إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب شروط الصلاة [4]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الله عز وجل أمر عباده المؤمنين بعبادته والإقامة على طاعته، وبين لهم كيفية الإتيان بهذه العبادات والطاعات في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن العبادات التي حرص الشرع على بيان أحكامها وشروطها: الصلاة، التي هي عمود الدين، فلا يتأتى للعبد أن يؤدي صلاته صحيحة إلا بمعرفة شروطها وأركانها وواجباتها، ومن الشروط الواجب توافرها لمن أراد أن يصلي صلاة صحيحة: أداء الصلوات في أوقاتها التي بينها الشرع، وستر العورة عند أداء الصلاة، مع الإحاطة بما يتفرع عن هذه الشروط من أحكام.

    1.   

    ستر العورة

    تعريف ستر العورة لغةً واصطلاحاً

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [ومنها ستر العورة]

    أي: ومن شروط الصلاة التي يلزم بها المكلف لصحتها ستر العورة.

    والستر هو: التغطية، تقول: سترتُ الشيء. إذا غطيته.

    والعَوْرَة: أصلها من العَوَر وهو النقص، وقولهم: (ستر العَوْرَة) أي: تغطيتها.

    والمراد بالعورة في إطلاق العلماء رحمة الله عليهم أحد أمرين: فمنهم من يقول: القبل والدبر وهذا على الأصل، ومنهم من يقول: القبل والدبر وما أُمِر بستره؛ لأن المرء يؤمر بستر ما عدا القبل والدبر خاصةً مع الأجانب.

    أدلة وجوب ستر العورة

    وهذا الشرط أمر الله به في كتابه المبين، وكذلك في هدي سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، وأجمعت الأمة على أنه لازمٌ وواجب، لكن حُكِي عن مالك أنه يراه مستحباً ولا يراه واجباً، والصحيح وجوبه.

    ودليل وجوب ستر العورة للصلاة قول الحق تبارك وتعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31].

    ووجه الدلالة من الآية الكريمة أن الله أمر المكلف أن يأخذ الزينة عند كل مسجد، والمراد بقوله: (عند كل مسجدٍ) أي: عند كل صلاةٍ، فيكون قوله: (خُذُوا) أمراً، والأمر للوجوب حتى يدل الدليل على صرفه، ولا صارف له هنا.

    وكذلك أمره عليه الصلاة والسلام بستر العورة وهديه صلوات الله وسلامه عليه فيها، حتى نهى الرجل أن يصلي وليس على عاتقيه من ثوبه شيء، ففي الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام: (لا يصل أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء).

    وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم ستر عورته، وأمر بستر العورة في أحاديث منها حديث بهز بن حكيم رضي الله عنه عند أبي داود قال: (يا رسول الله! عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجك أو ما ملكت يمينك. قال: قلت: يا رسول الله! إذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: إن استطعت أن لا يرينها أحد فلا يرينها. قال: قلت: يا رسول الله! إذا كان أحدنا خالياً؟ قال: الله أحق أن يستحيا منه).

    ولذلك ورد: (إن معكم من لا يفارقونكم .. فاستحيوا منهم)، وهم الكرام الكاتبون.

    وفي حديث أم سلمة أنه لما سئل عليه الصلاة والسلام عن صلاة المرأة في درعٍ وخمار قال: (في الخمار والدرع السابغ الذي يغيب ظهور قدميها)، والصحيح وقفه على أم سلمة رضي الله تعالى عنها.

    وكذلك حديث جرهد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يغطي فخذه)، وحديث جرهد وحديث بهز بن حكيم فيهما كلام، وإن كان بعض أهل العلم يميل إلى التحسين بمجموع طرق هذه الأحاديث.

    وقد أجمع العلماء رحمهم الله على وجوب ستر العورة للصلاة، وأن المكلَّف لو صلى الصلاة وهو كاشفٌ عن عورته وقادرٌ على سترها فصلاته غير صحيحة، إلا ما ورد في رواية عن مالك رحمه الله أنه كان يستحب ذلك ولا يوجبه، وإن كان بعضهم يضعفها.

    الشروط اللازم توافرها في الساتر

    وأما من ناحية أحكام ستر العورة فيُعتبر ستر العورة من الشروط التي تتعلق بصحة الصلاة؛ لأننا قدمنا أن من الشروط ما يتعلق بالوجوب ومنها ما يتعلق بالصحة، وشرط الصحة -كما هو معلوم- فقده يُوجِب الحكم بعدم صحة الصلاة.

    وبناءً على ذلك لا يُحكم بصحة صلاة المكلف إلا إذا حَصَّل هذا الشرط، ومن عادة العلماء رحمة الله عليهم أن يتكلموا على ستر العورة، فيقررون وجوبها، ثم يقررون الضابط المعتبر لستر العورة، ثم يتكلمون بعد ذلك على المسائل المستثناة وأحكام الضرورة، كالعراة الذين لا يجدون ما يسترون به عوراتهم، ونحوها من الأحكام المتعلقة بالاستثناءات.

    والمصنف رحمه الله راعى ذلك في كلامه على الشروط هنا فقال رحمة الله عليه:

    [فيجب بما لا يصف بشرتها].

    الفاء: للتفريع، فبعد أن قال: (ومنها) أي: من شروط صحة الصلاة ستر العورة، قال: (فيجب) أي: فيلزم المكلف بسترها، والواجب يتفرع منه الحكم أن من صلَّى عارياً يحكم بإثمه إذا كان مختاراً دون اضطرار، وبعدم صحة صلاته، فالتعبير بالوجوب يتفرَّع منه الحكم بالإثم عند الترك في الاختيار، وزيادة شرطية الصحة يتعلق بها الحكم بالمطالبة بإعادة الصلاة.

    فقوله: [فيجب بما لا يصف بشرتها] أي: فيجب على المكلف أن يستر العورة بما لا يصف بشرتها.

    فستر العورة على حالتين: إما أن يكون ساتراً مانعاً من رؤية لون البشرة، فهذا لا إشكال في إجزائه واعتباره، كالثوب الثخين، وإما أن يكون الساتر رقيقاً يشف ما تحته، فهذا يقول العلماء: وجوده وعدمه على حدٍ سواء، كالقماش الرقيق الذي ترى معه لون البشرة، فإن وجوده وعدمه على حدٍ سواء.

    بل قال بعض العلماء: إن ما شفّ أعظم فتنةً مما كشف؛ لأنه يُغرِي، وتكون الفتنة بدعوته إلى النظر أكثر، بخلاف المتعري فإنه ربما اشمأزت النفوس من نظره، لكن لبس الشفاف أبلغ فتنةً وأعظم جُرأةً كما يقول بعض أهل العلم رحمة الله عليهم، فالشفاف وجوده وعدمه على حدٍ سواء.

    فانقسم الساتر إلى قسمين: ما كان غليظاً غير رقيقٍ يمنع من معرفة أو رؤية لون البشرة، وما كان رقيقاً تُرَى معه البشرة بحمرتها أو ببياضها أو غير ذلك.

    فبيَّن رحمه الله أنه لابد من الساتر الذي لا يشف، والكلام في الساتر يكون في جرمه، ويكون في صفة تغطيته.

    أما في الجِرم فيبحث العلماء فيه من حيث السماكة والرقة، وقد بيَّنا حكم السميك والرقيق.

    وأما بالنسبة لصفة تغطية الساتر، فإنه يكون على حالتين:

    الحالة الأولى: أن يكون فضفاضاً، بحيث لا يكون ضيقاً يُحدد تفاصيل الجسم، فهذا بالإجماع يُعتبر ساتراً، لكن كره بعض العلماء المبالغة في الفضفاض إلى درجةٍ قد يكشف العورة في بعض الحالات، كما ذكروه في السراويل، فإنها إذا كانت واسعةً، وكانت أكمامها التي تخرج منها الرجلين مبالغاً في سعتها، وكانت قريبةً من الركبتين فإنها طريقٌ للكشف، ولذلك يُعتبر لبسها سبيلاً أو سبباً لسهولة النظر إلى العورة، ومظنة أن يرفع ركبته فينكشف ما قارب السوءة أو السوءة نفسها.

    ولذلك قالوا: يُشدَّد فيما كان فضفاضاً واسعاً بحيث يبالَغ فيه إلى درجةٍ لا يُؤمَن معها انكشاف العورة.

    الحالة الثانية: أن يكون ضيقاً، وهو الذي يحدد جرم العضو، فإن كان من المرأة فإنه بالإجماع يَحرُم عليها لبسه، ولذلك شدَّد بعض العلماء في تفصيل المرأة للعباءة التي تكون فيها اليد منفصلة عن الجسم؛ لأنها إذا كانت على هذه الصفة استطاع الناظر أن يدرك تفاصيل جسمها، وهل هي طويلةٌ أو قصيرةٌ أو رقيقةٌ أو غير ذلك.

    ولذلك قالوا: تكون عباءتها، ويكون تفصيل يدها على حالٍ لو أنها حركت يدها لا يستطيع الإنسان أن يدرك طبيعة جسمها، أما لو كانت بهذه التفاصيل التي تستخدم عند بعض النساء اليوم بحيث إذا رأيت المرأة تستطيع أن تدرك تفاصيل جسمها، خاصةً في اليدين، وأعالي البدن فقالوا: مثل هذا يحرم عليها لبسه؛ لأنه يحدد تفاصيل جسمها.

    وبعض المحدد -كما يقول العلماء- أشد إغراء بالفتنة لأنها إذا حددت تفاصيل الجسم كانت مغرية بالنظر إليها، فتكون الفتنة فيها أشد، ولذلك ينبغي على المرأة أن تكون عباءتها مغطيةً لها، ولا يكون هناك تفصيل لأعضاء الجسم، حتى لا تشابه الرجال، ولا يستطيع الرجل أن يدرك جِرم جسمها.

    وكذلك الحال إذا كان سترها في أسفل البدن، كلبسها للسراويل، أو ما يسمى في عُرف اليوم (البنطال)، فهذا اللبس لا يجوز للمرأة مع وجود الرجل الأجنبي، وأما مع محارمها فأقل درجاته الكراهة؛ فإنه يُفصِّل تفاصيل الجسم، ومن أهل العلم من جزم بالتحريم حتى ولو مع وجود محرمها، وقال: لأنه لا يُعرَف في نساء المؤمنين، وإنما هو من باب التشبه، (ومن تشبه بقومٍ فهو منهم)؛ إذ لا يعرف بين النساء المؤمنات أن المرأة تأتي بلباسٍ بهذه الصفة، وإنما هو شيءٌ واردٌ على المسلمين من غيرهم، ولذلك أنا أميل إلى هذا القول، وأرى أنه تشبُّه، وأرى أن المرأة لا يجوز لها أن تلبس البنطلون ولو كان أمام محارمها، إلا إذا اضطرت إلى ذلك فهذا أمرٌ آخر.

    فلا تلبس مثل هذا اللباس الضيق الذي يفصِّل تقاطيع الجسم في مواضع الفتنة، حتى ولو كان أمام محارمها.

    فإن الإمام أحمد رحمة الله عليه لما سُئِل عن كشف المرأة عن صدرها وساقيها لمحرمها كأخيها ونحوه قال: (أخشى عليه الفتنة)، وهو إمام في زمانٍ الخير فيه شائع، وفي قرنٍ شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالفضل، فكيف بنا اليوم؟!

    فلذلك ينبغي التحذير من هذا والنهي عنه، ويعتبر من التشبه الذي لا يجوز للمرأة أن تتعاطاه.

    وأما بالنسبة لحكمه في الصلاة لو صلَّت به، فإن المفصِّل لتقاطيع الجسم مع ستر العورة يُوجِب الحكم بالصحة، ولكنها آثمةٌ من جهة الإخلال بما ذكرناه.

    حد عورة الرجل والأمة

    قال المصنف رحمه الله: [وعورة رجلٍ وأمةٍ وأم ولدٍ ومعتق بعضها من السرة إلى الركبة].

    هؤلاء كلهم عورتهم ما بين السرة إلى الركبة، وقد جاء في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: (ما بين السرة إلى الركبة عورة)، وقوله: (العورة ما بين السرة والركبة) بهذه الألفاظ، لكنه يأتي على وجهين: الوجه الأول: يأتي مقيداً بالصلاة، وهذا حسَّنه بعض أهل العلم.

    والوجه الثاني: أن يأتي مطلقاً، وقد تكلم العلماء رحمهم الله على سنده وضعفوه.

    وقال العلماء: أما بالنسبة للرجل فما بين السرة والركبة.

    وأما السرة نفسها فقول الجماهير: إنها ليست بعورة.

    والركبة نفسها عورةٌ في قول بعض العلماء، وليست بعورة في قول طائفة، وإن كان الأقوى أنها ليست بعورة؛ لأن التعبير بالبينية يُشعِر بأن الغاية خارجةٌ عن المغيا، كما هو معلوم في القواعد.

    وبناءً على ذلك قالوا: إن الركبة كشفها لا يؤثِّر.

    وقوله: (وأمة) أي: كذلك الأمة، قالوا: لمكان الغالبِ من انصراف النفوس عنها؛ لأن النفوس كانت تأنف من وطء الإماء والزنا بهن، وهذا في الغالب، وإنما كن يتبعن الحرائر، ولمكان تسخير الشَّرْع لهنّ بالرق لخدمة أسيادهن فخُفِّفَت عورتهن، ولذلك قالوا: إنها لا تستطيع القيام بحق أسيادها إلا إذا خرجت ودخلت في قضاء الحوائج والمصالح، فهي أشبه ما تكون بالرجل، فقالوا: عورتها عورة الرجل.

    ولكن من أهل العلم رحمة الله عليهم من فرَّق بين الأمة الفاتنة وغير الفاتنة لاختلاف النساء في ذلك، وقال: إنه إذا كانت غير فاتنة فالحاجة غير داعية إليها، كما نبه عليه الإمام ابن قدامة رحمة الله عليه في المغني، ودرج على هذا القول، وهو قول الجماهير.

    وإن كانت فاتنة قالوا: إنه لا يجوز لها الكشف ولو كانت أمةً، فإن بعض الإماء أشد فتنةً من الحرائر، وليس في دين الله الحكم بجواز وشرعية الشيء الذي يُفضي إلى محارم الله عز وجل، والوقوع في حدوده إلا ما استثناه الشرع من الضرورات.

    وقوله: (ومُعتَقٌ بعضها) كالتي تكون نصفها حرة ونصفها أمة، فعورتها ما بين السرة إلى الركبة، قالوا: لأن الْمُعْتَق بعضها تُعتبر في حكم الرقيقة؛ لأن القاعدة أن اليقين لا يزول بالشك، وفرعوا على هذه القاعدة قاعدة تقول: الأصل بقاء ما كان على ما كان، فالأصل أنها رقيقة، فإذا أُعتِق بعضها ترددت بين أن تُلحق بالحرة وبين أن تُلحق بالأمة، فروعي الأصل، ولأنه إذا تُرُدِّدَ بين الأضعف والأقوى فالأصل حمله على الأضعف حتى يدل الدليل على ما هو أقوى منه ولا دليل، فالْمُعْتَق بعضها تُنَزَّل منزلة الأمة، وليس منزلة الحرة.

    وهكذا المكاتَبَة، فقد أضاف بعض أهل العلم رحمة الله عليهم أن المكاتَبَة مُنَزَّلَة منزِلة المعتق بعضها.

    وقوله: [وأم ولدٍ]

    ذكر أم الولد لشائبة أنه طريقها إلى العتق.

    وأم الولد: هي الأمة التي يجامعها سيدها فتلد منه، فإن هذه تبقى أم ولد، فإن مات سيدها عتقت، وبناءً على ذلك يقولون: إنها آيلة إلى العتق، فهل ننزلها منزلة الحرة أو الأمة؟ قالوا: تبقى على الأصل من كونها أمةً، فعورتها عورة من ذكرنا.

    حد عورة الحرة

    قال المصنف رحمه الله: [وكل الحرة عورةٌ إلا وجهها].

    هذا كلامه على الصلاة، فالحرة في الصلاة وجهها ليس بعورة، وهذا مذهب الحنابلة.

    وقال الشافعية والمالكية: إن الحرة وجهها وكفاها ليسا بعورة، وتكشف الوجه والكفين، وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: وظاهر القدمين.

    فهذه ثلاثة أقوال لأهل العلم رحمة الله عليهم، أصحُّها وأقواها ما اختاره المصنف من استثناء الوجه، وفيه آثار عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كما هو الأثر عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.

    وبقيت اليدان والرجلان على الأصل، ويدل على ذلك أنه لما سُئِل عليه الصلاة والسلام عن المرأة تصلي في درعٍ وخمار قال عليه الصلاة والسلام: (إذا كان الدرع سابغاً يغطي ظهور قدميها)، والسابغ: أصله في الساتر، فدل على أن أصل البدن يُستر، واستثني الوجه لما ذكرناه من الآثار.

    والصحيح في هذا -أعني حديث أم سلمة- وقفه، كما ذكر غير واحدٍ من أهل العلم رحمة الله عليهم.

    وإذا وُجِد الأجنبي؟ قال بعض العلماء تغطي وجهها؛ لأنه حق لله، وقال بعض العلماء: إنها تبقى على الأصل من كونها كاشفةً للوجه والإثم على من نظر.

    حكم الصلاة في ثوبين

    قال المصنف رحمه الله: [وتستحب صلاته في ثوبين]

    قوله: (وتستحب صلاته) الاستحباب يدل على أنه لا يلزمه؛ لأن المقصود أن تستر العورة، فلو أن إنساناً صلَّى بثوبٍ واحدٍ ساترٍ لعورته صحت صلاته، كالحال الآن فلو لبس الثوب المعروف دون أن يكون عليه ملابس داخلية، وهذا الثوب له لون غامق يمنع النظر إلى ما وراءه وصلَّى صحت صلاته، فهذا من ناحية الأصل؛ لأنه ثوبٌ ساتر، والعبرة بالستر.

    ولكنهم استحبوا أن يصلي في ثوبين، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أو كلكم يجد ثوبين؟)، لكن قال العلماء: إن سؤال النبي صلى الله عليه وسلم خرج لمكان الضرورة والضيق على عهد الصحابة، أما بعد أن وسَّع الله عز وجل فإنه يستحب للإنسان أن يصلي في ثوبين؛ لأنه هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى بالإزار والرداء صلوات الله وسلامه عليه، وهذا أفضل وأكمل.

    والثوبان أعلاهما لأعلى البدن، وأسفلهما لأسفل البدن، فما يكون أسفل البدن كالفوط ونحوها يقولون: هذا إزار، وأما الذي يكون على الأعلى فيقولون عنه: رداء، وفي الإحرام تلبس الرداء الذي هو على الكتف، وتلبس الإزار الذي يكون على أسافل البدن.

    فقد يُصلي في ثوبين من غير الإزار والرداء، يصلي -مثلاً- بقميص وسروال، والقميص قد يكون إلى أنصاف العضد، أو إلى نصف الساعد، هذا بالنسبة لأعلاه، وأما بالنسبة للأسفل فقد يكون إلى الركب، وقد يكون إلى نصف الفخذ، فيكون السروال ساتراً لما هو أدنى منه.

    وقد يكون قميصاً مع الإزار، وقد كان لبس العرب للقميص في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك قال: (لا تلبسوا القمص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس).

    فكان من لباسهم السروال والقميص، فالقميص يكون لأعالي البدن غالباً، وقد يكون القميص طويلاً، وهذا يقع في لباس النساء في القديم، فيكون قميصها طويلاً كالثوب، ويكون ساتراً لجميع البدن إلا ظهور القدمين، إلا إذا كان سابغاً، فيقولون: إن هذا القميص يجوز للرجل أن يصلي به إذا كان معه سروال، أو ما يستر أسافل البدن.

    وفي الوقت الحاضر لو صلى بما يستر أعلى بدنه بما يسمى (الفنائل) وصلى بالسروال أجزأه ذلك وصح؛ لأنه ساتر وعلى عاتقه شيءٌ، ولكن لا يصلي بذلك في مجامع الناس، ولا في مساجدهم؛ لأن من فعل ذلك سقطت مروءته، ومن كمال المروءة أن يستر بدنه بما جرى به العرف، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت) قالوا: والحياء ألا يلبس مثل هذه الملابس في مجامع الناس، ولذلك تصح صلاته ولكن تسقط مروءته وعدالته، إلا إذا كان مضطراً، أو كان عنده عمل، فلو أن إنساناً عنده عمل فصلى في السروال أو البنطلون أو في القميص فصلاته صحيحة ومجزئة؛ لأن تكليف الناس أن يخلعوا هذه الألبسة وأن يلبسوا ثيابهم فيه مشقة، وفيه حرج عليهم، فيجوز لهم أن يصلوا بمثل هذه الألبسة، لكن الأكمل والأفضل كما قال عليه الصلاة والسلام: (ما على أحدكم إن وجد سعة أن يتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته).

    فيستحب لمثل هؤلاء الذين عندهم أعمال أو مهن أن يجعلوا ثوباً قريباً من العمل، فإذا جاء وقت الصلاة نزع ثياب العمل ولبس ثوبه، أو لبس الثوب النظيف على ثياب العمل حتى يكون أستر له وأكمل لمروءته.

    وهنا تنبيه، وهو أنه شاع في هذه الأزمنة أن بعض الناس -أصلحهم الله- يخرج إلى بيوت الله عز وجل خاصةً في صلاة الفجر والعصر بثياب النوم، وهذه الثياب لها أكمام قصيرة، وهذا لا شك أنه خلاف السنة؛ لأن السنة إبداء الزينة في المساجد، ومثل هذا لا مروءة عنده؛ لأن المروءة أن يلبس ما يستره، ويكون أكمل بصيانة ماء وجهه وهذا من الحياء، فالذي يستحيي لا يخرج بثياب نومه، وهل يليق أن يخرج إلى ملك الملوك وجبار السماوات والأرض الذي أطعمه وسقاه وكساه بهذا المنظر، وكأنه يستكثر أن يقف بين يديه بثيابٍ يتجمل بها لعبادته.

    فلا شك أنه من ضَعف الإيمان ونقص العقل أن يخرج الإنسان بثياب نومه أمام الناس لكي يصلي فيها، وهذا يدل على استخفافه بالصلاة، وإلا لو كان يُعظِّم الوقوف بين يدي الله لأحسن له عدته ولتجمَّل.

    ولو أن إنساناً -ولله المثل الأعلى- أراد أن يقف بين يدي عظيم من عظماء الدنيا لتجمَّل وتزين وطلب أحسن الملابس، مع أن الذي أطعمك وكساك ورزقك هو الله جل وعلا.

    أتستكثر أن تلبس من رزقه، وأن تحسن لباسك وزينتك للموقف بين يديه؟

    فهذا ينبغي التنبيه عليه، وينبغي على الأئمة إذا رأوا أحداً بهذه الصفة أن ينبهوه، فإن المسلمين -خاصةً في هذه البلاد- يعظمون شعيرة الصلاة، فإحداث مثل هذه الأمور تُخِل بإكرام بيوت الله عز وجل، وإكرام شعائر الإسلام التي أَمَر الله بتعظيمها وإجلالها، وصدق الله إذ يقول: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32] أي: الذي يتقي الله، وكملت تقواه لله عز وجل يُعظِّم الموقف بين يديه، ويحسن التهيؤ لهذه الصلوات.

    فلذلك ينبغي التنبيه على مثل هذا الأمر، والنصح بلطف وإرشاد، إلا إذا كان الإنسان عنده حاجة أو ضرورة، كشخص نسي أو ذُهِل؛ لأن الناس قد يحصل منهم هذا، ولا ينبغي التعنيف والمبالغة في التقريع، بل ينبغي أخذ الناس بلطف؛ لأن ذلك أدعى لقبول الحق والرضا به.

    ستر العاتقين في النافلة والفريضة

    قال المصنف رحمه الله: [ويكفي ستر عورته في النفل ومع أحد عاتقيه في الفرض]

    الصلوات تنقسم إلى نافلة وإلى فريضة، والنفل: الزيادة.

    فالنافلة أخف شأناً من الفريضة، بما عُهِد من أدلة الشرع، ولذلك يجوز أن تصلى النافلة في السفر على الدابة بخلاف الفريضة، فخُفِّف أمر النافلة أكثر من الفريضة، ومشى عليه الصلاة والسلام لفتح الباب في النافلة، ولم يمشِ في الفريضة.

    فالمقصود أن النافلة أخف من الفرض، وإذا كانت أخف قالوا: إنه إذا صلى النافلة ساتراً عورته أجزأه.

    وبناءً على ذلك: لو صلى في سروالٍ دون أن يستر أحد عاتقيه، أو في إزارٍ دون أن يستر أحد عاتقيه، قالوا: تجزيه. لكن عموم نهيه عليه الصلاة والسلام كما في حديث ابن عمر في الصحيح أنه: (نهى أن يصلي الرجل بثوبٍ ليس على عاتقه منه شيء) يدل على العموم، ويشمل النافلة والفريضة، فالأقوى أنه يشمل الفرض والنفل، ولذلك يصلي الإنسان الفريضة والنافلة مع ستر العاتقين والعورة.

    صفة ما يستر عورة المرأة

    قال المصنف رحمه الله: [وصلاتها في درعٍ وخمارٍ وملحفةٍ، ويجزئ ستر عورتها].

    قوله: [وصلاتها] أي: المرأة، [في درعٍ وخمارٍ وملحفةٍ] الدرع الثوب الموجود لبعض النساء يكون كالثوب الموجود للرجل، وهو ما يسمى بالفساتين تقريباً، فهو على تفصيل الفساتين الموجودة في الوقت الحالي، لكن ليس بالتفصيل المعروف المبالغ به؛ لأن السلف ما كان عندهم هذه المبالغة، إنما كان عندهم أن يُفَصَّل كالثوب.

    قال بعض العلماء: إن الدرع كالقميص بالنسبة للرجل يكون إلى ساتراً لأعالي البدن، ويكون بعض الأحيان سابغاً بحيث يصل إلى ظهور القدمين، وأحياناً أرفع من أن يستر ظهور القدمين -أي: غير سابغ-، ويختلف بحسب بُعدِه، وقد يرتفع.

    وأما بالنسبة للخمار فهو مأخوذٌ من خمَّر الشيء يُخَمِّره تخميراً: إذا غطَّاه.

    فأصل التخمير: التغطية، ومنه سميت الخمر خمراً لأنها تغطي العقول -والعياذ بالله-، فالخمار يغطي الرأس وتضعه من تحت الحنك، فتغطي به شعرها، وتغطي به طرف الرأس من ناحية الأذنين.

    وأما بالنسبة للملحفة فهي الثوب الذي يكون على سبيل الغطاء من خارج، كما هو موجود الآن بما يسمى بالعباء، فيكون في حكم العباء، وإلا هو عادةً يكون من قطع القماش التي تأخذها المرأة وتلتحف بها، وهذا موجود إلى اليوم.

    وهذا على سبيل الاستحباب، لكن لو أنها سترت عورتها بما يستر أو يكفي للستر، فأخذت قماشاً فسترت به جميع العورة وبقي وجهها صحت صلاتها؛ إذ لا يُشترط تعيين الدرع، ولا يشترط تعيين الخمار، ولا يشترط تعيين الملحفة؛ لأن مقصود الشرع سترها، فإذا حصل الستر فقد حصل مقصود الشرع، فتصح صلاتها.

    حكم صلاة من انكشف بعض عورته

    قال المصنف رحمه الله: [ومن انكشف بعض عورته وفحش، أو صلى في ثوبٍ محرمٍ عليه أو نجس أعاد].

    بعد أن بين المصنف رحمه الله وجوب ستر العورة، ثم بين حدود العورة، ثم بيَّن ما تستر به العورة شرع في المسائل الطارئة، فلو أن إنساناً صلَّى وانكشف منه بعض عورته، فقال رحمه الله:

    [ومن انكشف بعض عورته وفحش]

    انكشاف بعض العورة يكون بالاختيار، ويكون بالاضطرار، أما بالاختيار فقولاً واحداً يوجب بطلان صلاته، فإذا كشف عورته مختاراً، دون حاجةٍ ولا ضرورةٍ مع علمه، فإنه تبطل صلاته.

    وانكشافها بالاضطرار يتأتى في قصر اللباس، كما لو كان له لباسٌ أو ثوب واحد، فإذا سَجَد انكشفت عورته، وكان هذا موجوداً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا -كما في أبي داود- يصلون وهم عاقدو أُزرهم على عواتقهم رضوان الله عليهم، فإذا سجد الرجل منهم انكشفت عورته، من قلة اللباس.

    مصعب بن عمير رضي الله عنه كانت له شملة هي التي خرج بها من الدنيا، إن غطوا بها وجهه في الكفن بدت قدماه، وإن غطوا بها قدميه بدا وجهه، وهذا من ضيق الحالة التي كان عليها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم عاذراً لهم في ذلك، ولم ينزل الوحي بإلزامهم بشيء، أو تحميلهم تبعة ذلك، فدل على أن المضطر لا يكلف أكثر من قدرته.

    وإن كشفها ذاهلاً وناسياً دون إدراك منه، فقال بعض العلماء: إنه إذا كان ولم يعلم به، صحَّت صلاته إذا لم يفحش، واستدلوا على هذا بما ثبت في صحيح البخاري من حديث عمرو بن سلمة رضي الله عنه أنه قال: (وكانت العرب تَلَوَّمُ بإسلامهم الفتح فيقولون: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق، فأسلم الناس بعد فتح مكة، وقدم أبي على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له ولأصحابه: صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلوا كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآناً، قال: فرجعوا فنظروا فإذا أنا أكثرهم قرآناً فقدموني).

    فذكر رضي الله عنه أنه كان له ثوبٌ إذا سجد بدت به عورته، فقال رضي الله عنه: (فقالت النساء: استروا عنا است قارئكم).

    ووجه الدلالة من هذا الحديث قول النساء: (استروا عنا است قارئكم)، فدل على انكشاف عورته، ومع هذا لم تبطل صلاته، ولذلك قالوا: من انكشفت عورته لذهول أو نسيان فإن صلاته تصح بشرط عدم الفحش كما ذكر المصنف رحمه الله.

    وكان الإمام أحمد رحمه الله يضعف متن هذا الحديث، فكان إذا ذُكِر له حديث عمرو بن سلمة يقول: أي شيءٍ هذا؟ أي شيءٍ هذا؟ دعه فإنه ليس ببيِّن وهذا من فقهه ودقة فهمه رحمة الله عليه.

    فإن حديث عمرو بن سلمة رضي الله عنه يقول: (رجعوا فنظروا) أي: اجتهدوا، وكان هؤلاء الصحابة -كما هو معلوم- أسلموا في عام الوفود حينما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، فمعنى ذلك أن اجتهادهم رضوان الله عليهم مع حدث عهدٍ بجاهلية لا يُؤمَن معه وجود الخلل؛ لأن انكشاف عورة المصلي يوجب البطلان بالأصل، فكونهم يتركونه يصلي بهم والعورة منكشفة -مع إمكان سترها- من ناحية أصول الشرع لا يقتضي الصحة، فكأنه يرى أن هذا فعل صحابيٍ في زمان النبوة لا يستلزم الاحتجاج بمثله، فلو كان في المدينة وبمحضر من النبي صلى الله عليه وسلم وإقرارٍ منه لصح الاحتجاج، لكن كون عمرو نفسه يقول: (فنظروا) يؤكد أن هذا خرج منهم على سبيل الجهل رضي الله عنهم وأرضاهم، وكان كما جاء عنه في بعض الروايات أنه إذا قيل نفض يديه وقال: أي شيءٍ هذا؟ لأننا لو جئنا نقول بظاهره لأدى ذلك إلى بطلان أصل ستر العورة؛ لأنه بإمكانهم أن يستروه، وبإمكانهم أن يمنعوه من انكشاف عورته، ولذلك قال عمرو : (فنظروا).

    وهناك رواية عند عبد الرزاق في مصنفه أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك وأقره، ولكنها روايةٌ ضعيفة لم يصح سندها، ومثلها الرواية التي تفيد أن عمراً قدمَ مع أبيه، وهي رواية غير صحيحة، والصحيح أن عمراً كان عند أهله، وأنه كان يتلقى من قدم من المدينة من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحفظ ما عنده من القرآن حتى كان أحفظ القوم، وكانوا حديثي عهدٍ بجاهلية، فرأوا أنه أحفظهم فقدموه.

    حكم الصلاة في ثوب حرام أو نجس

    قال المصنف رحمه الله: [أو صلى في ثوبٍ محرمٍ عليه، أو نجسٍ أعاد].

    قوله: [أو صلى في ثوبٍ محرمٍ] كالثوب المغصوب، كأن يغتصب من إنسانٍ ثوبه ويصلى فيه، والصلاة في الثوب المغصوب للعلماء فيها قولان:

    قال الجمهور: من صلى في ثوبٍ مغصوبٍ فصلاته صحيحة، فلا يُطَالب بالإعادة، ولكنه آثمٌ بلبس هذا الثوب، وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية رحمة الله على الجميع.

    وقال الحنابلة رحمهم الله: إن من صلى في ثوبٍ محرمٍ كالمغصوب والمسروق فصلاته باطلة، وتلزمه الإعادة، والصحيح مذهب الجمهور؛ لأن النهي لم ينصب على ذات الصلاة، والنهي إذا لم ينصب على ذات الشيء لم يقتض الفساد؛ لأن النهي هنا عن خارجٍ ليس بمتصلٍ بذات الصلاة، فلو كان النهي عن متصلٍ بذات الصلاة لأوجب البطلان.

    وبناءً على ذلك قال الجمهور بانفكاك الجهة، فقالوا: نقول: هو آثمٌ بلبس الثوب مثابٌ بفعل الصلاة، وبناءً على ذلك نقول: إن صلاته صحيحة، ولبسه للثوب حرامٌ عليه وهذا أصح القولين لما ذكرناه من أن النهي إذا لم يرجع إلى ذات المنهي عنه لا يقتضي البطلان، ولا يقتضي الفساد، وأما إذا رجع إلى ذاته فإنه يقتضي البطلان والفساد.

    قوله: (أو نجسٍ) أي: أن صلى في ثوبٍ نجس تلزمه الإعادة، وسيأتي إن شاء الله الكلام على الصلاة في الثوب النجس والمكان النجس، ولكن هنا إذا لم يكن مضطراً، أما لو اضطر وكان الثوب الذي يصلي فيه نجساً، ولم يوجد ما يطهر به هذا الثوب، كأن يكون في بريةٍ ونحوها، فقالوا: يصلي ولا تلزمه الإعادة.

    واستحب بعض العلماء أنه إذا اضطر وصلى في ثوبٍ نجس ثم وجد الطاهر قبل خروج الوقت أن يعيد استحباباً، وهذا مذهب بعض العلماء رحمة الله عليهم.

    قال رحمه الله تعالى: [لا من حُبس في محل نجس].

    قوله: [حُبِس] بمعنى أنه ألجأه الوقت أن يصلي في مكانٍ غير طاهر، قالوا: في هذه الحالة يصلي؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، فلو كان في مكانٍ نجس ولا يستطيع أن يخرج عنه، فحينئذٍ يصلي وصلاته صحيحة.

    وهكذا لو استغرق امتناعه عن الخروج مدة وقت الصلاة، فيصلي ولا إعادة عليه؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، وهذا ليس بوسعه أن يجد مكاناً طاهراً، فيصلي على حالته.

    حكم عدم كفاية الساتر لستر العورة

    يقول المصنف رحمه الله: [ومن وجد كفاية عورته سترها وإلا فالفرجين فإن لم يكفهما فالدبر].

    بعد أن بيَّن المصنف رحمه الله وجوب ستر العورة للصلاة، وأنه ينبغي على كل مصلٍ أن يستر عورته، بيَّن أن من وجد هذا الساتر الذي أمر الله به فينبغي عليه أن يستتر، أما لو كان الإنسان غير واجدٍ للسُّترة التي أمر الله بها، كأن يكون خرج من غرق في البحر، ولا يجد ما يستر به عورته إلا شيئاً يسيراً من الثياب فيستر السوءتين وذلك هو الأصل في العورة، وما زاد على السوءتين إنما هو آخذٌ حكمها بحكم التَّبَع لا بحكم الأصل، فإذا تعارض عندنا ستر السوءة بنفسها -أعني: العورة- وستر ما جاورها قدم ستر العورة على ما جاورها، فيبتدئُ بستر الفرجين، فإذا كان هناك شيءٌ زائد على ما يستر به الفرجين ستره، وأما إذا كان القدر من الثياب الذي معه لا يكفي إلا للفرجين ستر الفرجين.

    وقوله: (فإن لم يكفهما فالدبر) للعلماء في تقديم أحدهما وجهان: فمنهم من قال: إن المكلف إذا فقد الساتر ولم يجد إلا ما يستر به أحد الفرجين ستر الدبر؛ لأنه أبلغ في الانكشاف خاصةً عند سجوده، ولإمكان ستر القبُل بالمواجهة، وبإنزال اليدين بمحاذاة الفرج دون مسٍ؛ لأن مس الفرج يؤدي إلى انتقاض طهارته وبطلان صلاته.

    قالوا: فخُفِّف في القبُل وشُدد في الدبر، ولأن القبل يستتر في حال السجود والدبر ينكشف، فأصبح أحد الموضعين أبلغ من الموضع الثاني في الانكشاف، وإذا كان أحد الموضعين أبلغ كان هذا مرجِّحاً لستره على غيره؛ لأن التضرر بانكشافه أبلغ.

    وقال بعض العلماء: إنه يستر القبُل ويترك الدبر؛ لأنه إذا وقف كان الانكشاف للقبل أبلغ من انكشاف الدبر.

    والحقيقة أن القول بستر الدبر أبلغ وأقوم، وذلك من وجوه: منها ما ذكروه، ولأن الإنسان يستر في صلاته قبله، ويضعف انكشاف القبل في حال القيام بضم الفخذين إليه، وبالركوع يكون أخف، وكذلك في حال السجود، فأصبح حال الفرجين مختلفاً من جهة الانكشاف، فرُجِّح تقديم الدبر على القبل للوجوه التي ذكرناها.

    إعارة العادم السترة وحكم أخذه لها

    قال رحمه الله تعالى: [وإن أُعِير سُترةً لزمه قبولها]

    بعد أن بين رحمه الله أنه لا تصح الصلاة إلا بالسترة، وأن هناك أحكاماً تتعلق بالمضطر -وهو الشخص الذي لا يجد السترة- شَرَع بعد ذلك في حكم هذا الشخص الذي لا يجد سترة، فلو أن إنساناً قال له: خذ هذا الثوب عاريةً مني، أو هديةً، أو عطيةً، فإنه يجب عليه قبول هذا الساتر لستر العورة، وذلك لمكان الفرض الواجب عليه بالستر، وهذه من الصور التي يجب فيها قبول العارية والهبة، لا لذات العارية والهبة، ولكن لأنه مطالبٌ بستر عورته، فتوقَّف هذا الواجب -وهو ستر العورة- على قبول العارية والهدية، والقاعدة أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فلذلك قالوا: يلزمه القبول، ولا يجوز له أن يمتنع.

    كيفية صلاة العاري منفرداً

    قال المصنف رحمه الله: [ويصلي العاري قاعداً بالإيماء استحباباً فيهما].

    بعد أن بين الحالة الأولى، وهي التي تتعلق بالإنسان الذي لا يجد السترة من طَوْلِه ومن ماله ووجدها من الغير بين الحالة الثانية، وهي ألا يجد أحداً يتبرع له بالسترة، ولا يمكنه أيضاً ستر أحد الفرجين، فقال رحمه الله: (ويصلي العاري قاعداً)، فلو أن هذا الشخص الذي لا يجد السترة لم يجد من يعطيه سترة أو يعيره السترة، وليس عنده ما يستر به أحد الفرجين فللعلماء في الإنسان العاري إذا أراد أن يصلي وجهان:

    فمنهم من قال: يصلي قائماً، ومنهم من قال: يصلي قاعداً.

    وصورة المسألة: لو أن إنساناً غرق، أو جماعةً انكسرت بهم السفينة، فخرجوا وأصبحوا عراةً، أو نزلوا في موضعٍ احترقت عليهم ثيابهم، ولم يجدوا ما يستروا به عوراتهم، فأهل القول الأول قالوا: إذا اجتمعوا أو انفردوا فإنه يصلي الإنسان في هذه الحالة قاعداً، ووجه هذا القول أنهم قالوا: إنه إذا صلى قاعداً فات حق الله عز وجل في القيام، وإذا صلى قائماً فات حق العبد بانكشاف عورته وتضرر فتعارض الحقان، والقاعدة أن حقوق الله أوسع من حقوق العباد، فإذا تعارض الحقان قدم حق العبد على حق الله لا من جهة التفضيل، ولكن من جهة الرحمة واللطف، ولذلك من اضطر في سفر إلى مخمصة وأصابته المجاعة فإن حق الله ألا يأكل الميتة، وحق نفسه أن ينقذها، فقُدِّم حق النفس على حق الله من جهة الرحمة والتوسعة من الله على عباده.

    فيقولون: إن العاري لو قلنا له: صلِّ قائماً تضرر بحق نفسه بانكشاف عورته وبدو سوءته، وقد سمَّى الله العورة سوءة قال تعالى: فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ [طه:121].

    فأخبر سبحانه وتعالى أن العورة سوءة، قالوا: سميت سوءةً؛ لأنها تسيء إلى صاحبها عند انكشافها.

    والقول الثاني: يصلي قائماً ولا يصلي قاعداً؛ لأن الله تعالى قال: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر)، وقال لـعمران : (صل قائماً).

    فالأدلة ملزمةٌ بالقيام، قالوا: فإذا قلنا له: اجلس لمكان انكشاف العورة فإننا نقدم الشرط على الركن، والقاعدة أنه إذا ازدحم الشرط والركن قُدِّم الركن على الشرط، فإن القيام ركن، والجلوس من أجل ستر العورة تحصيل للشرط، والذي تطمئن إليه النفس أن الإنسان إذا لم يجد ما يستر به عورته يصلي قائماً، لأمور:

    أولاً: للأدلة التي دلت على لزوم القيام.

    ثانياً: أن قولهم بأنه يجلس ولا يقوم إنما هو تقديمٌ للشرط على الركن، والقاعدة أن الأركان مقدمةٌ على الشروط، وهذا بدليل الشرع، فإن الأركان أَلْزَم؛ لأنها تعود إلى حقيقة الصلاة وماهيتها.

    ثالثاً: أن فقه المسألة أن الإنسان إذا صلى قائماً فإنه ليس بمخلٍ من نفسه؛ لأن الله كلَّفه أن يستر عورته عند القدرة، ولا قدرة له على الستر.

    فبقي نظر الغير إليه يتعلق إثمه بالناظر، فالله لم يكلفني نظر الغير؛ لأنني إذا لم أجد الطّول فغيري هو الآثم بالنظر، وأصبح التكليف بغض النظر متعلقاً بالغير لا بالمكلف، ولذلك يقوى القول بأنه يُصَلِّي قائماً، ولا يصح منه أن يصلي جالساً لما ذكرناه.

    وقوله: (استحباباً) أي: لا نوجب عليه ذلك، ومعناه أنه لو صلى قائماً صحت صلاته، وخلاصة القول: يصلي قائماً حتى نخرج من الخلاف؛ لأن من قال: (يصلي قاعداً) لا يُوجِب القعود، وإنما قال: (استحباباً) أي: لا حتماً ولا إيجاباً.

    كيفية صلاة العراة جماعة

    قال المصنف رحمه الله: [ويكون إمامهم وسطهم].

    هذه مسألة من مسائل الإمامة، قالوا: الأصل في الإمام أن يتقدم؛ لأن الإمام مأخوذٌ من الأمام، كما قال ابن منظور في اللسان، والأمام هو الخط الذي يُخط في أول الدار.

    قالوا: فوصفه في الشرع بالإمامة يدل على تقديمه، فلو تأخر لم يكن إماماً شرعياً من هذا الوصف؛ لأنه يُؤتم به.

    وقد ثبت في الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) أي: من أجل أن يؤتم به، فلما أخبر أن الإمام مؤتمٌ به، فهذا مطلق يشمل الائتمام به في حال تقدمه والائتمام به في حال أدائه للصلاة، ولذلك ينبغي على الإمام أن يتقدم، وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يصلي بأصحابه متقدماً لا متأخراً، ولا مساوياً للصفوف إلا في حال الاضطرار، فهذا يستثنى لمكان الضرورة والحاجة.

    لكن لو أن عراةً اجتمعوا وأرادوا أن يصلوا قال: [ويكون إمامهم وسطهم]، وذلك مما يُغتفر فيه تقدم الإمام على المأمومين، لكن يُنبه على أن الإمام ينبغي عليه أن يتقدم على من بجواره قليلاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما جُعِل الإمام ليؤتم به)، فهذا يدل على تقدم الإمام ولو قليلاً، كما نبه العلماء رحمهم الله على ذلك، كما في حديث أنس، وهو أحد الوجهين عندهم كما نبه عليه فقهاء الشافعية وغيرهم.

    فيصلِّي وسطهم، لكنه يتقدم قليلاً، والسبب في هذا أنه إذا تقدم انكشفت عورته، وانكشاف العورة مخلٌ بالصلاة، قالوا: فيتأخر؛ لأن تقدم الإمام هنا أخف من المسألة التي معنا في القيام والقعود، فإن التقدم في الإمامة يغتفر لمكان دلالة النص على الستر، فإن دلالة النص على الستر في النصوص الواردة بالأمر بالستر وستر العورة أقوى من الأمر بتقدم الإمام، فلما أصبحت نصوص ستر العورة أقوى من نصوص تقدم الإمام قالوا: إن الإمام يصلي وسطهم، بمعنى أن يكون داخل الصف.

    فلو فرضنا أنهم ثلاثة عراة، فإنه يصلي وسطهم، ويكون أحدهم عن يمينه والثاني عن يساره.

    قالوا: وهذا يغتفر فيه مقامه عن اليسار، وهي من الصور التي يستثنى فيها وقوف المأموم عن يسار الإمام.

    لكن لو أنه أخره قليلاً فإنه أولى وأحرى، ولا شك أنه لو تأخر قليلاً لا يكون ثَمّ انكشاف كما لو تقدم تقدماً حقيقياً كما يفعله الأئمة.

    قال رحمه الله تعالى: [ويصلي كل نوعٍ وحده] أي: تصلي النساء على حدة، إذا كن عراةً، والرجال على حدة، تحقيقاً لمقصود الشرع من ستر العورة وعدم تعاطي أسباب انكشافها، فيصلي الرجال مع الرجال والنساء مع النساء؛ لأن اجتماع النساء مع الرجال في هذه الصور فيه الفتنة، وقال بعض العلماء: لا حرج أن يصلي النساء مع الرجال حتى في حال العري؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا إذا سجدوا انكشفت عوراتهم؛ لأنهم لم يكن لهم ما يسترون به العورة من ضيق اللباس في زمانهم رضي الله عنهم وأرضاهم، قالوا: ففي هذه الحالة كون النبي صلى الله عليه وسلم يأمر النساء بالتأخر في رفع رؤوسهن، وإقراره لصلاتهن مع الرجال على هذه الحالة يدل على التخفيف. لكن هذا محل نظر، وذلك من وجوه: أقواها وأولاها أن حال الصحابة رضوان الله عليهم يقع في صورةٍ يمكن تلافيها، وإمامة العراة صورة لا يمكن تلافيها؛ لأن انكشاف العورة من الرجال في عهد الصحابة كان في حال السجود فقط، وبناءً على ذلك يمكن تلافيه، فإن النساء إذا أخرن رفع رؤوسهن وبادرن بالسجود، فإنه يمكن تلافي الفتنة بالنظر، لكن كونهن يصلين والرجال أمامهن منكشفين فإن النساء يحتجن إلى رؤية الإمام ورؤية من يقتدي بالإمام قطعاً حتى يعلمن بالانتقال، خاصة عند كثرة العدد، وبناءً على ذلك فالفتنة غالبة، ولذلك يقوى قول من قال: إنه يصلي الرجال على حدة والنساء على حدة؛ لأن الجماعة متحققة بالنساء على انفرادهن، وبالرجال على انفرادهم.

    قال المصنف رحمه الله: [فإن شق صلى الرجال واستدبرهم النساء، ثم عكسوا]

    قوله: [فإن شق] أي: إن شق أن يصلي هؤلاء على حدة، وأن يصلي هؤلاء على حدة، كما لو كانوا في سفينة، وليس معهم ثياب تستر بها العورات، فحينئذٍ يصلي الرجال أولاً والنساء مستدبرات للرجال، ثم تصلي النساء والرجال مستدبرون للنساء؛ لأن القاعدة أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فغض البصر عن النظر إلى العورة واجب، وتوقف في هذه الحالة على حالة الإستدبار، فأصبح الإستدبار لازماً على الرجال ولازماً على النساء.

    حكم من صلى عارياً ووجد ساتراً أثناء صلاته

    قال المصنف رحمه الله: [فإن وجد سترةً قريبةً في أثناء الصلاة ستر وبنى وإلا ابتدأ]

    هذه القسمة العقلية، فالإنسان عقلاً لديه ثلاث حالات: إما أن يجد السترة، وإما ألا يجد السترة، وإما أن يجد بعض السترة.

    فإن وجد السترة لزمه قولاً واحداً أن يستتر، وهذا الأصل.

    وإن فقد السترة صلى عارياً، وقد بين المصنف حكمه جماعةً وفرادى.

    وإن وجد بعض السترة فهل يستر القُبُل أو الدبُر، وجهان: أصحهما أن يستر الدبر.

    ثم بعد هذا شرَع رحمه الله في الحالة الأخيرة، وهي أن من فقد السترة إما أن يفقدها حتى يصلي وينتهي من صلاته، وحينئذٍ الحكم ما تقدم، وإما أن يفقدها وتطرأ أثناء الصلاة، فقال رحمه الله: (فإن وجد سترةً قريبةً في أثناء الصلاة)، كأنه يقول : بيَّنت لك حكم من لم يجد السترة وصلى، هل يصلي قائماً أو قاعداً، وبقي أنها لو طرأت أثناء الصلاة، فحينئذٍ إذا طرأت أثناء الصلاة لَزِمه أخذها، والحركة لأخذ السترة جائزة ومغتفرة؛ لأنها تحصيل لواجب، والحركة لواجب مشروعة، وقد تحرك النبي صلى الله عليه وسلم لمصلحة الصلاة، ألا تُراه عليه الصلاة والسلام رقى منبره، ونزل من المنبر، وتحرك في الصلاة لمصالحها، وحرك أصحابه لمصالح الصلاة، فدفع جابراً وجباراً وراء ظهره، وأخذ بـابن عباس من ورائه فأداره عن يمينه، كل هذا يدل على جواز الحركة لمصلحة الصلاة.

    فلو فرض أنه وجدها أثناء الصلاة، فإنه إن كان العمل قليلاً فحينئذٍ لا إشكال، كما لو جاءه رجل بسترة وناوله وهو في الصلاة، فإن مناولة السترة ووضعها على العاتق قد تكون خفيفة يسيرة، والعمل لذلك يسير، لكن الإشكال لو احتيج إلى أن يتكلف في لبسها لطبيعتها إلى عملٍ كثير، ويمكنه أن يستر بعض الجسد بالعمل اليسير، فهل يقدم الستر للكل بالعمل الكثير أو يُقدم الستر للعورة بالعمل اليسير؟

    صورة ذلك لو أعطاك ثوباً، فإن لُبسَ الثوب يقتضي حركةً أكثر مما لو احتزمت بالثوب، وفي حال إذا كان الثوب يحتاج إلى عمل كثير من إدخال اليدين فيه، وتعاطي أسباب اللبس، فحينئذٍ يكون هذا التحرك مدفوعاً بما هو أقل منه محصلاً لواجب الشرع، فإنك إذا ائتَزَرْت به، ووضعت أحد طرفيه على عاتقك حققت مقصود الشرع، وذلك بعملٍ يسير، فيلزمك فعل اليسير وترك الكثير؛ لأن ما جاز للحاجة يقدر بقدرها، فهو محتاجٌ لستر عورته، فالكمال أن يلبس الثوب بكامله، والإجزاءُ أن يلبسه على موضع عورته وقدر ما يجب عليه ستره، فيفعل الواجب عليه ستره.

    لكن هنا مسألة أشكل من هذه المسألة وأعظم، فلو أن إنساناً كان يصلي وهو قائم، وألزمنا القيام وهو عاري البدن، ثم سقط الثوب بجواره، فحينئذٍ لا يستطيع أن يأخذ الثوب في الغالب إلا بالانحناء، وإذا انحنى انتقل من ركنٍ إلى ركن، فإنه ينتقل من ركن القيام إلى ركن الركوع أو ركن الجلوس، وحينئذٍ هذا الركن زائد في الصلاة، ولذلك أجمع العلماء على أنَّ تَعمُّدَ زيادة الركن في الصلاة يوجب بطلانها، ففي هذه الحالة ينبه بعض مشايخنا رحمة الله عليهم فقالو إنه يرفعه بقدمه ويتناوله ويلبسه ولا ينحني، فيحافظ على هيئات الصلاة ويلبس ثوبه، ويقتصر على أقل ما يتحقق به الواجب.

    وقوله: [قريبة] أي أن تكون هذه السترة قريبة، وفي هذه الحالة إذا كانت بعيدةً، أو لزمه عملٌ كثير لتعاطيها ولبسها، قالوا لا يجب عليه أن يشتغل بها، بل يتم صلاته.

    وقوله: [ستر وبنى وإلا ابتدأ].

    هذا بالنسبة لحال الإتمام، لكن لو صاح عليه صائح وقال: لك ثياب عند محمد أو زيد فيلزمه قطع الصلاة، ثم يذهب ويلبس ويصلي مستتر العورة.

    فلو طرأ أثناء الصلاة وجود سترة تحتاج إلى عملٍ كثير، أو ذهاب إلى موضع، ويمكنه ذلك قبل خروج الوقت يقطع ويذهب؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وإنما جاز له أن يصلي في حال الفقد، أما في حال الوَجْد فلا يصح منه أن يصلي في حال قدرته على ستر العورة على هذا الوجه.

    1.   

    الأسئلة

    حكم كشف الفخذ في غير الصلاة

    السؤال: إن الأحاديث التي وردت بحد العورة مطلقة ضعفها أهل العلم، وحسنُوا المقيد بالصلاة، فهل يُفهم من ذلك أن الفخذ خارج الصلاة ليس بعورة؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

    فنحن ذكرنا أن الأحاديث المطلقة مضعَّفة، والأحاديث المقيدة بالصلاة محسَّنة وثابتة ويعمل بها، ولكن ليس معنى هذا أنه يجوز للإنسان أن يخرج وعورته مكشوفة.

    ولذلك قالوا: إن كشف بعض أعضاء البدن إذا جرى العرف بسترها مخلٌ بالمروءة.

    ويقولون: إن من خوارم المروءة أن يفعل الإنسان ما أبيح له سراً أمام الناس جهراً، ككشف بعض أعضاء الجسم إذا جرى العُرف بتغطيته كالرأس، قالوا إنه يعتبر مسقطاً للمروءة، كما قال القائل:

    وما أبيح وهـو في العيـان يقدح في مروءة الإنسـان

    فقالوا: إنه قد يكون الشيء في أصله جائزاً، لكنه من باب المروءة وتعاطي الكمال يجب ستره، وهذا فيما زاد عن حد العورة، كأعالي البدن، فلو أن إنساناً خرج في السوق كاشفاً عن صدره، أو لبس ما يُسمى (بالفنايل)، وجاء أمام الناس لابساً سرواله وفنيلته، فهذا خلاف العُرف، لكن لو كان صانعاً، أو صاحب صنعةٍ أو مهنة، ولبس هذا اللباس أثناء عمله ومهنته فلا حرج ولا عتب عليه، لكن إذا جاء إلى مجامع الناس بهذا اللبس فإنه تسقط مروءته وترد شهادته، قالوا: لأن هذا نقصٌ في العقل، وناقص العقل لا تقبل شهادته، ومن أهل العلم من استدل له بما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت) .

    قال الشاعر:

    يعيش المرء ما استحيا بخـير ويبقى العود ما بقي اللحاء

    فالإنسان إذا استحيا كملت مروءته، بل قالوا: إنه لا يستحيي إلا من كان كامل العقل، أعني الحياء المحمود الذي يحمل على مكارم الأخلاق.

    ومن مكارم الأخلاق ما ذكرناه من عدم تعاطي الألبسة، أو كشف الأمور التي لم يجر العرف بكشفها، ويستحب للإنسان أن يراعي هذا خاصةً في الأعراف، فيساير العرف الذي هو فيه إذا كان العرف على الكمال، أما لو كان العرف على النقص فلا يسايره، فلو كان العرف درج على لبسٍ يخل بالمروءة، أو على لبس متهتك يخالف شرع الله، فإنه لا يعتبر عرفاً.

    قال الناظم:

    وليس بالمفيد جري العيدِ بخلـف أمر المبدئ المعيدِ

    والعرف إن خالف أمر الباري وجب أن ينبذ في البراري

    فلا قيمة للعرف ما دام أنه يعارض الشرع، ومثل العلماء لذلك فقالوا: لو جرى العرف بحلق اللحية لم يكن عرفاً معتبراً؛ لأنه يُصادم الشرع.

    فالمراد بالأعراف المعتبرة الأعراف التي توافق الشرع، وتوافق مكارم الأخلاق ومحاسن العادات وجميل الطباع، فهذا هو العرف المعوَّل عليه، والله تعالى أعلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756512493