إسلام ويب

شرح الفتوى الحموية [21]للشيخ : خالد بن عبد الله المصلح

  •  التفريغ النصي الكامل
  • على المسلم أن يسلك طريق الكتاب والسنة في كل شيء، من فروع أو أصول، وقد انحرف عن هذا الطريق كثير من المتأخرين من الصوفية وغيرهم، رغم أن متقدميهم كانوا متمسكين بالكتاب والسنة، وقد نقل شيخ الإسلام عن أئمة الصوفية المتقدمين ما يدل على ضلال المتأخرين فيما انتهجوه.

    1.   

    تابع كلام ابن خفيف في اعتقاد السلف

    الاعتقاد الصحيح في المكاسب والتجارات

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في سياق نقله لكلام أبي عبد الله بن خفيف : [ ومما نعتقده: أن الله تعالى أباح المكاسب والتجارات والصناعات، وإنما حرم الله الغش والظلم، وأما من قال بتحريم تلك المكاسب فهو ضال مضل مبتدع؛ إذ ليس الفساد والظلم والغش من التجارات والصناعات في شيء، إنما حرم الله ورسوله الفساد، لا الكسب والتجارات، فإن ذلك على أصل الكتاب والسنة، جائز إلى يوم القيامة.

    وإن مما نعتقده أن الله تعالى لا يأمر بأكل الحلال ثم يعدمهم الوصول إليه من جميع الجهات؛ لأن ما طالبهم به موجود إلى يوم القيامة، والمعتقد أن الأرض تخلو من الحلال، والناس يتقلبون في الحرام فهو مبتدع ضال، إلا إنه يقل في موضع ويكثر في موضع، لا أنه مفقود من الأرض.

    ومما نعتقده: أنا إذا رأينا من ظاهره جميل لا نتهمه في مكسبه وماله وطعامه، جائز أن يؤكل طعامه، والمعاملة في تجارته، فليس علينا الكشف عما قاله، فإن سأل سائل على سبيل الاحتياط؛ جاز إلا من داخل الظلمة، ومن ينزع عن الظلم وأخذ الأموال بالباطل ومعه غير ذلك، فالسؤال والتوقي، كما سأل الصديق غلامه، فإن كان معه من المال سوى ذلك مما هو خارج عن تلك الأموال فاختلطا فلا يطلق عليه الحلال ولا الحرام، إلا أنه مشتبه، فمن سأل استبرأ لدينه كما فعل الصديق ، وأجاز ابن مسعود وسلمان الأكل منه وعليه التبعة، والناس طبقات، والدين: الحنيفية السمحة ].

    هذا المقطع فيه بيان ما يتعقد في المكاسب والتجارات، وأن الله تعالى أباحها، ولا شك في هذا، والأصل في المعاملات الحل، دل على ذلك الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم، ومصادر التحريم في المعاملات ثلاثة: الربا والغرر والظلم، ويضاف أمر رابع وهو: كل ما أدى إلى هذه الأمور من المعاملات فإنه يمنع؛ لأنه وسيلة إلى المحرم، ووسيلة المحرم محرمة، وإنما ذكر الشيخ رحمه الله هذا؛ ليرد على بعض الصوفية الذين يتورعون عن أكل أموال الناس من سبيل مشروع مباح، ويعتذرون في التنزه عن أموال الناس بأنها محرمة، أو أنه امتنع الحلال في هذه الأعصار؛ لكثرة المعاملات المحرمة في زمانهم، وفي زماننا من باب أولى.

    لكن هذا الكلام غير صحيح، فالأصل في أموال الناس الإباحة، أي: أنها مباحة ويباح التعامل معهم فيها بالتجارات وغيرها،ولكن إذا علم أن المال الفلاني محرم، كأن يكون قد غصبه أو سرقه، فحينئذٍ لا يجوز التعامل معه لعلمه بتحريم هذا المال.

    وأما من اشتبه ماله فاختلط فيه الحلال والحرام فالأصل إباحة معاملته إلا إذا علم أن المعاملة تقوم على محرم، كأن يدفع إليه عوضاً من مال يعلم أنه كسبه من محرم، فهنا يمتنع من أخذه، على أن بعض أهل العلم كما ذكر الشيخ رحمه الله أجاز معاملتهم حتى فيما علم أنهم كسبوه من محرم؛ لأن إثم كسب المحرم عليهم، وأما هذا فقد أخذه من طريق مباح قال الله سبحانه وتعالى فيها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29]، فلم يتشرط في التجارات وفي سائر المعاوضات إلا أن تكون على التراضي، وذكر هذا في هذه الرسالة استطراداً، وإلا فليس له صلة في باب الاعتقاد، إلا في الرد على من اعتقد تحريم المكاسب، فهو يبين له أنه مخطئ.

    لا تسقط التكاليف عن أحد في دار الدنيا ما دام عاقلاً قادراً

    قوله: [ وإن مما نعتقد: أن العبد ما دام أحكام الدار جارية عليه فلا يسقط عنه الخوف والرجاء، وكل من ادعى الأمن فهو جاهل بالله، وبما أخبر به عن نفسه فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99]، وقد أفردت كشف عورات من قال بذلك.

    ونعتقد: أن العبودية لا تسقط عن العبد ما عقل وعلم ما له وما عليه، فيبقى على أحكام القوة والاستطاعة؛ إذ لم يسقط الله ذلك عن الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، ومن زعم أنه قد خرج عن رق العبودية إلى فضاء الحرية بإسقاط العبودية، والخروج إلى أحكام الأحدية المسدية بعلائق الآخرية؛ فهو كافر لا محالة، إلا من اعتراه علة أو رأفة فصار معتوهاً أو مجنوناً أو مبرسماً، وقد اختلط عقله ].

    يتكلم الشيخ رحمه الله في هذا المقطع في الرد على الصوفية الغلاة الذين يقولون: إن الإنسان يبلغ درجة من العبودية يسقط فيها عنه التكليف، وهذا كذب وبهتان، فالتكليف لا يسقط عن أحد، بل لقد قال الله لنبيه الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]، أي: حتى يأتيك الموت، فالعبادة لا تنقطع إلا بانقطاع الأجل، أما ما دام العرق ينبض والعين تلحظ، والنفس يتردد فإن العبادة لازمة للعبد لا ينفك عنها بحال، (ومن ادعى أنه يخرج عن العبودية إلى فضاء الحرية) يعني: إلى عدم العبادة فهو كافر بإجماع أهل العلم.

    وأما قوله: (إلى أحكام الأحدية) فهذا ما يعتقده بعض الصوفية من اتحاد الله جل وعلا ببعض خلقه، فيكون العابد معبوداً والمعبود عابداً، وهذا كذب وبهتان وضلال مبين، نسأل الله السلامة والعافية.

    قوله: [ وقد اختلط عقله أو لحقه غشية يرتفع عنه بها أحكام العقل، وذهب عنه التمييز والمعرفة، فذلك خارج عن الملة مفارق للشريعة ].

    أي: ومن ادعى سقوط أحكام الشريعة عمن توفرت فيه شروط التكليف: فذلك خارج عن الملة.

    لا يعلم الغيب إلا الله

    قوله: [ ومن زعم الإشراف على الخلق: يعلم مقاماتهم ومقدارهم عند الله بغير الوحي المنزل من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو خارج عن الملة ].

    لا شك أنه كفر؛ لأن من ادعى علم مقامات الخلق ومقاديرهم فقد ادعى علم الغيب، وقد قال الله جل وعلا: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل:65]، فعلم الغيب لله وحده لا شريك له، إلا ما أظهره سبحانه وتعالى وبينه فهذا يرجع فيه إلى بيانه وما أخبر به نبيه صلى الله عليه وسلم، وإلا فالواجب الوقوف في ذلك على ما أخبر به سبحانه وتعالى.

    ليست الفراسة من أمر الفقه

    قوله: [ ومن ادعى أنه يعرف مآل الخلق ومنقلبهم، وعلى ماذا يموتون عليه ويختم لهم -بغير الوحي من قول الله وقول رسوله- فقد باء بغضب من الله، والفراسة حق على أصول ما ذكرناه ].

    إنما ذكر هذا الكلام؛ لأن بعض الناس يزعم معرفة هذه الأمور، فيزعم أنه يعرف مقامات الخلق ومقاديرهم ومنقلبهم ومآلهم بالفراسة، والفراسة أمر غير علم الغيب، فعلم الغيب لا يعلمه إلا الله جل وعلا، وأما الفراسة: فهي تأمل ونظر وكشف يؤتيه الله سبحانه وتعالى بعض خلقه، لكنهم لا يجزمون ولا يدعون علم ما لم يعلمون، بل يستأنسون بها ويعرفون بها بعض أحوال الرجال وأحوال الناس، فهي معرفة الشيء بمقدماته، بخلاف الغيب فلا مقدمات في الغيب، وهذا العلم استأثر الله به، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) وذكر العكس صلى الله عليه وسلم، فعلم الغيب أمره إلى الله لا يعلمه أحد.

    والفراسة: هي نظر في أحوال الناس بمقدمات يستأنس بها لكن لا يجزم بها، وقد ذكرت في كتاب الله تعالى في قوله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الحجر:75]، قال المفسرون: للمتفرسين أهل الفراسة، وذكرت في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي : (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله)، وبه يعلم أن الفراسة أمر غير علم الغيب؛ لأنها مستمدة من إلهام الله عز وجل، وما يقذفه في قلب العبد، ولا يجزم بها، والحديث هذا اختلف أهل العلم في ثبوته على قولين: منهم من ضعفه، ومنهم من أثبته، وقد حسنه الشوكاني لكثرة طرقه.

    قوله: [ وليس ذلك ما رسمناه في شيء، ومن زعم أن صفاته تعالى بصفاتهم -ويشير في ذلك إلى غير آية العظمة والتوفيق والهداية- وأشار إلى صفاته عز وجل القديمة: فهو حلولي قائل باللاهوتية والالتحام، وذلك كفر لا محالة ].

    (من زعم أن صفاته) يعني: صفات الله جل وعلا (بصفاتهم) يعني: مشتركة مع صفات البشر، فالضمير الأول مرجعه إلى الله، والثاني إلى البشر.

    قوله: (ويشير بذلك إلى آية العظمة والتوفيق والهداية وأشار إلى صفاته عز وجل القديمة فهو حلولي) يعني: من قال إن صفاته تحل فيه (فهو حلولي، قائل باللاهوت والالتحام) وهو قول النصارى الذين يقولون: إن الله يحل في بعض خلقه. (وذلك كفر لا محالة) نعوذ بالله منهم.

    الأرواح مخلوقة وليس من صفات الله شيء مخلوق ولا حال في خلقه

    قوله: [ ونعتقد أن الأرواح كلها مخلوقة، ومن قال: إنها غير مخلوقة فقد ضاهى قول النصارى -النسطورية- في المسيح، وذلك كفر بالله العظيم ].

    هذه فرقة من فرق النصارى عدلت أئمتهم وبدلت في الإنجيل على حسب أهوائهم وآرائهم، وهم من جملة النصارى الكفار الذين لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم.

    قوله: [ ومن قال: إن شيئاً من صفات الله حال في العبد، أو قال بالتبعيض على الله فقد كفر، والقرآن كلام الله ليس بمخلوق، ولا حال في مخلوق، وأنه كيفما تلي وقرئ وحفظ فهو صفة الله عز وجل، وليس الدرس من المدروس، ولا التلاوة من المتلو؛ لأنه عز وجل بجميع صفاته وأسمائه غير مخلوق، ومن قال بغير ذلك فهو كافر].

    حكم القراءة الملحنة

    [ونعتقد أن القراءة الملحنة بدعة وضلالة ].

    يجيب شيخ الإسلام رحمه الله في هذه الرسالة على كثير من بدع الصوفية، ومنها ما ذكره هنا وهي: القراءة الملحنة، وهي التي يعتاضون بها عن كلام الله وعن كلام رسوله، وهي القراءة التي يتكلف لها التلحين، فتكون على إيقاعات معينة وحركات مدروسة، ويتفرغون لذلك ويتعلمونه، وليس المراد: القراءة الملحنة التي ليس فيها تكلف ولا تعلم، وقد تكلم على هذه المسألة ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد كلاماً مطولاً، وانتهى في نهاية بحثه إلى أن القراءة الملحنة قسمان:

    الأول: ما لم يكن فيه تكلف ولا تعلم، وإنما هو موافق للسجية والطبيعة فهذا لا بأس به.

    والثاني: ما فيه تكلف وتعلم وتحديد إيقاعات وحركات معينة، فهذا ممنوع، وقد تكلم على هذا في المجلد الأول، ببحث مفيد.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756786983