إسلام ويب

مفتاح التميزللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تحدث الشيخ في هذه المحاضرة بأسلوب أدبي عن نماذج يقتدى بهم ممن خلد الله ذكرهم.

    من هؤلاء الذين ذكرهم: الخلفاء الراشدون، ومواقفهم التي اشتهروا بها في خدمة دين الله.

    وتكلم بعد ذلك عن الأئمة الأربعة وختم بنبذة عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله ومن والاه.

    سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

    أيها الإخوة الفضلاء: هذه محاضرة: "مفتاح التميز" أردت أن أقدم نماذج من أعلام الإسلام بأسلوبٍ أدبي؛ علَّها أن تنفث في القلوب همةً وعزيمةً ومضاءة.

    وقفة مع أبي بكر الصديق

    أبو بكر الصديق رضي الله عنه: عتيقٌ في الجاهلية، صديقٌ في الإسلام، حاضرٌ في المغارم، غائب في المغانم، أحب صاحب الدعوة فقاسمه الخوف والعناء والمشقة، وشاطره الهم والمعاناة واللوعة، مناقبه خصائص تمنع الاشتراك، وخصائصه أكاليل لا تقبل غيره، ضاقت به الدنيا فدخل الغار مع صاحبه، والله يقول: فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ [الكهف:16] خشي على صاحبه من العقرب فسد الثقب بإصبعه، لدغ فما أنَّ، فقال له صاحبه: تأنَ، خاف على المختار في الغار من الكفار فصاح من شدة العناء: أفديك أنا، فنودي: لا تحزن إن الله معنا.

    هو مثل الخليل إبراهيم، وَحد الرحمن، وحطم الأوثان، وأكرم الضيفان فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:13]

    أبو بكر هو الأول في الإسلام وفي الهجرة والجهاد، إلى الله سبق، وبشرعه نطق، وفي القول صدق، فلا تركبن في سريته طبقاً عن طبق، زوج ابنته الإمام، واشترى المؤذن، وبنى المسجد، فنال جائزة: وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:21]

    مع الصديق إداوة يسقي بها الصاحب، وسيفٌ ينافح به عنه، ولسانٌ يدعو إليه، وقلبٌ يحبه، وعينٌ تبكي لحديثه، وجفنةٌ تطعم ضيوفه.

    أبو بكر قيل له: نُبئ صاحبك، قال: صدق، قالوا: ونزل عليه جبريل، قال: صدق، قالوا: وأخبرنا أنه أسري به، قال: صدق، قالوا: وذكر أنه عرج به، قال: صدق، فقيل له: أنت الصديق حياً وميتاً، لقبٌ يبقى لك مجرداً ومضافاً، نكرةً ومعرفة، مفرداً وجمعاً.

    آمنت بالذي جعل الصديق في الإيمان آية للسائرين، إن حانت الصلاة؛ فهو في الصف الأول من القانتين، وإن تلا غلبه البكاء، وابيضت عيناه من الحزن خشية لرب العالمين، وإذا ادلهم الخطب عرض روحه للمنايا، وقدم رأسه لسيوف المقاتلين، لا يكفه أن يدعى للجنة من باب بل من الأبواب الثمانية، ولم يسعه أن يعتنق الإسلام في مكة سراً بل علانية، دخل مع الصاحب في الغار، وخرج معه للهجرة، وبات معه في بدر، ولزمه في حنين، وسافر معه إلى تبوك، وحج معه، وناب عنه في الإمامة، وقام مكانه في الخلافة.

    لما مات الصاحب سال دمعه سريعاً ساخناً صادقاً، فلما ارتد بعضهم عن الإسلام جف دمعه، وصلب عوده، واشتد ساعده، ولعلع سيفه، وزمجر صوته، فرد من شرد، وأقام من قعد، وأدخل بالسيف في قلوب الناكثين قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] فكان لسان الحال في الأزمات يحييه، اثبت أحد.

    قال المارقون: لا ندفع مالاً، فأقسم: [[والله لو منعوني عقالاً...]] فسل سيف الحق.

    ارتد مسيلمة الكذاب، فقال الصديق: يا ذباب! يأتيك الجواب فألبس خالداً العمامة، قال: هيا إلى اليمامة، فاهتز سيف الله المسلول، فصبح المرتدين وهم في ذهول، فحطَّم الجماجم، وأذل الباطل وهو راغم، أبو بكر ما أشده! هو رجل الشدة، وبطل يوم الردة، الأسود تَسود، والمثالب للثعالب.

    أبو بكر ثلاث ليالٍ، وثلاثة أيام، وثلاث ساعات، ليلة الغار، وليلة بدر الأبرار، وليلة الدار، أبو بكر يوم أعلن إسلامه، ويوم ارتحل مع صاحبه مرةً خلفه، ومرةً أمامه، ويوم جهز جيش أسامة، وأبو بكر ساعة سمع سورة اقرأ، وساعة صدَّق المعصوم في الإسراء، وساعة مات الحبيب وأظلمت الغبراء.

    أبو بكر أعلن الحرية؛ لأنه أول من استقبل عبداً، وأول من ودع عبداً، استقبل بلالاً أيام البلاء، يوم كانت قريشاً ثائرةً على السود، هائمة في السيادة، ضالعةً في الاستعباد، وودع أسامة الأسود يركب على الفرس بسواده، والصديق يطأ الثرى ببياضه، ليقول للناس: لا ألوان، لا أنساب، لا ألقاب، عندنا رسالة ويقين، وطهر ضمائر، وسمو همم، هو مع خليله وإمامه وحبيبه وأسوته، في الصلاة خلفه، في الحرب أمامه، في الطلب لديه، في المهمات عنده.

    أبو بكر قلبٌ نبيل، وجسمٌ نحيل، وشاب الإرادة، وشيخ التجارب، أحيا قلبه بالإيمان فلم يمت أبدا، وأمات نفسه عن الشهوات فلم تعش أبداً، هاج الناس يوم مات الرسول صلى الله عليه وسلم فسكن أبو بكر، تلعثموا فتكلم، أراد أن يخبرهم بالمصاب فأتى بالعجب العجاب: [[من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌ لا يموت]].

    أبو بكر نحيفٌ أسيفٌ شريف، نحيف لم يثخن من موائد اللاهين وبعض الرعية في أسراب الجائعين، وأسيفٌ بكى من التنزيل، ودمعت عيناه من خوف الجليل، ووجل ليوم الرحيل، وشريف سمت روحه عن الشهوات، وعظم قلبه أن تناله الشبهات، ونظفت يده أن هاء وهات، عنده صحة فطرة، سقاها معين التوحيد، ونضحها نسيم الهجرة، وأنضجتها شمس الجهاد.

    عقيدته توقد من شجرةٍ مباركة لا شرقية ولا غربية، بل ربانية سُنية سلفية، نورٌ على نور، شاب رأسه من تلك الأيام، يوم رأى إمامه وقدوته يؤذى في الطواف، ويوم شاهد السيوف تلف الغار، ويوم أبصر الحبيب يودع الحياة، صفقته رابحة، وكِفته راجحة، وعطاياه غاديةً رائحة، أنطق بحجته ألسنة النبلاء، فشهدت أن لا إله إلا الله، وأسكت بدولته أفواه البغاة يوم قالت: لا إله، أرسل لواءه الأبيض على الأسود العنسي فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً [الإسراء:12]

    وأرسل طلحة على طليحة فصغر الاسم، ومحا الرسم، ولا يغلب اسم الله اسم، جمع له المرتدون الخيول المرسلات؛ فسلط عليهم السيوف النازعات، منعوا زكاة المال؛ فأخذ منهم زكاة الرجال، قطعوا الحبال فارين؛ فجرهم في العمائم مقيدين.

    مات المعلم يوم الإثنين، ومات التلميذ يوم الإثنين؛ لأنه ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40] وتنتهي بهما في دار المقام، ويذهب الحزن كله، وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر:34].

    وقفة مع عمر بن الخطاب

    عمر بن الخطاب: أسلم قوياً، وهاجر قوياً، وقتل قوياً، شمر قميصه في اليقظة؛ فجره في المنام، أراد صلى الله عليه وسلم أن يدخل قصره في الجنة فذكر غيرته فلم يدخل، انتقل من عميرٍ إلى عمر، إلى الفاروق، إلى أمير المؤمنين، إلى جنات النعيم.

    إسلامه فتحٌ هز مكة، ووقف النصر على بوابة مدينة الإسلام منادياً: ادخلوها بسلامٍ آمنين، وهجرته نصرٌ؛ لأنه هاجر متحدياً شامخاً ظاهراً، وخلافته رحمة؛ لأنه أول الجائعين والمساكين والزاهدين.

    وضع يمينه في يمين الرسول صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم بن أبي الأرقم، فعز الإسلام، وارتفعت الأعلام، وانهزمت الأصنام، واندك الباطل، وسحق الزيف، وقمع الضلال، وغربت شمس الزور.

    ووضع يده في يمين أبي بكر في سقيفة بني ساعدة، فساد الأمن، وتوطدت الخلافة، وحسمت الفتنة. كسر بسيف الشرع ظهر كسرى، وقصَّر بالحق آمال قيصر، وأرهق بكتائب الله هرقل.

    إذا سمع الباطل أزبد وأرعد وتهدد وقام وقعد وأنجز ما توعد، وإذا سمع القرآن بكى وشكا وتململ وتزلزل.

    كان عمر في جبين الدهر دُرة؛ لأنه قرع الظلم بالدرة، فلله دره، خاف منه الشيطان، وارتعد لرؤيته الهرمزان، وانتهت به دولة آل ساسان.

    درته لله درها، وما أدراك ما هي؟! درة عمر؛ لخبط رءوس الضلال، وضرب أكتاف الظلمة الجهال، وتأديب العمال.

    قميص عمر مرقع، تغير لونه بدم عمر يوم طعن، فصاح لسان حال عمر: اذهبوا بقميصي وائتوني بكفنٍ فقد مللت الحياة.

    طاش عقل صبيغ بن عَسْلٍ بالترهات وفاش، فأحضر عمر الدرة، وخفقه حتى فقد وعيه ثم أيقظه وقال: كيف تجدك؟ فصاح: أصبحنا وأصبح الملك لله.

    طعن في الصلاة، ومات في المحراب، ودفن في الروضة.

    هُدِّمت به قصور فارس؛ لأن بيته من طين، وكسرت به سيوف رستم؛ لأن بيده درة، وخلعت به تيجان آل كسرى؛ لأن قميصه مرقع.

    له ثلاث وقفات، وثلاث رؤى، وثلاث كلمات، وطعن بثلاث طعنات، وقفة يوم أسلم، ويوم هاجر، ويوم بايع الصديق، ورؤي القميص يجره في المنام، ورؤي قصره في الجنة، وطعنة الشهادة والبطولة والانتصار.

    تعرض للموت في كل مكان فما وجده إلا في المحراب، دوخ ملوك العالم؛ فقتله عبد، قتل ساجداً لأن قاتله لم يسجد لله أبداً، وخرج اللبن الذي شربه يوم طعن؛ لأنه اكتفى بفضل ما شربه من اللبن الذي شربه الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول وهو يتنهد: [[يا ليتني كنت شجرةً تعضد]] فنال الشهادة في المسجد.

    وافق الوحي، وخالف الهوى، وتابع المعصوم، وتلا الصديق، وسبق الملوك، وصحب العدل، وجدَّ في الأمر، وعزم عن رشد، في الصلاة باكياً، في المعركة غاضباً، من الدنيا واجماً، إلى الآخرة ضاحكاً، إلى الرعية قريباً.

    عمر كالطائر الحذر، لا يصاد بالشباك، ولا يقع في الأشراك، ولا يهبط على الأشواك، لماحٌ يقظ نبيه، جاءته كنوز فارس والروم فوزعها على القوم، رفض الديباج لأنه على منهاج، لا يرى لبس الحرير ولا الجلوس على السرير ولا أكل الطرير؛ لأنه تلميذٌُ البشير النذير، إن وجد ضالاً نصحه، وإن عاند مكابر بطحه، وإن انتشر ضلالٌ فضحه.

    سمع الوحي فقال: الله أكبر، وقرقر بطنه من الجوع فقال: [[قرقر أو لا تقرقر]] فبقر في سبيل الله بالخنجر.

    طالت همته؛ فقصر أمله، كبرت نيته؛ فصغرت نفسه، اتسع فهمه؛ فضاق وهمه، كان للظلم بالمرصاد، فكم من ظالمٌ قد صاد، ظنه يقين؛ لأنه صحب الأمين، وردد وراءه آمين.

    قيل له: الروم بالجيوش رموك، فقال: الموعد اليرموك، أطلق كسرى الرصاص، فكتب عليه القصاص، وأرسل له سعد بن أبي وقاص.

    جاع يوم الرمادة حتى شبعت الرعية، ولبس المرقع حتى توشح الناس بالأقبية، وقتل حتى تحيا الملة، فلا تموت أبدا.

    هو بابٌ دون الفتنة كسر، فدخلت منه الطوائف، كلما دخلت أمة فاقت في الشر أختها، أراد أهل الضلال العبث في الكتاب فضرب بينهم بسورٍ له باب.

    خرج من الدنيا فأطلت برأسها الخوارج، ورفض العيش فأقبلت الرافضة، ولقي قدره فعشعشت القدرية، افترس فارس بـسعد الفوارس، ورمى الروم بـخالد فطاش راميها، وبغثر سجستان بـالنعمان، وأرغم هرقل وأنو شروان، وجبا خزائنهما يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان.

    قتل عمر ولكنه عاش، ارتحل لكنه أقام، هو فينا، وفي ضمائرنا، وعروقنا، ودمائنا، وقلوبنا، وعيوننا.. في الأبطال، والرجال، والأطفال.

    عمر الحزم عند ورود القلق، والعزم مع طائف التردد، واقتناص الفرصة قبل أن تدبر، قويٌ حتى تضعف صولة الباطل، شديدٌ حتى تلين قناة الزور، همه تحقيق العدل، ورسوخ المساواة، وحفظ الحقوق، وكسر أنف الأنفة، وقمع جولة الجبروت، عنده حكمةٌ للقلوب، ودرة للأكتاف، وسيفٌ للرقاب.

    طبت يا عمر حياً وطبت ميتاً، لبست جديداً، وعشت حميداً، ومت شهيداً.

    وقفة مع عثمان بن عفان

    عثمان بن عفان: تستحي منه الملائكة، يحبه المؤمنون، يكرهه المارقون.

    عثمان يساوي البر والإحسان، والصدقة والقرآن، والصبر والإيمان.

    بذل ماله بلا مِنَّة، جمع القرآن والسنة، فصحب الحبيب في الجنة.

    زحف الخطر فجهز جيش العسرة، وأقبل الظمأ فشرى بئر رومة، وتقدم الجوع فأطعم الناس، ودهمه السهر فقام بالقرآن.

    سموحٌ صفوح، لا يطالب بالثأر، فجرح بسيف الثوار.

    زوجه صلى الله عليه وسلم ابنتين، واشترى نفسه مرتين، وبايع لخليفتين، فاستحق لقب ذي النورين.

    غاب عن بدر؛ فناب عنه المسلمون، ذهب يوم العقبة في المهمة فناب عنه الإمام الأعظم، إن غاب حضرت أعماله، إن شهد حسنت خلاله، جهز جيش العسرة، فسمع المعلم الأطهر يقول على المنبر: {اللهم ارضَ عن عثمان فإني عنه راضِ} تكفل بمؤونه القوم فكوفئ بـ: {ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم}.

    قتل فمزق مصحفه؛ لأن المضاف له حكم المضاف إليه، آخر أيامه كان صائماً، وآخر لياليه بات قائماً، قتل وهو يتلو القرآن فدخل من باب الريان، تسحر في المدينة، وصلى العصر في الروضة، وأفطر في الجنة.

    حسن عمله فطال عمره، وطاب مخبره فصح مظهره، أحسن الرفادة فكوفئ بالشهادة.

    عثمان أخذ من الإسلام السماحة، ومن الحق الوضوح، ومن الشمائل الحياء، ومن القيم البذل، المال عنده: نفعٌ في الملمات، والجود عنده: كشفٌ للكربات، والحياء لديه: نكوصٌ عن العثرات.

    كان يئن بالآيات في الهجيع، فرافقه القرآن إلى البقيع، فلله دره من ضجيع.

    هنيئاً لـعثمان يوم اشترى الجنة بأغلى الأثمان، ذهب عثمان بصيامه وجهاده وتلاوته وحيائه وبره وإحسانه، وبقي ذكره والثناء عليه والدعاء له، وحبه يداً بيد، مثلاً بمثل، سواء بسواء، هاء وهاء.

    قتل من غير ذنب، وذبح من غير جرم، لكن منزلته السامية ومكانه الرفيع، لا يوصل إليه إلا بدم، ولا ينال إلا بشهادة، أما آن لـعثمان أن يلقى الرحمن؟ أما آن للمجاهد أن يرتاح، وللصائم أن يفطر، وللمتهجد أن ينام؟

    وقفة مع علي بن أبي طالب

    علي بن أبي طالب: سر هذا الإنسان أنه يحب الرحمن ويحبه الرحمن.

    هذا الرجل شجاعٌ يجيد فن قطع الرءوس الوثنية على الطريقة الإسلامية، إذا ضرب بالسيف هزه هزاً؛ لأن في الرءوس مسامير اللات والعزى.

    أسلم طفلاً، وحضر بدراً شاباً، وتولى الإمامة كهلاً، وقتل شيخاً، فالسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً.

    هو صاحب تلك الكلمات، وأستاذ تلك العبارات، ومدبج تلك الجمل النيرات، لا يحبه إلا مؤمن، ولا يبغضه إلا منافق، لا يخرج عليه إلا باغٍ، لا يسبه إلا فاجر.

    خطف رأس الوليد في بدر، وسلب جمجمة عمرو في الخندق، ونحر العاص بن وائل في يوم الفرقان، وكسر لواء الباطل يوم أحد، ودك الحصن يوم خيبر.

    علي مرفوع بين الرفض والنصب، الرافضة جاوزوا فيه العدل، وقالوا فيه بالجهل، وقد أغناه الله عن قيلهم، وتزكيته خيرٌ من تعديلهم، وأهل النصب نسبوا إليه المساوئ ودفنوا محاسنه ولم يرووها كما هي، فرفض أهل السنة فريضة الرافضة، ونصبوا نصاب العدل في وجوه النواصب، فـعليٌ عند أهل الحق لاحت نجومه، وارتفعت سهومه.

    نهشته الحراب في المحراب، فسجد سجدة طويلةً لله لم يرفع رأسه بعدها أبداً، فصيحٌ لَسن، كل ما فيه حسن، ليعش أبو الحسن.

    ماذا نقول وهو ابن عم الرسول، وسيفه المسلول، وزوج ابنته البتول.. أبناؤه سادة الأبناء، وعمه سيد الشهداء؟

    حطم جماجم المشركين، ومزق جلود اليهود، وكمم أفواه البغاة، وأخرج بالسيف أدواء الخوارج.

    شتت شمل الفتنة في الجماعة، وجمع شمل الأمة في الفتنة، جبر قناة الدين، وكسر رمح المعتدين، له في عالم البطولات فنون، وله في عنق الأمة ديون، وهو من الحبيب بمنزلة هارون.

    أعطى الدين كل همه، فنام في فراش ابن عمه، من أحب محمداً أحب علياً، ومن أحب علياً أحب محمداً.

    حطم درعه فتزوج به فاطمة، وكسر سيفه فعوض بذي الفقار، ومزق قميصه فألبس تاج: ويحبه الله ورسوله.

    طلب الشهادة في بدر؛ قيل له في أحد، فبحث عنها هناك؛ فنودي: لعلها في حنين، فهب إليها قالوا: ربما تكون في خيبر، فلما وصلها قالوا: تأخر الموعد، قال: ما أحسن القتلة في المسجد! قتلوه قتلهم الله، ألا سألوه عن العلم، فإنما شفاء العي السؤال.

    بديهته أسرع من الضوء، وأعجل من البشرى، وأنصع من الفجر، عالمٌ إن لجلج في الأعماق غاص، وإن طلب الحجة حضرت بلا مناص؛ لأنه من الخواص، جبنت نفسه عن طلب الدنيا فالأثاث حصيرٌ وركوة وملحفٌ وجفنة، وتاقت نفسه للجنة، فالزاد إيمانٌ وهجرةٌ وجهادٌ وشهادة، ما فر في معركة قط وما ضرب بسيفه في الكفار إلا قط.

    الناس فيه طرفان ووسط، ما بين غلوٍ وشطط، مادحٌ غلا حتى ادعى في عصاميته العصمة، وقادحٌ جفا حتى شك في صحة صحبته، وهو لا هذا ولا ذاك؛ بل هو ابن عم النبي الأمي المنير، وهو عالمٌ مجتهدٌ نحرير، للمؤمنين أمير، وبكل فضلٍ جدير.

    علي أشجع ما يكون إذا لقي، أرهب ما يكون إذا بكى، أصدق ما يكون إذا نطق، آنس ما يكون إذا ضحك.

    من مفاخر الشجاعة أن علياً وحيدها، ومن تفاهة الدنيا أن علياً لا يحبها، ومن مدائح المنابر أن علياً بطلها، ومن خصائص الشهادة أن علياً يخطبها.

    ترخص عندنا الدنيا إذا ذكرنا علياً، نشتاق للشهادة إذا ذكرنا علياً، يغضب الباطل إن أحببناه، ويثور الحق إن أبغضناه.

    علي طرازٌ آخر، وقصة أخرى، وشيءٌ ثان، إن تكلم فهي الكلمة الثائرة العابرة الصادقة، وإن ضرب فهي الضربة القاتلة القاضية، وإن بكى فهي الدمعة الحارة المعبرة الواعظة، وإن ضحك فهي البسمة الموحية الجاذبة الآسرة.

    زهدٌ إذا أقبلت الكنوز، ثباتٌ إذا ادلهمت الخطوب، شجاعة إذا حضرت الجيوش، فصاحة إذا ازدحمت الجموع، علي للمواقف، أبو الحسن للمعضلات، أبو تراب للأزمات، أحبك يا علي، وأحب من يحبك، يا أبا الحسن! أحبك حباً كثيراً طيباً كما تحب أن يكون الحب، وافياً مثلما تريد أن يكون الوفاء، صادقاً كما تهوى أن يكون الصدق.

    وقفة مع بلال بن رباح

    بلال بن رباح: صاحب أنشودة الكفاح الأولى، سحبوه وهو يردد: (أحدٌ أحد)؛ لأن الرجل ذاق: (قل هو الله أحد) الحياة عنده أن يموت الباطل، الموت لديه أن يعيش الباطل، رماه الكفار بالحجارة فأخذه الإمام ورفعه علىالمنارة، وصل بصوته أهل الأرض بأهل السماء، وأهل الفناء بأهل البقاء، والضعفاء بالأقوياء، فهو صمود المستضعفين أمام الجبروت، وقلعة البائسين في وجه المستكبرين، بلال قصة الإسلام يوم ألغى الرق، وحرر الضمير، وأنهى الاستبداد، وأكرم الموالي، تمثل فيه السمو بلا نسب، والنبل بلا مال، والرفعة بلا جاه، والعزة بلا عشيرة، أذن بلال الأسود على الكعبة السوداء معلناً سيادة الحق.

    بلال ثلاثة مشاهد: مشهد الحجارة السوداء تصلي جسمه، والأذان يتفجر من حنجرته، ونشيد:

    غداً نلقى الأحبة     محمداً وحزبه

    بلال برهانٌ على عظمة المبدأ، وانتصار القيم، ورسوخ الميثاق.

    استعبده أمية فحرره أبو بكر، أرخصه الكفر؛ فأغلاه الإسلام، لفظته الأرض فاستقبلته السماء، ضربت قدماه بالسياط فسمع دفَّ نعليه على البساط، أزعج المشركين بنداء: (أحدٌ أحد) وأطرب المؤمنين بأذان: (أشهد أن لا إله إلا الله).

    موهبة بلال يعبر الأثير في صرامة وحرارة، ولدته أفريقيا، وربته آسيا، وأنصتت لصوته أوروبا، الأهل في الحبشة، والشباب في مكة، والعمل في المدينة، والمنصب على المنارة، والوفاة بـالشام، والموعد الجنة.

    الإمام قرشي، والمؤذن حبشي، ماء النسب عقيدة، وصلة القربى مبدأ، وعروة المحبة إيمان، فالتقى الماء على أمرٍ قد قدر.

    بلال حيث ينتصر الحق على الباطل، والحقيقة على الخيال، واليقين على الظن، والفقر الطاهر على الغنى الزائف.

    ألا يكفي جلادي العالم عبرةً أن السياط لا تلغي القيم، وأن المشانق لا تقتل مبادئ، وأن التعذيب لا يميت الحق، والدليل سيرة بلال، فقد بقي صوته ينقل حياً على هواء القلوب، عبر أثير الصدق والصمود والإصرار والصلاح والصبر.

    بلال: تحدى بطهره الحجارة، وبحنجرته الفضاء، وبحبشيته أمية بن خلف، وبالسواد البياض، وبالقلة الكثرة.

    إن جاءت الإمامة بشارة، قال: يا بلال! أذن في الناس، وإن حزبه أمرٌ قال: {أرحنا بالصلاة يا بلال}.

    في سيرة بلال: أن المجد لمن غلب، وأن النهاية لمن صبر، وأن العاقبة لمن افتقر، ركوة لشرب المعلم، وعصا بلال سترة للإمام، وعين بلال لمراقبة الفجر، وفم بلال لإعلان الميثاق.

    ركب بلال المنارة منادياً إلى الصلاة، وركب الكعبة صارخاً بالحق، وركب فرسه منافحاً عن الملة، ثم ركب أكتاف الأبطال إلى الجنة، والآن يرقد بلال بعد أن أدى ما عليه، وسلم ما لديه، وقاتل بيديه، وسعى بقدميه، ويكفيه أنه في الجنة يسمع دف نعليه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088779025

    عدد مرات الحفظ

    778972237