إسلام ويب

شرح رياض الصالحين - الوعظ والاقتصاد فيهللشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الموعظة سلاح يستخدمه الداعون إلى الله لاصطياد قلوب الغافلين من عباد الله؛ ليرجعوهم إلى المسار الصحيح والصراط القويم، ولكن لابد لمستخدم هذا السلاح لينتفع به من مراعاة حال الناس وأن تكون موعظته مشتملة على جوامع الألفاظ من كلام الله وكلام رسوله، وألا يطيل فيها حتى لا يسأم الناس وأن يتخير من الأوقات ما يكون فيه الناس مقبلون على قبول كلامه متعطشون إلى سماع نصحه وبيانه.

    1.   

    ما جاء في الوعظ والاقتصاد فيه

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    قال الإمام النووي رحمه الله: [ باب الوعظ والاقتصاد فيه.

    قال الله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125].

    وعن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: (كان ابن مسعود رضي الله عنه يذكرنا في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن ! لوددت أنك ذكرتنا كل يوم. فقال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا) متفق عليه.

    وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة) رواه مسلم ].

    يذكر الإمام النووي رحمه الله في هذا الباب الوعظ والاقتصاد فيه وهذا من الأبواب التي ذكرها الإمام النووي في كتاب الآداب.

    ومما ذكر قبل ذلك: الكلام عن الحياء والحث عليه والتخلق به، وحفظ السر، والوفاء بالعهد وإنجاز الوعد، والمحافظة على ما اعتاده الإنسان من الخير، وطيب الكلام وطلاقة الوجه، واستحباب بيان الكلام وإيضاح الكلام للمخاطب، وإصغاء الجليس لحديث جليسه.

    الحث على أن تكون الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة

    الاقتصاد في الموعظة أمر مطلوب، والكلام إذا كان كثيراً في مادة واحدة، كأن يكثر الإنسان من الوعظ والتذكير بالجنة والنار، فإن هذا يجعل الناس يملون، فلذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم تعليم الناس أن يقتصدوا في مثل ذلك.

    يقول الله عز وجل: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125].

    فقوله: بِالْحِكْمَةِ [النحل:125] أي: أن تكون حكيماً، كذلك أن تكون الدعوة بالموعظة، وهنا قال: وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125] أي: كأن المواعظ منها موعظة سيئة ومنها موعظة حسنة، فالله عز وجل يأمرك أن تعظ موعظة حسنة، والوعظ هو: التذكير والتخويف بالله تبارك وتعالى، ولكن أحياناً يأتي الإنسان لتذكير الناس وتخويفهم فيملهم، بسبب أنه يكثر من الترهيب حتى ييئس الناس، أو يكثر من ترغيب الناس حتى يجعلهم يرجئون الأعمال ويتراخون عن العمل الصالح، فعلى الإنسان أن يقتصد.

    ومن أجمل ما يؤتى به في الموعظة القرآن الكريم وحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فالقرآن الكريم تجد في آياته التذكير بالله تبارك وتعالى، وذكر أسمائه وصفاته سبحانه، ففي السورة الواحدة تجد التذكير بأمور الآخرة من جنة ونار وغيرها، وتجد التذكير بالأحكام الشرعية التي يريدها الله عز وجل من عباده، والتذكير بمخلوقات الله سبحانه، والقصص عن الأمم السابقة، وتذكير الإنسان بالمواعظ والرقاق، فتجد القرآن يتحول من شيء إلى شيء، فلا يمل قارئ القرآن، كذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم لا يمل منه، فقد أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم، فما كان يخوف الناس حتى ييئسهم صلى الله عليه وسلم، ولا كان يفتح لهم أبواب الرجاء حتى يجعلهم يتركون العمل، ولكن يأمرهم بالعمل بقوله: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له، فأما أهل السعادة فبعمل أهل السعادة يعملون، وأما أهل الشقاوة فبعمل أهل الشقاوة يعملون).

    يقول الله سبحانه وتعالى: ادْعُ [النحل:125]، فيأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وهو سيد الخلق عليه الصلاة والسلام، وهو الإمام في كل شيء، والقدوة الحسنة، فيقول له معلماً له: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ [النحل:125]، إلى طريق ربك تبارك وتعالى، بِالْحِكْمَةِ [النحل:125] بالآيات التي نزلت من عند ربك سبحانه.. بالكتاب الحكيم.. بالحكمة والموعظة الحسنة.

    شرح حديث ابن مسعود: (... وإني أتخولكم بالموعظة كما كان رسول الله يتخولنا بها مخافة السآمة علينا)

    يوضح ابن مسعود رضي الله عنه ما كان يصنعه النبي صلى الله عليه وسلم في موعظته، فيقول أبو وائل واسمه شقيق بن سلمة وكان من التابعين ومن تلامذة ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان ابن مسعود يذكرنا في كل خميس، يعني: كل خميس يخرج عليهم ويكلمهم ويعظهم، ويذكرهم بالله سبحانه، وابن مسعود كان من كبار فقهاء أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه، فكان معلماً للناس، يعلمهم الفقه.

    فكان رضي الله عنه يتخولهم بالموعظة، يعني: لا يأتي كل يوم يذكرهم بالجنة والنار؛ لأن الناس يملون من تذكيرهم بالجنة والنار كل يوم، ولكن ليكن ذلك مرة كل فترة، وليس كل يوم.

    يقول هنا: كان يذكرنا في خميس، كل يوم خميس كان يذكرهم، فقال له رجل وقد أعجبته مواعظ ابن مسعود : يا أبا عبد الرحمن! لوددت أنك ذكرتنا كل يوم، يعني: ليتك تقول لنا كلامك الطيب وحديثك الجميل هذا كل يوم، فقال ابن مسعود رضي الله عنه: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم.

    إذاً: ابن مسعود خائف عليهم إن هو ذكرهم ووعظهم وخوفهم من النار ورغبهم بالجنة كل يوم أن يملوا، فإذا مل الإنسان فإن الكلام لا يؤثر فيه ولا يعينه على العمل، ولا يتشجع للعمل بسماعه، فيقول هنا: إني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة، يعني: أحياناً يأتيهم بالموعظة وليس كل يوم.

    فيقول: (وإني أتخولكم بالموعظة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا) .

    إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم كان يتخول أصحابه عندما يذكرهم ويقص لهم القصص ويخوفهم من النار، ويذكرهم بالجنة، فكان يسكت مدة ثم يتكلم صلى الله عليه وسلم، وهذا أدعى أن يجمع الإنسان همته فيستوعب ما يقوله له من يذكره، فقال هنا: (كان يتخولنا بها مخافة السآمة علينا) يعني: يخاف أن نسأم وأن نمل من ذلك، فإن الإنسان إذا مل فلعله يستهين بالحديث الذي يلقى أمامه.

    فعلى الإنسان أن يتكلم أحياناً ويسكت أحياناً، وأيضاً ينوع في كلامه وأسلوبه؛ لأن الكلام إذا كان مكرراً فإن الإنسان يمل منه ويزهد فيه، فلو جئت إلى رجل تارك للصلاة ودعوته إلى الصلاة فربما يستجيب لك، وربما لا يستجيب، فيمكن أن تذكره بالجنة وتخوفه من النار، لكن لا تأتي إليه في كل وقت وتخوفه من النار؛ لأنه لو تعود على سماع ذكر النار فإنه لن يتأثر حتى إننا نجد أن بعض الجهال إذا خوفته من النار قال لك: كلنا سندخل النار، ولا أحد سيدخل الجنة! وهذا من باب الاستهانة بالنار، فمثل هذا الفعل يوقع المستهين في الكفر، فبعدما كان في معصية أو كبيرة من كبائر الذنوب، أصبح واقعاً في الكفر بسبب الاستهانة بعذاب رب العالمين سبحانه.

    فعلى الإنسان الذي يعظ ويذكر، وإذا أراد أن يدعو إنساناً إلى أن يحافظ على الصلاة فيبين له ما في الصلاة من فوائد للإنسان، وما في الصلاة من صلة بين العبد وبين ربه، وما في الصلاة من أجر نتيجة المشي إلى المسجد، وأن له بكل خطوة يخطوها رفع درجة ووضع سيئة، ويحرك في نفسه الغيرة من إخوانه الذين يصلون لينافسهم في هذا الخير، ويكون مثلهم، فعلى الداعية أن ينوع في الخطاب لعل الله عز وجل أن يهدي به من يشاء من عباده.

    فالمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير ممن لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم، فلو أن الواعظ أخذ يكرر كلامه، فإنه سيمل منه ويعرض عنه، لكن لو أنه غير من أسلوبه وغير من طريقته في الدعوة لهذا الإنسان فلعل الله تبارك وتعالى أن يفتح على يديه فيستجيب هذا الإنسان إلى الدعوة ويستجيب إلى المسجد فيصلي، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر رجلين ممن كانوا قبلنا، كان أحدهما عابداً وكان الآخر عاصياً، فكلما مر العابد بذاك العاصي وجده على معصية، فيذكره بالله، ثم يمر عليه مرة ثانية ويجده على المعصية نفسها، فيذكره بالله، فلا ينتهي، وإذا بهذا العاصي لما مل من تكرار صاحبه لدعوته يتطاول على ربه تبارك وتعالى ويقول: دعني وربي، دعني وربي، فإذا بالعابد يقول له: والله لا يغفر الله لك! فهذا العابد مل من كثرة دعوة صاحبه وهو لا يستجيب، وفي النهاية نسي أنه عبد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وليس له أن يحاسب العباد، وإنما هو يدعو إلى الله عز وجل، فإذا به يقسم على الله سبحانه، ومعنى كلامه: والله ما أنت بداخل الجنة، وكأنه يقرر عن الله سبحانه وتعالى أن فلاناً لن يدخل الجنة! فإذا بالله يقول: (من هذا الذي يتألى علي ألا أدخله الجنة؟ فقد غفرت له وأحبطت عملك) يعني: ما الذي يجعلك تحلف على الله تبارك وتعالى ألا يغفر لعبد من عباده؟!

    فالإنسان حين يكثر من الشيء فإنه في النهاية قد يمل هو مما يقوله للناس، فيدفعه ذلك لأن يتطاول على أمر الله تبارك وتعالى؛ لذلك الإنسان يتخول الناس بالموعظة، وخاصة في أمر الترغيب والترهيب، ولا يكون الكلام كلاماً مكرراً فيمل الناس من سماعه.

    شرح حديث: (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه...)

    من الأحاديث الواردة في هذا الباب حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنَّة من فقهه) فالصلاة تكون طويلة، وهذا مقيد بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (أفتان أنت يا معاذ؟ من صلى بالناس فليخفف، فإن من ورائه الضعيف والمريض وذا الحاجة)، فهنا يشرع له أن يخفف كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، فيقرأ بما كان يقرأ به النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ما كان يقرأ، فكان مثلاً يقرأ في فجر الجمعة بسورة السجدة وسورة الإنسان، فهذا من تخفيفه صلى الله عليه وسلم حيث لم يقرأ بهم بالبقرة، ومع ذلك يقول الفقهاء: على الإمام أن يراعي حال من وراءه، فإذا كان فيهم الضعفاء ومن لا يطيقون ذلك لم ينفرهم.

    إذاً: يقرأ الإنسان بما لا يشق على الناس، ولكن يتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فيقرأ في صلاة الظهر بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1]، و هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1]، وهذا من التخفيف، لكن لا يأتي في كل صلاة ويقرأ بالفاتحة و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، ويقول: أنا أخفف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالتخفيف، فهذا -وإن صحت الصلاة- ليس من فعله صلى الله عليه وسلم، فلم يثبت عنه أنه كان يقرأ باستمرار الفاتحة و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، أو الفاتحة و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1]، أو الفاتحة و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1]، فالذي قال للأئمة: (من أم بالناس فليخفف) فعله يبين ذلك.

    فالإنسان عندما يصلي بالناس عليه أن يخفف عليهم، ويراعي أحوالهم فيقرأ بنحو ما قرأ به النبي صلى الله عليه وسلم في صلواته، وذكر الفقهاء في هذا الباب أحاديث فيها بيان ما كان يقرأ به النبي صلى الله عليه وسلم فلتراجع في مظانها.

    والمقصود هنا أنه قال: (فأطيلوا الصلاة، وأقصروا الخطبة)، فإطالة الصلاة هنا إطالة في تخفيف، فلا يقرأ بسورة البقرة بحيث يشق على الناس، ولا يقرأ قراءة خفيفة ويسيرة كصلاة سنة الفجر مثلاً، ولكن يتوسط ويفعل نحو ما فعل النبي صلوات الله وسلامه عليه في الصلاة.

    قال: (واقصروا الخطبة) يأمر الخطباء هنا ألا يطيلوا الخطبة، فلا تقعد تخطب ساعتين وثلاث ساعات متعللاً بأن الناس لا يفهمون إلا بذلك، وهذا فيه تحقير لعقول الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم كانت خطبه قصيرة صلى الله عليه وسلم، ويفهم بها الناس.

    إذاً: على الخطيب أن يراعي في خطبته عدم الإطالة التي تشق على الناس وتملهم.

    وأيضاً لا يتعمد أن تكون الخطبة كلها موزونة ومسجوعة ومليئة بشواهد الشعر؛ لأن الناس سيملون، إذ ليس كل الناس يفهمون ذلك، وليس كل الناس يريدون ذلك، ولكن لا مانع أن يكون في الخطبة من المحسنات البديعية الشيء الذي لا يدخله التكلف، بحيث لا يكون تحضير الخطبة كلها على نسق من السجع والشعر وينسى المضمون نفسه للخطبة.

    إذاً: الخطبة هي تذكير وموعظة، وكل يوم جمعة يجتمع الناس ليسمعوا الخطبة، فلابد أن يكون فيها من القرآن ومن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن تذكرة الناس بأخطاء قد يقعون فيها، ويراعي في هذا كله ألا يشق عليهم بالإطالة، فإطالة الخطبة ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وليس علامة على فقه الخطيب، فالفقيه يعرف ما الذي يقال، ومتى يقال، ويتخول الناس بالمواعظ، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم، والأصل في الخطبة تذكير الناس وموعظة الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم الذي قال: (وأطيلوا الصلاة) كان يوم الجمعة يقرأ في الركعة الاولى بـ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1]، وفي الركعة الثانية كان يقرأ: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1]، وقد يقرأ في الركعة الأولى بسورة الجمعة، وفي الركعة الثانية بسورة المنافقون، وهذا ضابط الإطالة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم.

    إذاً: ليس معنى قوله: (أطيلوا الصلاة) أن يقرأ الإمام بسورة من طوال القرآن، ولكن بالقدر الذي كان يقرؤه النبي صلى الله عليه وسلم.

    قال هنا: (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه)، (مئنة من فقهه) بمعنى: علامة على فقه هذا الخطيب، فمن فقه الخطيب ألا يطيل في الخطبة إطالة تمل الناس، وكذلك من فقهه أن يطيل في الصلاة شيئاً بحيث يستمع الناس للتذكرة في صلاة الجمعة وفي غيرها.

    شرح حديث معاوية بن الحكم: (بينا أنا أصلي مع رسول الله إذ عطس رجل من القوم...)

    ومن الأحاديث الواردة في الباب حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: (بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم..)، وكأن معاوية كان جديداً في إسلامه، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأثناء ما كان يصلي عطس رجل فشمته معاوية ، قال: (فقلت: يرحمك الله)، وهذا غير جائز، ولكن الرجل إسلامه جديد، وما كان يعرف الحكم الشرعي في ذلك وعذره النبي صلى الله عليه وسلم لجهله في ذلك، قال: (فرماني القوم بأبصارهم) يعني: أصبح الناس ينظرون إلي ويشيرون لي أن أسكت، قال: (فقلت: واثكل أمياه، واثكل أمياه، ما شأنكم تنظرون إلي) الثكل: الفاجعة، والمرأة الثكلى التي فقدت ابنها، فهذه الكلمة تقال عند التوجع للنفس، فهو هنا تكلم بكلام لا ينبغي في الصلاة قال: (واثكل أمياه، ما شأنكم تنظرون إلي فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم)، فلاحظ أنه ما أحد منهم رد عليه بالكلام، فهم أولاً نظروا إليه من أجل أن يسكت فلم يسكت، فضربوا على أفخاذهم حتى يسكت، قال: (فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت) يعني: كأنه يقول: فلما رأيتهم يصمتونني، كنت سأرد عليهم، لكنني سكت، قال: (فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني عليه الصلاة والسلام)، فهو كان ينتظر من النبي صلى الله عليه وسلم أن يضربه أو يشتمه، قال: (ما كهرني) يعني: لم ينهرني ولم يكلمني كلاماً غليظاً، (ولا ضربني، ولا شتمني)، وكأنه يرى في نفسه أنه يستحق ذلك، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس)، هذه حكمة النبي صلى الله عليه وسلم والموعظة الحسنة التي أمر بها، (قال: إنما هي التسبيح، والتكبير وقراءة القرآن).

    إذاً: لا ينبغي للإنسان أن يكلم من بجواره بأي كلام في الصلاة، ولا حتى بأن يقول له: يرحمك الله، فإذا خاطب أحداً بطلت صلاته بذلك، لكن معاوية هنا لم تبطل صلاته لكونه جاهلاً بالحكم، والنبي صلى الله عليه وسلم علم جهله، فعذره ولم يأمره بإعادة الصلاة، ولو أمره بذلك لذكره الراوي، يقول: (قلت: يا رسول الله! إني حديث عهد بجاهلية)، يعني: إسلامي لا يزال جديداً، فهو هنا بعد الذي فعله في صلاته، وبعد موقف النبي صلى الله عليه وسلم منه وكونه لم ينهره ولم يشتمه، جعله ذلك يتشجع ويكلم النبي صلى الله عليه وسلم ويسأله، فقدم عذره أولاً وهو أنه قريب عهد بجاهلية، ثم قال: (وقد جاء الله بالإسلام وإن منا رجالاً يأتون الكهان)، فهو قريب عهد بجاهلية، ومن قومه من لا يزال كافراً ويأتي الكهان ويسألهم قال: (فلا تأتهم) أي: أنت رجل مسلم فلا يجوز لك ذلك، قال: (قلت: ومنا رجال يتطيرون)، يعني: من قومه، سواء من المسلمين أو من غيرهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذاك شيء يجدونه في صدورهم)، فالإنسان حين يكون قريب عهد بجاهلية فإن نزغات الشيطان لا تزال تراوده، فيتطير ويتشاءم بسبب جهله بدين رب العالمين، وكثير من الناس يقعون في التشاؤم من باب التقليد، فبعضهم يسمع أن الغرب يتشاءمون عند رؤية قطة سوداء تمشي من أمامهم، فيتشاءم هو منها كنوع من التقليد، فصار التقليد حتى في الكفر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

    ومنهم من يرى البعض يتخذون التمائم فيقلدهم في ذلك، مع أن هذا الفعل حرام وهو من الشرك بالله سبحانه وتعالى، وبعض الناس يضعون في أيديهم حظاظة -وهي ما يلبس في اليد لجلب الحظ- وهذا من الشرك بالله سبحانه وتعالى، فمن اعتقد أن شيئاً ينفعه أو يضره مع الله فقد وقع في الشرك بالله سبحانه وتعالى، وفي الحديث قال: (ومنا رجالاً يتطيرون، قال: ذاك شيء يجدونه في صدورهم) يعني: لقرب عهدهم بجاهلية، (فلا يصدنهم).

    إذاً: الإنسان الذي اعتاد على هذا الشيء في جاهليته فإنه يكون من الصعوبة أن يتغير عنه بعدما يعرف الإسلام الصحيح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذاك شيء يجدونه في صدورهم)، فإذا حصل هذا قال: (فلا يصدنهم).

    وأهل الجاهلية كان الواحد منهم إذا أراد أن يسافر ذهب ينظر إلى الطير، فإذا طار الطير يميناً تيامن بذلك وتبرك بذلك، وقال: اليوم بركة سنسافر فيه، وإذا طار الطير شمالاً تشاءم من ذلك، فلما دخل الناس في الإسلام بقي أثر هذا الشيء في الصدور.

    ومثل ذلك الحلف بغير الله سبحانه، فقد كانوا يحلفون باللات والعزى، فلما دخلوا في الإسلام كان فيهم بقية من ذلك، فلما يأتي الواحد منهم يتكلم يقول: واللات والعزى، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم من وقع منه مثل هذا أن يقول: لا إله إلا الله، فيتذكر أنه وقع في الشرك بهذا الشيء وإن كان هذا سهواً فيقول: لا إله إلا الله كلما صدر منه ذلك حتى يبطل عنده الحلف باللات والعزى والحلف بغير الله سبحانه.

    وكذلك الذي اعتاد على أن يحلف بقوله: وحياة أبي أو وحياة أمي أو والنعمة، فهذا هنا حلف بغير الله وهذا من الشرك، فإذا وقع في ذلك فليقل وراءها: لا إله إلا الله، فإذا قال ذلك فإنه سيعتاد على أن يوحد ربه سبحانه وسيخرج من رأسه الحلف بغير الله.

    وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (فلا يصدنهم) يعني: لا يصدنك رؤية الطير عن أن تذهب إلى المكان الذي كنت تريد أن تذهب إليه.

    شرح حديث العرباض: (وعظنا رسول الله موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون...)

    من أحاديث الباب حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون..)، وذكر الحديث، وهو حديث طويل وتقدم قبل ذلك، لكن الغرض من هذا الحديث أن موعظة النبي صلى الله عليه وسلم موعظة عظيمة، رقت لها قلوب أصحابه رضوان الله تعالى عليهم فبكوا من ذلك.

    قال: (وجلت منها القلوب) أي: خشعت واقشعرت قلوب الناس وجلودهم.

    (وذرفت منها العيون) يعني: بكى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

    قال: (فقلنا كأنها موعظة مودع فأوصنا يا رسول الله! قال: أوصيكم بتقوى الله)، فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بتقوى الله تبارك وتعالى، قال: (والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم حبشي كأن رأسه زبيبة، فإنكم سترون بعدي خلافاً كثيراً فعليكم بسنتي)، فأمرهم بالتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، ووعظهم صلى الله عليه وسلم فأمرهم بالمحافظة على أهل بيته صلوات الله وسلامه عليه.

    والغرض: أن هذه الموعظة وصفها هذا الصحابي الجليل بأنها موعظة بليغة، فعلى هذا فينبغي للإنسان حين يعظ الناس أن تكون موعظته بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، فإنها أعظم المواعظ بعد كتاب الله عز وجل.

    نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

    وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756469459