه السلام: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى[طه:84].

    لا بد يا إخواني أن نستشعر جميعاً أن كل نكبة أصابتنا في سبيل الحق، فهي خير لنا، والله سبحانه وتعالى بين ما أصاب أولياء الله من الأذى، وبين أنه لا يمكن أن ينجو أحد على طريق الحق إلا إذا ابتلي على هذا الطريق، قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم، الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[العنكبوت:1-3].

    والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، وإنما يبتلى الرجل على قدر دينه )؛ فلذلك لا يحول بينك وبين نصرة الله ورسوله أن تواجه أذىً من المخلوقين؛ بل علينا أن نتذكر حديث الرجل الذي كان في قرية، وكان يعبد الله ولا يعصيه، فأرسل الله ملكاً ليهلك تلك القرية حين ظهر فيها الفساد، فقال: ( يا رب! فيهم عبدك فلان لم يعصك طرفة عين، قال: به فابدأ إنه لم يتمعر وجهه فيّ يوماً ).

    فلذلك لا بد يا إخواني أن نعلم أن ما يصيب أي إنسان منا في سبيل الله، سواء كان ذلك في بدن أو مال أو سمعة أو جاه أو غير ذلك هو خير له لا محالة.

    الخوف من التكاليف

    النوع الرابع: هو الخوف من التكاليف:

    فكثير من الناس يحول بينه وبين نصرة الدين أن يقول بعضهم: أنا لا أستطيع أن أقوم بهذا العمل ونصرة الدين وحدي، وإذا التحقت بقوم أرادوا نصرة الدين فسيتعبونني بالتكاليف، يكلفونني كثيراً من الأعباء والتكاليف التي أنا في غنىً عنها، والجواب عن هذه الشبهة أنك يا أخي بعت نفسك ومالك لله، قد قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ[التوبة:111].

    والتكاليف لا تكون إلا في النفس أو في المال وهل تعرفون تكاليف ليست في النفس ولا في المال؟ أبداً لن تكلف أي تكاليف إلا أذا كانت في النفس أو في المال، وقد بعتهما لله جل جلاله؛ فإذاً الخوف من التكاليف هو خوف وهمي.

    الخوف من المجهول

    النوع الخامس: هو الخوف من المجهول.

    فكثير من الناس إذا كان لا يمارس الدعوة ولا يلتقي بأهلها ولا يعرف ما يعملون، يظن هذا أمراً بدعاً أو مجهولاً أو شيئاً مخوفاً؛ فيقول: أتوجس وأخاف من أمر الله عليه جليته وباطنته؛ فلذلك لا أستطيع الدخول فيه، لكن هذا الخوف الوهمي هو مثل خوف الصبي من الغرفة المظلمة؛ لأن الصبيان الصغار إذا أخذ النور قام أحدهم يبكي خائفاً؛ لكن إذا وجد النور فإنه يطمئن به، فهذا الخوف خوف وهمي لا أساس له؛ ولذلك لا بد يا إخواني أن نعلم أن طريق الحق يقتضي منا التربية في سبيله، وبذل الجهود وألا نخاف في الله لومة لائم.

    1.   

    أنواع نقص الثقة الصارفة عن العمل لدين الله

    أما النوع الثاني من العراقيل والعقبات: فهو نقص الثقة، وهو أنواع كذلك:

    نقص الثقة بالنفس

    النوع الأول: نقص الثقة بالنفس، فكثير من الشباب الصغار يقولون: نحن مستعدون لنصرة الله ورسوله، لكن ماذا نستطيع أن نعمل، فنحن فقراء ضعاف، لدينا واجبات، لدينا دراسة، لدينا تجارة.. وهكذا، يأتونك بأعذار كثيرة جداً؛ لكن هذه الأعذار كل إنسان بالإمكان أن يعتذر بها، ولو اعتذر بها الجميع فمن يرفع لواء الإسلام؟!

    لتتذكر يا أخي أن كل ما تعتذر به يتصف به كل الحاضرين أو على الأقل 90% من الحاضرين؛ فلو اعتذروا جميعاً عن إعلاء كلمة الله ونصرة دينه، فمن سيعلي كلمة الله ويرفع لواء الإسلام؟!

    ثم تذكر يا أخي أن الله لم يكلفك إلا ما تطيق، فقد قال الله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا[البقرة:286]، وقال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا[الطلاق:7]، وكل ما لديك من النعم هو من عند الله، ولا تستطيع أن تكتمه شيئاً مما لديك.

    نقص الثقة بالمستقبل

    النوع الثاني من أنواع نقص الثقة: نقص الثقة بالمستقبل.

    فكثير من الناس يرون انتفاشة الباطل وانتفاخته، وكلما عقدوا أملاً على أمر من الأمور التي فيها إعلاء كلمة الله ونصرة دينه تلاشى ذلك الأمل، فيصابون بإحباط، ويقولون: لا يزداد هذا الأمر إلا شدة، ويقول أحدهم: كيف ينتصر الإسلام، كيف ينتصر على أمريكا؟ كيف ينتصر على النظام العالمي الجديد؟ والمسلمون في آخر الركب وفي آخر الأمم؟ ويبدأ يذكر هذه المعاذير ويبالغ فيها، وهذه الشبهة ردها الله تعالى في كتابه، فالله تعالى في سورة القمر قص علينا الطريقة التي أهلك بها الذين كذبوا نوحاً حين فتح أبواب السماء بالماء المنهمر، وأمر الأرض فتفجرت عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر، فأهلك من على الأرض جميعاً.

    وقص علينا الطريقة التي أهلك بها الذين كذبوا هوداً حين سخر عليهم الريح العقيم ثمانية أيامٍ حسوماً، فجعلهم كالنخل المقلوع المنقعر فماتوا موتة واحدة.

    وقص علينا الطريقة التي أهلك بها الذين كذبوا صالحاً حين أرسل عليهم الصيحة، فشقت أشرفة قلوبهم، فماتوا موتة رجل واحد.

    وقص علينا الطريقة التي أهلك بها الذين كذبوا لوطاً حين أرسل عليهم الحاصب، فحصب قريتهم فاقتلعها وحملها حتى سمع أهل السماء أصوات كلابهم، ثم ردها على الأرض وجعل عاليها سافلها، وأرسل عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك.

    وقص علينا الطريقة التي أهلك بها فرعون وجنوده حين أمر البحر فالتطم عليهم، فلم تبقَ منهم باقية، فقال بعد ذلك: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ[القمر:43]، هل الكفار الذين تعاملونهم وتخالطونهم الأمريكان وغيرهم خير من أولئكم؟ هل هم خير من قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط وقوم موسى؟

    هود قومه هم عاد الذين كانوا يقولون: من أشد منا قوة؟ وموسى قومه هم فرعون الذي كان يقول: أنا ربكم الأعلى، أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ[القمر:43]، هذا السؤال يطرحه كل واحد منا على نفسه: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ[القمر:43].

    هل الأمريكان أحب إلى الله من قوم نوح وقوم هود وقوم صالح هل هم أقوى منهم.

    ثم جاء الخطاب بأسلوب معجز، وهو الذي يسمى لدى أهل البلاغة بالالتفات، فقال: أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ[القمر:43]، (أم لكم) أيه الكفار براءة من الله في الكتب المنزلة، ألا يأخذكم بمثل ما أخذ به السابقين؛ فنحن نشهد أن قدرة الله لم ينتقص منها شيء، وأنه قطعاً لن يحب الكافرين ولم يحبهم، وأن قدرته على قوم نوح هي مثل قدرته على الأمريكان وأعوانهم، وأن قدرته على قوم هود هي مثل قدرته على الأمريكان، ... وهكذا، لم ينتقص شيء من قوته ولا من قدرته، بيده الأمر كله وإليه يرجع الأمر كله، ما أقدره على أن يأمر الأرض فتبتلع ما فيها، والبحر فيبتلع ما فيه، والجو فيبتلع ما فيه، والفضاء الخارجي فيبتلع ما فيه؛ لأن هذا كله بين الكاف والنون كما قال تعالى: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[النحل:40]، وكما قال: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[يس:82].

    فلذلك لا تنزعج يا أخي من انتفاشة الباطل وانتفاخته، واعلم أن الله قادر عليهم، وأنه كان بالإمكان ألا يخلقهم أصلاً، كان قادراً على ألا يخلق إبليس وألا يخلق الفجور، ولكنه أراد بذلك حكمة بالغة بينها؛ وهي الامتحان والابتلاء قال الله تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ[يونس:99-100].

    وكان قادرا ًعلى الانتصار منهم جميعاً في طرفة عين؛ ولذلك قال: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ[محمد:4].

    فهو الامتحان والابتلاء، وعلى هذا فلا تنزعج يا أخي من كل ما يحيكون ومن كل ما يمكرون، واعلم أن من سبقهم وصلوا إلى أكثر مما وصلوا إليه من الطغيان، وقد أهلكهم الله، ولنتذكر يوم الأحزاب عندما حوصر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه في المدينة، ليس لهم ناصر إلا الله جل جلاله، وقد قال في ذلك ابن رواحة رضي الله عنه:

    والناس إلب علينا ثم ليس لنا إلا السيوف وأطراف القنا وزر

    أهل الأرض جميعاً ناصبوهم العداء، وقد بين الله ذلك الحال إذ قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيراً * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً * قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمْ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنْ الْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً[الأحزاب:9-16].

    فهذا الحال كان المنافقون فيه يقولون: يعدكم محمد أنه ستفتح عليكم قصور كسرى وقيصر وها أنتم اليوم لا يستطيع أحد منكم أن يخرج لقضاء حاجته، لكن لم تمضِ السبع السنوات حتى فتحت كنوز كسرى وقيصر، وأنفقت في سبيل الله، وعرف المنافقون أن وعد الله لا يخلف.

    والحال لم يتغير فنحن الآن على وعد من الله ربنا جل جلاله ونحن نؤمن به، ونعلم قدرته على خلقه؛ فلذلك نعلم أنه جل جلاله سيحقق هذا الوعد طال الزمان أو قصر؛ ولذلك لا نبالي بالخاذلين، ولا نبالي بالأعداء، ولا نبالي بتكاثرهم، فلن نكون في ضيق أشد مما كان عليه الأنبياء من قبلنا والرسل، وقد قال الله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ[آل عمران:146-148].

    هذا الذي نرجوه من عند الله سبحانه وتعالى ونريده، والله لا يخلف الميعاد، وقد تعهد بتحقيق ذلك.

    نقص الثقة في العاملين لدين الله

    النوع الثالث: نقص الثقة فيمن يعمل معك.

    فكثير من الناس يقول: أنا مستعد لنصرة الله ورسوله، وأعلم أني لا أستطيع ذلك وحدي، لكني أنتظر خروج المهدي أو نزول المسيح بن مريم عليه السلام حتى أجد من أيقن بصدقه وإخلاصه؛ لأن الذين يسعون لإعلاء كلمة الله الآن ونصرة دينه فيهم وفيهم، ويمكن أن يكونوا صادقين، ويمكن أن يكونوا مرائين، ويمكن أن يكونوا مسمعين، ويمكن أن يكونوا أصحاب مصالح، ويمكن أن يكونوا مخابرات، كل هذه الاحتمالات واقعة.

    والجواب: أن هذا صحيح وكل الاحتمالات ممكنة؛ لكن أنت أيضاً ترد عليك الاحتمالات كلها، ما الذي برأك أنت من كل هذه الاحتمالات وصبها على إخوانك الذين يسعون لإعلاء كلمة الله، فأنت يمكن أن تكون أيضاً غير صائب، وغير عامل لنصرة الله، ويمكن أن تكون مرائياً، ويمكن أن تكون مسمعاً.. إلى آخره.

    والذين يسعون لإعلاء كلمة الله أنت مطالب بمناصرتهم ولو كانوا فجاراً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الجهاد ماضٍ إلى قيام الساعة مع كل بر وفاجر، لا ينقضه جور جائر، ولا عدل عادل )، كل من رفع راية الإسلام وتقدم لإعلاء كلمة الله، فحقه وواجبه واجب المسلمين تجاهه أن ينصروه ويساعدوه، وأن يقوموا بهذا الحق معه، سواء كان براً أو فاجراً لا يهمك حاله؛ فأنت معاملتك مع الله إذا صدقت أنت وطهرت قلبك لله، فتثاب على نيتك ولا تبالي بالآخرين.

    نقص الثقة بالقيادة

    النوع الرابع: وهو نقص الثقة بالقيادة.

    كثير من الناس يقول: إعلاء كلمة الله ونصرة دينه مشروع كبير يحتاج إلى قيادة وتمكين، ولا أرى تلك القيادة الآخرة التي تستطيع توجيه المجتمع وتوجيه الشباب وتوجيه المسلمين لإعلاء كلمة الله؛ فنحن ننتظر حتى نجد قيادة، وهذه الفكرة سببها عدم فهم القيادة، فكثير من الناس يظن أن القائد هو المعصوم الذي لا يخطئ، والمضحي الذي لا يخطئ، والعالم الذي لا يزل، وهذا غير صحيح، فقائد كل عمل إنما هو فرد من أفراده، كلف بتكاليف لم يكلف بها الآخرون، كما قال علي رضي الله عنه: (ما أنا إلا أحدكم ولكني أثقلكم حملاً)، وقد قال الله تعالى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمْ الْهُدَى إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً * قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً[الإسراء:94-95].

    لو كنتم أنتم ملائكة لقادكم ملك، ولأنزل الله لكم ملكاً يحكم، لكن أنتم بشر فلن يقودكم إلا بشر مثلكم، يصيبه ما أصابكم من التعب والنصب والتقصير والإسراف وغير ذلك؛ فلذلك قائد كل مجموعة إنما هو فرد من أفرادها؛ يجوز بحقه ما يجوز في حقوقها، إذا عرفنا ذلك فعلينا أن نتهم أنفسنا في سبيل هذا الدين ونصرته، وأن نعلم أن المعاذير كثيرة في الحياة الدنيا، ولكنها تضل وتضيع يوم القيامة، كما قال الله تعالى: هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ[المرسلات:35-36].

    فكل المعاذير التي يمكن أن يرميها الشيطان ويلقيها في روعك الآن يمكن أن تعتذر بها لتبرير خطئك أمام إخوانك وأمام الناس؛ لكن إذا وقفت بين يدي الديان وختم على فمك، وتكلمت جوارحك؛ فإن المعاذير كلها تذهب وتشرد.

    إننا يا إخواني الآن في فسحة من الزمن، وبالإمكان في هذه اللحظة أن يلتحق كل واحد منا بحزب الله، وإعلاء كلمة الله، وأن يحقق بيعته مع الله، وأن يكون فعلاً من إخوان النبي صلى الله عليه وسلم الذين تمنى أن يراهم، فقد صح عنه أنه قال: ( وددت لو رأيت إخواننا، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟! قال: بل أنتم أصحابي، وإخواني: قوم آمنوا بي ولم يروني، للواحد منهم أجر خمسين، قالوا: يا رسول الله! منا أم منهم؟ قال: بل منكم، إنكم تجدون على الحق أعواناً ولا يجدون على الحق أعواناً ).

    فبالإمكان الآن أن تكونوا جميعاً من أنصار النبي صلى الله عليه وسلم وأعوانه، وأن تتحملوا مسئولياتكم في سبيل نصرة دينه.

    نسأل الله أن يوفقكم أجمعين لذلك.

    أقف الآن عند هذا الحد، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767426991