إسلام ويب

سلسلة أشراط الساعة الكبرى [حياة البرزخ]للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إذا مات المرء انفصلت روحه عن جسده، فيذهب الجسد في رحلة أولها إغماض العينين والغسل والتكفين، وآخرها قبل البعث مواراته في التراب، وأما الروح فتصعد إلى الملأ الأعلى فإما أن تكرم وإما أن تهان، وتتصل بالجسد مرة أخرى ليقع عليها النعيم أو العذاب، وقد تنفصل عنه، حتى إذا كان يوم القيامة أنبت الله الأجساد من القبور، واتصلت الأرواح بالأبدان، وانطلق الناس يحشرون على أرض بيضاء نقية ليس فيها علم لأحد ليقفوا بين يدي الواحد الديان..

    1.   

    المرء بعد الموت

    تغميضه وغسله وتكفينه والصلاة عليه

    الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد.

    فإن الله تعالى خلقنا أرواحاً وأجساداً، فبين الجسد والروح اتصال، والموت في معناه الحقيقي: انفصال الروح عن الجسد، فإذا انفصلت الروح عن الجسد انفصالا كلياً كان هذا هو الموت الذي يعني الانتقال من دار إلى دار، ومن مرحلة إلى مرحلة، فالله جل وعلا خلق خلقه أطوار، فطور وهم أجنه في بطون أمهاتهم، وطور في الحياة الدنيا، وطور في حياة البرزخ، وطور يوم يقوم الأشهاد، وهذا هو يوم الخلود الأبدي،

    أما رحلة الجسد فتبدأ بخروج الروح، فإذا خرجت الروح أصبح الجسد لا حراك به، فلا يضره شيء، فالسنة عندها أن تغمض عينا الميت، ثم يوضع شيء ثقيل على بطنه حتى لا ينتفخ، ولو شد لحياه لكان ذلك حسناً، حتى لا تتغير هيئته، ولا يحسن النظر إلى الميت؛ لأنه ينتقل إلى حالة أخرى من التكوين والتصوير، فلا ينطبع في الأذهان شيء.

    ثم بعد يكون غسله وتكفينه وهما فرض كفاية، ويتولى غسله قرابته، وأولاهم العصبة، وأولى العصبة أبوه ثم جده ثم ابنه ثم باقي العصبة، إلا إذا كان الميت قد أوصى، فإن تغسيل الميت حق للميت، فإذا أوصى الميت بأن يغسله أحد بعينه قدم الذي أوصى به الميت، ولو كان بعيدا، فإن الصديق رضي الله عنه وأرضاه أوصى بأن تغسله زوجته أسماء بنت عميس ، كما أن أنساً رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بأن يغسله محمد بن سيرين .

    و محمد بن سيرين هو أحد أئمة التابعين، وكان مشهورا بتعبير الرؤيا، ويروى أنه جاءه رجل فقال له: إنني رأيت فيما يرى النائم رجلاً -ولم يسمه- نبت في ساقه شعر، فما تأويل الرؤيا؟ فقال محمد بن سيرين : هذا رجل يركبه دين، ثم يسجن، ثم يموت في سجنه، فقال له الرائي: رأيتها فيك. فوقع الذي حكاه محمد في التعبير والتأويل، فركب محمد بن سيرين دين ثم سجن ثم مات في سجنه.

    وحين كان في سجنه مات أنس ، فأُخرج من السجن وقام بغسله ثم أعيد إلى سجنه.

    والساق قد قال الله جل وعلا فيها: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ [القلم:42]وقال: كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ [القيامة:26-29].

    والعرب تقول: كشفت العرب عن ساقها أو: عن سوقها.

    وأياً كان المعنى فإنه من هذا أخذ العلماء أن الساق في الرؤيا تدل على الكرب والأمر والهول العظيم.

    والذي يعنينا في هذا المقام أن الوصي أولى بتغسيل الميت، ثم بعد غسله يكفن، ولا يكون هناك إسراف في الكفن، ولكن يكفن في ثلاثة أثواب إن كان رجلا، وفي خمسة إن كانت امرأة، ويندب أن تكون بيضاء ونقية، إما جديدة وإما مغسولة، ثم يصلى عليه، والصلاة على الميت من فروض الكفايات، وفيها يلح الإنسان ويصدق في الدعاء للميت لحاجته إلى ذلك.

    ويصلى على كل مؤمن بار أو فاجر، إلا الغالّ الذي يسرق من الغنائم، أو من قتل نفسه، فهذا لا يصلي عليه إمام المسلمين أو من ينيبه الإمام، كأئمة الحرم، وكذلك ذوو الهيئات، كأشراف الناس وكبار العلماء، ولكن يصلي عليهم قراباتهم وعامة المسلمين زجراً لغيره عن أن يصنع صنيعه.

    ومن قتل في حد -كمن زني فرجم، أو قتل قصاصا- فإنه يصلى عليه، حتى الإمام يصلي عليه.

    مواراته في التراب

    ثم ينتقل الجسد إلى مرحلة أخرى، وهي مواراته التراب، قال تعالى: ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ [عبس:21]، وقال: أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً ?وَأَمْوَاتًا [المرسلات:25-26]، سواء أكان لحداً أم شقا، فكل ذلك يصح، والمهم أن يوجهه إلى القبلة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام لما ذكر الكبائر: (واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا)، ويقرب الميت -إذا كان القبر لحداً- من جدار القبر القِبْلي، ويوضع خلفه شيء من التراب حتى لا يرجع على ظهره، بعد أن تحل أربطة الكفن، ولا يكشف عن رأسه، ثم يوضع اللبن على اللحد حتى لا يقع التراب عليه مباشرة، ثم يحثا التراب على القبر كما فعل بنبينا صلى الله عليه وسلم، وقد نصب عليه تسع لبنات صلوات الله وسلامه عليه.

    والقبر إذا كان مسنماً أشبه برأس الخيمة كان أفضل من أن يكون مسطحاً.

    وما يصنع في بعض البلدان من إقامة الأضرحة والمشاهد على القبور كل هذا منهي عنه شرعاً، فلا يجوز أبداً فعله، لا لفئة من الناس ذوي قدر كالرؤساء وغيرهم، ولا لغيرهم من العامة، وإنما يرفع القبر قليلا ليعلم أنه قبر، ولذلك فإن المسلم إذا مات في دار حرب لا يرفع قبره حتى لا يعرف أنه قبر، لئلا يتسلط عليه الأعداء فينبشوا قبره، وإنما يسوى قبره بالأرض حتى لا يتمكن العدو من الوصول إليه.

    من يتولى غسل الميت

    سبق أن قلنا إن الذكر والأنثى لا يغسل أحدهما الآخر، إلا في حالتين:

    الحالة الأولى: الزوج والزوجة، فإنه يجوز للزوجة أن تغسل زوجها، ويجوز للزوج أن يغسل زوجته؛ لأن أبا بكر أوصى بأن تغسله أسماء بنت عميس ، وأبو بكر رضي الله تعالى عنه جاء في وفاته روايتان:

    رواية تقول: إنه اغتسل في يوم بارد ثم أصابته الحمى، فمكث مريضاً خمسة عشر يوما، ثم مات.

    وهناك رواية أخرى لا تتعارض مع الرواية الأولى، وهي أنه أكل هو والحارث بن كلدة طبيب العرب المشهور، أكلا في يوم واحد من حساء حريرة أعدته لهما امرأة يهودية، والحارث كان طبيبا مشهوراً، وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه بأن يستطبوا عنده، فقال لـأبي بكر : لقد أكلنا أنا وأنت سم سنة كاملة. فمات أبو بكر والحارث بن كلدةفي يوم واحد، بعد حول كامل في نفس اليوم الذي أكلا فيه الطعام، والله يقول: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الروم:7]، وهذا يدل على أن الحارث بن كِلدة كان ذا فراسة قوية في مسألة الطب.

    وفي فترة مرض أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه جاءه الناس فقالوا: ألا ندعو لك الطبيب؟ فقال كلمته المشهورة: أتاني الطبيب فقال: إني فعال لما أريد. فعرف الناس مراده وسكتوا عنه حتى مات رضي الله عنه وأرضاه وهو ابن ثلاث وستين سنة كعمر نبينا صلى الله عليه وسلم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم مات ضحى يوم الاثنين، وأما أبو بكر فمات بين صلاة المغرب والعشاء ليلة الثلاثاء.

    حالات ترك غسل الميت والاكتفاء في حقه بالتيمم

    وإن علينا قبل غسل الميت أن ننظر فيما إذا كان الماء يضره، كمن تقطع أوصالاً أو كان به حروق، بحيث لو غسل فإن الجسد يتفتت، فهذا لا يغسل، بل ييمم، فيمسح على وجهه وكفيه، كالتيمم المعروف.

    وهذه الحالة كذلك تكون إذا انعدم الماء، وتكون إذا ماتت امرأة وسط رجال ليس فيهم زوج لها، أو مات رجل وسط نساء ليس فيهن زوجة له، فنلجأ إلى مسألة التيمم بدلا من غسله.

    بلى الأجساد بعد الموت

    لا أعلم دليلاً شرعياً على أن الجسد لا يبلى، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (كل جسد ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب)، ويشتهر عند الناس أن الشهداء لا تأكل الأرض أجسادهم، ولكن لا أعلم في هذا دليلاً شرعيا صحيحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، إنما المحفوظ أن أجساد الأنبياء هي التي لا تبلى، فقد قال صلى الله عليه وسلم لما ذكر يوم الجمعة: (فأكثروا فيه من الصلاة علي. قالوا: يا رسول الله! كيف تبلغك صلاتنا وقد أرمت؟ قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)، فلما سأل الصحابة دل ذلك على أن الصحابة استقر في أذهانهم أن الأجساد جميعها تبلى، ولو كانت في أذهان الصحابة أن أجساد الشهداء مستثناة لما استغربوا من كون الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء؛ لأن الأنبياء أرفع مقاما من الشهداء.

    1.   

    رحلة الروح

    اختصاص الله تعالى بعلم كنه الروح

    إن الروح أمرها عند الله، فلا يعلم كنهها إلا الله، فقد ثبت أن نبينا عليه السلام مر على يهود، فقال بعضهم: سلوه، وقال بعضهم: لا تسألوه، ثم سألوه فقالوا: يا أبا القاسم! ما الروح؟

    فاتكأ صلى الله عليه وسلم على عسيب نخل، وكان معه عبد الله بن مسعود ، قال عبد الله : فعلمت أنه يوحى إليه، فأنزل الله جل وعلا عليه: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85].

    و ابن سيناء الفيلسوف يقول:

    هبطت إليك من المحل الأرفع ورقاء ذات تعـزز وتمنع

    هبطت على كره إليك وربما كرِهت فراقك وهي ذات توجع

    يريد أن الإنسان لا يختار روحه، فعارض قوله شوقي بقوله:

    ضمي قناعك يا سعاد أو ارفعي هذي المحاسن ما خلقن لبرقع

    فمحمد لك والمسيح ترجلا وترجلـت شمس النهار ليوشع

    أراد ابن سيناء أن يقول: إن الإنسان لا يختار روحه، وأراد شوقي أن يقول:

    ضمي قناعك يا سعاد

    كناية عن الروح. ثم قال:

    فمحمد لك والمسيح ترجلا

    والإنسان إذا أراد أن يعظم أحداً، فإن طريقة العرب في ذلك إذا قابلت شخصاً وأنت على الدابة فإنك تنزل من على الدابة وتترك ما تركبه، وتُقبِل إليه وأنت ماشٍ.

    مثل عالم السيارات اليوم، حيث ترى إنساناً واقفاً فتنزل من سيارتك وتذهب إليه راجلا، فهذا نوع من التعظيم.

    فعظم نبينا صلى الله عليه وسلم الروح لما سئل عنها فاستلبث حتى نزل الوحي: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ [الإسراء:85].

    وأما عيسى فقد نقلوا في إنجيل لوقا في الإصحاح الثاني عشر أنه كان يقول للملأ من حوله من الحواريين: لا تخافوا من الذين يتسلطون على الجسد ولا يستطيعون أن يتجاوزوا إلى أكثر من ذلك. يقصد أن الأعداء ليس لهم سلطة على الروح، فالروح عظيمة، والله جل وعلا عظمها بقوله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ [الإسراء:85].

    صلة الروح بالجسد في الحياة

    تلتصق الروح بالبدن عندما نكون أجنة في بطون أمهاتنا، وهي أمانة، والعامة يقولون هنا كلاماً له أصل، فيقولون إذا مات أحد: أخذ الله أمانته. والقضية أن الملك يضع أمانة في الجسد، ثم يأتي الملك فيقبض تلك الأمانة ويأخذها.

    يقول العلماء: الروح لا تختص بشيء من الجسد، أي: لا نقول: إنها في الإصبع، ولا في القلب، ولا في الرجل، ولا في الرأس، ولا في مكان آخر، بل تسري في الجسد كله كما تسري النار في الهشيم، فإذا قبضت خرجت من الجسد كله، فجميع الجسد يعاني من خروج الروح، والله يقول: فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ [الواقعة:83-84] أي: إذا وصلت إلى الحلقوم يبدأ الإنسان بالتشبث بالحياة أياً كان، ويحاول الإنسان أن يقاوم، ولكن الله يقول: فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34].

    لحظات خروج الروح

    يقول تعالى: (وأنتم) أي: من حول الميت (حينئذ تنظرون)، أي: إلى الميت، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ [الواقعة:85]؛ لأن من حول الميت لا يرون الملائكة وهي تقبض روح الميت، فتخرج الروح فيتبعها البصر، وعندئذ يسن تغميض العينين، فإذا صعدت فإنها قد تكون روح مؤمن، فيشيعها من كل سماء مقربوها، وتفتح لها أبواب السماء، وتصل إلى العرش ويراها أبونا آدم، كما في حديث المعراج أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أبانا آدم حوله أسودة عن يمينه وعن شماله، فإذا نظر جهة اليمين ضحك، وإذا نظر جهة الشمال بكى.

    فحين تصل إلى العرش يقول الله جل وعلا: صدق عبدي، اكتبوا كتاب عبدي في عليين ثم أعيدوه، فإني قد وعدتهم مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه:55] فتعود إلى بدنه.

    وعلى النقيض من ذلك -أعاذنا الله وإياكم- قد تكون روح كافر منافق، قال الله لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [الأعراف:40]، ثم تعود إلى الجسد، ولكنها لا تعود كما تعود الأولى، بل تطرح طرحا بإلقاء وبعنف، قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تلا: وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31].

    اتصال الروح بالجسد بعد الموت

    وهنا يكون نوع اتصال بين الروح والجسد، كما أخبر عليه الصلاة والسلام عن الميت بأنه يسمع قرع النعال، ولكنه يسمع سمعا لا ينتفع به، وقد وقف نبينا صلى الله عليه وسلم على قليب بدر على قتلى قريش، فناداهم بأسمائهم: يا أبا جهل بن هشام ! يا عتبة بن ربيعة ! وعدهم ثم قال: (قد وجدت ما وعدني ربي حقا، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟! فتعجب الصحابة فقال عمر : يا رسول الله! أتخاطب أقواما قد جيفوا؟! فقال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لايستطعون جوابا).

    قال حسان :

    يناديهم رسول الله لما قذفناهم كباكب في القليب

    ألم تجدوا كلاميَ كان حقا وأمر الله يأخذ بالقلوب

    فما نطقوا ولو نطقوا لقالوا

    صدقت وكنت ذا رأي مصيب

    فـحسان يصور الحادثة شعرا، ومن هنا أخذ بعض العلماء أن الموتى يسمعون، ولكنهم لا يسمعون سماع انتفاع، وهذا مثل ضربه الله في القرآن فقال: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء [البقرة:171] فالراعي تسمع غنمه ما يقول، ولكنها لا تسمع سمع انتفاع، فلا تدري ما يقول وإن كانت تسمع المفردات والأقوال والكلمات، وهذه قضية طويلة بين العلماء لا أحب الخوض فيها.

    فإذا اتصلت الروح بالجسد فإنه يقع عليها النعيم ويقع عليها العذاب، يقول ابن تيمية -غفر الله له ورحمه- إن عذاب القبر ونعيمه يقع على الروح والجسد -وهذا متفق عليه عند أهل السنة- ويقع كذلك على الروح منفردة عن البدن. وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بشيء من هذا، فقد أخبر بأنه رأى الزناة والزواني -نسأل الله العافية- في تنور ضيق من أدناه، واسع من أعلاه، ورأى أكلة الربا تمر عليهم سابلة آل فرعون، ورأى من يقرب إليهم قدر نضيج طيب فلا يأكلون منه، ويأكلون من لحم نتن خبيث، فقال: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: هذا الرجل يترك امرأته حلالا، ويذهب يبيت مع امرأة خبيثة حتى يصبح، فما حياة البرزخ إلا صورة للحياة الدنيا، فالجزاء من جنس العمل، وسيكون نفس الصنيع بك في برزخك، والله يقول: وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100] ويقول: يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27].

    الصلة والانقطاع بين الروح والجسد

    وهذا الاتصال بين الروح والجسد ينقطع أحيانا، ويتصل أحيانا، فتكون للروح سرعة أكثر من سرعتها وهي ملتصقة بالجسد في الحياة الدنيا، وعلى هذا حمل العلماء صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالنبيين إماما في المسجد الأقصى وصلوا وراءه، ثم عرج به إلى سدرة المنتهى ورأى إخوانه من النبيين في السماوات السبع.

    قالوا: كيف قابلهم في الأرض ثم قابلهم في السماء؟

    قال بعض العلماء: إن سرعة الروح غير سرعة الجسد، فقابلهم في السماوات السبع أرواحا عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين.

    والذي يعنينا أن علاقة الروح بالجسد تدل في المقام الأول على عظمة الخالق جل جلاله، وأن هناك رباً خالق للخلائق كلها، يدبرها تبارك وتعالى كيف يشاء، ويفعل فيها ما يريد، وأنه جل وعلا حكم بالنجاة لأهل الإيمان والعمل الصالح، وحكم بالخسران والخيبة على أهل الكفر والعمل السيئ، وأنه جعل الدنيا مزرعة للآخرة، وزهرة حائلة، ونعمة زائلة، ولا بد من لقائه تبارك وتعالى.

    المرء من القرار المكين إلى الوفاة

    لقد كان الإنسان جنينا لا يدري عن تلك الحياة شيئاً، وكان قبل ذلك في أصلاب آبائه وأرحام أمهاته، ثم كان جسدا حيا يغدوا ويروح، ثم لا يلبث أن تقضى حياته ويعيش في حياة البرزخ، ثم يذكره الناس جيلا بعد جيل حتى ينسوه، أو يكادوا.

    يسلم المرء أخوه للمنايا وأبوه

    وأبو الأبناء لا يبقى ولا يبقى بنوه

    رب مذكور لقوم غاب عنهم فنسوه

    ابتنى الناس من البنيان مالم يسكنوه

    طلب الناس من الـ آمال مالم يدركوه

    جمع الناس من الأموال مالم يأكلوه

    عش بما شئت فمن تبره دنياه تسوه

    وبعد ذلك يكون اللقاء بين يدي الرب تبارك وتعالى، ويجتمع الخلائق برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم بين يدي الله، وهذا ما يسمى بالبعث والنشور.

    1.   

    الإيمان بالبعث والنشور تنزيه لله عن اللهو والعبث

    يجب أن يستقر في قلب كل أحد أن الله جل وعلا تبارك اسمه وجل ثناؤه منزه كل التنزيه عن النقص والعيب واللهو والعبث، ولهذا قال الله جل وعلا في خواتيم سورة المؤمنون: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115]، فأردف هذه الآية بقوله سبحانه منزهاً ذاته العلية: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ [طه:114]، فالله جل وعلا منزه عن أن يكون قد خلق هذا الخلق وكلفهم، وبعث إليهم الرسل، وأنزل إليهم الكتب، وأقام عليهم الحجة، وأوضح لهم المحجة، ثم بعد ذلك لا يكون هناك بعث ولا نشور، ولا تكون جنة ولا نار، ولا تكون محاسبة ولا جزاء، فهذا محال ينزه الرب تبارك وتعالى عنه.

    وقد سبق الحديث عن أن الروح لها مستقر، فإن كانت مؤمنة ففي عليين، وإن كانت كافرة ففي سجين.

    ذكر النفخ في الصور

    قلنا: إن اتصال الروح بالجسد يكون أحيانا وينقطع أحيانا، وأن العذاب أو النعيم يقع على الروح والجسد مجتمعين، ويقع أحيانا على الروح دون الجسد، ثم تكون نفخة الصعق، وهذه النفخة ينتظرها الآن ملك يقال له إسرافيل، قد التقم القرن وحنى الجبهة، وأصغى الأذن ينتظر متى يؤمر بالنفخ فينفخ، وقد قال الصحابة: (يا رسول الله! ماذا نقول؟ قال: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل).

    والملائكة يشتركون جميعاً في أنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، إلا أن المهام التي أسندت إليهم، والمقام الذي ينتهي إليه كل أحد منهم يختلف بحسب منازلهم، وما أفاء به الله جل وعلا عليهم، وما كلفهم الرب تبارك وتعالى به، وإسرافيل ملك كريم أسند إليه النفخ في الصور.

    فينفخ إسرافيل في الصور، فيكون الحال كما قال تعالى: فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْض [الزمر:68]، ثم استثنى جل جلاله فقال: إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ [الزمر:68]، وهذه نفخة الصعق الأولى، وتعقبها نفخة بعث، واختلف العلماء هل قبل نفخة الصعق تكون نفخة الفزع التي ذكرها الله جل وعلا في سورة النمل؟ فبعضهم يرى أنها الثانية هي المسماة بنفخة الصعق، وبعضهم يرى أنها نفخة ثالثة للاثنتين، وظاهر القرآن أنهما اثنتان فقط، والعلم عند الله.

    فينفخ إسرافيل فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، واختلف العلماء في قول الله جل شأنه: إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ [الزمر:68] فذهب بعض العلماء إلى أن المستثنين في الآية هم من يقطن الجنة من أهلها، كالحور العين والغلمان المخلدون، وما في النار من حيات وعقارب -نعوذ بالله من ذلك-، وهذا القول ينسب إلى الإمام أحمد رحمه الله تعالى.

    وقال بعض العلماء: إن المستثنين هم إسرافيل وجبريل وميكائيل رؤساء الملائكة، وهذا القول ينسب إلى مقاتل بن سليمان أحد أئمة السلف في التفسير رحمه الله تعالى، وعنده في هذا أحاديث، ولكن ثبوت صحة هذه الأحاديث فيه نظر عند أهل الصناعة الحديثية.

    والذي يظهر -والعلم عند الله- أن الاستثناء لبيان القدرة، ولكن التوقف في مثل هذا أفضل لعدم وجود مرجحات تجعلنا نقطع بيقين، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال عندما ذكر النفخة الثانية: فأكون أول من يفيق فإذا بموسى آخذاً بقوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور أم كان ممن استثناه الله ، فإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا أدري فالمتبعون هديه عليه الصلاة والسلام من ورثته من العلماء أولى بأن لا يدروا.

    فهذا الاستثناء نتوقف في الجزم فيه، ولكنه قد يكون له معنى مقصود بأقوام كما بينا، وقد يكون المقصود به بيان القدرة الإلهية.

    ثم تكون النفخة الثانية، ومابين النفختين أربعون سنة أو أربعون شهراً أو أربعون يوماً، لم يجزم أبو هريرة في نقله عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    رد الله على كفار قريش في إنكارهم البعث

    وكان القرشيون الأوائل ينكرون البعث والنشور جملة مع اعترافهم بوجود الله، كما قال تعالى: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزمر:38]، فردوا على النبي صلى الله عليه وسلم قوله بأن الله يحيي العظام وهي رميم، وأنه يبعث الموتى، فأجابهم الله جل وعلا بثلاثة أدلة تدل على أنه يحي الموتى:

    الدليل الأول: أنه جل وعلا هو الذي خلقهم ابتداء، وهو ما يسمى بالنشأة الأولى.

    والدليل الثاني: أن الله جل وعلا خلق ما هو أعظم منهم، وهو السماوات والأرض.

    والدليل الثالث: أن الله جل وعلا أمرهم بأن ينظروا في النبات كيف يكون، وهذا دليل على إنبات الناس من قبورهم كإنبات الأرض بعد موتها.

    قال الله جل وعلا: ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ [العنكبوت:20]، وقال جل وعلا بعد أن ذكر الماء وسقيه وإحياء الأرض بعد موتها: كَذَلِكَ النُّشُورُ [فاطر:9]، وقال جل وعلا: فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الروم:50] وهذه الثلاثة الأدلة المتفرقة في القرآن جمعها الله في خواتيم (يس)، وقال الله: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:78] فجمع الله إجابة له بثلاثة أدلة، فقال جل وعلا: قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:78-79]، هذا الدليل الأول، الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً [يس:80] وهذا قياس على النبات، وهو الدليل الثاني، ثم قال بعدها: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [يس:81]، فهذه الأدلة الثلاثة فرقها الله في القرآن وجمعها في (يس).

    عذاب القبر

    وهذه الفترة التي قبل البعث يكون فيها العذاب أو النعيم، فقد دخل على عائشة رضي الله عنها امرأتان عجوزتان من يهود فأخبرتاها بأن هذه الأمة تعذب في قبورها، فلم ترد عائشة أن تنعم على هاتين المرأتين بأن تصدقهما، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته عائشة بما قالت المرأتان اليهوديتان، فقال صلى الله عليه وسلم: (صدقتا، إن هذه الأمة تعذب في قبورها، ولولا ألا تدافنوا لسألت الله جل وعلا أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع)، ففيه دليل واضح على عذاب القبر، تقول عائشة : فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بعدها إلا وهو يستعيذ من عذاب القبر، فكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ كثيراً من عذاب القبر، ويسأل الله جل وعلا نعيمه.

    خروج الناس من قبورهم

    بعد وبين النفختين يأمر الله السماء أن تمطر فتمطر ماء أبيض كمني الرجال، فينبت الناس كما ينبت البقل؛ إذ إن جسد ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب، وهو العظمة المستقرة في آخر فقراته، فهذه لا تبلى بقدر الله، وقد مر معنا أن أجساد الأنبياء لا تبلى، وقلنا: لا يوجد دليل صريح صحيح على أن أحداً مستثنى غير الأنبياء، لا الشهداء ولا حفظة القرآن ولا غيرهم، وقد يطول أمد أحدهم فلا يبلى، ولكن لا يوجد دليل صريح صحيح على أن أجساداً تبقى غير أجساد الأنبياء.

    فعندما تمطر السماء هذا الماء تدب الحياة في الجسد فينبت، ثم يأمر الله إسرافيل بأن ينفخ، فإذا نفخ إسرافيل النفخة الثانية خرجت الأرواح من مستقرها، ثم ذهبت كل روح إلى الجسد الذي خرجت منه لا تخطئ روح جسدا خرجت منه، فيجتمع الروح والجسد.

    فالروح والجسد يلتئمان والإنسان جنين في بطن أمه، ويلتئمان بعد البعث التئاما آخر، فتدب فيه الحياة، فتنشق الأرض عن أهلها، كما قال ربنا: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ [يس:51]، وقال صلى الله عليه وسلم: (أنا أول من ينشق عنه القبر)، فهو عليه الصلاة والسلام أول من ينشق عنه القبر، ثم قبور بقيع أهل المدينة، ثم أهل مكة، ثم ما بينهما، ثم بعد ذلك سائر القبور، فيحشر الناس إلى ربهم.

    عموم الحشر لكل الخلائق

    والحشر في ظاهر القرآن وصريح السنة غير مختص بالثقلين الجن والإنس، وإن قال بعض العلماء -عفا الله عنا وعنهم-: إنه مختص بالثقلين، لكن ظاهر القرآن وصريح السنة على أن الجميع يحشر، قال الله جل وعلا في صريح كتابه: وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [الأنعام:38] فهذا صريح، ولكن العلماء الذين قالوا: إن غير الثقلين لا يحشر قالوا في هذه الآية: ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [الأنعام:38] حشرها هو موتها. والله جل وعلا يقول: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [التكوير:5] فالوحوش هي ما توحش من دواب البر، و(حشرت) أي: جمعت، وقال صلى الله عليه وسلم: (يقاد للشاة الجماء من الشاة القرناء)، فحملوا ذلك على أنه كناية عن العدل، لا على وقوع الأمر، لكن ثمة قاعدة في أمور الشرع، وهي أن ما أخبر الله به أو أخبر به رسوله من الغيب ولا يوجد ما يمنع وقوعه شرعا ولا عقلا يجب إمراره على ظاهره، وهذا قاعدة تنفع كل من يطلب العلم.

    فالله تعالى يقول: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [التكوير:5] ويقول:ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [الأنعام:38]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يقاد للشاة الجماء من الشاة القرناء)، فهذه الأمور لا يوجد ما يمنع وقوعها شرعاً، ولا يوجد ما يمنع وقوعها عقلاً، فيجب إمرارها على ظاهرها.

    كيفية حشر الناس

    ولأجل الحشر يخرج الناس من قبورهم، -كما قال صلى الله عليه وسلم- حفاة عراة غرلا بهما، ومعنى (حفاة) أي: غير منتعلين، (عراة): غير مكتسين، قال الله: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا [الأنبياء:104]، وهذا يؤيد -أيضاً- معنى (حشرهم غرلاً)، فما قطع من جلدة الذكر عند الختان يعاد.

    وأما حشرهم بهماً فمعناه أنهم غير ممولين، أي: لا يملك أحدهم من متاع الدنيا شيئاً، ويحشر على هذه الهيئة جميع الخلق، وفيهم الأنبياء والصالحون والصديقون والشهداء وغيرهم.

    أرض المحشر

    ويحشرون على أرض بيضاء نقية لم يعص الله جل وعلا فيها قط، قال الله جل وعلا: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم:48] وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض؟ قال: (هم في الظلمة دون الجسر) والجسر المقصود به: الصراط.

    وقد جاء في الحديث الصحيح عن الأرض التي يحشر عليها: (ليس فيها علم لأحد) والعلم إما جبل أو هضبة أو رابية، وهذا هو العلم الطبيعي، وأما العلم غيره فهو ما يضعه الناس من علامات ليعرفوا بها الطرائق والأماكن، فهذه الأرض ليس فيها علم لأحد، فليس فيها علم من عند الله، وليس فيها علم يتخذه إنسان لنفسه، قال الله: لَا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتاً [طه:107].

    فالناس يحشرون حفاة عراة غرلاً بهما، وكونهم عراة يستوجب -وفق مقاييس الدنيا- أن ينظر بعضهم إلى بعض، ولكن مقاييس الدنيا لا تطبق على الآخرة، فقد سألت عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم بما استقر عندها من مقاييس الدنيا، فقالت: (الرجال والنساء عراة ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال صلى الله عليه وسلم: يا عائشة ! الأمر أعظم من ذلك) أي: لا يمكن أن يكون أحد لديه من فراغ القلب آنذاك ما ينظر به إلى من حوله، فكل امرئ مشغول بنفسه، وهذا يبين لك عظمة أهوال يوم القيامة، فالناس عندما يحشرون لم يكونوا قد عهدوا حشراً سابقاً يقيسون عليه، فلا يدرون أين يذهبون، وقد شبههم الله في القرآن مرتين، فقال في القارعة: كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة:4] والفراش غير منتظم، فلا يدري أين يذهب، بل يحوم بعضه حول بعض، فالناس يخرجون ينتشرون ميمنة وميسرة، ثم لا يلبثون أن يستمعوا إلى إسرافيل يقودهم إلى أرض المحشر، فعندما يستمعون إلى إسرافيل عليه السلام يقودهم إلى أرض المحشر ينتظمون، فانتقلوا إلى حالة أخرى، قال الله: كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ [القمر:7]، والجراد يمشي على هيئة جماعات منتظمة، وبهذا يمكن الجمع بين وصفي القرآن.

    فيقودهم إسرافيل عليه السلام إلى أرض المحشر، وهذا ما أخبر الله عنه بقوله: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً [طه:108] وأفضل ما فسر به قول الله جل وعلا: إِلَّا هَمْساً [طه:108] أنه وقع أقدامهم الحافية على تراب المحشر، وقيل غير ذلك، ولكن هذا في ظني أقرب إلى الصواب، والعلم عند الله.

    فيسوقهم إسرافيل إلى أرض المحشر ولم يسبق لهم أن جُمعوا، ولم يسبق لهم أن حشروا، وينتظرون مجيء الجبار جل جلاله ليفصل ويحكم تبارك وتعالى بين عباده.

    علمنا الله وإياكم ما ينفعنا، ونفعنا بما علمنا، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756605377