الرحمن والرحيم: اسمان لله عز وجل، وهما مشتقان، ومشتملان على صفة الرحمة، والرحمن خاص بالله لا يطلق إلا عليه، ولهذا لما تسمى مسيلمة بالرحمن لصق به اسم الكذب، فلا يذكر اسم مسيلمة إلا ويقال: مسيلمة الكذاب.
وأما اسم الرحيم فليس خاصاً، بل هو من الأسماء المشتركة، قال الله تعالى عن نبيه بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].
وأما اسم الحكم فقد جاء في قصة أبي شريح أنه كان يسمى أبا الحكم : (فسأله النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن قومي إذا اختصموا في شيء حكمت بينهم فرضي كلا الفريقين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أحسن هذا، فما لك من الولد؟ قال:
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وفي تفسير بعض السلف ما يدل على ذلك كما تقدم في الأثر عن عيسى عليه السلام أنه قال: والرحمن رحمان الدنيا والآخرة، والرحيم رحيم الآخرة.
وزعم بعضهم أنه غير مشتق؛ إذ لو كان كذلك لاتصل بذكر المرحوم، وقد قال: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب:43].
وحكى ابن الأنباري في الزاهر عن المبرد أن الرحمن اسم عبراني ليس بعربي، وقال أبو إسحاق الزجاج في معاني القرآن ].
هذا قول مرجوح، بل الصواب أنه عربي.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال أبو إسحاق الزجاج في معاني القرآن: وقال أحمد بن يحيى : الرحيم عربي والرحمن عبراني، فلهذا جمع بينهما.
قال أبو إسحاق : وهذا القول مرغوب عنه ].
أي: أن هذا ليس بشيء؛ لضعفه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال القرطبي : والدليل على أنه مشتق ما خرجه الترمذي وصححه عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله تعالى: أنا الرحمن خلقت الرحم، وشققت لها اسماً من اسمي، فمن وصلها وصلته) قال: وهذا نص في الاشتقاق، فلا معنى للمخالفة والشقاق ].
أي: أن الرحمن والرحيم معناهما واحد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قاله أبو عبيد، وقيل: ليس بناء فعلان كفعيل، فإن فعلان لا يقع إلا على مبالغة الفعل، نحو قولك: رجل غضبان، للرجل الممتلئ غضباً، وفعيل قد يكون بمعنى الفاعل والمفعول، قال أبو علي الفارسي : الرحمن اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به الله تعالى، والرحيم إنما هو من جهة المؤمنين، قال الله تعالى: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب:43].
وقال ابن عباس : هما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر، أي: أكثر رحمة. ثم حكي عن الخطابي وغيره: أنهم استشكلوا هذه الصفة وقالوا: لعله أرفق كما في الحديث: إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله وأنه يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف.
وقال ابن المبارك : الرحمن إذا سئل أعطى، والرحيم إذا لم يسأل يغضب، وهكذا كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وابن ماجة من حديث أبي صالح الفارسي الخوزي : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يسأل الله يغضب عليه) ].
أبو صالح الخوزي : يروي عن أبي هريرة وأبي المليح الفارسي ، وهو مختلف فيه، قال ابن معين : ضعيف كما في التهذيب.
والحديث بسنده: حدثنا قتيبة أخبرنا حاتم بن إسماعيل عن أبي المليح عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يسأل الله يغضب عليه)، وقد روى وكيع عن غير واحد عن أبي المليح هذا الحديث، ولا نعرفه إلا من هذا الوجه، وقال في حديث آخر: حدثنا إسحاق بن منصور أخبرنا أبو عاصم عن حميد بن أبي المليح عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
فهذا الحديث قد تشهد لها أصول الشريعة، فلابد من سؤال الله في الصلاة مثلاً: رب اغفر لي، فالمعنى له أصل ولابد للمسلم أن يسأل الله، ولا يمكن أن يظل طوال عمره لا يسأل ربه.
فالرحمن رحمة تشمل المؤمنين والكفار، والرحيم رحمة خاصة بالمؤمنين، كما قال سبحانه: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب:43]، فالله تعالى رحم المؤمنين رحمة خاصة، فهداهم ووفقهم للإيمان وتاب عليهم.
والرحمن رحمته عامة تشمل المؤمنين والكفار، فمن رحمته بالكفار أن خلقهم وأوجدهم ورزقهم، ومن رحمته بهم أنه لم يعاجلهم بالعقوبة، فهم يعبدون غيره ويشركون به ومع ذلك يحلم عليهم سبحانه وتعالى ويرحمهم.
واستشكال الخطابي في قول ابن عباس لا وجه له.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال بعض الشعراء:
الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب.
وقال ابن جرير : حدثنا السري بن يحيى التميمي حدثنا عثمان بن زفر سمعت العرزمي يقول: الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ [الفاتحة:1] قال: الرحمن لجميع الخلق، والرحيم بالمؤمنين، قالوا ولهذا قال: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ [الفرقان:59].
وقال ابن جرير : حدثنا السري بن يحيى التميمي حدثنا عثمان بن زفر سمعت العرزمي ].
والعرزمي هو: عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي بمهملتين ثم معجمة الفزاري أبو محمد بن ميسرة الكوفي أحد الأئمة، روى عن أنس وسعيد بن جبير ، وعنه شعبة والسفيانان وخلق، وثقه ابن معين والنسائي ، وضعفه يحيى في رواية، قال أحمد : ثقة يخطئ، وضعفه شعبة من أجل الحديث الذي رواه عن عطاء عن جابر في الشفعة، وانفرد به عن عطاء ، قال الترمذي : وهو ثقة مأمون عند أهل الحديث لا نعلم واحداً تكلم فيه غير شعبة ، وقال الهيثم بن عدي : مات سنة خمسة وأربعين ومائة.
إذاً: هو ثقة، وشعبة رحمه الله من المتشددين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ سمعت العزرمي يقول: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3]، قال: الرَّحْمَنِ [الفاتحة:3] لجميع الخلق، الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] بالمؤمنين، ولهذا قال ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ [الفرقان:59]، وقال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، فذكر الاستواء باسمه الرحمن؛ ليعم جميع خلقه برحمته، وقال: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب:43] فخصهم باسمه الرحيم. قالوا: فدل على أن الرحمن أشد مبالغة في الرحمة؛ لعمومها في الدارين لجميع خلقه، والرحيم خاصة بالمؤمنين ].
فالرحمن رحمة عامة للمؤمنين والكفار، وحتى الكفار بعد دخولهم النار يرحمهم الرحمة العامة، فعند دخولهم يلهجون بحمده وأنه سبحانه وتعالى عادل في قضاءه وحكمه فاعترفوا بذلك وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10-11]، فـ(الرحمن) رحمته شاملة للمؤمنين والكفار، ولأهل الدنيا والآخرة، و(الرحيم) رحمة خاصة بالمؤمنين.
ومعنى أن الرحمن أشد مبالغة أي: فيه مبالغة في المعنى من بلوغ الشيء نهايته، فقد بلغت الرحمة كمالها ونهايتها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قالوا: فدل على أن الرحمن أشد مبالغة في الرحمة لعمومها في الدارين لجميع خلقه والرحيم خاصة بالمؤمنين، لكن جاء في الدعاء المأثور (رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما).
واسمه تعالى الرحمن خاص به لم يسم به غيره كما قال تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء:110] ]. (رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما) هذا عند الدعاء، لكن إذا كان على صيغة الخبر فالرحيم رحمة خاصة بالمؤمنين، والرحمن خاص بالله لا يسمى به غيره.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال تعالى: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف:45]، ولما تجهرم مسيلمة الكذاب وتسمى برحمان اليمامة كساه الله جلباب الكذب وشهر به، فلا يقال: إلا مسيلمة الكذاب، فصار يضرب به المثل في الكذب بين أهل الحضر من أهل المدر، وأهل الوبر من أهل البادية والأعراب ].
معنى تجهرم: هاجم الاسم الكريم، ويحتمل أنها: تجهضم. وهذا من غطرسته وكبريائه وجبروته وجرأته العظيمة.
والحضر من أهل المدر أي: الطين، وهي بيوت الطين التي يسكنها أهل المدن، والبوادي بيوت من خيام، فأصبح معروفاً بالكذب بين البوادي وبين أهل المدن.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد زعم بعضهم أن الرحيم أشد مبالغة من الرحمن؛ لأنه أكد به والمؤكد لا يكون إلا أقوى من المؤكد ].
وهذا القول ضعيف.
وإنما تجهرم مسيلمة اليمامة في التسمي به، ولم يتابعه على ذلك إلا من كان معه في الضلالة.
وأما الرحيم فإنه تعالى وصف به غيره، حيث قال: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، كما وصف غيره بذلك من أسمائه، كما قال تعالى: إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [الإنسان:2] ].
فوصف المخلوق بأنه سميع بصير، ووصف نفسه بأنه سميع بصير، ولكن ليس السمع كالسمع ولا البصر كالبصر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والحاصل: أن من أسمائه تعالى ما يسمى به غيره، ومنها ما لا يسمى به غيره، كاسم الله والرحمن والخالق والرازق ونحو ذلك ].
فهذه الأسماء لا يسمى بها إلا الله، وهي: الله والخالق والرازق، ومالك الملك، ومدبر الأمور، والمعطي والمانع، والضار والنافع، وأما السميع والبصير والعزيز والملك والحليم والرءوف فقد يسمى بها غيره.
فإن قيل: فإذا كان الرحمن أشد مبالغة فهلا اكتفى به عن الرحيم؟ فقد روي عن عطاء الخراساني ما معناه: أنه لما تسمى غيره تعالى بالرحمن جيء بلفظ الرحيم ليقطع الوهم بذلك، فإنه لا يوصف بالرحمن الرحيم إلا الله تعالى. كذا رواه ابن جرير عن عطاء ووجهه بذلك، والله أعلم.
وقد زعم بعضهم أن العرب لا تعرف الرحمن حتى رد الله عليهم ذلك بقوله: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء:110]؛ ولهذا قال كفار قريش يوم الحديبية لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـعلي رضي الله عنه الله عنه: (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقالوا: لا نعرف الرحمن ولا الرحيم). رواه البخاري .
وفي بعض الروايات: (لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة) ].
يعنون: مسيلمة .
قال: [ وقال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا [الفرقان:60].
والظاهر أن إنكارهم هذا إنما هو جحود وعناد وتعنت في كفرهم ].
كما قال سبحانه: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ [الرعد:30]، وهذا من عنادهم، وإلا فإنهم يعرفون الرحمة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فإنه قد وجد في أشعارهم في الجاهلية تسمية الله تعالى بالرحمن، قال ابن جرير : وقد أنشد بعض الجاهلية الجهال:
ألا ضربت تلك الفتاة هجينها ألا قضب الرحمن ربى يمينها ].
الهجين: الفرس من الخيل غير العربي.
وقوله: (قضب الرحمن) يعني قطع الرحمن، يدعو عليها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال سلامة بن جندب الطهوي :
عجلتم علينا إذ عجلنا عليكم وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق ].
قوله (يعقد ويطلق) بالبناء للمجهول.
وسلامة بن جندب في بعض النسخ جندل، فتراجع دواوين الشعر
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا عثمان بن سعيد حدثنا بشر بن عمارة حدثنا أبو روق عن الضحاك عن عبد الله بن عباس قال: الرحمن الفعلان من الرحمة، هو من كلام العرب، وقال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] الرفيق الرقيق لمن أحب أن يرحمه، والبعيد الشديد على من أحب أن يعنف عليه، وكذلك أسماؤه كلها.
وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا محمد بن بشار حدثنا حماد بن مسعدة عن عوف عن الحسن قال: الرحمن اسم ممنوع ].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد يحيى بن سعيد القطان حدثنا زيد بن الحباب حدثني أبو الأشهب عن الحسن قال: الرحمن اسم لا يستطيع الناس أن ينتحلوه، تسمى به تبارك وتعالى ].
يعني: لا يستطيعون أن يتسموا به أو ينسبوه ويضيفوه إلى أنفسهم.
تعني: أنه كان يقف على رءوس الآي.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فقرأ بعضهم كذلك وهم طائفة، ومنهم من وصلها بقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، وكسرت الميم؛ لالتقاء الساكنين، وهم الجمهور ].
يعني: أن الأولى القطع، تقول: بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:1-2]، ومن وصلها قال: بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:1-2]، فلا بأس بالوصل، لكن الوقوف على رءوس الآي هو الأفضل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وحكى الكسائي من الكوفيين عن بعض العرب أنها تقرأ بفتح الميم وصلة الهمزة فيقولون: بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمَ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:1-2]، فنقلوا حركة الهمزة إلى الميم بعد تسكينها، كما قرئ قوله تعالى: المَ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران:1-2]، قال ابن عطية : ولم ترد هذه قراءة عن أحد فيما علمت ].
يعني: بفتح الميم من قوله: (آلم).
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر