ذكر ما ورد في فضلها:
قال الإمام أحمد : حدثنا عارم حدثنا معتمر عن أبيه عن رجل عن أبيه عن معقل بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (البقرة سنام القرآن وذروته، نزل مع كل آية منها ثمانون ملكاً، واستخرجت اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] من تحت العرش فوصلت بها -أو: فوصلت بسورة البقرة-، و(يس) قلب القرآن، لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له، واقرءوها على موتاكم)، انفرد به أحمد .
وقد رواه أحمد -أيضاً- عن عارم عن عبد الله بن المبارك عن سليمان التيمي عن أبي عثمان - وليس بـالنهدي - عن أبيه عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقرءوها على موتاكم) يعني: (يس)، فقد تبين بهذا الإسناد معرفة المبهم في الرواية الأولى ].
قوله: [ فقد تبين بهذا الإسناد معرفة المبهم في الرواية الأولى ].
أي: أن السند الأول فيه مبهم، لكن سمي في السند الثاني فزال الإبهام، ومعنى (اقرءوا على موتاكم (يس)) أي: اقرءوا على المحتضرين. وهذا الحديث في قراءة (يس) على الموتى متصل الإسناد لا بأس به، وليس المراد منه قراءة القرآن بعد الموت؛ فإن قراءة القرآن بعد الموت وعند القبر بدعة، وليست بمشروعة، ولكن المراد هو القراءة على المحتضرين.
قال بعض العلماء: الحكمة من ذلك أنها تخفف على المحتضر نزع الموت.
وأبو عثمان قال عنه في (التقريب): مقبول من الرابعة. وفي (تهذيب الكمال): قال ابن المديني : لم يرو عنه غير التيمي ، وهو إسناد مجهول. وقال أبو عبيد الآجري عن أبي داود : هو أبو عثمان السلي. وذكره ابن حبان في كتاب (الثقات).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد أخرج هذا الحديث على هذه الصفة في الرواية الثانية أبو داود والنسائي وابن ماجة ، وقد روى الترمذي من حديث حكيم بن جبير -وفيه ضعف- عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل شيء سنام، وإن سنام القرآن سورة البقرة، وفيها آية هي سيدة آي القرآن آية الكرسي) ].
فأعظم سورة في القرآن هي سورة الفاتحة، وأعظم آية هي آية الكرسي.
قوله صلى الله عليه وسلم: [ (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً) ] أي: لا تعطلوها من الصلاة والقراءة فتكون بمنزلة القبور؛ لأن القبور لا يقرأ ولا يصلى فيها، فإذا عطل الإنسان البيت من القراءة والصلاة صار بمنزلة القبر.
وهذا الحديث فيه الحث على الصلاة في البيوت، وقد جاء في الحديث الآخر: (صلوا في بيوتكم؛ فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة).
وجاء في فضل آية الكرسي: (من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح)، رواه البخاري في الصحيح.
فإذا قرأ البقرة ففيها آية الكرسي، والشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : حدثني ابن أبي مريم عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن سنان بن سعد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يخرج من البيت إذا سمع سورة البقرة تقرأ فيه) سنان بن سعد -ويقال بالعكس- وثقه ابن معين ، واستنكر حديثه أحمد بن حنبل وغيره.
وقال أبو عبيد : حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن سلمة بن كهيل عن أبي الأحوص عن عبد الله -يعني ابن مسعود- رضي الله عنه قال: (إن الشيطان يفر من البيت يسمع فيه سورة البقرة)، ورواه النسائي في (اليوم والليلة)، وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث شعبة ، ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ].
ابن لهيعة المذكور في السند الأول ضعيف.
وفرار الشيطان من قراءة سورة البقرة جاء ذكر مثله في الأذان، ففي الحديث: (إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط، حتى لا يسمع الأذان...)، وكذلك إذا سمع قراءة القرآن فإنه يفر ثم يرجع.
وللمرء إذا أراد طرد الشيطان بقراءة سورة البقرة أن يقرأها بنفسه، أو أن يستمع إلى قراءتها، لكن الأفضل أن يقرأها بنفسه، لكي يحصل على أجر القراءة.
فإن سأل سائل: هل ينفع استخدام المسجلة في ذلك؟
فالجواب: الأصل هو أن يقرأ الإنسان بنفسه بقصد أن يتعبد، لكن إذا لم يتيسر له أن يقرأ وليس هناك قارئ فلا بأس باستخدام جهاز التسجيل.
وحصول الوقاية من الشيطان بقراءة آية الكرسي يكون بقراءتها في اليوم نفسه.
قال رحمه الله تعالى: [ وقال ابن مردويه : حدثنا أحمد بن كامل حدثنا أبو إسماعيل الترمذي حدثنا أيوب بن سليمان بن بلال حدثني أبو بكر بن أبي أويس عن سليمان بن بلال عن محمد بن عجلان عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ألفين أحدكم يضع إحدى رجليه على الأخرى يتغنى ويدع سورة البقرة يقرؤها؛ فإن الشيطان يفر من البيت تقرأ فيه سورة البقرة، وإن أصفر البيوت الجوف الصفر من كتاب الله) ].
الصفر: هو الخالي، يقال: فلان صفر اليدين أي: خاليهما، ومنه الصفر في العدد، وفي الحديث: (إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم، يستحي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما صفراً) أي: خاليتين، فالصفر هو الخالي، فقوله: (أصفر البيوت) يعني: أخلاها، أي أنه بيت فقير خال من الخير.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهكذا رواه النسائي في (اليوم والليلة) عن محمد بن نصر عن أيوب بن سليمان به.
وروى الدارمي في مسنده عن ابن مسعود قال: (ما من بيت تقرأ فيه سورة البقرة إلا خرج منه الشيطان وله ضراط).
وقال: (إن لكل شيء سناماً، وإن سنام القرآن سورة البقرة، وإن لكل شيء لباباً، وإن لباب القرآن المفصل) ].
قوله صلى الله عليه وسلم: [ (ما من بيت تقرأ فيه سورة البقرة إلا خرج منه الشيطان وله ضراط) ]، هذا كما جاء في الأذان، فإن الشيطان إذا سمع الأذان ولى وله ضراط، وكذلك إذا سمع القرآن ولى وله ضراط، ولا مانع من أن يرجع، كما في حديث فراره من الأذان، ففيه أنه إذا انتهى المؤذن رجع فيوسوس، فإذا سمع الإقامة ولى، ثم يرجع فيوسوس للمرء ليحول بينه وبين صلاته حتى يذكره بالأشياء التي نسيها، فيقول: اذكر كذا، اذكر كذا، اذكر كذا، حتى ينصرف من صلاته ولا يدري كم صلى.
قال رحمه الله تعالى: [ وروى أيضاً من طريق الشعبي قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة، أربع من أولها، وآية الكرسي، وآيتان بعدها، وثلاث آيات من آخرها) ].
هذا السند ضعيف؛ لأنه منقطع، فـالشعبي لم يدرك ابن مسعود رضي الله عنه، وفي متنه غرابة، فإنه عد فيه آيتين بعد آية الكرسي، والمعروف هو أربع آيات من أول سورة البقرة وآية الكرسي وآيتان من آخر سورة البقرة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وفي رواية: (لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان، ولا شيء يكرهه، ولا يقرأن على مجنون إلا أفاق)].
ومن الغرابة كذلك قوله: [ (لا يقرأن على مجنون إلا أفاق) ].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لكل شيء سناماً، وإن سنام القرآن البقرة، وإن من قرأها في بيته ليلة لم يدخله الشيطان ثلاث ليال، ومن قرأها في بيته نهاراً لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام)>.
رواه أبو القاسم الطبراني وأبو حاتم ابن حبان في صحيحه وابن مردويه من حديث الأزرق بن علي حدثنا حسان بن إبراهيم حدثنا خالد بن سعيد المدني عن أبي حازم عن سهل به، وعند ابن حبان خالد بن سعيد المديني ].
الصحيح أبو حاتم ابن حبان ، فالواو زائدة، وابن حبان هو أبو حاتم ، وأبو حاتم ابن حبان هو غير أبي حاتم الرازي صاحب الجرح والتعديل.
وذا الحديث فيه أن الشيطان لا يقرب البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة ثلاث ليال، والحديث فيه ضعف، فـخالد بن سعيد متكلم فيه.
لاشك في أن من قرأ القرآن وتعلمه وعمل به يكون قد استفاد من هذا المسك في هذا الجراب، ومن قرأه ولم يعمل به فاته هذا الخير الكثير، بل إنه يكون وبالاً عليه إذا لم يعمل به، والعياذ بالله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ هذا لفظ رواية الترمذي ، ثم قال: هذا حديث حسن، ثم رواه من حديث الليث عن سعيد عن عطاء مولى أبي أحمد مرسلاً، فالله أعلم ].
وهكذا رواه الإمام العالم أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب (فضائل القرآن) عن عبد الله بن صالح ويحيى بن بكير عن الليث به، وقد روي من وجه آخر عن أسيد بن حضير كما تقدم، والله أعلم ].
وقد روي -أيضاً- أنه كان يقرأ سورة الكهف، فجالت الفرس، وأنها كانت قريبة من ولده يحيى كما جاء في هذا الحديث.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد وقع نحواً من هذا لـثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه، وذلك فيما رواه أبو عبيد : حدثنا عباد بن عباد عن جرير بن حازم عن عمه جرير بن يزيد أن أشياخ أهل المدينة حدثوه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له: ألم تر
قوله: [تزهر] أي: تضيء وتنير، والحديث ضعيف؛ لإبهام أشياخ أهل المدينة، وهو كذلك مرسل، ولذا قال رحمه الله: [ وهذا إسناد جيد، إلا أن فيه إبهاماً، ثم هو مرسل، والله أعلم ].
أي أن رجال السند لا بأس بهم، لولا الإرسال والإبهام.
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو نعيم حدثنا بشر بن مهاجر حدثنا عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: (تعلموا سورة البقرة؛ فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة، قال: ثم سكت ساعة ثم قال: تعلموا سورة البقرة وآل عمران؛ فإنهما الزهراوان يظلان صاحبهما يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف، وإن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب، فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك. فيقول: أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك في الهواجر وأسهرت ليلك، وإن كل تاجر من وراء تجارته، وإنك اليوم من وراء كل تجارة. فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسى والداه حلتان لا يقوم لهما أهل الدنيا، فيقولان: بم كسينا هذا؟! فيقال: بأخذ ولدكما القرآن. ثم يقال: اقرأ واصعد في درج الجنة وغرفها. فهو في صعود ما دام يقرأ هذاً كان أو ترتيلاً) ].
قوله: [ (ولا يستطيعها البطلة) البطلة: هم السحرة، وقوله: [ (كالرجل الشاحب) ] أي: متغير اللون، وقوله: [ (أظمأتك في الهواجر) ] أي: بالصيام، وهذا هو خلق أهل القرآن الذين يعملون بالقرآن، فهم يصومون في النهار ويصلون في الليل؛ لأنهم يعملون بالقرآن، فهم أسبق الناس إلى الطاعات، والقرآن فيه الدعوة إلى الصيام والصلاة وغيرهما من الطاعات، فلهذا قال: [ (أظماتك في الهواجر) ] يعني: من كثرة الصيام [ (وأسهرت ليلك) ] أي: من كثرة القيام.
وقارئ القرآن هنا يشمل الحافظ وغير الحافظ، فالمقصود هو العمل بالقرآن، فالذي يقرأ من المصحف وهو يصلي ويعمل بالقرآن، ويمتثل الأوامر ويجتنب النواهي على خير عظيم، أما الذي يحفظ ولا يعمل فلا ينفعه حفظه، وإن قرأه وعمل به فهو على خير.
ثم إن من يقرأ القرآن خارج الصلاة هو على خير، لكن كونه يجمع بينهما فيصلي ويقرأ ويراوح بين الجبهة والقدمين، ويتضرع إلى الله تعالى في السجود ويدعوه هو الأفضل.
ولا ينبغي للإنسان أن يترك الأفضل، لأن الشيطان يحرص على إضاعة الفضل على ابن آدم؛ وللشيطان في ذلك خطوات، فهو يدعوه أولاً إلى الكفر والشرك، فإن ظفر به حصل بغيته، وإن لم يظفر به دعاه إلى البدعة، فإن لم يظفر به دعاه إلى الكبيرة، فإن لم يظفر به دعاه إلى الصغيرة، فإن لم يظفر به دعاه إلى التوسع في المباحات، فإن لم يظفر به دعاه إلى أن يفعل المفضول ويترك الفاضل، فيقول: اقرأ القرآن ولا تصل، فأنت على خير، أو يدعوه إلى أن يتعبد ويصلي الليل ويصوم النهار دون أن يطلب العلم، فإن فعل هذا فقد فوت عليه الأفضل، فالأفضل هو طلب العلم، فلا ينبغي للإنسان أن يترك الأفضل ويعمل الفاضل.
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الملك بن عمرو حدثنا هشام عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلام عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اقرءوا القرآن؛ فإنه شافع لأهله يوم القيامة، اقرءوا الزهراوين -البقرة وآل عمران- فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان طير صواف يحاجان عن أهلهما يوم القيامة. ثم قال: اقرءوا البقرة؛ فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة)].
المعنى أن عمل الإنسان بقراءة البقرة وآل عمران يأتي كأنه غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف، ومعروف أن البقرة وآل عمران كلام الله، كما جاء في الحديث الآخر أن الإنسان إذا وضع في قبره جاءه رجل حسن الوجه حسن الصورة طيب الريح، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح. والفاجر يأتيه رجل قبيح الوجه منتن الريح، فيقول: من أنت فوجهك الوجه يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث.
وكذلك عمل الإنسان بالبقرة وآل عمران يأتي فيظل صاحبه يوم القيامة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد رواه مسلم في الصلاة من حديث معاوية بن سلام عن أخيه زيد بن سلام عن جده أبي سلام ممطور الحبشي عن أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي به.
الزهراوان: المنيرتان. والغياية: ما أظلك من فوقك. والفرق: القطعة من الشيء. والصواف: المصطفة المتضامة. والبطلة: السحرة. ومعنى (لا تستطيعها) أي لا يمكنهم حفظها، وقيل: لا يستطيعون النفوذ في قارئها. والله أعلم ].
أي أن قوله: (لا تستطيعها البطلة) معناه: أن السحرة لا يستطيعون حفظها؛ لأن القرآن منافٍ لما هم عليه من الشرك، فالقرآن توحيد والسحرة مشركون، فلا يستطيعون حفظها وهم على شركهم، أو لا يستطيعون العمل في صاحبها، فسحرهم فيه لا ينفذ.
وقد يقال: وجد من النصارى من حفظوا القرآن وهم على كفرهم!
والجواب: أنه ليس المراد -والله أعلم- مجرد الحفظ، بل المراد الحفظ الذي يكون معه العمل، كما جاء عن الصحابة أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا معانيها ويعملوا بها، وهذا يسمى حفظاً.
وهذا مثل ما جاء في الحديث: (إن لله تسعة وتسعين اسماً -مائة إلا واحداً- من أحصاها دخل الجنة) فليس المراد حفظها بالعد فقط، إنما الحفظ الملازم للعمل والذي يتبعه العمل، فالسحرة والكفرة لا يفيدهم حفظ الآيات إذا حفظوها ولم يعملوا بها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ومن ذلك حديث النواس بن سمعان، قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه حدثنا الوليد بن مسلم عن محمد بن مهاجر عن الوليد بن عبد الرحمن الجرشي عن جبير بن نفير قال: سمعت النواس بن سمعان الكلابي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمهم سورة البقرة وآل عمران، وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد، قال: كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق، أو كأنها فرقان من طير صواف يحاجان عن صاحبهما) .
ورواه مسلم عن إسحاق بن منصور عن يزيد بن عبد ربه به، والترمذي من حديث الوليد بن عبد الرحمن الجرشي به، وقال: حسن غريب ].
قوله صلى الله عليه وسلم: [ (تقدمهم سورة البقرة) ].
يحتمل أن يكون المعنى: تكون في مقدمهم، مثل قوله تعالى: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [هود:98] أو من: قدم يقدم إذا ورد، كقولهم: فلان قدم البلد. وعلى المعنى الأول تكونان أولهم ثم يتبعهما أصحابهما.
وقوله: [ (بينهما شرق) ] أي: بينهما نور.
كعب الأحبار هو من أهل الكتاب ممن أسلم في زمن عمر بن الخطاب ، وهو ينقل عن بني إسرائيل كثيراً.
والمعروف عند كثير من العلماء أن اسم الله الأعظم قد جاء في ثلاث آيات: في سورة البقرة في قوله تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] آية الكرسي، وفي أول سورة آل عمران في قوله تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:2] وفي سورة طه في قوله تعالى: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ [طه:111].
وقال آخرون: اسم الله الأعظم المراد به العظيم، وأسماء الله كلها حسنى وكلها عظيمة، فهذا وصف لجميع أسماء الله تعالى.
معنى: (يخطران) يتجاوزان به الخطر، أي: يتجاوزان به الجبل الوعر.
المراد بالجمعة هنا الأسبوع، أي أن القرآن أخذ ينسل فبقيت البقرة وآل عمران أسبوعاً، ثم انسلت آل عمران فبقيت البقرة أسبوعاً ثم انسلت، ومعنى ذلك أن البقرة وآل عمران بقيتا آخر شيء، وهذا يدل على فضلهما.
هذا محمول على من قرأهما مع إيمان وصدق ورغبة، لا مع نفاق.
فيه انقطاع، ولكن ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله وآله وسلم قرأ بهما في ركعة واحدة ].
هذا الحديث فيه انقطاع، فـسعيد لم يدرك عمر، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قرأ بالبقرة وآل عمران والنساء في ركعة واحدة، كما في حديث حذيفة، فكان صلى الله عليه وسلم لا يمر بآية فيها رحمة إلا وقف يسأل، ولا بآية عذاب إلا وقف يتعوذ، ولا بآية تسبيح إلا وقف يسبح، وهذا وقوف عظيم مع التدبر، فمن يستطيع قراءة خمسة أجزاء وربع في ركعة واحدة مع التدبر؟!
قال حذيفة : (ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحواً من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ثم قام طويلاً قريباً مما ركع، ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى، فكان سجوده قريباً من قيامه)، وهذا تحمل عظيم، مع أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وقد قالت له عائشة رضي الله عنها: (لم تفعل هذا -يا رسول الله- وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال: أفلا أكون عبداً شكوراً) وإنما فعل هذا تعبداً لله عز وجل وشكراً لله، ولتتأسى به أمته عليه الصلاة والسلام.
وهذه النصوص فيها فضل هاتين السورتين العظيمتين، وذلك لما اشتملتا عليه من الأحكام العظيمة والأوامر والنواهي والآداب والأعمال وأوصاف وأخلاق المؤمنين، والتحذير من صفات المنافقين والكفرة والفساق.
قال أبو عبيد : حدثنا هشام بن إسماعيل الدمشقي عن محمد بن شعيب عن سعيد بن بشير عن قتادة عن أبي المليح عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (أعطيت السبع الطوال مكان التوراة، وأعطيت المئين مكان الإنجيل، وأعطيت المثاني مكان الزبور، وفضلت بالمفصل) هذا حديث غريب، وسعيد بن أبي بشير فيه لين ].
سعيد بن أبي بشير ضعيف، ومحمد بن شعيب هو ابن شابور -بالمعجمة الموحدة- الأموي مولاهم الدمشقي، نزيل بيروت، صدوق صحيح الكتابة، من كبار التاسعة، مات سنة مائتين وله أربع وثمانون.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد رواه أبو عبيد عن عبد الله بن صالح عن الليث عن سعيد بن أبي هلال قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، فذكره، والله أعلم ].
هذا الحديث معضل؛ لأنه سقط فيه أكثر من واحد بعد سعيد بن أبي هلال.
قوله: [ (فهو حبر) ] أي: عالم، يقال: (حبر) بكسر الحاء وفتحها. وهذا -إن صح- محمول على أن المراد بذلك من أخذها وعمل بها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهذا -أيضاً- غريب، وحبيب بن هند بن أسماء بن هند بن حارثة الأسلمي ، وروى عنه عمرو بن عمرو وعبد الله بن أبي بكرة، وذكره أبو حاتم الرازي ولم يذكر فيه جرحاً، والله أعلم.
وقد رواه الإمام أحمد عن سليمان بن داود وحسين كلاهما عن إسماعيل بن جعفر به، ورواه -أيضاً- عن أبي سعيد عن سليمان بن بلال عن حبيب بن هند عن عروة عن عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أخذ السبع الأول من القرآن فهو حبر).
قال أحمد : وحدثنا حسين حدثنا ابن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
قال عبد الله بن أحمد : وهذا أرى فيه: (عن أبيه عن الأعرج)، ولكن كذا كان في الكتاب، فلا أدري أغفله أبي، أو كذا هو مرسل.
وروى الترمذي عن أبي هريرة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثاً وهم ذوو عدد وقدم عليهم أحدثهم سناً لحفظه سورة البقرة، وقال له : اذهب فأنت أميرهم) وصححه الترمذي ].
قال: وقال مجاهد : هي السبع الطوال، وهكذا قال مكحول ، وعطية بن قيس ، وأبو محمد الفارسي ، وشداد بن أوس ، ويحيى بن الحارث الذماري في تفسير الآية بذلك وفي تعدادها، وإن يونس هي السابعة ].
هذا القول ضعيف، وذلك لأمرين:
الأمر الأول: أن السبع المثاني هي الفاتحة وليست السبع السور، فقد جاء في شأن الفاتحة قوله صلى الله عليه وسلم: (هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته).
الأمر الثاني: عد يونس وترك التوبة وهي أطول منها، وهي قبلها في ترتيب المصحف.
فالمقصود بالسبع المثاني الفاتحة، فهي سبع آيات تثنى في كل ركعة، وليس المراد السبع الطوال.
الفسطاط مثلث الفاء، فيقال: فُسطاط وفَسطاط وفِسطاط.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال بعض العلماء: وهي مشتملة على ألف خبر وألف أمر وألف نهي، وقال العادون: آياتها مائتان وثمانون وسبع آيات، وكلماتها ستة آلاف كلمة ومائتان وإحدى وعشرون كلمة، وحروفها خمسة وعشرون ألفاً وخمسمائة حرف، والله أعلم.
قال ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس : نزلت بالمدينة سورة البقرة، وقال: خصيف عن مجاهد عن عبد الله بن الزبير قال: نزلت بالمدينة سورة البقرة. وقال الواقدي : حدثني الضحاك بن عثمان عن أبي الزناد عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه قال: نزلت البقرة بالمدينة. وهكذا قال غير واحد من الأئمة والعلماء والمفسرين، ولا خلاف فيه ].
خصيف ضعيف، ولكن المعروف عند العلماء أنها مدنية، ومعنى كونها مدنية أنها نزلت بعد الهجرة، وهذا هو الصواب في تعريف المدني والمكي، فالمكي ما نزل قبل الهجرة، والمدني ما نزل بعد الهجرة ولو نزل في مكة، فقوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة:3] نزل على النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وهو جزء من آية المائدة، فهو مدني، وهذا هو الصواب، وهناك أقوال أخرى لأهل العلم في تعريف المدني والمكي، منها أن المكي ما نزل بمكة والمدني ما نزل بالمدينة، وما نزل في الأسفار فلا يصنف، والصواب أن المكي ما نزل قبل الهجرة، وما نزل بعد الهجرة فهو مدني ولو نزل في مكة أو في الأسفار.
وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه (أنه رمى الجمرة من بطن الوادي، فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، ثم قال: هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة) أخرجاه.
وروى ابن مردويه من حديث شعبة عن عقيل بن طلحة عن عتبة بن مرثد قال: (رأى النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه تأخراً فقال: يا أصحاب سورة البقرة) وأظن هذا كان يوم حنين يوم ولوا مدبرين أمر العباس فناداهم: يا أصحاب الشجرة -يعني أهل بيعة الرضوان، وفي رواية: يا أصحاب سورة البقرة- لينشطهم بذلك، فجعلوا يقبلون من كل وجه ].
لما قال العباس يوم حنين -وكان جهوري الصوت-: يا أصحاب سورة البقرة، يا أصحاب سورة البقرة؛ جعلوا يعطفون عليه عطف البقر على أولادها قائلين: لبيك، لبيك، رضي الله عنهم وأرضاهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وكذلك يوم اليمامة مع أصحاب مسيلمة جعل الصحابة يفرون لكثافة جيش بني حنيفة، فجعل المهاجرون والأنصار يتنادون: يا أصحاب سورة البقرة. حتى فتح الله عليهم، رضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين ].
الصواب أنه لا بأس بقول (سورة البقرة) كما في حديث ابن مسعود لما رمى الجمرة فقال: (هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة)، وأما حديث أنس السابق فهو ضعيف مخالف للأحاديث الصحيحة التي منها حديث ابن مسعود ، وكذلك حديث (تعلموا سورة البقرة)، ومناداة الصحابة في غزوة حنين بلفظ: (يا أصحاب سورة البقرة)، وتناديهم في يوم اليمامة بقولهم: (يا أصحاب سورة البقرة).
والمعروف عن الحجاج بن يوسف أمير العراق أنه كان يتورع ويقول: لا تقولوا سورة البقرة، قولوا: السورة التي تذكر فيها البقرة، والسورة التي تذكر فيها آل عمران.
وهذا عبارة عن تشدد لا وجه له، وهو مخالف للنصوص، والعجب من الحجاج أن يتورع عن قول (سورة البقرة) ولم يتورع عن قتل العدد الكبير من المسلمين وإراقة الدماء، نسأل الله السلامة والعافية.
فالمقصود أن قول (سورة البقرة) لا بأس به.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر