إسلام ويب

كتاب التوحيد [4]للشيخ : عبد الرحيم السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • هناك ضابط للأعمال الشركية وهو: أن كل عبادة لله إذا صرفت لغيره تكون شركاً أكبر، وما كان منها وسيلة إلى الشرك فهو شرك أصغر، ومن جملة الأعمال الشركية الذبح والنذر لغير الله، والاستعاذة والاستغاثة بغير الله، والسحر والعيافة والطيرة والكهانة والتنجيم ونحو ذلك.

    1.   

    الأعمال الشركية في توحيد الألوهية

    بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً إلى يوم الدين، أما بعد:

    فهذا هو الدرس الرابع من دروس شرح كتاب التوحيد، وموضوع هذا الدرس هو الأعمال الشركية في توحيد الإلوهية، وقد عقد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في هذا الكتاب مجموعة كبيرة من الأبواب تتعلق بالأعمال الشركية في توحيد الإلوهية، وسنقسم هذا الموضوع إلى قسمين، فالقسم الأول سنأخذه في هذا الدرس إن شاء الله تعالى، والقسم الثاني سنأخذه في الدرس التالي بإذن الله تعالى.

    1.   

    الذبح لغير الله تعالى

    أول عمل من الأعمال الشركية بدأ بذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله هو الذبح لغير الله تعالى.

    والذبح المراد به: ذبح بهيمة الأنعام على وجه التقرب؛ إذ الذبح نوعان:

    النوع الأول: ذبح التقرب والتعبد.

    والنوع الثاني: الذبح العادي الذي يفعله الإنسان من أجل الاستفادة من المذبوح بالأكل، ويدخل في ذلك إكرام الضيف مثلاً، فأما النوع الأول -وهو الذبح الذي يكون للتعبد- فهو نوعان:

    النوع الأول: الذبح لله سبحانه وتعالى، فهذا توحيد يثاب عليه الإنسان، مثل ذبح الأضاحي والهدايا، وذبح العقائق أيضاً، والذبح الذي يكون في التقرب المطلق إلى لله سبحانه وتعالى بإطعام الفقراء ونحو ذلك فكل هذا من التوحيد، والإنسان مأجور على هذا العمل.

    النوع الثاني: الذبح لغير الله سبحانه وتعالى، مثل الذبح للجن، أو الذبح للقبور وأصحاب القبور، أو الذبح لمعظم أين كان هذا المعظم على سبيل التقرب، فهذا من الشرك المخرج عن دائرة الإسلام.

    وأما النوع الأول من أنواع الذبح -وهو الذبح العادي الذي لا يريد به صاحبه التقرب- فلا بأس به، كأن يذبح الإنسان ليأكل أو يطعم غيره من الضيوف والأهل ونحوهم، فهذا لا يدخل في الشرك؛ لأنه لم يفعل على سبيل التقرب.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في الذبح لغير الله.

    وقول الله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163]].

    ووجه الدلالة من هذه الآية على موضوع الذبح لغير الله عز وجل هو أن الله عز وجل قال: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي [الأنعام:162] والنسك المراد به هنا الذبح وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162-163]، وهذا دليل صريح واضح على أن الذبح قد يقصد به التعبد، فإذا قصد به التعبد فلا يجوز أن يكون إلا لله سبحانه وتعالى، ومن فعله لغير الله سبحانه وتعالى فقد وقع في الشرك.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2]].

    والصلاة هنا فسرت بأن المراد بها صلاة عيد الأضحى، ومن فسرها بذلك أخذها من دلالة الاقتران بين الصلاة والنحر في موضع واحد، وقال: هذه لا تكون إلا في عيد الأضحى فقط، ولم تقترن الصلاة بالذبح في أي موضع آخر، ولعل الصواب أن الصلاة هنا عامة، والنحر -أيضاً- عام، وليس خاصاً بالأضاحي، فيكون المراد بالآية الصلاة بكل أنواعها وأصنافها، والنحر بكل أنواعه وأصنافه، ومنها الأضاحي، ومنها الهدايا، ومنها العقائق مثلاً، ومنها ما يذبحه الإنسان تقرباً لوجه الله سبحانه وتعالى، وجاء المؤلف بها ليبين أن النحر عبادة؛ لأن الله أمر به فقال: وَانْحَرْ [الكوثر:2]، ولا يمكن أن يأمر الله سبحانه وتعالى بشيء إلا وهو عبادة، والقاعدة العامة أن أي عبادة من العبادات إذا ثبت أنها عبادة فصرفها لله عز وجل توحيد، وصرفها لغيره سبحانه وتعالى شرك وتنديد.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [عن علي قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: (لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثاً، لعن الله من غير منار الأرض) رواه مسلم ].

    هذا الحديث فيه بيان أن من ذبح لغير الله سبحانه وتعالى فهو ملعون؛ لأنه قال: (لعن الله من ذبح لغير الله)، ولا يكفي أن نستدل على كفر الذابح لغير الله باللعن؛ لأنه قد يكون اللعن واقعاً على بعض المعاصي، فأكل الربا، والشهادة عليه، والرشوة اقترنت في غير هذا الحديث باللعن، وهي مجموعة من الكبائر وليست مكفرات، ولكن يمكن أن نأخذ من هذا الحديث النهي عن الذبح لغير الله سبحانه وتعالى، وأنه من كبائر الذنوب، ونأخذ أنه يكون كفراً أكبر إذا قررنا أنه عبادة.

    ومن النصوص الدالة على أن العبادة إذا صرفت لغير الله عز وجل تكون شركاً، قوله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء:36].

    وقوله: (لعن الله من لعن والديه)، هنا الوالدان يشمل الأبوين القريبين من الإنسان ويشمل الأجداد أيضاً، وقوله: (لعن الله من آوى محدثا) يشمل نوعين: من فعل المصيبة التي تستوجب الحد، والمحدث المبتدع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، فقوله: (لعن الله من آوى محدثاً) يعني: ستر وأعان وساعد، صاحب بدعة أو صاحب جريرة عظيمة، يطلب بها شرعاً، مثل من قتل شخصاً وهرب، أو زنى وهرب، أو نحو ذلك، فمن آواه يصدق عليه هذا الحديث، كما أن من آوى مبتدعاً يصدق عليه هذا الحديث، وهذا يدل على خطر إيواء المبتدعة والسكوت عنهم، ويدل على أن الرد على المبتدعة والوقوف ضد أهل البدع والضلال -ولو كانوا من المسلمين- منهج نبوي صحيح؛ لأنه هنا ذم من عطف على مبتدع وتعاون معه وستره وامتنع من الرد عليه.

    والتعامل مع المبتدعة على أنواع، فالمبتدع إذا كانت بدعته لا تخرجه عن دائرة الإسلام، فإننا نتعامل معه على أنه مسلم، ونعطيه حقوق الإسلام، إلا إذا كان هجرانه يجعله يترك البدعة فإننا حينئذٍ نهجره ليترك بدعته، لكن إذا كان الهجر لا ينفع معه فإننا لا نهجره، ولكن ليس معنى هذا أن نسكت عن البدعة ولا نرد عليها، فلا بد من الاتزان في هذه القضية، فكثير من الناس لا يحسن التعامل مع أهل البدع، فبعض الناس يتعامل مع أهل البدع كأنهم كفار، فلا يترحم عليهم، ويقول: لا نصلى عليهم، ولا نأكل ذبائحهم ونحو ذلك من الأمور التي لا تكون إلا للكافر، مع أن المبتدعة ليسوا كلهم كفاراً، فبعضهم قد يكون كافراً إذا كانت بدعته مغلظة مثل بدعة ابن عربي الذي يقول: إن الوجود كله هو الله، وكل كلام في الوجود كلامه، سواء علينا نثره ونظامه، فهذه بدعة كفرية تخرج الإنسان عن دائرة الإسلام.

    ومثل بدع الباطنية، ومثل بدع الشيعة، ومثل بدع القبوريين، كل هذه تخرج الإنسان عن دائرة الإسلام، فلا يتعامل الإنسان مع من كان كذلك ومن تحققت فيه هذه الأوصاف كما يتعامل مع المسلم.

    وأما الأشعرية وبعض الصوفية الذين ليس عندهم غلو يخرجهم عن دائرة الإسلام فإنهم مسلمون، ولكنهم من المحدثين، فكيف نتعامل معهم؟

    والجواب إذا كان في الهجر مصلحة، بحيث يرتدعون عن بدعتهم، أو يرتدع الناس عن تلقي بدعتهم فإنهم يهجرون، وإذا لم يكن في الهجر مصلحة فلا بد من الرد عليهم وبيان الباطل الذي هم عليه، وإذا لقي أحدهم إنسان فإنه عليه ويعامله معاملة المسلمين؛ لأنه مسلم أصلاً، ومادام أنه مسلم فإنه يصلى على جنازته، وإذا دعاك إلى بيته تجيبه؛ لأنه مسلم، إلا إذا كان في الامتناع عن الإجابة مصلحة، كأن يرتدع عن بدعته أو يرتدع غيره عن البدعة، أما إذا لم تكن هناك مصلحة فلا يصلح للإنسان أن يقول: لا أعطيه حقوق المسلمين.

    وقد أطلت في هذه المسألة مع أنها داخلة بشكل أساسي في الموضوع؛ لأنها قضية مهمة، وكثير من الإخوة وطلاب العلم لا يحسنون التعامل معهم، فإما أن يتعامل مع المبتدعة كما يتعامل الإنسان مع الكفار، وإما أن يتساهل مع أهل البدع، ويقول: لقد فرقتم المسلمين وجعلتموهم أحزاباً وشيعاً، مع أنهم هم الذين افترقوا، ونحن نبين الحق في المسألة، ونرد على المبطل فيها، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الأمة ستفترق، وهذا الافتراق سنة كونية.

    فلا بد من الاتزان في التعامل مع هذه المسألة، فلا نتعامل مع المبتدع بدعة غير مكفرة كما نتعامل مع الكفار، وفي نفس الوقت لا يعني هذا أن نتساهل معه، فينشر بدعته ونتعامل مع الموضوع بشكل عادي، بل لا بد من بيان الحق والرد على البدعة، وأما الهجر فإنه عندما يكون هناك مصلحة، كهجره وطرده مثلاً أو ترك الصلاة عليه ونحو ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم ترك الصلاة على بعض أصحاب المعاصي، ومنهم ذلك الذي غل الشملة، حتى يحذر الآخرون، وأمر أصحابه بأن يصلوا عليه؛ لأنه مسلم وليس بكافر، فلا بد من حسن التعامل مع هذه القضايا، فلا غلو ولا شطط، ولا تساهل ولا تضييع لقضايا أصول الدين، بل ينبغي للإنسان أن يكون عاقلاً في تصرفاته.

    وأذكر أن الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله سئل عن بعض من وقع في بعض البدع وشنع عليه أقوام كثيرون، سئل هل نترحم عليه؟ هل نقول: رحمه الله؟

    فسألهم سؤالاً في المقابل فقال: هل هو مسلم أو كافر؟ فقالوا له: هو مسلم، فقال: إذاً: يترحم عليه مادام أنه مسلم. وهذا كلام منطقي، وهذه صفة أهل العلم الذين يضعون الأمور في نصابها، فالنبي صلى الله عليه الصلاة والسلام يقول: (حق المسلم على المسلم) وكلمة المسلم تشمل السني وتشمل المبتدع صاحب البدعة غير المكفرة، وتشمل العاصي والفاسق.

    وأما استعمال الهجر مطلقاً فغير صحيح، بل إنني أقول في أهل المعاصي من غير أهل البدع في هذا العصر خاصة لا أرى أن من المصلحة أن يهجروا، بل أرى أن من المصلحة أن يزاروا، وأن يجلس معهم، وأن يُدعوا إلى الله عز وجل، وأن يتعامل الإنسان معهم تعاملاً حسناً؛ لأننا في حاجة إلى دعوتهم، فلو أنني هجرت كل أصحاب المعاصي، وأنت كذلك، وفلان كذلك، فإننا سنصبح مجموعة واحدة منفصلة عن بقية المجتمع لا علاقة لنا به، وسنتعامل مع المجتمع الإسلامي بشكل على خلاف منهاج النبوة.

    إذاً: لا بد من أن يعرف الإنسان كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعامل مع القضايا والأمور، وكيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعامل مع المخالفين، ويضبط هذا بضابط النبوة، فلا غلو ولا تساهل.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن طارق بن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب. قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا، فقالوا لأحدهما: قرب، قال: ليس عندي شيء أقرب، قالوا له: قرب ولو ذباباً، فقرب ذباباً فخلوا سبيله، فدخل النار، وقالوا للآخر: قرب، قال: ما كنت لأقرب لأحد شيئاً دون الله عز وجل، فضربوا عنقه، فدخل الجنة). رواه أحمد ].

    هذا الحديث رواه الإمام أحمد في الزهد، وهو حديث ضعيف؛ لأن طارق بن شهاب لم يلق النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، فهو حديث مرسل، والمرسل من أنواع الحديث الضعيف، ولكن الصحيح أنه موقوف على سلمان الفارسي رضي الله عنه.

    والأصل العام في الذبح لغير الله عز وجل أنه شرك إذا قصد به التقرب، وربما يرد إشكال في قصة هذا الرجل، إذ كيف اعتبر مشركاً مع أنه مكره؟ والجواب أن هذا الرجل لا يمكن أن يكون مكرهاً؛ لأنه لو كان مكرهاً لعذر، فهو رجل ليس بمكره، بل انشرح صدره بالكفر، فلهذا كفره النبي صلى الله عليه وسلم، وأما من قرب وهو مكره فهو معذور؛ لأن الله عز وجل عذر المكره، فقال: إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]، والدليل على أن هذا الرجل قرب وهو منشرح لهذا العمل لفظ ودلالة كلمة (قرب)، فإن التقريب يدل على شيء معنوي في الإنسان، فقتل الذبيحة أو الذبابة التي قربها في الظاهر لا يدل على التعبد، إلا عندما يكون له جانب في الباطل، وهو إرادة العبادة، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فقرب) يعني أنه رضي بالشرك، وهذا على القول بصحة هذا الحديث.

    1.   

    الشرك في النذر

    النوع الثاني من أنواع الشرك: الشرك في النذر، والنذر: هو إلزام المكلف نفسه شيئاً لم يكن لازماً عليه بأصل الشرع، ومعنى ذلك أن المكلف يلزم نفسه بعباده بلفظ فيقول: علي لله كذا، أو: علي أن أعمل كذا، كأن يقول: علي أن أصلي عشر ركعات، أو نحو ذلك، فهذا العمل ليس واجباً عليه أصلاً، ولكن أوجبه هو على نفسه، فهذا هو المقصود بالنذر.

    والنذر نوعان: نذر يكون لله سبحانه وتعالى، ونذر يكون لغير الله سبحانه وتعالى.

    فأما النذر الذي يكون لله سبحانه وتعالى فهو نوعان: نذر طاعة، ونذر معصية، كأن ينذر إنسان أن يفعل شيئاً لله عز وجل، وهذا نذر طاعة، مثل: الصلاة والصيام والحج، ونحو ذلك من أعمال الإسلام، أو ينذر أن يعمل معصية، فإذا نذر طاعة فإنه يجب عليه أن يوفي بنذره، وإذا نذر معصية فلا يجوز أن يوفي بهذه المعصية.

    وهناك نوع ثالث في النذر لله، وهو إذا نذر بأمر مباح، فلا يلزمه أن يوفي بنذر المباح، والدليل على ذلك قصة أبي إسرائيل عندما نذر أن يقف في الشمس، يظن ذلك عبادة لله عز وجل، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأمره بترك هذا العمل.

    النوع الثاني من أنواع النذر: النذر لغير الله عز وجل، مثل: النذر للقبور أو النذر للصالحين أو نحو ذلك، سواءٌ أكانت هذه النذور أموالاً، أم كانت هذه النذور عبادات يقوم بها، أم كانت هذه النذور قرابين، أم غير ذلك، فإذا نذر لغير الله فقد كفر بالله سبحانه وتعالى؛ لأن الإيفاء بالنذر عبادة، فقد مدح الله سبحانه وتعالى الصالحين بإيفائهم بالنذر، وهذا المدح يدل على أن هذا العمل عبادة، وإلا فلن يمدحوا به، والقاعدة العامة: أن العبادة إذا صرفت لله عز وجل فهي توحيد، وإذا صرفت لغيره فهي شرك.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب: من الشرك النذر لغير الله.

    وقول الله تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا [الإنسان:7].

    وقوله: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ [البقرة:270]].

    في الآية الأولى مدح للصالحين من أهل الجنة بأنهم يوفون بالنذر، وهذا يدل على أن النذر عبادة، وإلا فلن يمدحوا.

    والآية الثانية: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ [البقرة:270] فيها -أيضاً- هو مدح لمن ينذر نذراً فوفى به، وهذا أيضاً يدل على أن الوفاء بالنذر عبادة.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)].

    قوله: (فليطعه) أمر، والأمر يدل على الوجوب، فهو من العبادة، فهذا دليل صحيح صريح على أن الإيفاء بالنذر من العبادة، فلا يجوز صرفه لغير الله سبحانه وتعالى.

    1.   

    الشرك في الاستعاذة

    النوع الثالث من أنواع الشرك: الشرك في الاستعاذة، والاستعاذة: هي الالتجاء والاعتصام من شيء يخافه الإنسان، فحين تقول: (أعوذ بكذا)، فالمعنى: ألتجئ إليه وأعتصم به من شيء يخاف أياً كان هذا الشيء، وأياً كان هذا المستعاذ به، فهذه الاستعاذة عبادة، وسيأتي الدليل على كونها عبادة.

    والاستعاذة بالله عز وجل توحيد، والاستعاذة بغير الله نوعان:

    النوع الأول: الاستعاذة بغير الله فيما يقدر عليه، أي: الالتجاء إلى مخلوق يقدر على أن يعيذك من هذا الشيء.

    والنوع الثاني: الاستعاذة بالمخلوق من شيء لا يقدر عليه.

    فمثال الاستعاذة من شيء يقدر عليه: أن تكون -مثلاً- في مسبح وتكاد أن تغرق، فلتجأ إلى سباح بين يديك، فإنه قادر على إخراجك من هذا المسبح بإذن الله تعالى، فهو سبب في هذا، فهذا ليس من الشرك، والاستعاذة تكون شركاً في حالتين:

    الحالة الأولى: أن يكون العمل المطلوب مما يقدر عليه الإنسان أو المخلوق في العادة، لكن يطلب من ميت أو غائب لا يقدر عليه طبعاً؛ لأن الميت لا يعمل شيئاً، والغائب لا يدري.

    ومثال ذلك: إذا كنت في البحر، وجاءت الأمواج واقترب الغرق وخفت، فاستعذت بالرسول صلى الله عليه وسلم وهو ميت، أو استعذت بفلان من الحكام الذين لديهم طائرات، ولديهم قدرات، ولكنه ميت أو غائب ليس قريباً منك، فهذا من الشرك؛ لأنه لا يقدر على إنقاذك مما أنت فيه، ولو كان الإنقاذ من الغرق في العادة مما يقدر عليه الإنسان، فإذا كانت عنده إمكانات وقدرات فهو يقدر على إنقاذ الإنسان من الغرق، فأنت لو رأيت إنساناً سيغرق وأنت سباح ماهر قادر على إنقاذه كان إنقاذه من مقدورك وليس أمراً مستحيلاً.

    ومثال الاستعاذة بغير الله عز وجل مما لا يقدر عليه المخلوق في العادة: أن تلتجئ بمخلوق في أن يعتقك من نار جنهم، فلو التجأت بمخلوق في أن يعتقك من نار جهنم فقد وقعت في الشرك؛ لأنه لا يقدر على أن يعيد الإنسان من نار جهنم إلا الله سبحانه وتعالى، فلا يستطيع هذا الأمر نبي مقرب ولا ملك مرسل ولا ولي له فضل.

    إذاً: نخلص من هذا إلى أن الاستعاذة في الأصل تنقسم إلى قسمين: استعاذة بالله، واستعاذة بغير الله.

    فالاستعاذة بالله عز وجل عبادة، وهي توحيد، وقد تكون من الواجب، وقد تكون من السنة، بحسب الحكم المتعلق بها.

    والاستعاذة بغير الله يمكن أن نقسمها إلى قسمين: استعاذة بالمخلوق فيما يقدر عليه، وهذا ليس من الشرك، إلا إذا تعلق القلب بالمخلوق، فهذا من الشرك الأصغر، مثل تعلق القلب بالطبيب -مثلاً- أو بأي إنسان قادر على شيء.

    أما النوع الثاني فهو الاستعاذة بغير الله عز وجل فيما لا يقدر عليه، وينقسم إلى قسمين:

    الأول: ما يقدر عليه الإنسان في العادة، ولكنه يطلب من ميت أو غائب.

    والثاني: ما لا يقدر عليه الإنسان أصلاً في العادة.

    فهذان النوعان كلاهما من جنس واحد، وفعلهما عليه شرك أكبر؛ لأنه صرف للعبادة -وهي الاستعاذة- لغير الله سبحانه وتعالى.

    من الشرك بالله الاستعاذة بغير الله

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب: من الشرك الاستعاذة بغير الله.

    وقول الله تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6]].

    قوله تعالى: يَعُوذُونَ ، يعني: يستعيذون بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6] الرهق: هو الخوف والهم، فذم الله سبحانه وتعالى من استعاذ بمخلوق كيفما كان هذا المخلوق، إنسياً أو جنياً أو من الملائكة أو نحو ذلك.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك). رواه مسلم ].

    وهذا يدل على أن الاستعاذة من العبادة، وإلا فلن يرتب عليها هذا الفضل، والعبادة هي كل ما أمر الله عز وجل به أو عظمه أو بين فضله، سواءٌ أكان على وجه الإيجاب مثل الصلاة وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ [هود:114] إلى آخر الآية، ومثل إيتاء الزكاة وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، أم على وجه الاستحباب، مثل المستحبات كلها الممدوحة عند الله عز وجل، فهذه كلها داخلة في العبادة.

    فمن هذا الحديث يتقرر أن الاستعاذة عبادة، والقاعدة هي أن العبادة إذا صرفت لله فهي توحيد، وإذا صرفت لغير الله فهي شرك وتنديد.

    وقوله: (أعوذ بكلمات الله) المقصود بها: كلام الله عز وجل الذي هو صفة من صفاته سبحانه وتعالى، ومنها القرآن، فالقرآن من كلمات الله، وكلمات الله كثيرة لا تعد ولا تحصى، والقرآن جزء من كلمات الله عز وجل الكثيرة، وكلمات الله عز وجل صفة من صفاته، وهذا يدل على جواز الاستعاذة بصفات الله سبحانه وتعالى.

    1.   

    الشرك في الاستغاثة

    النوع الرابع من أنواع الشرك: شرك الاستغاثة بغير الله سبحانه وتعالى.

    والاستغاثة: هي طلب الغوث وإزالة الشدة، وهي قسمان:

    استغاثة بالله سبحانه وتعالى، وهذا توحيد.

    واستغاثة بغير الله عز وجل، وهي قسمان:

    الأول: طلب الغوث من المخلوق فيما يقدر عليه، فهذا لا بأس به، كأن جاءك عدو يريد الفتك بك وكان عندك شخص آخر فاستغثت به من أجل أن يحميك من هذا العدو وهو قادر على ذلك وليس ميتاً أو غائباً، فهذا جائز ولا شيء فيه.

    والثاني: الاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى، سواءٌ أكان المخلوق قادراً على جنسها ولكنه ميت أو غائب، أو كان المخلوق غير قادر على جنسها.

    فمثال الاستغاثة بغير الله فيما يقدر عليه المخلوق في العادة، ولكنه غائب أو ميت: أن تكون في بحر فتفرق، والأمواج من فوقك، فتستغيث -مثلاً- بنبي أو بولي، أو تستغيث بغائب ليس عندك، فهذا شرك بالله عز وجل.

    ومثال الذي لا يقدر عليه إلا الله عز وجل مما لا يقع جنسه تحت مقدور الناس: مغفرة الذنوب، كأن تستغيث بغير الله في مغفرة ذنوبك أو إدخالك الجنة أو شفائك من المرض مثلاً أو رزقك، أو نحو ذلك، فكل ذلك من الشرك المخرج عن دائرة الإسلام.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب: من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره.

    وقول الله تعالى: وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ * وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ [يونس:106-107]].

    الاستغاثة جزء من العبادة وجزء من الدعاء، والدعاء هو الطلب، والطلب ينقسم إلى قسمين:

    طلب في حالة الشدة والكرب، وهذا يسمى استغاثة.

    وطلب في غير حال الشدة والكرب، فهذا دعاء، والاستغاثة نوع من أنواع الدعاء.

    ويقسم العلماء الدعاء إلى قسمين: دعاء المسألة، ودعاء العبادة.

    فأما دعاء العبادة فهو كل العبادات الشرعية، فكل العبادات الشرعية تسمى دعاء، فالجهاد دعاء، والصلاة دعاء، والحج دعاء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء، والدعوة إلى الله دعاء، والصدقة دعاء؛ لأن فعل العبد لها يتضمن طلب الأجر من الله سبحانه وتعالى، والدعاء هو الطلب.

    والنوع الثاني من أنواع الدعاء: دعاء المسألة، وهذا هو المشهور عند الناس، وهو الذي يكون باللسان، فالفرق بين دعاء العبادة ودعاء المسألة أن دعاء العبادة قد يكون بالقلب، مثل التوكل على الله، ومحبة الله سبحانه وتعالى، وقد يكون بالجوارح، مثل: الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد يكون باللسان.

    وأما دعاء المسألة فلا يكون إلا باللسان، كأن تقول: اللهم اغفر لي وارحمني وتب علي، ونحو ذلك من الدعاء الذي يكون باللسان، فدعا المسألة إذا صرف لله عز وجل فإنه توحيد خالص، وأما إذا صرف لغير الله فهو شرك أكبر، كما لو قال: يا ولي الله! اعمل لي كذا وكذا.

    فكل دعاء المسألة من الشرك، إلا إذا جاء به على صيغة الطلب مما يقدر عليه الإنسان، كأن يقول: يا أخي الكريم! ناولني كذا. فهذا طلب وليس دعاءً بالمعنى الاصطلاحي، وإنما هو دعاء بالمعنى اللغوي، وأما دعاء العبادة فإنه إذا صرف لغير الله يكون شركاً، فمن صلى لغير الله، ومن جاهد لغير الله، ومن ذبح لغير الله، ومن نذر لغير الله فقد أشرك شركاً أكبر.

    وقوله: وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ * وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ [يونس:106-107] وجه الدلالة من هذه الآية على كون الاستغاثة بغير الله من الشرك هو اعتبار من دعا من دون الله من الظالمين، حيث قال تعالى: وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ [يونس:106] يعني: إن دعوت غير الله فَإِنَّكَ إِذاً مِنْ الظَّالِمِينَ [يونس:106]، والظلم المراد به في هذه الآية: الشرك، كما قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، والذي يدل على أن المقصود بهذا النوع من أنواع الدعاء والطلب هو ما لا يقدر عليه إلا الله قوله بعد ذلك: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ [يونس:107]، وهذا يدل على أن هذا من خصائص الله سبحانه وتعالى، وليس هو الطلب العادي الذي يكون بين الناس في الأمور الدنيوية.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ [العنكبوت:17]].

    الابتغاء: هو السؤال بتضرع وخضوع، وهذا هو حقيقة الدعاء بالمعنى الشرعي، والرزق لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى، فهذا يدل على عدة أمور:

    الأمر الأول: أن الدعاء والسؤال من العبادة، والدليل على ذلك الأمر بقوله تعالى: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ [العنكبوت:17].

    والأمر الثاني: أن المقصود بالسؤال لا يقدر عليه إلا الله؛ لأنه ذكر: الرزق، والرزق لا يقدر عليه إلا الله.

    وقوله: وَاعْبُدُوهُ [العنكبوت:17]، يدل على أن هذا الدعاء من أنواع العبادة.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأحقاف:5]].

    ووجه الدلالة من الآية قوله تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأحقاف:5]، فبين أن من يدعو من دون الله ليس هناك أحد أضل منه، وهذا لا يمكن أن يوصف به الفاسق والعاصي، بل المقصود به الكافر الخارج عن دائرة الإسلام.

    والذي يدل على أن المقصود به دعاء المسألة قوله: (من لا يستجيب له)، وهذا يدل على وجود دعاء يتطلب الاستجابة.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62]].

    هذا استفهام إنكاري يتضمن النفي، ومعناه: أنه لا أحد يجيب المضطر إذا دعاه إلا الله سبحانه وتعالى، وهذا يدل على أن الدعاء من العبادة.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى الطبراني بإسناده أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين، فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله)].

    هذا الحديث في إسناده ضعف؛ لأن فيه ابن لهيعة ، وهو عبد الله بن لهيعة ، كان قاضياً بمصر، احترقت كتبه فأصبح يملي من حفظه، فاختلط فنسي فترك حديثه، إلا عن مجموعة ممن روى عنهم قبل احتراق كتبه.

    ومعنى الحديث على قول من يرى أنه صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا اللفظ، وهو: (قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم) مع أن القائل لا يقصد الاستغاثة فيما لا يقدر عليه إلا الله، وإنما يقصد المجيء إليه ليؤدبه ويبكته، فأراد تعليمهم، كما سبق في باب حماية المصطفى صلى الله عليه الصلاة والسلام لجناب التوحيد عندما قالوا: (أنت سيدنا...) فقال: (قولوا بقولكم أو بعض قولكم) .

    1.   

    السحر والكهانة والتنجيم

    النوع الخامس من أنواع الشرك: السحر، والكهانة، والتنجيم، وهذه الأمور عقد المؤلف لها ستة أبواب، وموضوع هذه الثلاثة موضوع واحد متقارب، ولذا جعلناها في موضوع واحد.

    السحر وأنواعه

    السحر: هو ما خفي ولطف سببه، أي: ما كان خفي، وكان السبب في هذا الأمر الظاهر مجهولاً عند كثير من الناس وغير معروف عندهم، فهذا معنى السحر بمعناه العام عند أصحابه، وهو أنواع وليس نوعاً واحداً، ولهذا كان من الخطأ أن نحكم على السحر كله بحكم واحد، ولهذا اختلف كلام أهل العلم في حكم الساحر، فبعضهم كفره، وبعضهم لم يكفره، والحقيقة أن الخلاف بينهم خلاف تنوع وليس خلاف تضاد، فالسحر في الجملة ينقسم إلى قسمين: سحر يكون بمعاونة الشياطين بعد الاستغاثة بهم، وسحر يكن بأدوية وخفة في اليد ودراية وصنعة، ومواد يستخدمها الساحر، بحيث إنه يغير أشكال الأشياء، ويخيل إلى الناس.

    فأما النوع الأول فهو السحر الذي يكون باستخدام الشياطين، مثل العقد، وهو أن يأخذوا بعض الأجزاء الساقطة من الإنسان فيعقدوا بها عقداً، ثم يذهبوا إلى ساحر، فالساحر يستغيث بالشياطين والجن ويدعوهم من دون الله سبحانه وتعالى، وقد يُطلَب منه أمور كفرية، مثل تمزيق القرآن ورميه في المكان القذر، أو الصلاة الدائمة لهذا الشيطان، أو قد يستخدمه الشيطان في بعض الأحيان لبعض الأغراض السيئة، مثل الفواحش، فقد يفعل به، وقد يفعل هو بهذا الشيطان، ونحو ذلك من الأمور، وهي أنواع كثيرة عند أصحاب السحر.

    وخلاصة القول في هذا النوع أنه شرك أكبر إذا وجد فيه الاستغاثة بغير الله، ومن كتب السحر كتاب (شمس المعارف) الكبرى للبوني ، والكتب التي تتعلق بمخاطبة النجوم وغيرها، وبعض أنواعها يجعلونها أوراداً ورقىً يقرءونها، ومن النصوص التي عندهم: (بعزة الإرعاد يا ميمون أجب أجب) يا فلان يا فلان يا فلان -من طواغيت الجن- أريد كذا، فأحضر واعمل وهكذا، فيردد الاستغاثة بغير الله بهذه الطريقة مرات معينة في وقت معين، وبحال معين، وفي بعض الأحيان يشترطون عليه أن يكون في حال جنابة، وفي بعض الأحيان قد يشترطون عليه أن يصوم ثلاثة أيام ثم يأتي بشاة سوداء أو ديك أسود ويذبحه بطريقة معينه، ولهم طرق متعددة يسمونها المجربات، والحقيقة واحدة، وهي أنه إذا صرفت العبادة لغير الله بدعاء أو استغاثة أو ذبح أو نذر أو عبادة كان ذلك فهذا من الشرك الأكبر المخرج من الملة.

    وأما النوع الثاني من أنواع السحر فهو الأدوية التي تستخدم لتغيير بعض الأشكال وخفة اليد والمخادعة ونحو ذلك مما يتدرب عليه كثير من الناس، وهذا ليس من الشرك، بل هو من كبائر الذنوب.

    حد الساحر

    والحد الشرعي في الحالتين: القتل، فالأول يقتل ردة؛ لأنه كفر بالله، والثاني يقتل حداً، فهو مسلم وليس بكافر، لكنه يقتل كما يقام الحد على الزاني المتزوج، فيرجم حتى يموت مع أنه مسلم، وكما يقتل القاتل مع أنه مسلم.

    إذاً: الحكم بالنسبة للموقف من الساحر في الدنيا هو القتل، سواءٌ أكان القتل لهذا الساحر الذي أشرك وعبد غير الله عز وجل، أم كان القتل للساحر الذي لم يصل إلى درجة الشرك، لكنه وقع في كبيرة من كبائر الذنوب.

    وبناءً على هذا نفهم الخلاف الذي وقع بين العلماء في حكم الساحر هل هو كافر أو غير كافر؟ وهذا الخلاف أصله: هل وقع الكفر من الساحر أو لا؟

    والذي يدل على أن الساحر كافر ورود آيات واضحة في الدلالة على أن الساحر كافر، وهذا يحمل على النوع الذي صرف فيه الساحر العبادة لغير الله سبحانه وتعالى، فمناط الحكم على الساحر بالكفر هو كونه صرف عبادة لغير الله.

    ومعروف أن الصوفية اشتغلوا بالسحر بشكل كبير جداً بسبب ولوعهم بالكرامات، فولوعهم بالكرامات جعلهم يشتغلون بالسحر حتى يظهروا بعض الخوارق، خاصة من لم يكن صادقاً أصلاً، ولهذا فإن البوني صاحب شمس المعارف يعتبر من أئمة الصوفية، حتى إن يوسف بن إسماعيل النبهاني جعله من الأولياء الكبار في كتاب له اسمه (جامع كرامات الأولياء)، ويوسف النبهاني كان من علماء الشام، وتوفي في القرن الماضي، يقول: ومن كرامته أنه كان مستجاب الدعوة. وهو مؤلف الكتاب المشهور الذي هو من أشهر كتب السحر، ولهذا فإن طائفة الرفاعية من الصوفية والبكداشية الذين هم أقرب إلى الروافض مشهورون بالسحر، ولهذا قد يأتي إنسان منهم ويبلع بعض الحيات والعقارب أمام الناس، وقد يأتي شخص منهم ويدخل السيف في فمه حتى يصل إلى معدته، وقد يأتون بالطفل الصغير ويأتون بالسكين فيغرزونه في وجهه من جهة ويخرجونه من الجهة الثانية، وقد يكسرون في بعض الأحيان الزجاج ويأكلونه، فيرى الإنسان بعينه أنهم يأكلون زجاجاً، ونحو ذلك من الخوارق التي يستخدمونها، ويعتبرون ذلك من الكرامات، ولهذا فإن الصوفية هم أكثر من نشر السحر في العالم، وفي العالم الإسلامي خاصة.

    ذكر ما جاء في السحر

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في السحر.

    وقول الله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة:102]].

    هذه الآية سياقها في اليهود، واليهود كانوا من أكبر المشهورين بالسحر في الزمن القديم، ولهذا نشروا السحر نشراً كبيراً عندما كانوا في بابل، وهم يعتبرون من أقطاب السحرة في القديم، وما زالوا كذلك في الحديث.

    فقوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمُوا يعني اليهود لَمَنِ اشْتَرَاهُ [البقرة:102]، يعني: لمن اشترى السحر مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة:102] يعني: ليس له في الآخرة نصيب، وهذا السياق لا يمكن أن يكون إلا في الكافر الذي كفره مخرج عن الملة؛ لأن المؤمن والموحد والمسلم لا بد من أن يكون له نصيب، أما من نفي عنه النصيب بالجملة بهذه الطريقة فهذا لا يمكن أن يكون إلا كافراً.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [النساء:51]].

    الجبت: هو السحر كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والطاغوت: هو الشيطان كما سيأتي معنا.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال عمر : الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان. وقال جابر : الطواغيت كهان ينزل عليهم الشيطان، في كل حي واحد].

    وسيأتي الحديث عن الكهانة بشكل مجمل -إن شاء الله- عند الباب المتعلق بالكهانة، وهذان الأثران رواهما البخاري رحمه الله تعليقاً، ووصلهما الحافظ ابن حجر في الفتح، فأما الأول فإسناده قوي، وأما الثاني فإسناده حسن.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات) قالوا: يا رسول الله! وما هن؟ قال: (الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)].

    ووجه الدلالة من هذا الحديث هو أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر السحر من الموبقات، والموبقات: هي المهلكات، وهل السحر هنا هو المخرج من الملة أو غير المخرج من الملة؟

    والجواب: ذلك بحسب نوعه، فإن كان من المخرج من الملة كان عطفه على الشرك من باب عطف الخاص على العام، وهذا له نظائر كثيرة في القرآن، مثل قول الله عز وجل: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238]، والصلاة الوسطى من الصلوات؛ فإذا كان نوع السحر من الشرك الأكبر المخرج عن الملة فإنه يكون عظفه من هذا الباب، وأما إذا كان من النوع الثاني -وهو الأدوية والتخييلات التي ليس فيها استغاثة بغير الله عز وجل- فهو من الكبائر.

    حكم الساحر في الدنيا

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن جندب مرفوعا (حد الساحر ضربه بالسيف). رواه الترمذي . وقال: الصحيح أنه موقوف.

    وفي صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن: اقتلوا كل ساحر وساحرة، قال: فقتلنا ثلاث سواحر.

    وصح عن حفصة رضي الله عنها أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها، فقتلت].

    وكذا صح عن جندب ، قال أحمد : عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم].

    هذه النصوص كلها في موضوع واحد، وهو حكم الساحر في الدنيا، فأما حكمه في الدنيا فهو القتل بكل الأنواع، سواءٌ أكان السحر الذي هو كفر مخرج من الملة، أم السحر الذي هو من الكبائر، فالنوع الأول يقتل صاحبه ردةً، والنوع الثاني يقتل صاحبه حداً، حتى ولو كان من المسلمين، أما الحد فلما روي عن جندب مرفوعاً (حد الساحر ضربه بالسيف)، ولكن هذا الحديث لا يصح مرفوعاً، فهو ضعيف؛ لأن في إسناده إسماعيل بن مسلم المكي ، وهو ضعيف، وكذلك فيه تدليس الحسن البصري رحمه الله تعالى، ولهذا ضعفه الحافظ ابن حجر في الفتح، والصحيح أن الخبر موقوف على جندب ، ولهذا قال في آخر هذه النصوص: وكذلك صح عن جندب ، فهو صحيح موقوفاً، رواه البخاري في التاريخ، والبيهقي وغيره.

    وبناءً على هذا يكون قتل الساحر مما فعله الصحابة رضوان الله عليهم، ومما أفتى به الصحابة، فـعمر قتل ثلاث سواحر، وأمر بقتل كل ساحر وساحرة، وحفصة أمرت بقتل جاريتها التي سحرتها، وكذلك صح عند جندب كما سبق أن بينا.

    وقوله: [في صحيح البخاري عن بجالة ] في قصة عمر ليس هذا الأثر في صحيح البخاري بهذا اللفظ، وإنما هو عند أبي داود وأحمد ، وإسناده صحيح، وأما قوله: [وصح عن حفصة ] فقد صح كما قال، رواه مالك وعبد الله بن الإمام أحمد رحمه الله.

    بيان شيء من أنواع السحر

    عقد المصنف بعد ذلك باباً سماه [باب بيان شيء من أنواع السحر] والمراد بالسحر في هذا الباب الذي عقده المصنف هو السحر بمعناه اللغوي، وليس السحر بمعناه الاصطلاحي، ولهذا سيأتي أن النميمة تعتبر من السحر، وتعتبر الطيرة من السحر، ويعتبر البيان والفصاحة من السحر، وهذه كلها ليست من السحر بالمعنى الاصطلاحي، بل هي من السحر بالمعنى اللغوي العام، وتدخل جميعاً في كونها خفية ومؤثرة ولا تعرف جهة تأثيرها بشكل مباشر.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب بيان شيء من أنواع السحر.

    قال أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا عوف ، حدثنا حيان بن العلاء ، حدثنا قطن بن قبيصة عن أبيه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت).

    قال عوف : العيافة: هي زجر الطير، والطرق: الخط يخط بالأرض. والجبت: قال الحسن : رنة الشيطان. إسناده جيد، ولـأبي داود والنسائي وابن حبان في صحيحه المسند منه].

    نلحظ أن الشيخ اعتبر العيافة هي الطيرة، وقد سبق الحديث عن الطيرة، وقلنا: إن المقصود بها التشاؤم بالطير.

    والعيافة من السحر، والخط الذي سماه الطرق من السحر أيضاً.

    والطيرة أو العيافة هي زجر الطير، بمعنى: أمر الطير، وكانوا يربون الطيور كما تربى الآن النسور والصقور للصيد، فإذا أرادوا تزويج شخص أتوا بهذا الطير وزجروه، فإذا ذهب يميناً تزوج، وإذا ذهب يساراً ترك، وكذلك في السفر، وكذلك الحال في الحرب، وكذلك الحال في أي باب من الأبواب التي يريدون أن يعملوها، فيقومون بزجر الطير، فإذا ذهب في أي اتجاه فسروا هذا الاتجاه على بناء وعلى اصطلاح عندهم.

    واعتبر ذلك من السحر لأن محل التأثير فيه خاف، وكذلك الطرق، والطرق هو نوع من الكهانة، وهو خط يخطه في الأرض يستدل به على الغيبيات.

    ومن أنواع الكهانة التنجيم، ومما يدخل في الكهانة العرافة، وهي أنواع من الاستدلال على المغيبات أو للبحث عن المفقود، فهذه كلها تدخل في نوع واحد، وهو الكهانة.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد) رواه أبو داود وإسناده صحيح.

    و للنسائي من حديث أبي هريرة : (من عقد عقدةً ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئا وكل إليه)].

    هذا مثال للسحر، وهو العقد والنفث فيها، كما وصف الله عز وجل بقوله: النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق:4]، وهو نوع من أنواع السحر يقومون به للتأثير على الناس، سواءٌ أكان بالصرف أم بالعطف، والصرف: هو صرف الرجل عن زوجته أو الصديق عن صديقه، بحيث يكره أحدهما الآخر، وأما العطف فهو أن يجمع بعضهم ببعض ويحب بعضهم إلى بعض، وقد سبق الحديث عن أنواع السحر وأحكام السحر.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا هل أنبئكم ما العضه؟ هي النميمة: القالة بين الناس). رواه مسلم ].

    اعتبر المؤلف النميمة من السحر؛ لأنها تدب في الناس وتأثر فيهم تأثير السحر في المسحور، فحين تنتشر النميمة في المجتمع تأثر فيه تأثيراً بليغاً جداً، فأنت عندما يأتيك شخص فيقول: فلان يقول فيك كذا؛ فإنك تتأثر، كما أن الإنسان المسحور يتأثر.

    فجاء بكلمة السحر من جهة العموم.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهما عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من البيان لسحرا)].

    البيان معناه: الفصاحة، وهل معنى هذا أنه يذم البيان؟ والجواب: لا يذم وإنما هو حكاية عن الواقع، فالواقع هو أن البيان يؤثر في الإنسان كما يؤثر السحر في المسحور، وليس في هذا حكم عليه، بل هو بحسب نوع البيان، فإذا كان البيان فيما يرضي الله عز وجل فهو طاعة لله سبحانه وتعالى وإن كان مؤثراً في الناس، وإذا كان البيان في معصية، الله فهو معصية بحسب نوع البيان، فهذا وصف للبيان عليه بأنه مؤثر في الناس كتأثير السحر.

    الكهانة

    الكهانة: هي الكلام في الغيبيات، ويشمل ذلك الكلام في الغيبيات عن طريق الخط مثلاً، أو الكلام في الغيبيات عن طريق الكف، أو الكلام في الغيبيات عن طريق الفنجان، أو الكلام في الغيبيات عن طريق استعمال الشياطين كما هو حال الكهان المشهورين.

    أو هي ادعاء علم الغيبيات، عن طريق النجوم، كأن يقول: نجمك -مثلاً- أو برجك الفلاني سيحصل لك فيه كذا وكذا وكذا، وستتزوج امرأة، ثم بعد ذلك ستنجب منها ولدين وتموت، ويموت ولدك البكر، ويتكلم عن الغيب وكأنه مكشوف بين يديه، فهذا كله من جنس واحد مع اختلاف الأنواع.

    ويدخل -أيضاً- في الكهانة البحث عن المسروق؛ لأن البحث عن المسروق ادعاء لعلم الغيب غير الحاضر بتعاون مع الجن، وهذه تسمى العرافة كما سيأتي معنا.

    والكهانة -وهي ادعاء علم الغيب- كفر؛ لأنها ادعاء لما اختص الله سبحانه وتعالى به، فالله عز وجل يقول: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل:65]، وهذا من أقوى أنواع الحصر، قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [النمل:65]، (من في السموات) يعني: كل ما في السموات؛ لأن (من) عامة؛ لأنها من الأسماء الموصولة، والأسماء الموصولة تعم كل شيء، فكل من في السموات وكل من في الأرض لا يعلمون الغيب، إلا الله، وهناك قاعدة عند العلماء، حيث يقولون: الاستثناء معيار العموم، أي: في المستثنى منه، وهو معيار الخصوص في المستثنى، ولهذا تعتبر الكهانة من الشرك الأكبر؛ لأنها ادعاء لعلم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.

    وأما الإتيان إلى الكهان فإنه ينقسم إلى قسمين:

    الأول: أن يأتي شخص إلى الكاهن ليسأله دون أن يصدقه، فهذا لا تقبل له صلاة أربعين يوماً.

    الثاني: أن يصدقه، وحينئذ يكفر كفراً مخرجاً عن الملة.

    أما من جاء إلى الكاهن ليختبره فهذا ليس بكفر، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم اختبر ابن صياد -وقد كان كاهناً- فسأله عن الدخان، فقال: الدخ، فجاء بنصف الكلمة، فقال له: (اخسأ، فلن تعدو قدرك)، وقد جاء في الحديث أن الكهنة يتعاونون مع الجن، وأن الجن يسترقون السمع، ويكذبون على ما يسمعونه مائة كذبة، لكن الناس عندما يرون صدق مرة واحدة ينسون كذبات الكهان كلها.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في الكهان ونحوهم.

    روى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)].

    هناك خلاف في كون زيادة (فصدقه) من أصل الحديث؛ لأنه روي الحديث بلفظ: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)، والصحيح هو التفصيل كما قلت، فإذا لم يصدقه فإنه لا تقبل له صلاة أربعين يوماً، وأما إذا صدقه فإنه يكفر كفراً مخرجاً عن الملة، وهذا الحديث في صحيح مسلم .

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم). رواه أبو داود ].

    وهذا -أيضاً- إسناده صحيح.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وللأربعة والحاكم -وقال: صحيح على شرطهما- عن أبي هريرة ضي الله عنه: (من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)].

    والشيء الذي أنزل على محمد صلى عليه الصلاة والسلام هو أن الغيب لا يعلمه إلا الله، كما قال تعالى: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل:65].

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولـأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله موقوفاً وعن عمران بن حصين رضي الله عنه مرفوعاً].

    يعني: مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أي: من قول النبي صلى الله عليه وسلم أو فعله، وأما الموقوف فهو الذي يقوله الصحابي أو يفعله.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وعن عمران بن حصين رضي الله عنه مرفوعاً: (ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له، ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم). رواه البزار بإسناد جيد، ورواه الطبراني بإسناد حسن من حديث ابن عباس دون قوله: (ومن أتى) إلى آخره].

    هذه الأحاديث كلها دلالتها واحدة على نحو ما فصلنا فيمن أتى كاهناً، سواءٌ أكان عرافاً أم خطاطاً أم صاحب فنجان أم صاحب كف أم غير ذلك، وكل هؤلاء من هذا الجنس، وكل من أتى من ادعى علم الغيب فهذا حكمه.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال البغوي : العراف: الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك، وقيل: هو الكاهن، والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل وقيل: الذي يخبر عما في الضمير].

    يعني أن الضابط العام والقاعدة العامة في الكهانة: الإخبار عما في المستقبل، أو الإخبار عن الغيب عموماً، سواءٌ أكان في المستقبل أم في ضمير الإنسان، أم عن شيء مسروق ليس قريباً منه، وكل ما يتعلق بادعاء علم الغيب أو الإخبار عن علم الغيب وادعائه، هو من الكهانة، ولو تعددت طرقه، فقد يكون عن طريق النجوم، وقد يكون عن طريق الخط، وقد تختلف الطرق، لكن المعنى والحقيقة العامة واحدة.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو العباس ابن تيمية : العراف: اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم، ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق].

    والرمال: هو الذي يستخدم الرمل في الاستدلال على الغيبيات.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن عباس في قوم يكتبون (أبا جاد) وينظرون في النجوم: ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق].

    (أبا جاد) كلمات مكونة من الحروف الهجائية جميعاً: أبجد، هوز، حطي، كلمن، سعفص، إلى آخره هذه الأباجاد، ويختلف الناس في استخدامها، فبعضهم يستخدمها استخداماً صحيحاً، بمعنى أنهم جعلوا لكل حرف من هذه الحروف رقماً، رقماً بحيث إذا أراد أحدهم أن يحدد شيئاً فإنه بدلاً من أن يحدد بالرقم يأتي به بصيغه من الصيغ، فهذا هو النوع الأول، وهذا النوع يشتغل به العلماء، ولا شيء فيه.

    وأما النوع الثاني فهو اعتقاد أن هذه الحروف رموز لروحانيات، فإذا ركبت بشكل معين فإنه يكون لها تأثير في نفس الإنسان أو في الحياة، وهذا يكون نوعاً من أنواع التنجيم، وسيأتي باب مستقل في التنجيم بإذن الله تعالى.

    يقول ابن عباس : [ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق] يعني: من استخدم أبا جاد؛ لأنه (أبا جاد) أول ما نشأت نشأت عند السحرة، ولكن بعض العلماء أخذها وغير مدلولها، وكثير من الأعمال قد يكون أصلها فسقاً، ويكون لها جانب فيه فائدة، فبعض الرياضات التي ظهرت عند اليابانيين مثل الكونغ فو، واليوغا وغيرها هي ألعاب، تعلمها طلاب أديرة الكهانة الذين كانوا يتعبدون عند بوذا، ولها درجات تدخل في الكهانة والسحر، ولها حركات لا علاقة لها بالكهانة ولا بالسحر، فتعلم كثير من الناس هذه الحركات وأصبحت حركات عالمية خرجت عن طوق اليابانيين، وأصبح استخدامها بشكل عادي ليس فيه منكر، لكن إذا تطور الإنسان فيها فقد يصل إلى درجة السحر؛ لأن من درجاتها استخدام السحر، فهم وضعوا الألعاب للدفاع عن دينهم في الأصل.

    وهكذا بعض التدريبات النفسية مثل التنويم المغناطيسي، فله جانب يمكن أن يستخدم كوسيلة للعلاج النفسي، وله جانب فلسفي خطير مبني على التأثيرات مثل تأثيرات السحرية وتأثيرات الكهان، فيستخدم منها الجانب الإيجابي، ويبتعد عن الجانب السلبي فيها.

    النشرة وحكمها

    المقصود بالنشرة: فك السحر، فإذا كان فك السحر بسحر مثله فهذا منهي عنه، وإذا كان فك السحر بالقرآن والرقى الصحيحة فهذا مباح ولا إشكال فيه.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في النشرة.

    عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن النشرة فقال: (هي من عمل الشيطان). رواه أحمد بسند جيد، وأبو داود ، وقال: سئل أحمد عنها فقال: ابن مسعود يكره هذا كله.

    وللبخاري عن قتادة : قلت لـابن المسيب : رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته، أيحل عنه أو ينشر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه.

    وروي عن الحسن أنه قال: لا يحل السحر إلا ساحر.

    قال ابن القيم : النشرة حل السحر عن المسحور، وهي نوعان:

    أحدهما: حل بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يحمل قول الحسن ، فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب، فيبطل عمله عن المسحور.

    والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة، فهذا جائز].

    وذلك لأن حل السحر قد يكون بسحر مثله، فهذا هو الذي نهي عنه العلماء وبينوا أنه من عمل الشيطان؛ لأن هذا فيه نشر وإشهار للسحرة، وفيه -أيضاً- من جهة أخرى شعور بالخضوع للشيطان وحزبه، فكل سحر لا يجوز أن يفك بسحر مثله، وإنما يفك بالرقى والتعاويذ الشرعية، كما حقق ذلك ابن القيم رحمه الله.

    ذكر ما جاء في التنجيم

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب: ما جاء في التنجيم.

    قال البخاري في صحيحه: قال قتادة : خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينةً للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به].

    التنجيم: هو الاستدلال بالنجوم، فينقسم إلى قسمين:

    القسم الأول: الاستفادة من النجوم في جعلها علامات يهتدى بها، كما حقق ذلك قتادة رحمه الله؛ لأن الله عز وجل يقول: وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل:16]، فإذا كان استخدامها لهذا الغرض فلا إشكال فيه، فهو جائز، ولهذا استقرأ قتادة رحمه الله فائدة النجوم في القرآن فوجدها أنها ثلاثة أنواع:

    الأمر الأول: أنها زينة للسماء.

    والأمر الثاني: أنها رجوم للشياطين.

    والأمر الثالث: أنها علامات، أما من جعلها لغير ذلك فقد أخطأ، وهو النوع الثاني.

    النوع الثاني: هو اعتقاد أن هذه النجوم لها تأثير في الحوادث الأرضية، فيرتبون عليها اعتقادات، ويعتقدون أن هذه النجوم تؤثر في الحوادث الأرضية، وذلك لا يجوز واعتقاد أن النجوم تؤثر في الكائنات الأرضية نوعان:

    النوع الأول: أن يعتقد أنها تؤثر بذاتها، بحيث يعتقد أن النجم له قدرة في التأثير على الأرض، سواءٌ بالتأثير على الإنسان أو بالتأثير على النبات أو بالتأثير على الحيوان، فمن اعتقد أن النجوم لها تأثير على الإنسان والحيوان والنبات من الكائنات الأرضية فهذا شرك أكبر.

    النوع الثاني: أن يعتقد أن هذه النجوم هي أسباب خلقها الله عز وجل للتأثير في الأرض، فهذا ليس شركاً أكبر، بل هو شرك أصغر؛ لأنه اعتقد شيئاً من الأشياء سبباً وهو ليس بسبب، وأصل اعتقاد أن النجوم لها تأثير في الكائنات الأرضية مأخوذ عن الفلاسفة والصائبة القدماء قوم إبراهيم عليه السلام، فقد كانوا يعتقدون أن هذه الكواكب ليست أجراماً، وإنما هي عبارة عن نور وروح، ولهذا يعتقدون أن الكون منبثق عنها، فيعتقدون أن القمر نتج عنه هذا العالم الذي نعيش فيه الآن، هذا هو أصل معتقدهم، ولهذا دعاهم إبراهيم عليه السلام إلى توحيد الله سبحانه وتعالى، وبين لهم أن النجوم لا تؤثر، كما تقرأ في القرآن فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ [الصافات:88]، فأراد أن يبين لهم بطلان تأثير هذه النجوم على الكائنات الأرضية، ولهذا ذكر الله تعالى مناظرة إبراهيم عليه السلام معهم في سورة الأنعام عندما رأى شمساً بازغة فقال: هَذَا رَبِّي [الأنعام:76]، وعندما رأى القمر بازغاً قال: قَالَ هَذَا رَبِّي فهذه المناظرة تدل على إبطال عبادتهم للكواكب واعتقاد أنها أسباب مؤثرة في الكائنات الأرضية.

    وأما من اعتقد أنها علامات للفصول ومواسم الزراعة، ولم يعتقد أن النجم بنفسه مؤثر فلا شيء عليه، كاعتقاد حدوث وقت الصباح عند طلوع الشمس، فإذا جاءت في الوسط جاء وقت الظهر، فإذا ذهبت جهة الغرب جاء وقت العصر مثلاً، فإذا كان ذلك من باب التوقيت فلا شيء في ذلك، وإنما يكون من الشرك إذا اعتقد التأثير، سواءٌ أكان تأثيراً مطلقاً -وهو من الشرك الأكبر- أم كان تأثيراً سببياً تحت إرادة الله عز وجل وقدرته، فهذا شرك أصغر وليس بشرك أكبر.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال البخاري في صحيحه: قال قتادة : خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به.

    وكره قتادة تعلم منازل القمر، ولم يرخص ابن عيينة فيه، ذكره حرب عنهما، ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق .

    وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، وقاطع الرحم، ومصدق بالسحر). رواه أحمد وابن حبان في صحيحه].

    قوله: [وكره قتادة تعلم منازل القمر، ولم يرخص ابن عيينة فيه، ذكره حرب عنهما، ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق ] المقصود بذلك: تعلم منازل القمر للحساب، ومعرفة الفصول ومعرفة الأوقات، وإنما كره من كره ذلك من أهل العلم لكيلا يكون فيه تشبه بأصحاب النجوم الذين يستدلون بها على التأثير، كالحوادث الأرضية، وليس المقصود اعتقاد التأثير في الحوادث الأرضية، فهذا لا شك في أنه لا يجوز، وأنه من التصديق بالسحر الذي بين النبي صلى الله عليه وسلم أن فاعله أحد الذين لا يدخلون الجنة، وهذا الحديث فيه ضعف، ولكن أصل موضوع التنجيم يدل عليه أحاديث كثيرة.

    وبهذا نكون قد انتهينا من هذا القسم الأول من أقسام الأعمال الشركية.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756699953