قال المصنف رحمه الله: [ يقول تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أي: لليهود وأمثالهم من أهل الكتاب آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ على محمد صلى الله عليه وسلم وصدقوه واتبعوه قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا أي: يكفينا الإيمان بما أنزل علينا من التوراة والإنجيل ولا نقر إلا بذلك وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ يعني: بما بعده وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ أي: وهم يعلمون أن ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (الحق مصدقاً لما معهم) منصوباً على الحال، أي: في حال تصديقه لما معهم من التوراة والإنجيل، فالحجة قائمة عليهم بذلك، كما قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146]، ثم قال تعالى: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:91]
أي: إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بما أنزل إليكم، فلم قتلتم الأنبياء الذين جاءوكم بتصديق التوراة التي بأيديكم والحكم بها وعدم نسخها، وأنتم تعلمون صدقهم؟ قتلتموهم بغياً وعناداً واستكباراً على رسل الله، فلستم تتبعون إلا مجرد الأهواء والآراء والتشهي، كما قال تعالى: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة:87].
وقال السدي في هذه الآية: يعيرهم الله تبارك وتعالى: قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:91].
وقال أبو جعفر بن جرير : قل يا محمد! ليهود بني إسرائيل إذا قلت لهم آمنوا بما أنزل الله، قالوا نؤمن بما أنزل علينا لم تقتلون -إن كنتم مؤمنين بما أنزل الله- أنبياء الله يا معشر اليهود! وقد حرم الله في الكتاب الذي أنزل عليكم قتلهم، بل أمركم باتباعهم وطاعتهم وتصديقهم؛ وذلك من الله تكذيب لهم في قوله: نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا [البقرة:91] وتعيير لهم].
أي: بالآيات الواضحات والدلائل القاطعات على أنه رسول الله، وأنه لا إله إلا الله، والآيات البينات: هي الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والعصا، واليد، وفرق البحر، وتظليلهم بالغمام، والمن والسلوى، والحجر، وغير ذلك من الآيات التي شاهدوها: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ [البقرة:51] أي: معبوداً من دون الله في زمان موسى وأيامه.
وقوله مِنْ بَعْدِهِ [البقرة:51] أي: من بعد ما ذهب عنكم إلى الطور لمناجاة الله عز وجل، كما قال تعالى: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ [الأعراف:148]، وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ [البقرة:51] أي: وأنتم ظالمون في هذا الصنيع الذي صنعتموه من عبادتكم العجل وأنتم تعلمون أنه لا إله إلا الله، كما قال تعالى: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:149] ].
بالنسبة لآية الحجر عندما ضربه موسى بعصاه.
اتخذ بني إسرائيل العجل من الحلي، أي: من ذهب آل فرعون، فصنع السامري من هذا الحلي عجلاً له خوار، يعني: له صوت حين تدخل الريح من فمه وتخرج من دبره، وأمرهم أن يسجدوا له، فعبدوه من دون الله، وقد كانوا عقلاء لكن الله أعمى بصائرهم، وكان بينهم نبيهم هارون، لكنهم استضعفوه وكادوا يقتلونه، ولما نهاهم عن ذلك قالوا: قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى [طه:91].
ولما رجع موسى ووجدهم يعبدون العجل غضب غضباً شديداً، فقال هارون عليه السلام: قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأعراف:150].
وكيف يصلح للذي لا يتكلم ولا يرد الجواب، ولا يأخذ ولا يعطي، ولا يهدي سبيلاً أن يكون إلهاً؟! ثم بعد ذلك لما جاءهم موسى وأنكر عليهم، وحرق العجل وهم ينظرون، سقط من أيديهم وعلموا أنهم قد ضلوا: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:149].
قال المصنف رحمه الله: [ يعدد سبحانه وتعالى عليهم خطأهم، ومخالفتهم للميثاق، وعتوهم وإعراضهم عنه، حتى رفع الطور عليهم حتى قبلوه ثم خالفوه، ولهذا قالوا: قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا [البقرة:93].
وقد تقدم تفسير ذلك: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ [البقرة:93].
قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة : وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ [البقرة:93] قال: أشربوا حبه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم، وكذا قال أبو العالية والربيع بن أنس .
وقال الإمام أحمد: حدثنا عصام بن خالد حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني عن خالد بن محمد الثقفي عن بلال بن أبي الدرداء عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حبك الشيء يعمي ويصم)، ورواه أبو داود عن حيوة بن شريح عن بقية عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم به ].
وهذا الحديث بسنديه ضعيف، فالسند الأول فيه أبو بكر بن أبي مريم ، والثاني فيه أيضاً أبو بكر بن أبي مريم ، وفيه أيضاً بقية بن وليد ، وهو مدلس وقد عنعن، ولكن المعنى صحيح.
ومعنى حبك الشيء يعمي ويصم، أي: يعمي عن نظر الحق، ويصم عن سماعه ويبكم عن التكلم به، وفي الغالب أنه إذا ضعف الإيمان فإن حب الإنسان للشيء يعميه عن الحق، فلا يراه واضحاً، ويصمه فلا يسمعه، ويبكمه فلا يتكلم به.
وهؤلاء -والعياذ بالله- أشربوا في قلوبهم حب العجل، فهم رأوا السامري وقد أخذ الذهب الذي جاءوا به من مصر فعجنه بيده وجعله على صورة عجل، ثم عبده من دون الله وقال لهم: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طه:88]، ثم تابعوه وعبدوا العجل من دون الله، فإذا عميت البصائر فلا حيلة، وإلا كيف يكونون عقلاء وهم يشاهدون عجلاً مصنوعاً من ذهب أتوا به معهم، ثم يعبدونه إلهاً؟! فحبك الشيء يعمي ويصم، ولهذا قال تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [البقرة:93] يعني: حب العجل على تقدير حذف المضاف، وهذا أسلوب عربي معروف، فالقرآن نزل بلغة العرب.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال السدي : أخذ موسى عليه الصلاة والسلام العجل فذبحه بالمبرد، ثم ذراه في البحر، ثم لم يبق بحر يجري يومئذ إلا وقع فيه شيء، ثم قال لهم موسى: اشربوا منه، فشربوا، فمن كان يحبه خرج على شاربيه الذهب، فذلك حين يقول الله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [البقرة:93].
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمارة بن عمير وأبي عبد الرحمن السلمي ].
ظاهر سند هذا الحديث أنه لا بأس به، لكن هذه الأخبار من أخبار بني إسرائيل، فلا تصدق ولا تكذب، ولا شك أن موسى عليه السلام حرق العجل وذراه في البحر، وهذا ما نص الله عليه في كتابه، قال تعالى: وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا [طه:97].
عمارة بن عمير لم يسمع من علي ، لكنه مقرون بـأبي عبد الرحمن السلمي وهو عبد الله بن حبيب وقد سمع من علي ، والحديث رجاله رجال الصحيح، لكن أبا إسحاق مدلس ولم يصرح بالتحديث، وهذا والذي قبله من كلام السدي لا يعتمد عليهما؛ لاحتمال أن القصة من قصص بني إسرائيل.
وعلى كل حال فالسند لا بأس به، لكن هذا من أخبار بني إسرائيل.
قال: [ عن علي رضي الله عنه قال: عمد موسى إلى العجل فوضع عليه المبارد، فبرده بها وهو على شاطئ نهر، فما شرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب.
وقال سعيد بن جبير : وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [البقرة:93] قال: لما أحرق العجل برد ثم نسف، فحسوا الماء حتى عانت وجوههم كالزعفران.
وحكى القرطبي عن كتاب القشيري : أنه ما شرب أحد منه ممن عبد العجل إلا جن.
ثم قال القرطبي: وهذا شيء غير ما هاهنا؛ لأن المقصود من هذا السياق أنه ظهر على شفاههم وجوههم، والمذكور هاهنا أنهم أشربوا في قلوبهم العجل، يعني: في حال عبادتهم له، ثم أنشد قول النابغة في زوجته عثمة :
تغلغل حب عثمة في فؤادي فباديه مع الخافي يسير
تغلغل حيث لم يبلغ شراب ولا حزن ولم يبلغ سرور
تكاد إذا ذكرت العهد منها أطير لو أن إنساناً يطير
وقوله: قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:93].
أي: بئسما تعتمدونه في قديم الدهر وحديثه من كفركم بآيات الله ومخالفتكم الأنبياء، ثم اعتمادكم في كفركم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا أكبر ذنوبكم وأشد الأمور عليكم، إذ كفرتم بخاتم الرسل، وسيد الأنبياء والمرسلين المبعوث إلى الناس أجمعين، فكيف تدعون لأنفسكم الإيمان وقد فعلتم هذه الأفاعيل القبيحة من نقضكم المواثيق وكفركم بآيات الله وعبادتكم العجل من دون الله ].
المقصود من هذا تحذير هذه الأمة من أن تسلك مسلك بني إسرائيل فيصيبهم ما أصابهم، فالله تعالى أخذ عليهم الميثاق أن يعملوا بالتوراة ويتابعوا موسى عليه الصلاة والسلام، ورفع فوقهم جبل الطور حتى يقبلوا فقبلوا ثم خالفوا؛ لعتوهم وعنادهم، والله تعالى قص علينا أخطاءهم لنحذرها؛ لأن أفعال اليهود أفعال شنيعة وأفعال قبيحة؛ فقد خالفوا الرسل، وقتلوا الأنبياء، وخالفوا أوامر الله، فالواجب على الأمة الإسلامية أن تسابق إلى الخيرات وأن تعمل الصالحات، وواجب على كل مسلم أن يؤمن بالله ورسوله وباليوم الآخر، وأن يحكم الكتاب والسنة، وأن يعمل بكتاب ربه وسنة نبيه، وألا يتشبه باليهود ومن سلك سبيلهم في مخالفة الأنبياء ومخالفة الأوامر والعناد.
قال المصنف رحمه الله: [ قال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما: يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:94]، أي: ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب، فأبوا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [البقرة:95] أي: بعلمهم بما عندهم من العلم، بل والكفر بذلك ولو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على الأرض يهودي إلا مات ].
يعني: لا يتمنوه بسبب ما عندهم من العلم بأنهم على الباطل، وهم يعلمون أنهم على الباطل فلا يتمنون الموت؛ لأنهم إذا تمنوا الموت ضاعت عليهم الدنيا، وهم يعلمون أنهم هالكون في الآخرة، فهم مريدون الدنيا الآن؛ لأنها هي التي لهم الآن، فإذا تمنوا الموت خسروا الدنيا مع الآخرة، فلم يتمنوا الموت.
وكذلك المباهلة وهي الدعاء بالموت على الكاذب منا أو منكم، والمباهلة تعجل بالعقوبة على الكاذب، ولهذا امتنع نصارى نجران لما باهلهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يعلمون أنهم على الباطل، وهؤلاء اليهود امتنعوا كذلك.
وابن عباس طلب المباهلة في بعض المسائل الخلافية.
أيضاً كذلك ورد عن عمر وبلال في مسائل المباهلة، وأن عمر قال: اللهم اكفني بلالاً وذويه، كأنه إما مباهلة أو قريب من المباهلة، وابن عباس كان أيضاً يقول: من يباهلني في بعض المسائل الخلافية، إذا اشتد النزاع بينه وبين خصمه، وتأكد أنه على الحق، وأن خصمه على الباطل، لكن الواجب في المسائل الخلافية الرجوع إلى الكتاب والسنة، والمسلمون يرجعون إلى الكتاب والسنة، قال الله تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:59]، ولكن قد يتعصب بعض الناس وقد يشتد النزاع، وقد يكون الفريق الآخر مبتدع.
والمباهلة كانت معروفة في الجاهلية، وأنهم ماتوا عن آخرهم ولم يبق منهم أحد، وما دار عليهم الحول إلا ولم يبق منهم عين تطرف، لأنهم باهلوا.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال الضحاك عن ابن عباس : فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ [البقرة:94] فسلوا الموت، وقال عبد الرزاق عن معمر عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة قوله: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:94].
قال: قال ابن عباس : لو تمنى يهود الموت لماتوا.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا عثام : سمعت الأعمش قال: لا أظنه إلا عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه، وهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس رضي الله عنهما.
وقال ابن جرير في تفسيره: وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلاً ولا مالاً)، حدثنا بذلك أبو كريب حدثنا زكريا بن عدي حدثنا عبيد الله بن عمرو عن عبد الكريم عن عكرمة عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورواه الإمام أحمد عن إسماعيل بن يزيد الرقي حدثنا فرات عن عبد الكريم به ].
وهذا ثابت عن ابن عباس قد قاله في المباهلة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن أحمد حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن بشار حدثنا سرور بن المغيرة عن عباد بن منصور عن الحسن قال: قول الله: ما كانوا ليتمنوه بما قدمت أيديهم.
قلت: أرأيتك لو أنهم أحبوا الموت حين قيل لهم تمنوا الموت أتراهم كانوا ميتين؟ قال: لا والله ما كانوا ليموتوا ولو تمنوا الموت، وما كانوا ليتمنوه، وقد قال الله ما سمعت: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [البقرة:95]، وهذا غريب عن الحسن ].
هذا غريب وضعيف عن الحسن ، والصواب الأول، وهو ما ثبت عن ابن عباس ، أن هذا كان في المباهلة، وأنهم لو تمنوا الموت لماتوا.
وقد تكلم بعضهم على سند الحسن البصري بسبب الانقطاع.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ثم هذا الذي فسر به ابن عباس الآية هو المتعين، وهو الدعاء على أي الفريقين، أكذب منهم أو من المسلمين على وجه المباهلة ].
وقد وقعت المباهلة أيضاً مع نصارى نجران، وهي المذكورة في قوله تعالى: فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران:61] والمباهلة: هي الدعاء بالهلاك على أي من الفريقين إن كان كاذباً.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ونقله ابن جرير عن قتادة وأبي العالية والربيع بن أنس رحمهم الله تعالى.
ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة الجمعة: قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجمعة:6-8].
فهم عليهم لعائن الله تعالى لما زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:111]، دعوا إلى المباهلة والدعاء على أكذب الطائفتين منهم أو من المسلمين، فلما نكلوا عن ذلك علم كل أحد أنهم ظالمون؛ لأنهم لو كانوا جازمين بما هم فيه لكانوا أقدموا على ذلك، فلما تأخروا علم كذبهم، وهذا كما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نجران من النصارى بعد قيام الحجة عليهم في المناظرة، وعتوهم وعنادهم إلى المباهلة، فقال تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران:61].
فلما رأوا ذلك قال بعض القوم لبعض: والله لئن باهلتم هذا النبي لا يبقى منكم عين تطرف، فعند ذلك جنحوا للسلم، وبذلوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فضربها عليهم وبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح أميناً، ومثل هذا المعنى أو قريب منه قول الله تعالى لنبيه أن يقول للمشركين: قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا [مريم:75] أي: من كان في الضلالة منا ومنكم فزاده الله مما هو فيه، ومد له واستدرجه كما سيأتي تقريره في موضعه إن شاء الله تعالى ].
إن رسول الله لما أراد أن يبعث معهم أميناً حق أمين، استشرف الناس لها ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه أميناً، وهذا من مناقبه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأما من فسر الآية على معنى: إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الجمعة:6]، أي: في دعواكم فتمنوا الآن الموت، ولم يتعرض هؤلاء للمباهلة كما قرره طائفة من المتكلمين وغيرهم، ومال إليه ابن جرير بعدما قارب القول الأول، فإنه قال: القول في تأويل قوله تعالى: قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ.. [البقرة:94] الآية، فهذه الآية مما احتج الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم على اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره، وفضح بها أحبارهم وعلماءهم؛ وذلك أن الله تعالى أمر نبيه أن يدعوهم إلى قضية عادلة فيما كان بينه وبينهم من الخلاف، كما أمره أن يدعو الفريق الآخر من النصارى إذا خالفوه في عيسى بن مريم عليه السلام، وجادلوه فيه إلى فاصلة بينه وبينهم من المباهلة، فقال للفريق اليهودي: إن كنتم محقين فتمنوا الموت، فإن ذلك غير ضاركم إن كنتم محقين فيما تدعون من الإيمان وقرب المنزلة من الله لكم لكي يعطيكم أمنيتكم من الموت إذا تمنيتم، فإنما تصيرون إلى الراحة من تعب الدنيا ونصبها وكدر عيشها والفوز بجوار الله في جناته إن كان الأمر كما تزعمون من أن الدار الآخرة لكم خالصة دوننا، وإن لم تعطوها علم الناس أنكم المبطلون ونحن المحقون في دعوانا، وانكشف أمرنا وأمركم لهم، فامتنعت اليهود من الإجابة إلى ذلك؛ لعلمها أنها إن تمنت الموت هلكت فذهبت دنياها، وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها، كما امتنع فريق النصارى الذين جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في عيسى إذ دعوا للمباهلة من المباهلة.
فهذا الكلام منه أوله حسن وآخره فيه نظر؛ وذلك أنه لا تظهر الحجة عليهم على هذا التأويل، إذ يقال: إنه لا يلزم من كونهم يعتقدون أنهم صادقون في دعواهم أنهم يتمنون الموت، فإنه لا ملازمة بين وجود الصلاح وتمني الموت، وكم من صالح لا يتمنى الموت، بل يود أن يعمر ليزداد خيراً وترتفع درجته في الجنة كما جاء في الحديث: (خيركم من طال عمره وحسن عمله) ].
هذا الحديث فيه ضعف، ولكن له شواهد حسنة، ومن شواهده: حديث: (لا يتمنى أحدكم الموت، فإن عمر المؤمن لا يزيده إلا خيراً) وهو ثابت في صحيح مسلم .
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ولهم مع ذلك أن يقولوا على هذا، فها أنتم تعتقدون أيها المسلمون أنكم أصحاب الجنة، وأنتم لا تتمنون في حال الصحة الموت، فكيف تلزموننا بما لا يلزمكم؟
وهذا كله إنما نشأ من تفسير الآية على هذا المعنى، فأما على تفسير ابن عباس : فلا يلزم عليه شيء من ذلك، بل قيل لهم كلام نصف ].
ومعنى: (كلام نصف)، يعني: قيل كلام عدل وإنصاف.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ إن كنتم تعتقدون أنكم أولياء الله من دون الناس، وأنكم أبناء الله وأحباؤه، وأنكم من أهل الجنة، ومن عداكم من أهل النار، فباهلوا على ذلك، وادعوا على الكاذبين منكم أو من غيركم، واعلموا أن المباهلة تستأصل الكاذب لا محالة، فلما تيقنوا ذلك وعرفوا صدقه نكلوا عن المباهلة لما يعلمون من كذبهم وافترائهم وكتمانهم الحق من صفة الرسول صلى الله عليه وسلم ونعته، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ويتحققونه ].
ومعنى: (نكلوا)، يعني: امتنعوا عن المباهلة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فعلم كل أحد باطلهم وخزيهم وضلالهم وعنادهم، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.
وسميت هذه المباهلة تمنياً؛ لأن كل محق يود لو أهلك الله المبطل المناظر له، ولاسيما إذا كان في ذلك حجة له في بيان حقه وظهوره.
وكانت المباهلة بالموت؛ لأن الحياة عندهم عزيزة عظيمة لما يعلمون من سوء مآلهم بعد الموت، ولهذا قال تعالى: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:95-96]، أي: على طول العمر، لما يعلمون من مآلهم السيئ وعاقبتهم عند الله الخاسرة؛ لأن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر.
فهم يودون لو تأخروا عن مقام الآخرة بكل ما أمكنهم، وما يحاذرون منه واقع بهم لا محالة، حتى وهم أحرص من المشركين الذين لا كتاب لهم، وهذا من باب عطف الخاص على العام.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا [البقرة:96] قال: الأعاجم، وكذا رواه الحاكم في مستدركه من حديث الثوري وقال: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه.
قال: وقد اتفقا على سند تفسير الصحابي، وقال الحسن البصري : وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ قال: المنافق أحرص الناس وأحرص من المشرك على حياة، يَوَدُّ أَحَدُهُمْ [البقرة:96]أي: يود أحد اليهود كما يدل عليه نظم السياق.
وقال أبو العالية : يَوَدُّ أَحَدُهُمْ أي: أحد المجوس، وهو يرجع إلى الأول لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ .
قال الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ قال : هو كقول الفارسي: (ده هزار سال) يقول: عشرة آلاف سنة، وكذا روي عن سعيد بن جبير نفسه أيضاً.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق سمعت أبي يقول: حدثنا أبو حمزة عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ قال: (هو قول الأعاجم هزار سال نوروز ومهجرانت.
وقال مجاهد : يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ، قال: حببت إليهم الخطيئة طول العمر.
وقال مجاهد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ [البقرة:96] أي: وما هو بمنجيه من العذاب؛ وذلك أن المشرك لا يرجو بعثاً بعد الموت، فهو يحب طول الحياة، وأن اليهودي قد عرف ما له في الآخرة من الخزي بما ضيع ما عنده من العلم.
وقال العوفي عن ابن عباس : وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ قال: هم الذين عادوا جبرائيل.
قال أبو العالية وابن عمر : فما ذاك بمغيثه من العذاب، ولا منجيه منه وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذه الآية : يهود أحرص على الحياة من هؤلاء، وقد ود هؤلاء لو يعمر أحدهم ألف سنة، وليس ذلك بمزحزحه من العذاب لو عمر كما عمر إبليس لم ينفعه إذ كان كافراً.
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [البقرة:96] أي: خبير بصير بما يعمل عباده من خير وشر وسيجازي كل عامل بعمله ].
وفي هذه الآية بيان لمحبة اليهود البقاء في الدنيا، وأنهم أحرص الناس على البقاء فيها، حتى إنهم أحرص من الوثنيين الذين أشركوا، الأعاجم منهم وغير الأعاجم: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وهو لو عمر ألف سنة فليس ذلك بنافعه، ولا بمنجيه من عذاب الله، وما يحذره لابد أن يقع عليه، نسأل الله السلامة والعافية.
وقول الأعاجم في تمنيهم طول العمر: (هزار سال نوروزو مهرجان) انتقل بعضه إلى المسلمين، فنجد الآن بعض الاحتفالات يسمونها مهرجانات، والاحتفال يسمونه مهرجاناً، وهذه العبارة من قول الأعاجم في قولهم: موروز ومهرجان، وهذا الاسم عند المجوس، فأعيادهم يسمونها مهرجانات، فهذه التسمية دخيلة على المسلمين، ولو كانت كلمة عربية فلا ينبغي مشابهة المجوس في إطلاقاتهم، فكيف وهي غير عربية، بل معناها يشمل احتفالات المجوس وأعيادهم، ثم انتقلت إلينا هذه التسمية من طوائف من المشركين، نسأل الله العافية، وكم من الأشياء التي دخلت علينا من غيرنا، فنسأل الله أن يصلح الحال.
والمباهلة لا توجد لها شروط إذا اعتقد الإنسان أنه على الحق، ولم يَقْنَعْ بما عنده من حق خصمة، ورأى أن المباهلة فيها إظهار للحق وإظهار للحجة؛ لاسيما إذا كان الخصم كافراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر