إسلام ويب

تفسير سورة العنكبوت [44 - 45]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • بين المولى جل في علاه أن من دلائل عظمته وقدرته خلقه لهذه السماوات السبع بغير عمد، وأنه قد خلقها بالعدل والقسط، ففي ذلك الخلق على هذه الهيئة آية عظيمة باهرة تزيد أهل الإيمان إيماناً وتقوى، وتبعث في قلوبهم الرهبة والخشية من الله تعالى، فيعملوا بما أمر، ويجتنبوا ما نهى عنه وزجر، ومن ذلك إقامة الصلاة التي أمر الله تعالى بها، وتأديتها كما أمر سبحانه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (خلق السماوات والأرض بالحق...)

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    قال الله عز وجل: خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ [العنكبوت:44].

    يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى أنه خلق السماوات والأرض بالحق، أي: بالعدل وبالقسط، خلقها الله سبحانه وتعالى حقاً وبالحق خلقها سبحانه، فهي موجودة حقاً وصدقاً، والذي أوجدها هو الله سبحانه وهو الذي أقام السماوات والأرض على العدل وعلى القسط وعلى الحق سبحانه وتعالى.

    وهذه آيات من آيات رب العالمين ودلالة للمؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم.

    وتأمل أنه قبل ذلك ذكر بيت العنكبوت فقال: إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ [العنكبوت:41].

    ثم قال: خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ [العنكبوت:44]، وقال سبحانه: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [النازعات:27-33].

    يخبرنا عن هذا الخلق العظيم فيقول: هل أنتم أقوى أم هذه السماوات وهذه الأرضون؟!

    والإنسان كلما ازداد علماً كلما عرف أنه ضعيف وأنه ليس شيئاً، فأصل خلقة الإنسان هذا التراب الذي يمشي عليه، وإن كان حين سيره يضرب برجله الأرض، قال الله سبحانه: إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا [الإسراء:37]، أي: لن تشقها برجلك لأنك أضعف من ذلك.

    وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ [الإسراء:37]، أي: لن تطول فتصير كقمة الجبل، فأنت ضعيف والسماء والأرض والجبال أقوى منك.

    والله عز وجل خلق هذا كله وأحكمه إحكاماً وأتقنه إتقاناً، فانظر إلى بيت العنكبوت وضعفه، وانظر إلى السماوات والأرض وقوتها، وانظر إلى من يعبدون غير الله سبحانه، من الذي يستحق أن يعبد؟

    أهذه الأصنام وهذه الآلهة التي هي أوهى من بيت العنكبوت أم الله الواحد القهار الذي خلق السماوات والأرض بالحق؟ لا شك أن الأحق بالعبادة هو الله سبحانه وتعالى.

    فقد خلق السماوات والأرض وشرع لعباده ولم يتركهم هملاً، فهو أولى أن يطاع لكونه الخالق الذي أتقن كل شيء وأحسن كل شيء خلقه، لا هذه الأنداد والآلهة التي لا تملك لنفسها ولا لغيرها شيئاً.

    قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ [العنكبوت:44]، أي: في خلق السماوات، وقد قال تعالى في سورة آل عمران: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190]، أي: من كان له لب وقلب وبصيرة وعقل عرف الآيات في ذلك، وعرف أنها لم تخلق نفسها ولم يوجدها إلا خالقها الله سبحانه فتوجه إليه وحده بالعبادة.

    ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآيات: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190]، أنه قال في الصباح لأصحابه: (لقد أنزلت علي الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتدبرها).

    ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآيات إذا استيقظ من نومه كل ليلة ليصلي بالليل، فيقول: (الحمد لله الذي أحيانا بعد أماتنا وإليه النشور)، ثم يقرأ العشر الآيات من آخر سورة آل عمران التي أولها قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:190-191].

    إذاً: المؤمنون يذكرون الله ويتفكرون في هذا الخلق فيزدادون إيماناً، فبدأ بقوله: (خلق السماوات والأرض)، وعقب بعد ذلك بقوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ [آل عمران:49]، وبعد ذلك ذكر الصلاة وذكر الله سبحانه وتعالى.

    وكأن هذه أشياء مرتبة بعضها على بعض، انظر إلى الكون فتفكر، فإذا تفكرت وتدبرت عرفت الخالق سبحانه وتعالى، وعرفت قوته وقدرته وأنه يستحق العبادة، فإذا عرفت ذلك فاعبده بالصلاة ولا تكتف بخمس صلوات في اليوم والليلة، بل أدم ذكر الله عز وجل ليل نهار، واذكر الله قائماً وقاعداً وساجداً وراكعاً بل اذكر الله عز وجل على كل حال.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (اتل ما أوحي إليك من الكتاب...)

    ثم أمر نبيه صلوات الله وسلامه عليه فقال اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ [العنكبوت:45] أي: اقرأ عليهم قراءة تدبر وترتيل؛ ليتدبروا ويسمعوا منك هذا الكلام العظيم.

    فأمره بقراءة هذا القرآن والمداومة على ذلك، فيقرأ في نفسه، ويقرأ للناس، ويقرأ للمؤمنين؛ ليتعظوا ويزدادوا إيماناً، ويقرأ للكافرين؛ لعلهم أن يؤمنوا ويدخلوا في هذا الدين.

    وهذا أمر له بالتبليغ، أي: اتل في نفسك، وبلغ الناس فيسمعوا منك ذلك، وهذا القرآن الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم هو وحي جاء من عند رب العالمين ونزل من السماء.

    أمر الله تعالى بإقامة الصلاة

    ثم قال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45] ولم يقل: صل؛ لأن إقامة الصلاة تعني: إحسانها وإعدادها على النحو الذي يرضي الله سبحانه وتعالى، فقوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) من الإقامة فأنت أقم صلاتك، وائمر الناس بها.

    فيقيمها صلوات الله وسلامه عليه ويداوم عليها في أوقاتها بقراءتها وركوعها وسجودها وقعودها وجميع شروطها، ويأمر الناس بها ويصلي بهم، فكان يعلمهم الصلاة بالقول، ويعلمهم بالفعل، ويقول: (صلوا كما رأيتموني أصلي).

    ويعلمهم بالإنكار عليهم إذا أخطئوا، فلما رأى المسيء صلاته أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة فقال: (إذا قمت إلى الصلاة فتوضأ، ثم استقبل القبلة وكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم اقعد وافعل ذلك في صلاتك كلها)، فيعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم إتقان الصلاة، ويحذرهم من التهاون والتفريط فيها ويقول: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر).

    ويأمرهم بإسباغ الوضوء، وأن الذي لا يسبغ الوضوء لا صلاة له فيقول: (ويل للأعقاب من النار)، أي: الذي يتوضأ ويتعجل الوضوء ولا يغسل رجليه جيداً.

    وقد وجد رجلاً يصلي وعلى قدمه لمعة موجودة على ظاهر قدمه -أي: علامة على أن الماء لم يصل إلى هذا المكان- فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع فيتوضأ ويعيد هذه الصلاة.

    فالإنسان المؤمن يحرص على أن يصلي صلاة كاملة يتقرب بها إلى الله سبحانه على النحو الذي يريده منا.

    وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلوات الخمس قوله: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟) يعني: هل يبقى من قذره ووسخه شيء؟ قالوا: (لا يبقى من درنه شيء، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا) رواه الترمذي وصححه وهو حديث صحيح.

    فيذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس التي تنظف قلب الإنسان وبدنه، تنظفه من ذنوبه الظاهرة والباطنة، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (إذا قام العبد يصلي أتي بذنوبه فجعلت على منكبيه، فإذا قام في الصلاة تساقطت، وإذا ركع تساقطت، وإذا سجد تساقطت)، فهذه الصلاة عظيمة يتقرب بها الإنسان إلى الله عز وجل، وهي نور تنير للإنسان دنياه وأخراه، وتنير قبره، وهي صلة بين العبد وبين الله سبحانه وتعالى، يتقرب بها إلى الله فيريح الله قلبه بها، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر قال: (أرحنا بها يا بلال !) فكان يستريح بهذه الصلاة، بل قال: (وجعلت قرة عيني في الصلاة) وقرة العين: استقرارها وهدوء النفس، وراحة البال له.

    ولذلك أمرنا الله عز وجل بها وقال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] فيبين لنا حكمة من حكم الصلاة وفائدة من فوائدها. وإذا ضايقه أمر صلى لله عز وجل فيفرج الله عز وجل عنه هذا الكرب الذي نزل به، أو يريح قلب الإنسان فيصبر ويتصبر، قال تعالى: اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا [آل عمران:200]، فلذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم يأتسون بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإذا نزلت بأحدهم مصيبة فزع إلى الصلاة لعل الله عز وجل يخفف عنه وطأة هذا الشيء الذي نزل به.

    فالصلاة للإنسان تريح قلبه، وتشعره أنه راجع إلى الله سبحانه وتعالى، فمهما حدث من مصائب الدنيا ففي النهاية كل الدنيا ستزول وهو سيرجع إلى الله عز وجل، فالأمر هين سهل طالما أنه حافظ على صلته بالله.

    الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر

    والصلاة تعين الإنسان على تقوى الله سبحانه وتعالى وتعينه على اجتناب المعاصي والفواحش، قال سبحانه: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45].

    فالإنسان المؤمن حين يسمع الأذان للصلاة يستمع له ويردد الأذان: الله أكبر من كل شيء، فلو أنه انتبه لهذا الذي يسمعه علم أن كل شيء حقير، والله عز وجل الكبير الجليل العظيم المتعال سبحانه، فلجأ إليه وترك كل شيء، وتوجه إلى بيت الله لهذه الصلاة العظيمة مستريح النفس ولن يضيع منه شيء من الدنيا، وكيف تضيع منه مصالحه وكيف تضيع منه أمواله وهو ذاهب ليطيع الله سبحانه وتعالى؟!

    فهو متوجه إلى الله عز وجل ليصلي الصلاة المكتوبة، وهو ذاكر لله وداخل إلى بيت الله، فلن ينظر إلى فلانة وهي تمشي في الطريق، ولن يخدع إنساناً أو يغشه.

    فالمؤمن الصحيح الإيمان لا يفعل هذا الشيء، فهو يتذكر أنه ذاهب ليقابل الله عز وجل، ولكي يعبده كأنه يراه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) وإذا كنت لا ترى الله عز وجل فاستشعر أنك تراه سبحانه فهو يراك سبحانه وتعالى.

    وفي الدنيا حاسب نفسك وراقبها، قال سبحانه: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] فلا يقع الإنسان في فاحشة من الفواحش لا فاحشة فعلية كالزنا ونحوها، ولا فاحشة قولية كالبذاءات ونحوها، فيكون المؤمن مبتعداً تماماً عما يغضب الله سبحانه وتعالى.

    وكذلك تنهى عن المنكر، وكل ما ليس معروفاً فهو منكر ينكره القلب وينكره العقل السليم، وينكر على الإنسان أن يقع في القبيح أو المعاصي أو يقع في الأذى.

    إذاً: كل ما كان منكراً فالصلاة نور في قلب الإنسان تمنعه أن يعمل ذلك؛ لكونه ذاهباً إلى الصلاة، ثم يدخل فيها فيتذكر ذنبه ويقول: يا ربي اغفر لي وتب علي، فيلوم نفسه، وقد أقسم الله عز وجل بالنفس اللوامة فقال: وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [القيامة:2] فلها فضيلة عند الله عندما تلوم صاحبها فيرجع ويتوب إلى الله سبحانه وتعالى.

    هذه الصلاة تنهى الإنسان عن الفحشاء والمنكر، فيدخل في صلاته فيذكر الله فينجلي النور في القلب وينبلج ويجلي الصدأ الذي عليه.

    فكلما ذكر الله سبحانه وتعالى انزاح عن قلبه شيء من صدى الذنوب إلى أن يخرج من صلاته سليم الصدر، مستريح البال، قرير العين، فيتوجه إلى عمله فلا يخون ولا يخدع ولا يغش، ويذكر نفسه: أنا الآن خرجت من الصلاة فكيف أعمل هذا وأنا مصلي وأقابل الله سبحانه؟ فاحذر فالله يراقبك.

    فالصلاة تمنع الإنسان من المعاصي أو تقللها، فلعله يقع في ذنب ولكن يتدارك نفسه فيستغفر الله سبحانه وتعالى، ويندم على ذلك.

    أما الذي يترك الصلاة فيسمع المؤذن يؤذن فإذا به يجلس في مكانه ويحاول أن يلتفت عن هذا الأذان، والأذان يقول له: حي على الصلاة، أي: تعال وهو ينشغل بالحديث مع غيره.

    ولذلك احذر أن تسمع الأذان وتتكلم مع الناس، فأحياناً بعض الإخوة تجده يتكلم والمؤذن يؤذن، فلم يكن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة، بل كانوا ينشغلون بالأذان، فأول ما يسمع الأذان حتى لو كان يقرأ القرآن يترك القرآن ويردد الأذان مع المؤذن.. فالله أكبر من كل شيء، والله أكبر من هذا الحديث الذي تتكلم مع صاحبك، اقطع علائقك بالدنيا واذهب إلى الله عز وجل وردد هذا الأذان، فإذا انتهى الأذان كان لك أجر عظيم من الله سبحانه وتعالى على الترديد.

    إذاً: لا ننشغل عن الأذان وعن النداء، ولا نتكلم في الشارع أو نقف على باب المسجد إلى أن يصلي الناس السنة ثم ندخل عند إقامة الصلاة تهاوناً بصلاة السنة، ولعلنا إن صلينا هذه الصلاة فإنها تكون زيادة لنا من الخير، وتكون زيادة في قلوبنا من النور والقرب من الله سبحانه وتعالى، فالصلاة فرصة للإنسان يتقرب بها إلى الله.

    وتجد البعض يدخل إلى المسجد فإذا أكمل صلاة السنة تكلم مع الذي بجانبه وليس هذا وقت كلام، إنما هو وقت دعاء، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد، فهذه أوقات عظيمة جداً وفوائد نفيسة وفرص فلا نضيعها، فندعو الله عز وجل في هذا الوقت الذي يستجاب فيه الدعاء، ندعو لأنفسنا وللمسلمين وندعو الله عز وجل أن يفرج الكروب والبلاء الذي امتلأت به ديار المسلمين.

    فالصلاة الحقيقية التي يصليها الإنسان متقرباً بها إلى الله تنهاه عن الفحشاء والمنكر، وكم من إنسان يخرج من صلاته مثلما دخل فيها، إذا دخل في الصلاة سرح ونسي وانشغل بعمله، وصار يعد فلوسه، ويوسوس: سأذهب بعد الصلاة إلى فلان، وسأعمل كذا.. وقد ذكرنا أن الخواطر التي ترد على النفس والقلب إذا لم يجذبها الإنسان ولم يستطرد فيها لا شيء عليه قال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] وكلنا يسرح وينسى.

    ولكن الإنسان الذي يدخل في صلاته فلا يفهم شيئاً من الذي يقوله، وفي رأسه شيء آخر، فهذه ليست الصلاة التي أمر الله عز وجل بها، وأخبر أنها تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر.

    وقد ورد في حديث رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان فتى من الأنصار يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا يدع شيئاً من الفواحش إلا أتاه) أي: كأن إسلامه جديد وأنه كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ثم يخرج يسرق، فشكوا للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك، والذي يظهر أنه لم يثبت عليه ذلك وإلا لقطعت يده. (فلما شكوا للنبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الصلاة ستنهاه) يعني: إذا كان يصلي صلاة صحيحة فإنها ستنهاه صلاته، فلم يلبث أن تاب ورجع إلى الله سبحانه وتعالى.

    إذاً: لما أحسن في الصلاة نفعته، وكم من إنسان قد يصلي ويسرق، وقد يدخل المسجد ليصلي من أجل أن يسرق الأحذية وهو خارج من بيت الله عز وجل.

    والصلاة التي يتقرب بها إلى الله وتنهاه عن الفواحش وعن المنكرات صلاة يرجو بها الله عز وجل فيقبل على الله بقلبه فيها، ويتفكر ويتأمل فيما يقرأ.

    فالفاتحة مثلاً خطاب ومحادثة بينك وبين الله، (فإذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] قال سبحانه: أثنى علي عبدي. وإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] قال الله عز وجل: مجدني عبدي. وإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، قال الله سبحانه: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] قال الله: نعم. سنعطيك ذلك).. فتخرج من هذه الصلاة وقد هداك الله عز وجل الصراط المستقيم وأبعدك عن الفواحش والمنكرات.

    صلاة النافلة وفضلها

    وتتقرب إلى الله عز وجل بصلاة النافلة فتصلي ركعتين قبل الفجر، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يواظب عليهما لفضلهما سفراً وحضراً، والسنة عدم الإطالة فيهما، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليهما بسرعة وما يزيد على ركعتين، بل قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تصلوا بعد الفجر إلا ركعتين).

    إذاً: هما ركعتان فقط بعد أذان الفجر لا أكثر من ذلك، ولكن لهما أجر عظيم جداً عند الله سبحانه وتعالى جعل النبي صلى الله عليه وسلم لا يتركهما سفراً ولا حضراً.

    وتصلي قبل صلاة الظهر أربع ركعات وبعدها أربع ركعات، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى قبل الظهر أربعاً وبعدها أربعاً حرم الله بدنه على النار).

    وتصلي أربع ركعات قبل العصر يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رحم الله امرأً صلى قبل العصر أربعاً).

    وتصلي ركعتين بعد المغرب تواظب عليها كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك.

    وما بين المغرب والعشاء كانوا يعدونها من صلاة الليل صلاة عظيمة.

    وتصلي بعد العشاء وتوتر وتتهجد بعد ذلك.

    فإذا واظبت من رواتب النهار على عشر ركعات بني لك بيت في الجنة، والذي يتأمل ويتدبر فيقول في نفسه: أنا صليت قبل الظهر أربعاً، وبعدها أربعاً فأرجو من الله عز وجل أن يحرم بدني على النار. وأواظب على ذلك، وكذلك يقول: أنا اليوم فاتتني الأربع قبل العصر وسوف أدركها غداً ولا أضيعها من أجل أن يرحمني ربي.

    وكذلك يقول: لا تفوتني الصلاة الآتية، سأواظب على صلاة الجماعة من أجل ألا تفوتني تكبيرة الإحرام أربعين يوماً في صلاة الجماعة فيكون لي أجر عظيم عند الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتبت له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق).

    فإذا خرج من الصلاة انتظر التي بعدها حتى يكمل الأربعين يوماً فيعطيه ربه ذلك، ولا يقول: تكفي حتى البراءة وانتهيت؛ بل يجعلها أكثر لتكتب له أكثر من براءة، بل اجعل حياتك كلها على ذلك كما كان الصحابة حياتهم كلها المواظبة على الصلاة وعلى التكبيرة الأولى، حتى إن أحدهم إذا فاتته هذه التكبيرة يحزن حزناً عظيماً على فواتها، وقد يظن أنه يعذب في ذلك؛ لأنهم عرفوا قدر الصلاة وشرفها.

    نسأل الله عز وجل أن يعرفنا قدرها وشرفها وأن يعيننا عليها ويجعلها قرة عين لنا وراحة لقلوبنا.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756510455