قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ واتل على قومك هؤلاء الذين يعبدون الأصنام، واذكر لهم ما كان من خبر إبراهيم خليل الرحمن الذين هم من ذريته، ويدعون أنهم على ملته وهو كان صديقاً نبياً مع أبيه كيف نهاه عن عبادة الأصنام، فقال: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا [مريم:42] أي: لا ينفعك ولا يدفع عنك ضرراً ].
هذا وصف الأصنام: كلها لا تسمع ولا تبصر، فهي لا تسمع من دعاها، ولا تبصر أيضاً من دعاها، ولا تغني عنهم من الله شيئاً، وكذلك المخلوقات كلها، حتى الأحياء منها وإن كان يسمع ويبصر، لكن لا يغني من الله شيئاً، ما يغني إلا العمل الصالح.
قال: [ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ [مريم:43] يقول: وإن كنت من صلبك وتراني أصغر منك لأني ولدك، فاعلم أني قد اطلعت من العلم من الله ما لم تعلمه أنت ولا اطلعت عليه، ولا جاءك بعد: فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا [مريم:43] أي: طريقاً مستقيماً موصلاً إلى نيل المطلوب والنجاة من المرهوب.
يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ [مريم:44] أي: لا تطعه في عبادتك هذه الأصنام فإنه هو الداعي إلى ذلك والراضي به كما قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ [يس:60] وقال: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا [النساء:117].
وقوله: إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا [مريم:44]، أي: مخالفاً مستكبراً عن طاعة ربه فطرده وأبعده، فلا تتبعه تصر مثله، يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ [مريم:45]، أي: على شركك وعصيانك لما أمرك به فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا [مريم:45]، يعني: فلا يكون لك مولى ولا ناصراً ولا مغيثاً إلا إبليس، وليس إليه ولا إلى غيره من الأمر شيء، بل اتباعك له موجب لإحاطة العذاب بك، كما قال تعالى: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل:63] ].
وهذه نصائح عظيمة، ولو عمل بها الأب لحصل على خيري الدنيا والآخرة، وهذه النصيحة التي وجهت من إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأبيه آزار هي نصيحة لكل كافر، فكل كافر وكل عاص عليه أن يتقي الله وأن يعمل بهذه النصيحة، قال تعالى: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا [مريم:42-45]، هذه نصائح وتوجيهات عظيمة موجهة لكل كافر وكل عاصٍ أيضاً، ومن اتبع هواه لا بد أن يكون قد أطاع الشيطان في ما عصى الله.
وقوله: وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا : قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير ومحمد بن إسحاق: يعني دهرًا.
وقال الحسن البصري: زمانًا طويلا.
وقال السدي : وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قال: أبدًا.
وقال علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس: وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قال: سويًّا سالمًا، قبل أن تصيبك مني عقوبة. وكذا قال الضحاك وقتادة وعطية الجدلي وأبو مالك وغيرهم واختاره ابن جرير.
فعندها قال إبراهيم لأبيه: سَلامٌ عَلَيْكَ كما قال تعالى في صفة المؤمنين: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان:63]، وقال تعالى: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص:55] ومعنى قول إبراهيم لأبيه: سَلامٌ عَلَيْكَ يعني: أما أنا فلا ينالك مني مكروه ولا أذى، وذلك لحرمة الأبوة، سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي أي: ولكن سأسأل الله تعالى فيك أن يهديك ويغفر ذنبك، إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا قال ابن عباس وغيره: لطيفًا، أي: في أن هداني لعبادته والإخلاص له ].
يعني: أن الأب قال له: إنه سيسبه إن لم ينته عن آلهته وعن سبها بالرجم يعني: السب وهو الاقتصاص منه وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا يعني: مدة طويلة، فإبراهيم عليه السلام قال لن أقابلك بالمثل، بل قال: سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ، لن أقابلك بالمثل، لن أقابل السب بالسب، ولكني لحرمة الأبوة سأستغفر لك ربي.
وهذا فيه دليل على أنه ينبغي التلطف مع الأب ولو كان كافراً؛ لأن الأب له حق عظيم ويدعى الوالدان الكافران إلى الإسلام ويتلطف معهما ويحسن إليهما في الدنيا، كما قال الله تعالى في الوالدين: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا ثم قال: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ [لقمان:15]، يصاحب بالكلام الطيب، ينفق عليه إذا كان محتاجاً إلى النفقة والطعام والكسوة، والإحسان بالقول، ولكن لا يحبه محبةً في دينه ولا يوافقه على الشرك وعلى المعاصي.
فإذا قيل: هل يجوز أن يسكن المسلم مع من يترك الصلاة أو يعمل المعاصي من أقربائه؟
فالجواب: يدعوهم إذا كان يستطيع أن يدعوهم ويؤثر عليهم وإلا فعليه أن يزورهم فترات ويدعوهم، أما إذا كان يتأثر أو لا يستطيع أن يدعوهم فلا يسكن معهم لئلا يفتن في دينه، ولكن يحسن إليهم إحساناً دنيوياً، وإذا كان يستطيع أن يدعوهم ويؤثر عليهم فهذا طيب.
قال: [ وقال مجاهد وقتادة وغيرهما: إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا قال: وعَوّدَه الإجابة.
وقال السدي: الحفي: الذي يَهْتَم بأمره، وقد استغفر إبراهيم لأبيه مدة طويلة، وبعد أن هاجر إلى الشام وبنى المسجد الحرام، وبعد أن ولد له إسماعيل وإسحاق عليهما السلام في قوله: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم:41].
وقد استغفر المسلمون لقراباتهم وأهليهم من المشركين في ابتداء الإسلام، وذلك اقتداء بإبراهيم الخليل في ذلك حتى أنزل الله تعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [الممتحنة:4] ، يعني: إلا في هذا القول، فلا تتأسوا به ].
والمعنى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الممتحنة:4] في البراءة من الكفار والبراءة من معبوداتهم، إلا في استغفاره لأبيه فلا تتأسوا به ولا تقتدوا به، فليس لكم أن تستغفروا للكفار.
وقال تعالى في الآية الأخرى: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:114]، المعنى: تأسوا بإبراهيم فهو أسوة لكم في البراءة من الكفار ومن معبوداتهم وإبداء العداوة والبغضاء إلا في الاستغفار لأبيه فلا تقتدوا به ولا تتأسوا به؛ لأنه لا يجوز الاستغفار للكفار، وأما استغفار إبراهيم لأبيه فهذا كما قال الله: كان عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، ولما دعا النبي صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب إلى الإسلام لما حضرته الوفاة وحرص على هدايته، لكن الله لم يقدر له الهداية ومات على الشرك، قال النبي صلى الله عليه وسلم (لأستغفرن لك مالم أنه عنك) فأنزل الله هذه الآية: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113].
وثبت في مسند الإمام أحمد رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم (زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله وقال: إني سألت ربي أن أزور قبر أمي فأذن لي، وسألته أن أستغفر لها فلم يأذن لي)؛ لأنها ماتت على دين قومها فمن مات على دين الجاهلية أو مات على الكفر لا يدعى له ولا يتصدق عنه ولا يحج عنه ولا يترحم عليه.
ومن مات من أهل الفترة مات على دين قومه لا يستغفر له والله أعلم، كذلك من قامت عليه الحجة، فأهل الفترة بعضهم قامت عليه الحجة، وبلغتهم دعوة إبراهيم فهذا مثلما جاء في الحديث: (إن أبي وأباك في النار)، ومثل ابن جدعان كان له جفنة كبيرة يطعم بها الحجاج قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: هل ينفعه ذلك؟ قال: (لا، إنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين) أي: إنه لم يؤمن بالبعث، وظاهر هذا أنه بلغتهم الدعوة، وأما من لم تبلغهم الدعوة فمسكوت عنهم، لكن من مات على الشرك ومات على دين قومه لا يدعى له، ويكون حكمه والله أعلم إن قامت عليه الحجة حكم المشركين، وإن كان لم تقم عليه الحجة فله امتحان يوم القيامة، كما جاء في بعض الأحاديث، فقد ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وجماعة من أهل العلم إلى أن أهل الفترات من لم تبلغهم الدعوة يمتحنون يوم القيامة ويخرج لهم عنق من النار، فمن أجاب دخل الجنة، ومن عصى دخل النار، وجاء في هذا أحاديث فيها ضعفة، لكن مجموعها يشد بعضها بعضاً.
قال: [ يعني: إلا في هذا القول فلا تتأسوا به، ثم بين تعالى أن إبراهيم أقلع عن ذلك، ورجع عنه، فقال تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة:113] إلى قوله: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:114].
وقوله: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي [مريم:48]، أي: أجتنبكم وأتبرأ منكم ومن آلهتكم التي تعبدونها من دون الله .
وَأَدْعُو رَبِّي أي: وأعبد ربي وحده لا شريك له، عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا [مريم:48]، وعسى هذه موجبة لا محالة، فإنه عليه السلام سيد الأنبياء بعد محمد صلى الله عليه سلم ].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يقول تعالى: فلما اعتزل الخليل أباه وقومه في الله أبدله الله من هو خير منهم، ووهب له إسحاق ويعقوب، يعني ابنه وابن إسحاق ].
يعني: ابنه وابن ابنه إسحاق، وهذا الاعتزال إنما كان من بعد الدعوة، بعد أن دعاهم وكرر الدعوة، بدأ وأعاد ورأى أنه لا فائدة من دعواهم حتى وعده أبوه بأن يرجمه إن لم ينته تركهم واعتزلهم، فلما اعتزلهم عوضه الله خيراً منهم ورزقه الله أبناء أنبياء، رزقه إسماعيل وهو نبي من سلالته نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو الأب الثاني وأبو العرب، ورزقه إسحاق وإسحاق نبي، وإسحاق رزق بيعقوب، ويعقوب هو إسرائيل ، وأنبياء بني إسرائيل كلهم من سلالة يعقوب.
قال: [ ووهب له إسحاق ويعقوب، يعني ابنه وابن إسحاق كما قال في الآية الأخرى: وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً [الأنبياء:72]، وقال: وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71].
ولا خلاف أن إسحاق والد يعقوب، وهو نص القرآن في سورة البقرة: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [البقرة:133] ولهذا إنما ذكر هاهنا إسحاق ويعقوب، أي: جعلنا له نسلاً وعقباً أنبياء، أقر الله بهم عينه في حياته ].
وجعل الله في ذريته النبوة والكتاب، كما قال سبحانه: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [العنكبوت:27] وكل نبي بعث بعد إبراهيم فهو من سلالته، وكل كتاب نزل من السماء بعد إبراهيم فهو على نبي من ذريته، وهذه منقبة عظيمة، وإبراهيم الخليل هو أبو الأنبياء ووالد الحنفاء، وأشرف بيت نسبي على الإطلاق هو بيت إبراهيم عليه السلام، ومن هذا البيت نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أي جعلنا له نسلاً وعقباً أنبياء، أقر الله بهم عينه في حياته، ولهذا قال: وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا [مريم:49]، فلو لم يكن يعقوب قد نبئ في حياة إبراهيم لما اقتصر عليه، ولذكر ولده يوسف فإنه نبي أيضاً كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته حين سئل عن خير الناس فقال: (يوسف نبي الله ابن يعقوب نبي الله ابن إسحاق نبي الله ابن إبراهيم خليل الله)، وفي اللفظ الآخر: (إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم) ].
هؤلاء أربعة أنبياء في نسق واحد عليهم السلام، فيوسف نبي وأبوه يعقوب نبي وجده إسحاق نبي، ووالد جده إبراهيم نبي أيضاً.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: يعني: الثناء الحسن، وكذا قال السدي ومالك بن أنس ].
فمعنى قوله تعالى: وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [مريم:50] أي: جعلنا لهم الثناء الحسن.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال ابن جرير : إنما قال (علياً) لأن جميع الملل والأديان يثنون عليهم ويمدحونهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ].
وقال المؤلف رحمه الله: [ لما ذكر تعالى إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام وأثنى عليه عطف بذكر الكليم صلى الله عليه وسلم فقال: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا [مريم:51]، قرأ بعضهم بكسر اللام من الإخلاص في العبادة ].
أي: مخِلصاً، وقراءة حفص مخلَصاً.
ومعنى القراءة الأولى أنه أخلص العبادة، والقراءة الثانية بمعنى أن الله أخلصه واصطفاه.
قال المؤلف رحمه الله: [ قال الثوري عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي لبابة قال: قال الحواريون: يا روح الله أخبرنا عن المخلص لله؟ قال: الذي يعمل لله لا يحب أن يحمده الناس.
وقرأ الآخرون بفتحها بمعنى أنه كان مصطفى كما قال تعالى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ [الأعراف:144]، وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم:51]، جمع الله له بين الوصفين فإنه كان من المرسلين الكبار أولي العزم الخمسة وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم وعلى سائر الأنبياء أجمعين.
وقوله: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ [مريم:52] أي: الجانب الأيمن من موسى حين ذهب يبتغي من تلك النار جذوة فرآها تلوح فقصدها فوجدها في جانب الطور الأيمن منه غربيه عند شاطئ الوادي فكلمه الله تعالى وناداه وقربه فناجاه.
روى ابن جرير : حدثنا ابن بشار حدثنا يحيى هو القطان حدثنا سفيان عن عطاء بن يسار عن سعيد بن جبير ] .
الصواب أنه عطاء بن السائب كما جاء في التهذيب .
قال المؤلف رحمه الله: [ روى ابن جرير : حدثنا ابن بشار حدثنا يحيى هو القطان حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا [مريم:52]، قال: أدني حتى سمع صريف الأقلام.
وهكذا قال مجاهد وأبو العالية وغيرهم: يعنون صريف القلم بكتابة التوراة، وقال السدي : وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا [مريم:52] قال: أدخل في السماء فكلم وعن مجاهد نحوه.
وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة : وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا [مريم:52]، قال : نجا بصدقه.
وروى ابن أبي حاتم : حدثنا عبد الجبار بن عاصم حدثنا محمد بن سلمة الحراني عن أبي واصل عن شهر بن حوشب عن عمرو بن معد يكرب قال : لما قرب الله موسى صلى الله عليه وسلم نجياً بطور سيناء، قال: يا موسى إذا خلقت لك قلباً شاكراً ولساناً ذاكراً، وزوجة تعين على الخير فلم أخزن عنك من الخير شيئا.
وقوله : وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا [مريم:53] أي: وأجبنا سؤاله وشفاعته في أخيه فجعلناه نبياً ].
يعني: كقوله في سورة طه: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي [طه:29-31]، فأجاب الله دعاءه وأرسل له هارون.
قال رحمه الله: [ وقوله: وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا [مريم:53] أي: وأجبنا سؤاله وشفاعته في أخيه، فجعلناه نبياً، كما قال في الآية الأخرى: وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ [القصص:34]، وقال: قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه:36]، وقال: فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ [الشعراء:13].
وقال: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه:36] وقال: فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [الشعراء:13-14].
ولهذا قال بعض السلف: ما شفع أحد في أحد شفاعة في الدنيا أعظم من شفاعة موسى في هارون أن يكون نبياً قال الله تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا [مريم:53].
قال ابن جرير : حدثنا يعقوب حدثنا ابن علية عن داود عن عكرمة قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما قوله: وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا [مريم:53]، قال: كان هارون أكبر من موسى ولكن أراد: وهب له نبوة ].
وهب مصدر والفعل منه يهب، ولذلك قال تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا [مريم:53].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد ذكره ابن أبي حاتم معلقاً عن يعقوب وهو ابن إبراهيم الدورقي به ].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر