حدثنا عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان الدمشقي حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا عبد الله بن العلاء -يعني: ابن جبر - حدثني يحيى بن أبي المطاع قال: سمعت العرباض بن سارية رضي الله عنه يقول: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فوعظنا موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقيل: يا رسول الله! وعظتنا موعظة مودع فاعهد إلينا بعهد، فقال: عليكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن عبداً حبشياً، وسترون من بعدي اختلافاً شديداً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم والأمور المحدثات، فإن كل بدعة ضلالة) ].
هذا حديث عظيم، يقول فيه العرباض بن سارية رضي الله عنه: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة) يعني: مؤثرة في القلوب؛ لأنها نفذت من القلب ووصلت إلى القلوب، ولهذا (وجلت منها القلوب) يعني: خافت، (وذرفت منها العيون) لأنها: حارة ومن القلب، فأثرت في القلوب الخوف وفي العيون الدمع.
(فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع، فاعهد إلينا) وفي لفظ: (فأوصنا) يعني: هذه الموعظة مؤثرة وحارة، ونفذت للقلوب فكأنك تودعنا يا رسول الله.
والعادة أن المودع عندما ينصح يأتي بأقصى ما عنده، فلما صارت هذه الموعظة بليغة ارتبكوا كأنها موعظة مودع، فقالوا: فماذا تعهد إلينا؟ قال: (عليكم بتقوى الله)، أوصى بتقوى الله التي أوصى الله بها، فوصية النبي صلى الله عليه وسلم هي وصية الله تعالى في قوله سبحانه: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131] أوصى الله عباده أن يتقوه، وهي وصية النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (عليكم بتقوى الله) وتقوى الله هي: توحيد الله وطاعته، وأداء الأوامر، وننتهي عن النواهي، والتقوى هي جماع الدين، وأصلها توحيد الله، وإخلاص الدين له، ثم أداء الواجبات وترك المحرمات، وإذا قرن البر بالتقوى فسر البر بأداء الأوامر، والتقوى باجتناب النواهي، وإذا ذكر أحدهما اشتمل الأمرين.
(عليكم بتقوى الله والسمع والطاعة) يعني: لولاة الأمور، وهذا في غير معصية الله، فأوصى النبي صلى الله عليه وسلم أمته بتقوى الله والطاعة لولاة الأمور في غير المعصية، يعني: يطاع ولاة الأمور في طاعة الله وفي الأمور المباحة، أما المعاصي فلا يطاع فيها أحد، فمن أمر بمعصية الله لا يطاع حتى لو كان الذي أمر أميراً أو أباً أو زوجاً أو سيداً، إذا أمر الأمير بمعصية الله فلا سمع له ولا طاعة، وإذا أمر الأب ابنه بمعصية الله لا سمع له ولا طاعة، وإذا أمر الزوج زوجته بمعصية الله لا سمع له، وإذا أمر السيد عبده بمعصية الله فقال: اشرب الخمر، أو اقتل مسلماً، أو تعامل بالربا فلا يطاع.
لكن ليس معنى هذا أنك تتمرد عليه. لا، بل لا تطعه في خصوص المعصية، لكن يبقى ما عداه على السمع والطاعة؛ لأن السمع والطاعة لولاة الأمر فيه جمع للكلمة، واتحاد للصف، وجمع للقلوب، وقوة للدولة، وإرهاب للعدو.
أما إذا تمرد الناس على ولاة الأمور اختل الأمن، وتناكرت القلوب، وتفرق المسلمون، وتربص الأعداء بهم الدوائر، وصار هذا من أسباب الفرقة والاختلاف وتناكر القلوب، ويؤدي إلى الفوضى والاضطراب، وبالتالي إلى إراقة الدماء، واختلال الأمن، واختلال الاقتصاد والمعيشة، والتجارة والزراعة والدراسة، وتفسد أحوال الناس، ويكون سبباً في وقوع فتن عظيمة لا أول لها ولا آخر تقضي على الأخضر واليابس.
ولهذا أمر الناس بالسمع والطاعة لولاة الأمور، وكان أهل الجاهلية لا يسمعون ولا يطيعون لولاة أمورهم ففسدت أحوالهم، ولهذا أمر الناس بالسمع والطاعة لولاة الأمور ونهوا عن الخروج على ولاة الأمور حتى ولو فعلوا المعاصي، ولكن النصيحة مبذولة من قبل أهل الحل والعقد من قبل العلماء، فإن قبلوا فالحمد لله، وإن لم يقبلوا فقد أدى الناس ما عليهم.
ولا يجوز الخروج على ولي الأمور حتى ولو شرب الخمر، أو ظلم بعض الناس في ماله أو دمه؛ لأن هذه المعصية مفسدة، لكن مفسدة الخروج أعظم وأعظم، فإذا خرج الناس على ولاة الأمور أريقت الدماء، واختل الأمن، وتفرق الناس، واختلت أحوال الناس، وتدخل الأعداء، ووقعت الفتن.
هذه مفاسد عظيمة أعظم من مفسدة المعصية، والشرع جاء بدرء المفاسد وتقليلها، وجلب المصالح وتكميلها، ومفسدة المعصية التي تحصل من ولاة الأمور مفسدة قليلة، تدرأ في جانب المفاسد العظيمة التي تنشأ من الخروج على ولاة الأمور.
وهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أوصى أمته بتقوى الله، وبالسمع والطاعة لولاة الأمور، قال: (وإن عبداً حبشياً) يعني: وإن كان ولي الأمر عبداً حبشياً، وفي اللفظ الآخر في حديث أبي ذر : (أمرني خليلي أن أسمع وأطيع، وإن كان عبداً حبشياً مجدع الأطراف).
يعني: مقطوع الأنف أو الأذن أو اليد يسمع ويطاع له، فإذا غلب الناس بسيفه وقوته تمت له الخلافة، ووجب السمع والطاعة له في طاعة الله وفي الأمور المباحة.
ثم قال: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً).
فيه بيان أنه يحصل اختلاف ومخالفة للسنة في كثير من الأمور.
ثم قال النبي: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين).
فيه الأمر بلزوم السنة وسنة الخلفاء الراشدين، وهم الخلفاء الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، وسنة الخلفاء الراشدين إنما يعمل بها إذا لم توجد سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
أما مع وجود السنة فيجب لزوم سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا خفيت سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يوجد في المسألة سنة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يؤخذ بسنة الخلفاء الراشدين، وليس معنى ذلك: أن سنة الخلفاء الراشدين تؤخذ حتى إذا عرفوا السنة لا، بل المراد عند خفاء السنة.
ومن ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالمتعة وهو الإحرام بالعمرة والحج معاً، ثم اجتهد الخلفاء الثلاثة أبو بكر وعمر وعثمان فكانوا يأمرون الناس بالإفراد اجتهاداً منهم حتى يكثر الزوار والعمار.
وكان علي وأبو موسى الأشعري وابن عباس رضي الله عنهم وجماعة يفتون بالمتعة عملاً بالسنة، والخلفاء الراشدون الثلاثة يفتون بإفراد الحج، والعمرة يكون لها وقت آخر حتى يكثر العمار والزوار، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالمتعة وشدد عليهم، وألزمهم بها حتى يزول اعتقاد الجاهلية الذين يعتقدون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه في حجة الوداع أن يتمتعوا إلا من ساق الهدي.
لكن الخلفاء الثلاثة اجتهدوا وقالوا: إنه زال اعتقاد الجاهلية فأفتوا الناس بالإفراد، وكان علي يفتي بالمتعة على ما جاءت به السنة وكذلك ابن عباس وأبو موسى الأشعري .
ولما نظر بعض الناس إلى ابن عباس في الحج وهو يفتي بالمتعة، قال له: ابن عباس يفتي بالمتعة وأبو بكر وعمر يفتيان بالإفراد، فقال ابن عباس : يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله وتقولون: قال أبو بكر وعمر!
إذا كان الذي خالف السنة لقول أبي بكر وعمر يخشى أن تنزل عليه حجارة من السماء، فكيف بمن أخذ بقول غيرهم؟ فهذه المسألة يؤخذ فيها بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ولا يؤخذ بسنة الخلفاء الراشدين، فإذا لم يوجد في المسألة سنة يؤخذ بسنة الخلفاء الراشدين.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ) هي الأضراس، يقال للشيء الذي يراد أن يتمسك به: عض عليه بالنواجذ.
(وإياكم ومحدثات الأمور) تفيد التحذير من الأمور المحدثة وهي البدع، (فإن كل محدثة بدعة).
وفي الحديث الآخر في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) يعني: مردود، وفي لفظ لـمسلم : (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: مردود على صاحبه.
وفيه التحذير من البدع والأمر بلزوم السنة، فهذا الحديث حديث عظيم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا إسماعيل بن بشر بن منصور وإسحاق بن إبراهيم السواق قالا: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح عن ضمرة بن حبيب عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي أنه سمع العرباض بن سارية رضي الله عنه يقول: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله! إن هذه لموعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ قال: قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ منها بعدي إلا هالك، من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وعليكم بالطاعة وإن عبداً حبشياً، فإنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما قيد انقاد) ].
وهذا شاهد للحديث السابق، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغ الرسالة وأدى الأمانة عليه الصلاة والسلام، قال: (تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ منها بعدي إلا هالك)، هي الوصية بتقوى الله، والوصية بالسمع والطاعة لولاة الأمور.
وفيها: أن المؤمن يقبل الحق وينقاد كالجمل الأنف، فأينما قيد انقاد.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا يحيى بن حكيم حدثنا عبد الملك بن الصباح المسمعي حدثنا ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الرحمن بن عمرو عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، ثم أقبل علينا بوجهه فوعظنا موعظة بليغة..)، فذكر نحوه ].
وهذا شاهد أيضاً، وفيه أن موعظة النبي صلى الله عليه وسلم كانت بعد صلاة الصبح.
حدثنا سويد بن سعيد وأحمد بن ثابت الجحدري قالا: حدثنا عبد الوهاب الثقفي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه؛ كأنه منذر جيش، يقول: صبحكم مساكم، ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين، ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى، ويقول: أما بعد: فإن خير الأمور كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وكان يقول: من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فعلي وإلي) ].
وهذا أخرجه مسلم في صحيحه، وآخره أخرجه الشيخان: (ومن ترك مالاً فلورثته، ومن ترك ديناً فعلي وإلي)، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب بشجاعة وحماسة حتى يجذب السامعين، (كان إذا خطب احمر وجهه، وعلا صوته كأنه منذر الجيش يقول: صبحكم ومساكم) فيؤثر في السامعين، ولاسيما خطبة الجمعة).
تحتاج إلى قوة وشجاعة وحماسة، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمر وجهه، وعلا صوته كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم، فيؤثر في السامعين، ولا سيما خطبة الجمعة، وبعض الخطباء إذا خطب يخطب بصوت ضعيف، ويتماوت كأنه ميت، والخطبة تحتاج إلى قوة وشجاعة وحماسة، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمر وجهه، وعلا صوته، فيؤثر في السامعين، كأنه منذر جيش، يقول: صبحكم ومساكم.
وكان يقول: (بعثت أنا والساعة كهاتين، ويقرن بين السبابة والوسطى)؛ لأنه نبي الساعة؛ ولأنه آخر الأنبياء، وأمته آخر الأمم، ولا نبي بعده، فهو نبي الساعة، ولهذا قال: (بعثت أنا والساعة كهاتين، ويقرن بين السبابة والوسطى) يعني: لقرب الساعة؛ لأنه بعث في آخر الدنيا، وأمته آخر الأمم.
وكان إذا خطب يقول: (أما بعد)، فينبغي للخطيب أن يقول: أما بعد، وهي أولى وأحسن من قول: وبعد، فبعض الناس يقولون: وبعد.
وكان يقول: (فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم)، وكان يقول هذا في كل جمعة، فكتاب الله أحسن الحديث، قال تعالى: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا [النساء:87]، وقال: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122]، فلا أحسن من كلام الله، قال: (وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها) والأمور المحدثة هي: التي أحدثت في الدين مما ليس منه.
قال: (وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)، وفي رواية النسائي : (وكل ضلالة في النار)، وهذا فيه التحذير من البدع، وأن كل محدث في الدين فهو من البدع، وكل بدعة فهي من الضلال، وكل ضلالة فهي في النار. وهذا أخرجه مسلم والنسائي .
وقال في نهاية الحديث: (وكان يقول: من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فعلي وإلي)، وقد كان عليه الصلاة والسلام في أول الهجرة يصلي على من عليه دين، ثم قدم إليه رجل ليصلي عليه فقال: (هل عليه دين؟ قالوا: نعم عليه ديناران، فتأخر وقال: صلوا على صاحبكم)، فقال هذا للأحياء حتى لا يتساهلوا في الدين، (فقام رجل فقال: يا رسول الله! علي الديناران -أي: أنا أضمنه-، فقال: برئ الغريم؟ قال: نعم، فقام وصلى عليه عليه الصلاة والسلام عليه، ثم لما كان من الغد قال: ما فعل الديناران؟ قال: يا رسول الله! ما مات إلا بالأمس -يعني: ما مضى عليه إلا يوم- فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لقيه من الغد، فقال: ما فعل الديناران؟ قال: قضيتهما يا رسول الله، فقال: الآن بردت عليه جلدته)، وكان هذا في أول الأمر وأول الإسلام، ثم بعد ذلك لما وسع الله عليه صار يقضي الدين من عنده.
ولهذا يستحب لولاة الأمور قضاء الدين عن الميت إذا كان في بيت المال سعة، وكان الميت ليس له مال، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من ترك ديناً أو ضياعاً -يعني: أولاداً صغار- فعلي) يعني: على بيت المال، فبيت المال يقوم بكفالة الأيتام والصغار والعجزة، وينفق عليهم من بيت المال، وكذلك الدين يُقضى عن الميت من بيت المال إذا كان فيه سعة، قال: (ومن ترك مالاً فلورثته)، ومن لم يترك مالاً وإنما ترك ديناً أو ترك ضياعاً وأولاداً صغاراً فعلي وإلي، أي: فعلى بيت المال، يقوم بحاجاتهم وكفالتهم.
وقوله: (فعلي وإلي) أي: علي قضاء الدين، وإلي ضياعهم بكفالتهم.
محمد بن عبيد بن ميمون المدني أبو عبيد مجهول.
وهذا الحديث وإن كان ضعيفاً إلا أنه له شواهد،كما في الحديث السابق: (خير الأمور كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم).
قال: [ (ألا وإياكم ومحدثات الأمور، فإن شر الأمور محدثاتها) ].
وهذا يشهد له ما سبق من التحذير من البدع ومحدثات الأمور، وقوله: (فإن شر الأمور محدثاتها) أي: البدع المحدثة في الدين.
قال: [ (وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) ].
وكل هذا له شاهد في الحديث.
قال: [ (ألا لا يطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم) ].
وهذا مأخوذ من قول الله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16]، وهذا فيه التحذير من استطالة الأجل فيقسو القلب.
وهذا أيضاً له شاهد، فقد ورد في الصحيح: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)، أي: وقتاله من الأعمال الكفرية التي لا تخرج من الملة.
قال: [ (ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث) ].
وهذا أيضاً جاء في الصحيحين: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث) يعني: لا يجوز للمسلم أن يهجر أخاه لحظ من الدنيا أو من أجل حظ نفسه فوق ثلاث، ويجوز مدة اليوم واليومين والثلاث ولا يزيد؛ لأن النفس قد يحصل فيها بعض التكدر، فأبيح للإنسان الهجر يوماً أو يومين أو ثلاثاً من أجل الدنيا، ولا يجوز بعدها، كما في الحديث: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)، وأما الهجر لأجل الدين؛ لكونه عاصياً أو مبتدعاً فيهجره ما شاء، وهذا غير محدد، ولا بأس به، وأما من أجل الدنيا ومن أجل الشحناء فلا يزيد على ثلاثة أيام.
قال: [ (ألا وإياكم والكذب، فإن الكذب لا يصلح بالجد ولا بالهزل) ].
وهذا فيه تحذير من الكذب.
قال: [ (ولا يعد الرجل صبيه ثم لا يفي له) ].
أي: لا يجوز أن يكذب، ولا حتى في الأشياء القليلة، حتى إذا وعد الصبي أن يعطيه شيئاً فلا يخلف وعده، فإن هذا كذباً، فإذا وعده أن يعطيه شيئاً ولو قليلاً ثم لم يعطه كتبت عليه كذبة، وليعطه شيئاً حتى لا يقع في الكذب.
قال: [ (وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار) ].
وهذا أيضاً له شاهد.
وهذا فيه التحذير من الكذب والترغيب في الصدق.
هذا الحديث وإن كان فيه أبو عبيد وهو مجهول، ولكن جمل هذا الحديث لها شواهد من الأحاديث الصحيحة.
وهذا الحديث فيه التحذير من الجدال بغير حق، وقد قال صلى الله عليه وسلم فيه: (إذا رأيتم الذين يجادلون فهم الذين عناهم الله)، وفي اللفظ الآخر: (أولئك الذين يتبعون ما تشابه منه)، أو: (أولئك الذين سمى الله فاحذروهم).
ففيه: التحذير من الجدال بالباطل، والتحذير من اتباع المتشابه وترك المحكم، وهذه علامة أهل الزيغ أنهم يأخذون بالمتشابه ويتبعونه، ويتركون المحكم، وأما أهل الحق فإنهم يعملون بالمحكم ويردون المتشابه إليه، ويفسرونه به.
وأهل الزيغ والبدع يأخذون بالمتشابه ويتعلقون به ويتركون المحكم، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7].
والحديث صحيح وهو في معنى هذه الآية ويفسرها، وفي لفظ آخر: (إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم).
يعني: ما يتشابه على بعض الناس، فبعض الناس يشتبه عليه بعض الآيات فيتعلق بالمتشابه ويترك المحكم، فمثلاً بعض النصارى الذين يقولون: الآلهة ثلاثة يقول: في القرآن ما يدل على التثليث، ويستدلون بقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، فقال: (نحن)، وهذا ضمير الجمع، وهذا يدل على أن الآلهة متعددة، فنقول له: أنت من أهل الزيغ؛ لأنك تعلقت بالمتشابه وتركت المحكم، وهو قول الله تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163] فهذا محكم أخذ به أهل الاستقامة وأهل الحق، و(نحن) في لغة العرب يأتي للواحد المعظم نفسه، وللجماعة، فمن يعظم نفسه يقول: نحن، والله تعالى أجل وأعظم، وأهل الحق يأخذون المحكم ويفسرون المتشابه بالمحكم ويردونه إليه، ويؤمنون بالجميع.
والحديث سنده ضعيف، ولكن معناه صحيح، ولا شك أن من أوتي الجدل بعد الهدى فهذا يدل على ضلاله.
والجدال جدالان: جدال بالباطل وهو مذموم، وجدال بالحق وهو محمود، قال تعالى: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46]، وقال: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125].
أبو غالب صاحب أبي أمامة بصري نزل أصبهان، قيل: اسمه حزور ، وقيل: سعيد بن الحزور ، وقيل: نافع صدوق يخطئ من الخامسة.
هذا الحديث سنده ضعيف ومتنه منكر؛ لأن صاحب البدعة ليس بكافر إذا كانت بدعته لا تكفر، وسنده ضعيف ففيه محمد بن محصن وقد اتفقوا على ضعفه، فالحديث منكر شاذ، وصاحب البدعة ليس بكافر إذا كانت بدعته لا توصله إلى الكفر، وأعماله مقبولة صحيحة، وعليه أن يتوب من بدعته مثل صاحب الكبيرة، هذا إذا كانت بدعته لا تكفر، وأما إذا كانت بدعته مكفرة فهو كافر، والأصل: أن البدعة لا توصل إلى الكفر، وصاحب البدعة عاصٍ ليس بكافر، ولا يخرج من الإسلام، وأعماله صحيحة، وعليه أن يتوب من بدعته.
وهذا المتن ضعيف أيضاً، ورجال هذا الإسناد كلهم مجهولون، قال الذهبي في الكاشف: وقال أبو زرعة : لا أعرف أبا زيد ولا أبا المغيرة، ومتنه أيضاً ليس بصحيح؛ لأن صاحب البدعة مرتكب لكبيرة.
هذا حديث حسن، أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث سلمة بن وردان عن أنس .
ولا شك أن ترك الكذب فيه فضيلة، وكذلك ترك الباطل والمراء، لكن التحديد بأنه من ترك الكذب بني له بيت في أول الجنة، ومن ترك المراء بني له في وسطها، ومن حسن خلقه بني له أعلاها مستحيل، وهذا هو الذي فيه الإشكال.
وفي الحديث الصحيح: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً) وزعيم يعني: كفيل.
وأما حديث: (أنا زعيم ببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً) فلا أعلم له أصلاً.
حدثنا أبو كريب حدثنا عبد الله بن إدريس وعبدة وأبو معاوية وعبد الله بن نمير ومحمد بن بشر ، ح وحدثنا سويد بن سعيد حدثنا علي بن مسهر ومالك بن أنس وحفص بن ميسرة وشعيب بن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا) ].
هذا الحديث صحيح، رواه الشيخان البخاري ومسلم ، وفيه: الحث على العلم وتعلم العلم والإقبال على العلم قبل موت العلماء، وفيه: إن الله لا يقبض العلم من صدور الرجال، وإنما يقبض العلم بموت العلماء، فيقبض عالماً بعد عالم بعد عالم حتى لا يبقى إلا الجهال، فإذا بقي الجهال تولوا أمور الناس؛ لأن الأعمال والغايات لابد لها من رجال يتولونها، فيحتاجون إلى من يتولى الإفتاء، ومن يتولى القضاء، ومن يتولى كذا وكذا، فيكون رءوس الناس جهالاً، ويكون المتولون للإفتاء والقضاء جهالاً، فيسألون ولا بد لهم من أن يجيبوا، فيجيبون بغير حق، ويجيبون بالباطل؛ لأنهم ترأسوا ورُئسوا، فيفتون بغير علم، فيضلون في أنفسهم ويضلون غيرهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وفي الحديث الآخر: (إن من أشراط الساعة: أن يكثر الجهل ويقل العلم).
وفي هذا الحديث: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بموت العلماء) وفي لفظ: (بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالماً)، وفي لفظ: (حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا).
وهذا فيه الحث على أخذ العلم من العلماء قبل موتهم وقبل قبضهم.
وقوله في الحديث: (فإذا لم يبق عالماً) يعني: عالماً شرعياً يصلح للإفتاء ولأخذ العلم عنه.
والحق قائم الآن في أمور العبادات والديانة، ولكن تبقى مسائل تحتاج إلى إفتاء، فلا يوجد من يفتي بها إلا هؤلاء الرؤساء الذين لا يعلمون.
وهذا يؤيده قول الله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [النحل:25]، وهذا فيه تحذير المفتين من التسرع في الفتيا والتعجل، وأن من أفتى بغير ثبت ثم عمل به المستفتي فإن إثم المستفتي عليه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن العلاء الهمداني حدثني رشدين بن سعد وجعفر بن عون عن ابن أنعم -هو الإفريقي - عن عبد الرحمن بن رافع عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العلم ثلاثة، فما وراء ذلك فهو فضل: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة) ].
هذا الحديث ضعيف، فيه رشدين بن سعد وهو ضعيف، وعبد الرحمن بن أنعم الإفريقي ضعيف أيضاً.
ولكن الحديث مشهور الآن، ويستدل به الفرضيون، ومعناه صحيح، وقد يكون له شواهد.
والعلم ينقسم إلى هذه الأقسام: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنة قائمة، ولا يخرج عن هذه الثلاث.
هذا الحديث ضعيف، وقال له في الحديث الآخر: (بم تحكم؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: اجتهد رأيي ولا آلو، فضرب على صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله للحق)، فالسند ضعيف، ومحمد بن سعيد هو المصلوب اتهم بوضع الحديث، ومتن الحديث شاذ، وابن ماجة رحمه الله تساهل في الأحاديث الضعيفة، والأحاديث التي ينفرد بها ابن ماجة عن الكتب الخمسة في الغالب تكون ضعيفة، والحسن بن حماد سجادة يتهمه أحمد بن حنبل والنسائي بالوضع، وإذا كان يتهم بالوضع فالحديث موضوع، وإذا كان متهماً بالكذب فيكون الحديث ضعيفاً جداً.
والحديث الثابت في الصحيحين هو: أن النبي بعث معاذاً إلى اليمن وقال له: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه كتاب الله).
هذا الحديث ضعيف، ففيه ابن أبي الرجال وهو ضعيف، ويحتمل أن يكون فيه أيضاً غيره، وابن أبي الرجال اسمه حارثة بن محمد بن عبد الرحمن ، وهذا ليس خاصاً بأولاد السبايا أو غيرهم، فمن استقام فهو على الحق، ومن انحرف فهو على الباطل، سواء كان من أولاد السبايا أو من غيرهم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر