قال المصنف رحمه الله: [ يقول تعالى مذكرًا بني إسرائيل ما أخذ عليهم من العهود والمواثيق بالإيمان به وحده لا شريك له، وإتباع رسله، وأخبر تعالى أنه لما أخذ عليهم الميثاق، رفع الجبل فوق رؤوسهم ليقروا بما عوهدوا عليه، ويأخذوه بقوة وحزم وامتثال، كما قال تعالى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأعراف:171] فالطور هو الجبل، كما فسره به في الأعراف ].
كلام المؤلف هذا صحيح؛ لأن الآيات تفسر بعضها بعضاً، فبنو إسرائيل عندهم عتو وعناد، فرفع الجبل فوق رؤسهم وأمروا بالسجود، فاضطروا إلى أن يسجدوا على شق والنظر من الشق الآخر؛ لئلا يسقط عليهم الجبل، فرحمهم الله.
قال المصنف رحمه الله تعالى: ثم بعد هذا الميثاق المؤكد العظيم توليتم عنه وانثنيتم ونقضتموه فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ [البقرة:64] أي: بتوبته عليكم وإرساله النبيين والمرسلين إليكم لَكُنتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [البقرة:64]بنقضكم ذلك الميثاق في الدنيا والآخرة ].
هذا فيه تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم، والواجب.
على كل إنسان أن يمتثل أمر الله عز وجل، وأن ينتهي عن نواهيه، وأن يعمل بما جاء في كتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ حتى يكون من المتقين والناجين يوم القيامة.
قال المصنف رحمه الله: [ يقول تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ [البقرة:65] يا معشر اليهود! ما أحل من البأس بأهل القرية التي عصت أمر الله وخالفوا عهده وميثاقه فيما أخذه عليهم من تعظيم السبت والقيام بأمره، إذ كان مشروعًا لهم، فتحيلوا على اصطياد الحيتان في يوم السبت بما وضعوا لها من الشصوص والحبائل والبرك قبل يوم السبت، فلما جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة، نشبت بتلك الحبائل والحيل، فلم تخلص منها يومها ذلك، فلما كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت، فلما فعلوا ذلك، مسخهم الله إلى صورة القردة، وهي أشبه شيء بالأناسي في الشكل الظاهر وليست بإنسان حقيقة.
فكذلك أعمال هؤلاء وحيلهم لما كانت مشابهة للحق في الظاهر ومخالفة له في الباطن، كان جزاؤهم من جنس عملهم ].
نسأل الله السلامة والعافية، فهذه حيلة تحيلوا بها على أمر الله، حيث حرم الله عليهم السبت ابتلاء وامتحاناً، وأباح لهم اصطياد الحوت في ستة أيام، من الأحد إلى الجمعة، وحرم صيد الحوت يوماً واحداً، ومن ابتلاء الله لهم أن الحيتان لا تأتي إلا يوم السبت، فتحيلوا ونصبوا الشباك يوم الجمعة، فتصيد الحوت يوم السبت، فيتركونها، ويأخذونها يوم الأحد، وقالوا: ما صدنا يوم السبت، وهذه حيلة من الحيل، ولهذا عاقبهم الله بهذه العقوبة الشديدة، حيث مسخهم قردة وخنازير، فجوزوا من جنس العمل، حيث أن عملهم في الظاهر سليم، لكن في الباطن حيلة، وكذلك مسخوا قردة تشبه الإنسان، لكنها في الواقع والحقيقة ليست كالإنسان، نسأل الله السلامة والعافية.
وقوله تعالى: لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا [البقرة:66] أي: من القرى، قال ابن عباس : يعني: جعلناها بما أحللنا بها من العقوبة عبرة لما حولها من القرى، كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأحقاف:27]، ومنه قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا [الرعد:41] الآية، على أحد الأقوال في المكان، كما قال محمد بن إسحاق ، عن داود بن الحصين، عن عكرمة ، عن ابن عباس : لما بين يديها من القرى، وما خلفها من القرى، وكذا قال سعيد بن جبير : لما بين يديها وما خلفها، قال: من بحضرتها من الناس يومئذ.
وروي عن إسماعيل بن أبي خالد وقتادة وعطية العوفي فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا [البقرة:66] قال: ما قبلها من الماضين في شأن السبت، وقال أبو العالية والربيع وعطية: وما خلفها لما بقي بعدهم من الناس بني إسرائيل أن يعملوا مثل عملهم، وكان هؤلاء يقولون: المراد لما بين يديها وما خلفها في الزمان. وهذا مستقيم بالنسبة إلى من يأتي بعدهم من الناس، أن تكون أهل تلك القرية عبرة لهم، وأما بالنسبة إلى من سلف قبلهم من الناس فكيف يصح هذا الكلام أن تفسر الآية به، وهو أن يكون عبرة لمن سبقهم؟ وهذا لعل أحداً من الناس لا يقوله بعد تصوره، فتعين أن المراد بما بين يديها وما خلفها في المكان، وهو ما حولها من القرى، كما قاله ابن عباس وسعيد بن جبير، والله أعلم.
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية : فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا [البقرة:66] أي عقوبة لما خلا من ذنوبهم.
وقال ابن أبي حاتم : وروي عن عكرمة ومجاهد والسدي والفراء وابن عطية : لما بين يديها من ذنوب القوم، وما خلفها لمن يعمل بعدها مثل تلك الذنوب، وحكى الرازي ثلاثة أقوال: أحدها: أن المراد بما بين يديها وما خلفها، من تقدمها من القرى بما عندهم من العلم بخبرها بالكتب المتقدمة ومن بعدها.
والثاني: المراد بذلك من بحضرتها من القرى والأمم.
والثالث: أنه تعالى جعلها عقوبة لجميع ما ارتكبوه من قبل هذا الفعل وما بعده، وهو قول الحسن .
قلت: وأرجح الأقوال المراد بما بين يديها وما خلفها: من بحضرتها من القرى يبلغهم خبرها وما حل بها، كما قال تعالى:: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى [الأحقاف:27] الآية.
وقال تعالى: وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ [الرعد:31]الآية.
وقال تعالى: أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا [الأنبياء:44] فجعلهم عبرة ونكالاً لمن في زمانهم، وموعظة لمن يأتي بعدهم بالخبر المتواتر عنهم، ولهذا قال: وموعظة للمتقين].
هذا هو الأرجح، وهو أنه جعل هذه القرية عبرة وعظة للقرى التي أمامها والتي خلفها في زمانها، وموعظة لمن يأتي بعدها من الأمم؛ فهي عظة وعبرة للحاضرين وللذين يأتون بعد ذلك.
قال المصنف رحمه الله تعالى: وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:66] قال محمد بن إسحاق : عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس : وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:66] الذين من بعدهم إلى يوم القيامة.
وقال الحسن وقتادة وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:66] بعدهم فيتقون نقمة الله ويحذرونها.
وقال السدي وعطية العوفي وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:66] قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
قلت: المراد بالموعظة هاهنا الزاجر، أي: جعلنا ما أحللنا بهؤلاء من البأس والنكال في مقابلة ما ارتكبوه من محارم الله، وما تحيلوا به من الحيل، فليحذر المتقون صنيعهم؛ لئلا يصيبهم ما أصابهم، كما قال الإمام أبو عبد الله بن بطة : حدثنا أحمد بن محمد بن مسلم ، حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني ، حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا محمد بن عمر ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل) وهذا إسناد جيد، وأحمد بن محمد بن مسلم هذا، وثقة الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي ، وباقي رجاله مشهورون على شرط الصحيح، والله أعلم ].
لا شك أن هذه الآية فيها العظة والعبرة، وفيها التحذير من الحيل، وأن من تحيل يخشى عليه العقوبة العاجلة، وبعض الناس يتحيلون على الربا، ومن التحيل على الربا: قلب الدين على المعسر، كأن يكون لإنسان دين على شخص، فإذا حل الدين قال له: أعطني ديني. فيقول الآخر: ليس عندي. فيقول له: أبيعك شيء آخر، كأن أبيعك سيارة تقدر بثلاثين ألف، لكن بأربعين مؤجلة، فإذا باع السيارة منه، قال له: بعها الآن علي وأوفني الدين الأول، فيبيعه ويوفه الدين الأول، ويبقى عليه الدين الثاني مضاعف، فهذه حيلة، وهي من قلب الدين على المعسر، إذ أن البائع لا يستطيع أن يزيد الدين صراحة، فعمد إلى الحيلة، فباع له سيارة بيعاً صورياً ويبيعها في الحال، ويوفيه عن الدين الأول، ويبقى عليه الدين الثاني مع الزيادة، نسأل الله السلامة والعافية.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر