إسلام ويب

متن ابن عاشر [4]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الطهارة شرط من شروط الصلاة, وهي نوعان: طهارة الحدث, وطهارة النجس, وآلتها: الصعيد, والمزيل, والماء الذي يعتبر الأساس في ذلك, وهو أربعة أقسام: الماء الطهور, والماء الطاهر, والماء المتنجس, والماء المكروه. ولكل قسم منها أحكامه تخصه.

    1.   

    مقدمة في الطهارة

    الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على نبينا محمد, وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    بعد أن أكملنا الحديث عن الشهادتين, والحديث عن جملة من الأحكام في المقدمة الأصولية, نصل الآن إلى الأحكام بعد النطق بالشهادتين, وأولها: الصلاة، فقد ذكرنا أن الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام.

    والصلاة لها شروط, ولها أسباب, ولها موانع؛ لأن الخطاب الوضعي ذكرنا أنه علامات يضعها الشارع على الخطاب التكليفي، فنبدأ أولاً بشروط الصلاة، وأول شرط تعرض له المؤلف هو الطهارة.

    تعريف الطهارة وأقسامها

    الطهارة في اللغة: مصدر طهر بمعنى: نظف، يقال: ثوب طاهر أي: نظيف، ومكان طاهر أي: نظيف، وهي تنقسم إلى قسمين: حسية, ومعنوية، فيقال: فلان طاهر العرض بمعنى: نظيف العرض، وهذا أمر معنوي؛ لأن العرض معناه: محل المدح والذم من الإنسان.

    فطهارة العرض معناها: أنه ليس مرتكباً لما يذم به، وكذلك يقال: فلان طاهر الثياب طهارة معنوية؛ بمعنى: أنه لم يخالط الأدران والأوساخ المعنوية التي هي العيوب, وبذلك فسر قول الله تعالى: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4].

    ومنه قول امرئ القيس:

    ثياب بني عوف طهارى نقية وأوجههم عند المجالس غران

    أقسام الطهارة الحسية

    والطهارة الحسية تنقسم إلى قسمين: طهارة حدث, وطهارة خبث.

    فالحدث يطلق على ثلاثة أمور في الفقه:

    الأول: الخارج من أحد السبيلين؛ وهو النجس الخارج من أحد السبيلين أي: سبيل البول أو سبيل الغائط، فكل ما خرج من أحد السبيلين يسمى حدثاً.

    الثاني: خروج النجس من بدن الإنسان، فخروج النجس من بدن الإنسان يسمى حدثاً.

    الثالث: الحكم المترتب على الخروج، فالإنسان المحدث معناه: الذي رتبت الشريعة على أعضائه منعاً من الصلاة، ومنعاً من الطواف، وإن كان محدثاً حدثاً أكبر منع أيضاً من دخول المسجد ومن تلاوة القرآن.. إلخ.

    وبهذا تفهمون أن الطهارة تكون شرطاً, وتكون سبباً، والنجاسة كذلك تكون مانعاً, وتكون سبباً.. وهكذا.

    فالطهارة شرط لصحة الصلاة، وهي كذلك سبب لندب صلاة ركعتين إذا كان ذلك في وقت الإباحة، فمن توضأ في وقت الإباحة فوضوؤه سببه لندب صلاة ركعتين.

    واتصاف الإنسان بالحدث -أي: كونه محدثاً- مانع له من أداء الصلاة، فهذا معنوي, وهو سبب لوجوب الغسل إذا كان طهارة كبرى، وسبب لوجوب الوضوء إذا كان طهارة صغرى, فإذا دخل وقت الصلاة والإنسان محدث حدثاً أكبر فهذا الحدث سبب لوجوب الاغتسال، وإذا دخل وقت الصلاة والإنسان محدث حدثاً أصغر، فهذا الحدث سبب لوجوب الوضوء.

    وسائل الطهارة وآلتها

    والطهارة تبحث في الفقه من عدة أوجه، أولها: وسيلتها وآلتها، وهذه هي أول ما بدأ به المؤلف رحمه الله، وهي التي تسمى عند المحدثين وعند بعض الفقهاء بالمياه، وليست وسيلة الطهارة مقصورة على المياه، بل وسيلة الطهارة منها الماء، ومنها الصعيد الطاهر، ومنها كذلك المزيل من غير ماء وصعيد.

    إذاً: آلة الطهارة ثلاثة أقسام هي: المياه -وقد تعرض لها المؤلف- والصعيد الطاهر -وسنذكره في التيمم إن شاء الله- والمزيل؛ وهو ما يزيل أثر النجاسة أياً كان، سواءً كان مناديل يمسح بها النجس فيزال، أو كان حجراً، أو كان جامداً غير حجر، أو غير ذلك مما يزال به أثر النجاسة في الاستجمار، فهذا وسيلة من وسائل الطهارة, وآلة من آلاتها، وليس بماء ولا صعيد.

    1.   

    أحكام المياه

    بدأ المؤلف رحمه الله بتقسيم الماء فقال:

    [ فصل: وتحصل الطهارة بما من التغير بشيء سلمـــا

    إذا تغير بنجس طرحا أو طاهر لعادة قد صلحا

    إلا إذا لزمه في الغالب كمغرة فمطلق كالذائب ]

    قوله: (فصل) من البيت, ولا يتزن البيت بدونها، وقوله: (وتحصل الطهارة) أي: تقع الطهارة, فهذا وسيلتها وآلتها، والمقصود بها هنا: طهارة الحدث وطهارة الخبث معاً، فالماء يصلح لتطهير النجس, ويصلح لرفع الحدث عن البدن كذلك، فالماء وسيلة للطهارتين: طهارة الحدث, وطهارة الخبث، والصعيد صالح لطهارة الحدث فقط، والمزيل صالح لطهارة الخبث فقط، فإذاً أقسام المطهرات الثلاثة كل واحد منها باعتباره، فالماء صالح للطهارتين, والصعيد صالح لطهارة الحدث فقط، والمزيل صالح لطهارة الخبث فقط.

    الماء المطلق وحكمه

    (وتحصل الطهارة بما) أي: بماء، والممدود يجوز قصره في ضرورة الشعر، بل الكلمة ممدودة في الأصل يقال: مآء, والهمزة مقلوبة عن (هاء)، فأصل الكلمة ماهٌ، ولذلك يجمع على أمواه, ويصغر على مويه، فتصغير ماء: مويه، وجمعه: أمواه, قال الشاعر:

    إحدى بني بكر بن زيد مناه بين الكثيب الفرد فالأمواه

    وقوله: (من التغير بشيء سلما) أي: يسلم من التغير بأي شيء, فـ (بشيء) هنا معناها: بأي شيء، وهذا من استعمال النكرة في سياق الإثبات للعموم، فالنكرة هي اسم شائع في جنسه لا يختص به واحد دون آخر، وهو يستعمل في الإثبات والنفي، فإذا جاء في النفي دل على العموم في الأصل، فإذا قلت: لا رجل في المسجد أو لا رجل في الدار، فهذا من ألفاظ العموم؛ لأنه يقتضي ألا يوجد رجل واحد ولا رجال, فهو لنفي الجميع.

    أما إذا جاءت النكرة في سياق الإثبات فقلت: رجل في الدار أو رجل في المسجد، فهذا في الأصل لا يقتضي العموم، بل يقتضي الإطلاق؛ لأنه يصدق على رجل واحد, ويصدق على رجال، لكن قد تستعمل النكرة في سياق الإثبات للعموم، وذلك قليل, مثل: قول الله تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ [الانفطار:5], وقوله: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ [التكوير:14].

    فقوله: (علمت نفس) معناه: علمت كل نفس ما أحضرت.

    وقوله: (علمت نفس ما قدمت وأخرت) معناه: علمت كل نفس ما قدمت وأخرت.

    وهذا قليل في القرآن والسنة، وقد استعمله المؤلف هنا فقال: (بما من التغير بشيء سلما). فـ (بشيء) هنا نكرة في سياق الإثبات، ويقصد بها العموم, فمعناه: بأي شيء.

    والمقصود بالتغير: تغير أحد أوصاف الماء الثلاثة، فالماء له ثلاثة أوصاف هي: اللون, والطعم, والريح, فإذا تغير طعمه بشيء فإنه قد خرج عن هذه القاعدة، وإذا تغير لونه بشيء فإنه خرج عن هذه القاعدة، وإذا تغير ريحه بشيء فإنه خرج عن هذه القاعدة.

    إذاً القاعدة: أن الماء الذي لم يتغير لونه ولا طعمه ولا ريحه فهو الماء المطهر، وهذا هو القسم الأول من أقسام المياه، فالماء ينقسم إلى أربعة أقسام:

    الأول: ماء طهور، وهو الذي يسمى بالماء المطلق، والإطلاق معناه: أنه لا يحتاج إلى إضافة ولا نسبة، فلا يقال: ماء الورد, ولا ماء البطيخ، فلا يحتاج إلى إضافة، هذا معنى المطلق.

    ويسمى طهوراً، والطهور: فعول للمبالغة من الطهارة؛ لأنه طاهر في نفسه مطهر لغيره، وذلك أن الله سبحانه وتعالى خلقه في الأصل خالياً من كل ما يمنعه التطهير، ولذلك قال تعالى: وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً [الفرقان:48]. فجعل أصل الماء أن يكون طهوراً، والطهور كما ذكرنا صيغة مبالغة، فهي فعول مثل: صبور ونحوها؛ للدلالة على المبالغة، فتطلق على المبالغة في النظافة، ومن ذلك قول الله تعالى: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً [الإنسان:21]، وهذا خمر الجنة, فخمر الجنة طهور أي: مبالغ في طهارته؛ لأنهم لا يصدعون عنه ولا ينزفون، (لا يصدعون عنه) أي: لا يؤثر على رءوسهم, فلا يأخذهم الصداع, (ولا ينزفون) أي: لا يسكرون إذا شربوا، فلا يصابون بالصداع, ولا يصابون بالنزف؛ وهو السكر.

    فهذا معنى المبالغة في طهارة خمر الجنة، ويفهم من هذا نجاسة خمر الدنيا؛ لأنها على الضد, فقد قال في خمر الآخرة أي: خمر الجنة: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً [الإنسان:21]، وهذا دليل على أن الخمر التي يصدع أصحابه أو ينزفون ليست طهوراً, إنما هي نجس.

    ومن هذا أيضاً قول حميد بن ثور الصحابي رضي الله عنه:

    خليلي هل في نظرة بعد توبة أداوي بها نفسي علي فجور

    إلى رجح الأكفال غيل من الورى عذاب الثنايا ريقهن طهور

    فقوله: ريقهن طهور أي: مبالغ في طهارته ونظافته.

    الماء الطاهر غير المطهر

    القسم الثاني من المياه: الماء الطاهر غير المطهر، أي: الماء الطاهر في نفسه، ولكنه غير مطهر لغيره، وهو الماء المتغير بطاهر، مثل: الماء الذي وضع فيه الصابون أو وضع فيه السكر أو وضع فيه الشاي، فهذا الماء حين تغير أحد أوصافه: طعمه أو لونه أو ريحه لم يعد مطهراً لغيره، لكنه طاهر في نفسه؛ لأن المادة التي خالطته طاهرة فلا تنجسه، فهذا يصلح للعادة دون العبادة، فيمكن أن تغسل به الثياب, ويمكن أن يستعمل في أي شيء من العادات، لكن لا يصلح للعبادة أي: لا يصلح لطهارة الحدث, ولا لطهارة الخبث.

    الماء المتنجس وأحكامه

    ثم قال المؤلف: (إذا تغير بنجس طرحـــا).

    هذا القسم الثالث: وهو الماء المتنجس، أي: الماء الذي تغير أحد أوصافه الثلاثة بنجس، فإذا تغير لون الماء بنجس فوقع فيه دم فأصبح لونه كلون الدم، أو تغير ريحه بنجس خالطه كبول ولم يؤثر على لونه، ولكن أصبح فيه رائحة البول فهو نجس، أو تغير طعمه بنجس خالطه كبول فتغير طعمه، فهذا الماء نجس؛ لأنه خالطه النجس فأثر على أحد أوصافه.

    وإذا خالط الماء نجس ولم يغيره فحينئذٍ ينظر في الماء: فإن كان الماء كثيراً ووقع فيه نجس قليل ولم يغيره، مثل: ماء النيل وقعت فيه نجاسة ولم تغيره -وطبعاً لن تغيره- فهذا الماء طهور على حاله.

    لكن إذا كان الماء قليلاً مثل: دلو أو بركة صغيرة فيها ماء فوقعت فيه نجاسة؛ ولكن لم يتغير هذا الماء فمحل خلاف بين أهل العلم؛ فمذهب المالكية: أن كل ما لم يغير لون الماء ولا طعمه ولا ريحه فلا يؤثر فيه، فيبقى الماء على أصله من ناحية الطهارة، ولكن يكره استعماله في طهارة حدث أو خبث -كراهة فقط- مع وجود الغير, فإذا لم يوجد الغير استباح الإنسان استعماله، فهذا إذاً قسم آخر من المياه, وهو الماء المكروه.

    ومذهب الجمهور: أن الماء اليسير القليل إذا خالطته نجاسة ولو لم تؤثر فيه ولم تغير شيئاً من أوصافه فإنه يتنجس بها.

    وقد اختلفوا في التفريق بين الماء القليل والكثير؛ فذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الفرق بين القليل والكثير هو قدر القلتين، فإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، والقلتان بالدمشقي مائة وعشرون رطلاً.

    وذهب الحنفية إلى التفريق بين القليل والكثير بأوجه أخرى: فعن أبي حنيفة أنه الذي إذا شرب الإنسان منه لم يتوقع أن يكون قد شرب النجس أي: لم يحصل في ذهنه أنه شرب النجس. وعن محمد بن الحسن الشيباني أنه الذي إذا حرك طرفه لم يتحرك طرفه الآخر. وعن أبي يوسف أنه عشرة في عشرة في عشرة؛ أي: أن الكثير حده عشرة في عشرة في عشرة، أي: عشرة أذرع طولاً, في عشرة أذرع عرضاً، في عشرة أذرع عمقاً، فهذا هو الكثير, وما كان دون ذلك فقليل.

    وهذه الأحوال -كما قال الشوكاني رحمه الله- ليس على شيء منها أثارة من علم؛ لأنها مجرد اجتهاد لم يرد عليه أي دليل، ومذهب الشافعية والحنابلة معتمد على حديث ابن عمر في السنن: ( أنهم سألوا رسول الله عليه وسلم عن المياه تكون في الفلاة وما ينوبها من الدواب والسباع؟ فقال: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث ).

    وهذا الحديث له علل, منها:

    أولاً: الاضطراب في متنه، فقد جاء في رواية الترمذي: ( إذا بلغ الماء قلتين أو ثلاثاً لم يحمل الخبث )، ورواية الأكثر: ( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث )، وفي رواية للدارقطني: (إذا بلغ الماء مائة قلة لم يحمل الخبث )، فإذاً: فيه اضطراب في المتن بين قلتين، وثلاث قلال، ومائة قلة.

    كذلك فيه اضطراب في الإسناد؛ وذلك أن مداره على رجلين هما: محمد بن إسحاق والوليد بن أبي كثير، وكلاهما متكلم فيه، فمحمد بن إسحاق طعن فيه مالك بن أنس، وإن كان هو من رجال الصحيح، لكنَّ مالكاً تكلم فيه، وهو صاحب السيرة المعروف محمد بن إسحاق , والثاني: الوليد بن أبي كثير خارجي إباضي، فكلاهما إذاً متكم فيه، ومع ذلك اختلف على كليهما فيه، فكلاهما يرويانه عن محمد بن عباد بن الزبير وتارة يرويانه عن محمد بن جعفر بن عباد. وكلاهما أيضاً اختلف عليه فيه، فتارة يرويانه عن عبد الله بن عبد الله بن عمر المكبر، وتارة يرويانه عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر المصغر . إذاً: هذا اضطراب في السند.

    كذلك فإن من علله علة أخرى ترجع إلى المتن؛ وهي أننا لا نعرف مقدار القلتين، فالقلال مختلفة المقاسات والأحجام، وقد ورد في رواية: ( إذا بلغ الماء قلتين من قلال هجر لم يحمل الخبث)، لكن هذه الرواية مدارها على المغيرة بن سقلاب، وهو ضعيف لدى أهل الحديث، فإذاً لا يحتج بهذا.

    وإن كان البيهقي حاول تقويتها، فقال: القلال إذا أطلقت فهي قلال هجر؛ بدليل حديث المعراج, وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أتى سدرة المنتهى قال: ( فإذا نبقها كقلال هجر, وورقها كآذان الفيلة )، لكن هذا الحديث ليس دليلاً على أن القلال إذا أطلقت فهي قلال هجر، بل العكس, فقد قيدها النبي صلى الله عليه وسلم هنا في هذا الحديث -وهو حديث المعراج- بقلال هجر، وهو أيضاً يدل على تفاوت الأحجام؛ لأن نبق السدرة لا يكون متساوياً في حجمه، بل يكون متفاوتاً, وقلال هجر كذلك متفاوتة في أحجامها.

    فإذاً: مذهب جمهور أهل العلم التفريق بين القليل والكثير، فالكثير بالإجماع إذا وقع فيه نجس ولم يغيره لم يتغير، والقليل فيه خلاف، واختلف الذين يرون التفريق، فالجمهور يرون أن قليل الماء يتأثر بقليل النجاسة وإن لم يغير لونه أو طعمه أو ريحه, والمالكية بخلاف ذلك.

    والمالكية يستدلون بأدلة، منها: حديث بئر بضاعة، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( قيل له: أنتوضأ من بئر بضاعة, وهي بئر تلقى فيها الحيّض ولحوم الكلاب والنتن؟ فقال: إن الماء لا ينجسه شيء )، وهذا الحديث صحيح، لكنه قطعاً مقيد؛ لأن الحديث لو بقي على إطلاقه لكان الماء لا يتنجس مطلقاً، حتى لو تغير لونه أو طعمه أو ريحه, وهذا خلاف الإجماع.

    ويستدلون بحديث آخر وهو: (إن الماء طهور لا ينجسه إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه )، وهذا الحديث أخرجه البيهقي ؛ ولكن مداره على رشدين بن سعد، ورشدين بن سعد كما قال أهل الحديث: كان رشدين رجلاً صالحاً فأدركته غفلة الصالحين، فمن الصالحين من تكون فيه غفلة، ورشدين من هذا النوع, فهو يقبل التلقين، فلذلك حديثه ضعيف لا يعتمد عليه.

    لكن المالكية يستدلون بأدلة أخرى أقوى، وهي حديث بول الأعرابي في طائفة المسجد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يراق عليه ذنوب من ماء، والذنوب: قليل من الماء، وبول الأعرابي قليل من النجس، وقد طهره ذلك الماء الذي صب عليه قطعاً، فدل هذا على أن الماء إذا غلب على النجس ولم يؤثر فيه ولو كان الماء قليلاً، فإنه يبقى على تطهيره، فهذا أقوى أدلة المالكية في هذه المسألة.

    وعموماً إذا سئلتم سيكون حاضراً لديكم أن الماء الكثير إذا وقع فيه نجس لا يضره، وأن الماء القليل إذا وقع فيه نجس فهو محل خلاف، وهذا الخلاف ليس منحصراً فقط فيما يعرض الماء، بل هو خلاف أيضاً في تحديد القليل والكثير، وقد ذكرنا أقوال أهل العلم فيه.

    إذاً: بهذا يتضح أن الماء أربعة أقسام:

    القسم الأول: الطهور؛ وهو الذي لم يخالطه شيء، وهو الذي لم يتغير لونه ولا طعمه ولا ريحه بأي شيء لا طاهر ولا نجس.

    القسم الثاني: الماء الطاهر، وهو الذي خالطه طاهر فغلب على لونه أو طعمه أو ريحه.

    القسم الثالث: الماء النجس، وهو الذي خالطته نجاسة فغيرت لونه أو طعمه أو ريحه، وعند الجمهور الماء القليل إذا خالطته نجاسة ولو لم تغير لونه ولا طعمه ولا ريحه يعتبر نجساً، خلافاً للمالكية.

    الماء المكروه وأحكامه

    القسم الرابع: الماء المكروه، وذكرنا من أمثلته عند المالكية: الماء الذي قال الجمهور بنجاسته؛ وهو الماء القليل الذي خالطته نجاسة ولم تؤثر فيه, فهو مكروه.

    وكذلك عند المالكية من هذا القبيل: الماء الذي ولغ فيه الكلب.

    فالكلاب فيها خلاف: هي من الطاهرات أو من النجس؟

    فمذهب المالكية: أن كل حي فهو طاهر، وأن الحياة علة للطهارة، وهم يطلقون ذلك فيقولون: الحي طاهر ولو إبليس لعنه الله، وقد سئل أحد علمائنا فقيل له: ما فائدة طهارة إبليس؟ قال: من تحكك عليه في الصلاة لم تبطل صلاته، فإبليس يمكن أن يتحكك على المصلي، فمن تحكك عليه في الصلاة لم تبطل صلاته.

    ودليل المالكية على هذا هو الملازمة، فالشاة قبل أن تموت طاهرة بالإجماع، فإذا ماتت بغير ذكاة فهي نجسة بالإجماع، فدل هذا على أن الحياة علة للطهارة، فالشاة ما دامت حية فهي طاهرة بالإجماع، وإذا ماتت من غير ذكاة فهي نجسة بالإجماع، فهذا دليل على ملازمة الحياة بالطهارة, وملازمة الموت بالنجاسة على العكس من ذلك.

    ولذلك يرى المالكية أن الكلب والخنزير في أعيانهما ما داما حيين فهما طاهران، فإذا مس الإنسان كلبٌ في الصلاة لا تبطل صلاته، وإذا مسه خنزير في الصلاة لم تبطل صلاته، إلا إذا مسه قذره ونجسه، فهذا مذهب المالكية.

    ومذهب الجمهور: أن الكلاب والخنازير نجس بذاتها، وعلى هذا فإن المالكية يرون أن تسبيع غسل الإناء إذا ولغ فيه كلب تعبدي لا تعللي؛ أي: أنه من الأمور التي يتعبد الله بها ولا نعرف علتها.

    ومذهب الحنفية: أن التسبيع ليس مندوباً أصلاً، وأن نجاسة الكلاب يكفي فيها ثلاث غسلات فقط.

    ومذهب الشافعية والحنابلة: أن التسبيع تعللي، وأن علته: أن نجاسة الكلاب والخنازير مغلظة فلا يطهرها إلا سبع غسلات، وأصل ذلك: حديث أبي هريرة عند مالك والبخاري في الصحيح ولفظه: ( إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً )، وهذا اللفظ فيه ذكر شراب الكلب, وليس فيه ذكر الولوغ، وفيه ذكر التسبيع وليس فيه ذكر التتريب، لكن في رواية مسلم: ( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً إحداهن بالتراب ).

    وهذه الزيادة -وهي (إحداهن بالتراب)- لم يروها من أصحاب أبي هريرة إلا أبو صالح السمان، ولم يروها من أصحاب أبي صالح السمان إلا الأعمش، فهي إذاً مقصورة على راوٍ واحد في طبقتين من طبقات الإسناد، لكن لها شاهد؛ وهو حديث عبد الله بن المغفل عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب فقال: ( اغسلوه سبعاً وعفروه الثامنة بالتراب ).

    وهذا الحديث فيه خلاف هل يشهد لحديث أبي هريرة أو لا؟

    فالشاهد لابد أن يكون موافقاً للمشهود له، فإذا كان مخالفاً له في الدلالة لم يكن شاهداً، وحديث أبي هريرة فيه سبع غسلات إحداهن بالتراب، وحديث ابن المغفل فيه ثمان غسلات، فهل يكون شاهداً أو لا؛ لأنه قال: ( وعفروه الثامنة بالتراب

    مذهب المالكية أنه لا يكون شاهداً، بل يكون هذا من اختلاف النصوص واختلاف الحديث، وهو الذي يسمى مختلف الحديث أي: الذي حصل إشكال في التعارض بين لفظه، فيسعى فيه للجمع أولاً، فإن عجزنا عنه رجعنا للترجيح، فنرجح بينهما.

    ومذهب الشافعية والحنابلة الأخذ بالحديثين؛ على أن حديث ابن المغفل شهاد لحديث أبي هريرة، ولذلك قال النووي: المقصود سبع غسلات وفي إحداهن تراب، فتعتبر الغسلة التي فيها التراب بغسلتين: غسلة للماء, وغسلة للتراب، فيكون للجميع ثمان غسلات، وهذا تأويل، وعموماً فإن التتريب غير مندوب عند المالكية؛ لما ذكرنا في أنهم اقتصروا على المتفق عليه من الحديث، وهو التسبيع في حديث أبي هريرة، ورأوا أن الزيادة أي: ما زاد على ذلك مضطرب؛ لأنه بمثابة الشاذ حين انفرد به ثقة وخالفه من هو أكثر منه عدداً؛ لأنهم اعتبروا هذا خلافاً.

    والشافعية والحنابلة يرون أن التتريب مندوب, وينفون الشذوذ فيقولون: قد ثبتت الزيادة بالتتريب, والاختلاف الذي فيها هل هو: (أولاهن بالتراب)، كما عند أبي داود، أو (أولاهن أو أخراهن بالتراب) كما عند ابن حبان، أو (أخراهن بالتراب) فقط كما عند الترمذي، (أو إحداهن بالتراب) كما في صحيح مسلم ؟ قالوا: كل هذه الرواية تقضي عليها رواية الصحيح؛ لأن القاعدة عند أهل الحديث: أنه إذا حصل اضطراب في المتن، فكان للحديث رواية في الصحيح فهي قاضية على ما سواه؛ لأن رواية الصحيح مقدمة، وهذا الأمر اصطلاحي؛ لأن المالكية لهم الحق أن يقولوا: قبل ورود الحديث في صحيح مسلم أي: قبل ميلاد مسلم بن الحجاج كيف كان العمل؟ فالروايات كانت موجودة قبل ميلاد مسلم بن الحجاج .

    فلذلك يبقى الإشكال وارداً من الناحية الفقهية، ومذهب الحنفية: أن ثلاث غسلات تكفي, ويستدلون بأن أبا هريرة -وهو راوي الحديث- روي عنه أنه غسل إناء ولغ فيه كلب ثلاثاً واستعمله.

    والجمهور يردون عليه فيقولون: العبرة بما روى لا بما رأى، فغسله لإناء ثلاثاً هو رأي له، والعبرة بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بما رأى هو.

    والمالكية يستدلون على طهارة الكلب بحديث ابن عمر في صحيح البخاري وغيره: (كانت الكلاب تقبل وتدبر زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك)، والكلب إذا أقبل وأدبر لابد أن يلهث، وإذا لهث لابد أن يتطاير شيء من ريقه، فدل ذلك على طهارة ريقه؛ لأنه قال: ( كانت الكلاب تقبل وتدبر زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك ).

    والشافعية والحنابلة يستدلون على نجاسته فيقولون: لسانه أطهر من ذنبه قطعاً، فلسان الكلب أطهر من ذنبه، فإذا كان لسانه إذا خالط الماء الذي هو أطهر الطاهرات يغسل منه سبعاً إحداهن بالتراب، فكيف بذنبه أو أي عضو من أعضائه! فهذا هو دليل الشافعية والحنابلة على نجاسة ريق الكلب.

    والمالكية الذين لا يرون نجاسته يقولون: إذا خالط ريق الكلب ماء فهذا الماء يكره استعماله ولا يحرم؛ لأنه لم يثبت عنده نجاسته، فيبقى مكروهاً؛ لأن من أصول المالكية: مراعاة الخلاف؛ مراعاة لمذهب الشافعية والحنابلة الذين يرون تنجسه.

    والشافعية والحنابلة يرون أن الكلب إذا صب عليه الماء، كما إذا أصابه مطر فإن نجسه متعدٍ, أما إذا كان يابساً فإن نجسه قاصر عليه, فالكلب إذا اغتسل يزداد نجاسة، فيكون نجسه متعدٍ، وإذا كان يابساً فنجسه مقصور عليه، وذلك أنه إذا كان رطباً فإذا انتفض سينجس ما حوله، وقد قال أحد الشعراء في وصف أحد الوزراء يقول:

    قل للخسيس أبي رياش لا تبل ته كل تيهك بالولاية والعمل

    ما ازدت حين وليت إلا خسة كالكلب أنجس ما يكون إذا اغتسل

    وهذا على مذهب الحنابلة والشافعية فقط.

    كذلك من الماء المكروه عند المالكية: الماء الذي هو فضلة شرب شارب الخمر، أو ما أدخل يده فيه، فشارب الخمر إذا لم يبق أثر في فيه من الخمر، فشرب من ماء فإنه يستقذر لدى الناس عادة، فهو قذر ولو لم يبق به أي أثر، لا لون ولا طعم ولا ريح، فهذه القذارة يحصل منها الكراهة فيكون مكروهاً، وكذلك ما أدخل يده فيه، فهذا هو الماء المكروه.

    ذكر هو هذه الأقسام -عدا المكروه طبعاً لم يذكره هنا- قال:

    (وتحصل الطهارة بما من التغير بشيء سلمـــا). هذا الطهور. (إذا تغير بنجس طرحـــا) أي: ترك مطلقاً لم يصلح للعادة ولا للعبادة، وهذا هو الماء النجس.

    (أو طاهر لعادة) معناه: إذا تغير بطاهر لعادة (قد صلحا) أي: يصلح للعادة دون العبادة, وهذا الماء الطاهر.

    حكم الماء المخالط للطاهر الملازم له

    ثم قال: (إلا إذا لازمه في الغالــب كمغرة فمطلق كالذائـب). أي: إلا إذا كان ما تغير به الماء من الطاهرات ملازماً له في الغالب فإنه لا يؤثر فيه، فأنتم تعرفون أن مياه النيل لونها لون الأرض فيها غبرة، فلونها لون الأرض، لكن هذا لملازمته لذلك، فلا ينفك عنه، فهذا لا يؤثر فيه؛ بل يبق الماء على طهوريته.

    وكذلك ماء البحر فهو ملح؛ لأنه خالط طبقات من الأرض فيها الملح، فذلك ملازم له في الغالب فلا ينفك عنه، فلا يؤثر فيه, فيبقى على طهوريته، ولذلك جاء في حديث العتكي أنه قال: ( يا رسول الله! إنا نركب البحر, ونأخذ معنا اليسير من الماء، فإذا توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ من ماء البحر؟ قال: نعم, هو الطهور ماؤه الحل ميتته ).

    كذلك المغرة، والمغرة هي معدن أحمر من معادن الأرض، فهذا النوع من المعادن إذا تأثر به الماء أي: إذا نزل عليه الماء فتأثر به أصبح لونه أحمر بسبب قراره في المكان الذي استقر فيه وهو لون المغرة، فإنه طهور لا يتأثر بذلك.

    وقوله: (كالذائب) معناه: كذلك الماء إذا جمد سواء نزل جامداً من السماء أو نزل على الشجر فجمد من شدة البرد, وانخفاض درجة الحرارة، ثم ذاب بعد جموده، فإن ذلك لا يؤثر على طهوريته، بل يبقى طهوراً, فذوبانه بعد جموده لا يؤثر في طهوريته.

    وقوله: (إلا إذا لازمه في الغالب كمغرةٍ فمطلق كالذائب) هذا الاستثناء من قوله: (أو طاهر), ومعناه: أو تغير بطاهر؛ لأنه قال: (أو طاهر بعادة قد صلح إلا إذا لزمه) أي: إلا إذا لزمه ذلك الطاهر في الغالب.

    ومن هذا مصلحه، فالماء إذا تغير بآلته مثلاً: الآلة التي يجلب بها الماء كان الدلو فيه طعم الدباغ أو لونه، أو كان ماكنة فيها لون الحديد أو طعمه أو طعم الدهان أو الصبغ أو نحو ذلك، فهذا لا يؤثر في الماء، وكذلك اليسير من طعم الجبل المطهر إذا وضع في الماء لتطهيره وإصلاحه، فذلك لا يؤثر بل يبقى على طهوريته.

    إذاً: هذا ما يتعلق بالمياه وأحكامها.

    نكتفي بهذا القدر, وصلى الله وسلم على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767082440