إسلام ويب

شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [1]للشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ورد في شأن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن فضلها على سائر النساء كفضل الثريد على سائر الطعام، وصحّ أن الله لم يبدل نبيه صلى الله عليه وسلم بخير من خديجة رضي الله عنها، وثبت أن فاطمة رضي الله عنها سيدة نساء هذه الأمة وأفضل نساء أهل الجنة، ومن ثمَّ اختلف العلماء في المفاضلة بين هؤلاء الثلاث، وقيل: يتوقف في ذلك ولا يفاضل بينهن فكل واحدة منهن امتازت بجانب، أما أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فثبت أنها أحب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يحبها حباً زائداً على غيرها.

    1.   

    فضل عائشة رضي الله عنها

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

    شرعنا في الموعظة الماضية في مدارسة الباب الخامس من أبواب الطهارة من جامع الإمام أبي عيسى الترمذي عليه وعلى جميع المسلمين رحمة رب العالمين، وهذا الباب عنوانه: ما يقول إذا خرج من الخلاء، وقد أورد الإمام الترمذي في هذا الباب حديثاً عن الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله على نبينا وأزواجه وأهل بيته صلوات الله وسلامه، وهذا الحديث الذي رواه الإمام الترمذي عن أمنا عائشة رضي الله عنها ساقه من طريق شيخه سيد المسلمين، وإمام حفاظ حديث نبينا الأمين عليه وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، ألا وهو الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه الجعفي البخاري ، ولفظ الحديث عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك)، قال أبو عيسى : هذا حديثٌ حسنٌ غريب، ولا نعرف في هذا الباب إلا حديث أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها.

    وكما قلت سابقاً: نتدارس الحديث ضمن أربعة مباحث.

    المبحث الأول: دراسة إسناد الحديث، وقد انتهينا من مدارسة إسناد الحديث في الموعظة الماضية، ووصلنا إلى أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وهي راوية الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام. وكعادتنا إذا وصلنا إلى الصحابي أن نبسط الكلام في ترجمته وفي أخباره؛ لأن هؤلاء تلاميذ النبي عليه الصلاة والسلام، وهم صورةٌ لنبينا عليه الصلاة والسلام، فحباً لهم وإجلالاً لنبينا عليه الصلاة والسلام نوسع الكلام في أخبارهم، ثم مع ذلك -عندما نفعل هذا- نستلهم رحمات الله رب العالمين بذكر الصحابة الطيبين الطاهرين رضوان الله عليهم أجمعين.

    أما أمنا عائشة رضي الله عنها، وهي راوية هذا الحديث الشريف، فسنتدارس ما يتعلق بشأنها وأخبارها ضمن ستة أمور:

    أولها: في فضلها رضي الله عنها.

    وثاني هذه الأمور: في حب النبي عليه الصلاة والسلام لها حباً زائداً كثيراً، ولا يحب نبينا الطيب إلا من كان طيباً، صلى الله عليه وعلى أهل بيته وسلم تسليماً كثيراً.

    والأمر الثالث: في أسباب حب نبينا عليه الصلاة والسلام لأمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها.

    والأمر الرابع: زواج نبينا عليه الصلاة والسلام بأمنا عائشة رضي الله عنها، ورد لغطٍ أثير حول هذا الموضوع.

    والأمر الخامس: قيام أمنا عائشة رضي الله عنها بتعظيم الله والشفقة على خلق الله على وجه التمام والكمال حسب ما في وسع الإنسان.

    وسادس الأمور وهو آخرها: دفاع الله عن أمنا عائشة وغيرة الله عليها، فإذا كان نبينا عليه الصلاة والسلام يحبها ويغار عليها ويدافع عنها، فقد أحبها وغار عليها ودافع عنها رب العالمين في آياتٍ تتلى في محاريب المسلمين، ويتعبد بها المؤمنون إلى يوم الدين.

    فضل عائشة على سائر النساء

    أما الأمر الأول في أحوال هذه الصديقة الطيبة المباركة أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فهو في فضلها؛ فهي أفضل الصديقات، ووالدها أفضل الصديقين عليهم جميعاً رضوان رب العالمين، وهي حبيبة حبيب رب العالمين، وزوجة نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام، وقد فضلها نبينا صلى الله عليه وسلم على سائر النساء، وهو الذي لا ينطق عن الهوى، فداه نفسي وأبي وأمي، ففي المسند والصحيحين وسنن الترمذي -والحديث في أعلى درجات الصحة- من رواية أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه، قال: سمعت رسول الله عليه وسلم يقول: ( كمَل -بتثليث الميم كما قال علماء اللغة وشراح الحديث- من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم زوجة فرعون ، وفضل عائشة على سائر النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)، قوله: (كمل من الرجال كثير)، فالأنبياء لا يوجدون إلا في جنس الذكور، وعدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً كما سيأتينا في مبحث النبوة، أو لعله مر معنا في المبحث الثاني من مباحث النبوة، إذاً: أنبياء الله وصفوته من خلقه كاملون مكملون، وليس في النساء نبية، إنما غاية ما تصل إليه المرأة أن تكون صديقة، وهذه هي أعلى الرتب بعد رتبة النبوة، وقد أشار ربنا جل وعلا إلى هذه الرتبة في كتابه فقال: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ [المائدة:75] ، وهي مريم بنت عمران عليها وعلى سائر الصديقات والصديقين الرحمة والرضوان.

    إذاً: (كمل من الرجال كثير)، ففيهم أنبياء، وفيهم رسل، وفيهم صديقون وصالحون. قوله: ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم ، هذا من باب التمثيل على من حصل منها الكمال من النساء، ( وفضل عائشة على سائر النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ).

    والحديث رواه ابن مردويه في تفسيره بسندٍ صحيح كما قال الحافظ الإمام ابن كثير في البداية والنهاية في الجزء الثالث صفحة تسعٍ وعشرين ومائة بزيادة أمنا خديجة في الشق الأول من الحديث، ولفظه: ( ولم يكمل من النساء إلا ثلاثٌ -أي: ثلاث نسوة-: مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم ، وخديجة بنت خويلد ).

    قال أئمتنا الأخيار في بيان حال هؤلاء النسوة اللاتي حصل فيهن الكمال: هؤلاء النسوة الثلاث كل واحدة منهن كفلت نبياً، وأحسنت إليه تمام الإحسان، أما آسية بنت مزاحم زوجة فرعون فقد كفلت كليم الله موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وقالت: قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا [القصص:9]، وأما مريم فقد كفلت نبي الله وروحه عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وأما خديجة فقد كفلت خير خلق الله نبينا محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ فهؤلاء حقيقةً أكمل نسوة.

    لكن هناك امرأةٌ فيها ميزة على سائر النساء ألا وهي أمنا الصديقة بنت الصديق ، ففضلها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام، والثريد هو الطعام المكون من نوعين: من خبز البر واللحم الشهي، فإذا ثرد اللحم وطبخ وقطع الخبز، ووضع عليه مرق اللحم واللحم فيقال له: ثريد، وهذا أطيب أنواع الطعام؛ لأنه جمع أفضل الأقوات ألا وهو البر، وجمع سيد الإدام وهو اللحم.

    قال الإمام ابن القيم في زاد المعاد في هدي خير العباد على نبينا صلوات الله وسلامه: الثريد طعامٌ يجمع غذاءً، وقوةً، ولذةً، وسهولةً في التناول، ولذيذ، وإذا أكلته له ميزة على غيره من الأغذية، فهو يكسبك القوة عن طريق ما فيه من اللحم، ثم مع هذا هو سريع التناول، سريع الأخذ والمضغ والدخول في الجوف؛ لأنه ثرد بمرق اللحم، وهذا الخبز لا يحتاج بعد ذلك إلى كلفة في تقطيعه بأسنانك، وحقيقةً هذا أطيب أنواع الأطعمة.

    فإن قال قائل: أي هذين النوعين أفضل وأعز وأكثر: الخبز أو اللحم؟ فنقول: كل واحد له جهة تفضيل ينفرد بها، أما الخبز فالحاجة إليه أعم وأكثر، وأما اللحم فهو أجل وأفضل، والحال بين الخبز واللحم كالحال بين الحديد والذهب، فالحاجة إلى الحديد أكثر، لكن الذهب أغلى وأثمن، ولو لم يكن في الحياة حديد لكان فيها شيءٌ من الصعوبة، وقد أنزل الله الحديد فجعل فيه بأساً شديداً، وأما الذهب فيمكن للناس أن يستغنوا عنه، أما الحديد فإنه قوام الحياة، فالحديد أنفع وذاك أغلى، وكذلك اللحم أثمن لكن الخبز أنفع للناس، فالحاجة إليه أعم وأكثر.

    و مريم وآسية ذكرتا مع أمنا خديجة وعائشة رضي الله عنهن أجمعين ورد في الآثار الضعيفة أنهما ستكونان زوجتين لنبينا عليه الصلاة والسلام في جنة النعيم، وعليه فهؤلاء النسوة كلهن من نساء نبينا عليه الصلاة والسلام، مريم البكر، وآسية الثيب، وبعد ذلك من دخل بهن في هذه الحياة من أمنا خديجة وأمنا عائشة رضي الله عنهن أجمعين، ذكر هذا المفسرون في تفسير قول الحي القيوم: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا [التحريم:5]، قالوا: الثيبات إذا كان الإبدال سيكون في الآخرة، فهذا يكون في حق آسية زوجة فرعون، والأبكار في حق مريم عليهن وعلى سائر الصديقات والصديقين رضوان رب العالمين، وإذا حصل التبديل في الدنيا فسيحصل لكن هاتان المرأتان الصالحتان ستكونان لنبينا عليه الصلاة والسلام في الآخرة، وردت الآثار بذلك، لكن فيها ضعفٌ من حيث الإسناد، أوردها الإمام ابن كثير في تفسيره عند تفسير الآية المتقدمة. انظر تفسير الإمام ابن كثير في الجزء الرابع صفحة تسعين وثلاثمائة، ونسب الأثر إلى الإمام الطبراني وابن مردويه في تفسيره عن بريدة رضي الله عنه وهو من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ [التحريم:5]، حتى وصل إلى قول الله: ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا [التحريم:5]، قال: الثيب هي آسية ، والبكر هي مريم .

    قال الإمام ابن كثير : وأخرج ابن عساكر أيضاً عن ابن عمر : (أن جبريل أتى النبي عليه الصلاة والسلام وقال له: بشر خديجة ببيتٍ في الجنة بين بيت آسية ومريم ).

    قال الإمام ابن كثير : وروى ذلك الإمام ابن عساكر أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما، وفيه دلالة على أن آسية ومريم وامرأةً أخرى سيكنّ أزواجاً لنبينا عليه الصلاة والسلام في الجنة، فقال في هذه الرواية ابن عباس رضي الله عنهما: قال نبينا صلى الله عليه وسلم لأمنا خديجة عندما اقترب أجلها، قال لها: (إذا لقيت ضرائرك فبلغيهن مني السلام، قالت: وهل تزوجت أحداً قبلي يا رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ قال: لا، لكن الله وعدني أن يزوجني في الجنة مريم وآسية وكلثم أخت نبي الله موسى)، على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.

    وقال الإمام ابن كثير أيضاً: وروى ذلك أيضاً أبو يعلى عن أبي أمامة ، ثم قال الإمام ابن كثير : هذه الآثار كلها أسانيدها ضعيفة، ولا مانع أن يحصل هذا لنبينا عليه صلوات الله وسلامه.

    إذاً لم يكمل من النساء إلا مريم وآسية وخديجة ، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام.

    ذكر الأحاديث المصرحة بتفضيل عائشة على سائر النساء

    وتفضيل أمنا عائشة رضي الله عنها على سائر النساء كما فضل الثريد على سائر الطعام ورد من رواية عدةٍ من الصحابة الكرام عن نبينا عليه الصلاة والسلام، الرواية الأولى تقدمت عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه، وروى ذلك الإمام أحمد والنسائي عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وبوب الإمام النسائي باباً في سننه يشير به إلى هذه القضية في كتاب النكاح، فقال: باب حب الرجل بعض نسائه أكثر من بعض، وسيأتينا أن هذا لا حرج فيه ولا محظور فيه، وليس هو من العدل الذي أمرنا به نحو النساء في حق من يعدد أكثر من زوجة، فلا يؤمر أن يعدل في حبه بين نسائه؛ لأن هذا متعلقٌ بقلبه، وقلبه بيد ربه جل وعلا، إنما هو مأمور بالعدل في أمرين اثنين لا ثالث لهما: في النفقة الواجبة، ثم في البيتوتة وهي القسم، وما عدا هذا يفعل الإنسان ما أحل الله له، ولا حرج عليه في كونه يحب هذه أكثر من تلك، وهذا حاصلٌ في حال الوالد مع أولاده، فلا يمكن لوالدٍ على وجه الأرض أن يستوي أولاده عنده في المحبة، لكنه منهيٌ أن يفضل بعضهم على بعض في العطاء وفي المال، أما أنه يحب بعض أولاده فهذا طبيعي، وقد أحب نبي الله يعقوب على نبينا وعليه الصلاة والسلام ولده يوسف على نبينا وعلى أنبياء الله ورسله جميعاً صلوات الله وسلامه أكثر من سائر أولاده، وهذا منصوصٌ عليه في القرآن.

    والحديث رواه الإمام أحمد والشيخان أيضاً في الصحيحين، والترمذي في سننه وابن ماجه أيضاً عن أنس بن مالك رضي الله عنه ورواه الطبراني في الأوسط بسندٍ صحيح عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه، ورواه الطبراني في معجمه الكبير عن قرة بن إياس ، وهو من الصحابة الأسياد رضوان الله عليهم أجمعين، ورواه الطبراني عن عبد الرحمن بن عوف ، والرواية الأخيرة في إسنادها ضعف، لكن تتقوى بما تقدم من الروايات الكثيرة.

    خلاف العلماء في المفاضلة بين عائشة وخديجة وفاطمة رضي الله عنهن

    قال الإمام ابن كثير في البداية والنهاية في ترجمة أمنا عائشة رضي الله عنها في الجزء الثامن صفحة ثلاثٍ وتسعين: استدل كثيرٌ من العلماء ممن ذهب إلى تفضيل عائشة رضي الله عنها على أمنا خديجة رضي الله عنهن أجمعين بهذا الحديث على أن عائشة أفضل من خديجة ، ووجه الاستدلال كما يقول الإمام ابن كثير : أن النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث يقول: (ولم يكمل من النساء إلا ثلاث: مريم وآسية وخديجة ، ثم قال: وفضل عائشة على سائر النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)، يقول الإمام ابن كثير : عندما قال: ( فضل عائشة على سائر النساء )، دخل فيه الثلاث المذكورات كما دخل غيرهن، فكل امرأةٍ تحمل هذا الوصف فأمنا عائشة تفضلها، أي: كل من كانت امرأة فأمنا عائشة أفضل منها.

    أما موضوع الرجال فهذا موضوعٌ آخر، ونحن نوقن ونجزم أن والد عائشة رضي الله عنه أفضل من ابنته أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وإن كان هناك شذوذ كنت ذكرته في بعض المواعظ السابقة انفرد به ابن حزم ، ففضل أمهات المؤمنين على سائر الصحابة الطيبين من أبي بكر وغيره رضوان الله عليهم أجمعين، وقلت: سبب التفضيل عنده قياس غير سليم، مع أنه ألف كتاباً في إبطال القياس، وهذا من أعجب العجب، يؤلف كتاباً في إبطال القياس ثم يقيس. قيل له: لم تفضل؟ قال: لأن أمهات المؤمنين مع نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام في الجنة، وإذا كن معه في الجنة فدرجتهن أعلى من درجة أبي بكر وعمر وغيرهم من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين! فقيل له: في الحقيقة أنت تتعدى على الصنعة، تذكر القياس لكن لا تتقنه، قيل له: فهل تقول: إن أم رومان زوجة أبي بكر أفضل من عمر ؟ قال: لا، قال: نقضت قياسك؛ لأنك لا تتقن القياس أصلاً، فأم رومان مع أبي بكر رضي الله عنه، فينبغي أن تكون أفضل من عمر ، قال: إذاً ما الجواب؟ قال أئمتنا رضوان الله عليهم أجمعين: الجواب: أن المزية لا تقتضي الأفضلية، فـعائشة رضي الله عنها تمتاز على أبي بكر رضي الله عنه برفعة الدرجة يوم القيامة، ودرجتها أعلى من درجة أبي بكر ، لكن لا يلزم أن تكون أفضل منه، ولا يلزم أن تتمتع في الجنة بما يتمتع به أبو بكر بل هي دونه بكثير، وإن كانت في المنزلة أعلى منه، لكن في التفضيل هي دونه، فالمزية لا تقتضي الأفضلية، وهي إن كانت قد انفردت بهذه المزية، وفاقت على والدها بها؛ لكن هذا لاعتبارٍ ليس في ذاتها، بل لغيرها، وهي أنها صاحبة النبي عليه الصلاة والسلام، فرفعت لا لأنها تستحق تلك المكانة أصالةً إنما تبعاً، وأما أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه فإن نزل عنها من ناحية الدرجة، فهو أفضل منها ويتمتع بما لا تتمتع به، ونسأل الله أن يمتعنا برضوانه في دار كرامته، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

    قال الإمام ابن كثير في البداية والنهاية مواصلاً حديثه: ويعضد ذلك، أي: يقويه، وهو أن أمنا عائشة هي أفضل من خديجة ومن سائر النساء رضوان الله عنهن أجمعين ما رواه البخاري -والحديث الذي ذكره مرويٌ في المسند والصحيحين أيضاً وليس في البخاري فقط- عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: ( استأذنت هالة على النبي عليه الصلاة والسلام -و هالة هي بنت خويلد ، أخت خديجة رضي الله عنهن أجمعين- فعرف استئذان خديجة - وخديجة كانت ميتة رضي الله عنها، أي: عرف استئذان قريبةٍ لها، وأن صوت أختها يشبه صوت زوجته أمنا خديجة رضي الله عنهن أجمعين- فارتاع لذلك -أي: تغير عليه صلوات الله وسلامه، واعتراه فرحٌ ونشوةٌ، وصار لبه عليه الصلاة والسلام فرحاً بما يذكره بأمنا خديجة رضي الله عنها وأرضاها- فقال: اللهم هالةَ اللهم هالةُ )، بالنصب وبالرفع، فإن كان بالنصب فالتقدير: اللهم اجعلها هالة ، أي: هذه المستأذنة تكون أختاً لزوجي المتوفاة أمنا خديجة رضي الله عنها وأرضاها، وإن كان بالرفع فالتقدير: اللهم هذه هالة ، فهي خبر لمبتدأ محذوف، يعني: يا الله! يا رب! اجعلها هالة، فأفرح بقدوم من يذكرني بحبيبتي وزوجتي الوصية الطيبة، أو هذه هالة فكيف لا أفرح؟! قالت أمنا عائشة رضي الله عنها: فغرت، أي: اعترتها الغيرة التي تعتري النساء رضوان الله عليهن أجمعين، فغرت، فقلت: يا رسول الله، وما تذكر من عجوزٍ من عجائز قريشٍ حمراءُ الشدقين، وحمراء الشدقين بالجرّ نعت ووصف لهذه العجوز، أي: عجوز حمراء الشدقين، وبالرفع على القطع أي: ما تذكر من عجوز هي حمراء الشدقين، وبالنصب على الحال، أي: هي عجوزٍ حالة كونها حمراء الشدقين.

    قال شيخ الإسلام الإمام النووي عليه رحمة الله: وتريد بذلك أن أسنان وأضراس أمنا خديجة سقطت، وإذا تكلمت لا ترى في جوف فمها وغار فمها إلا الحمرة؛ فلا يوجد بياضٌ للأسنان ولا للأضراس، وأمنا خديجة رضي الله عنها عندما توفيت زادت على الخامسة والستين في عمرها؛ لأن نبينا عليه الصلاة والسلام لما تزوجها كان عمرها أربعين سنة، وجلست مع النبي عليه الصلاة والسلام ثلثي المدة التي قضاها متزوجاً معها ومع سائر نسائه، وهي خمس وعشرون سنةً، فاجمع أربعين مع خمسٍ وعشرين يصبح المجموع خمساً وستين وزيادة، والنبي عليه الصلاة والسلام بقي متزوجاً مع نسائه ثمانيةً وثلاثين سنة؛ لأنه تزوج عليه الصلاة والسلام وعمره خمسٌ وعشرون سنة، فبقي مع أمنا خديجة خمساً وعشرين، ثم بعد ذلك تزوج عليه الصلاة والسلام، فسائر النساء لهن ثلاث عشرة سنة، وأما خديجة فلها ثلثا حياة النبي عليه الصلاة والسلام: خمسٌ وعشرون سنة ما اقترن معها غيرها وهي مع خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه، وبقية النسوة كلهن لهن ثلاث عشرة سنة، وخمسٌ وعشرون إذا حسبتها من ثمانٍ وثلاثين كانت قرابة الثلثين.

    فقلت: ( ما تذكر من عجوزٍ حمراء الشدقين قد هلكت في الدهر، أي: هلكت فيما تقدم، قد أبدلك الله خيراً منها ).

    قال الإمام ابن كثير : فأما ما يروى في هذا الحديث من الزيادة: ( والله ما أبدلني الله بخيرٍ منها ) فليس يصح سندها.

    ثم قال الإمام ابن كثير : هذه الرواية تعضد الحديث المتقدم، بأن أمنا عائشة هي أفضل النساء. لم؟ قال: لأن النبي عليه الصلاة والسلام أقر أمنا عائشة على كلامها وما أنكر عليها، وزيادة: (والله ما أبدلني الله بخيرٍ منها )، لا تصح. هذا على قول الإمام ابن كثير ، وسيأتينا التعليق على هذه الجملة إن شاء الله، فقال: إقرار النبي عليه الصلاة والسلام أمنا عائشة بأن الله قد أبدله خيراً منها، دليلٌ على تفضيل أمنا عائشة على خديجة رضي الله عنهن أجمعين، فقال: هذا ظاهرٌ في التقرير على أن عائشة رضي الله عنها أفضل من خديجة إما فضلاً وإما عشرةً، أي: إما هي أفضل عند الله، وإما في العشرة الزوجية؛ إذ لم ينكر عليها نبينا صلى الله عليه وسلم ذلك، ولا رد عليها ذلك كما هو ظاهر سياق البخاري .

    وحقيقةً عندما أقرأ هذا الكلام لهذا الإمام الهمام أتعجب من ذهول الإنسان، فالإمام ابن كثير بيده المباركة قرر أن هذه الزيادة ثابتة صحيحةٌ في ترجمة أمنا خديجة في الجزء الثالث صفحة مائة وثمان وعشرين كما سيأتينا، وهنا يقول: ما يذكر من الزيادة فلم يصح سندها، وهناك قرر أن هذه الزيادة صحيحة، وسنبين لكم من رواها إن شاء الله وهي صحيحةٌ كما قال أئمتنا، وإذا كانت صحيحةً فلا يستدل بهذا على ما يريده الإمام ابن كثير ، وعلى ما قاله بعض العلماء من أن هذا الحديث يدل على تفضيل أمنا عائشة على أمنا خديجة رضي الله عنهن أجمعين.

    أما هذه الزيادة فهي ثابتةٌ في المسند في الجزء السادس صفحة مائة وثمان عشرة، ورواها أيضاً شيخ الإسلام الإمام الدُولابي بضم الدال، ويقال: الدَّولابي بالفتح وهو الأصل، والضم من باب التسهيل الدُولابي الدَولابي، له كتاب سماه الذرية الطاهرة النبوية، والكتاب صغير الحجم لكنه قيمٌ ونافع، والإمام الدولابي من الأئمة المتقدمين، توفي في السنة التي توفي فيها شيخ المفسرين الإمام ابن جرير الطبري ، في سنة عشرٍ وثلاثمائة، وقد رواها الإمام الطبراني أيضاً بأسانيد حسنة، ولفظ الرواية عندما قالت عائشة رضي الله عنها: (قد أبدلك الله خيراً منها، قال عليه الصلاة والسلام: والله ما أبدلني الله خيراً منها، قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء)، فأنجبت له سائر الأولاد إلا إبراهيم فهو من ذرية مارية على نبينا وآل بيته جميعاً صلوات الله وسلامه، أما بقية نسائه فلم تلد واحدة منهن له ولداً إلا مارية ، وبقية أولاده من بنين وبنات كلهن من أمنا خديجة رضي الله عنها وأرضاها.

    قال شيخ الإسلام الإمام الهيثمي في المجمع في الجزء التاسع صفحة أربعٍ وعشرين ومائتين: إسناد الحديث حسن في رواية الإمام أحمد .

    والإمام ابن كثير في البداية والنهاية في الجزء الثالث في المكان المشار إليه صفحة ثمانٍ وعشرين ومائة يقول: إسناد الحديث لا بأس به، فكيف يقول في المكان الذي بعده: ما ورد من الزيادة فلم يصح سندها، وهو بيده المباركة يصحح الحديث ويقول: إسناد الحديث لا بأس به.

    فأمنا عائشة رضي الله عنها بعد أن قال نبينا صلى الله عليه وسلم هذا، قالت له: (يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اعف عني، والله لا تسمعني أذكر خديجة بعد هذا اليوم بشيءٍ تكرهه)، تقول أمنا عائشة : ( فغدا علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وراح شهراً في الغدو وفي المساء يثني على خديجة ، ويستغفر لها ).

    الذي يتأمل حال هذه الصديقة الذكية النبيلة يحار ويرى عجباً؛ فقد كان معها نسوةٌ ضرائر شريكات كثيرات فما غارت منهن، ثم بعد ذلك كانت تغار على تعبيره من عجوزٍ ميتةٍ لو ذكرها، فسبحان من ألهمها رشدها، وما جعلها تغار ممن معها! وإلا لتنكدت حياتها وآذت نبينا عليه الصلاة والسلام، فبينها وبين من معها وهو حي حياةٌ صافيةٌ نقيةٌ طيبة، لكن كانت تغار من تلك وقد ماتت، وهذا عجب، والإنسان في الأصل يغار ممن هو حي؛ لأنه سيقاسمه حظه، وما يأخذه سيصبح له، أما تلك فقد انتهت، فكانت تغار من أمنا خديجة رضي الله عنهن أجمعين، وليست غيرة مستمرة، والإنسان بشر، وكلنا نخطئ في الليل والنهار، ونسأل الله أن يعاملنا بعفوه ومغفرته ورحمته، والكريم من عد سقطه، وكفى المرء نبلاً أن تعد معايبه.

    وإذا أردت أن تحصي أخطاء جرت من أمنا عائشة في موضوع الغيرة نحو أمنا خديجة وغيرها، أو مع نسائه عموماً عليه وعليهن صلوات الله وسلامه فلن تصل إلى عدد أصابع اليدين في هذه الفترة الطويلة التي عشن فيها مع النبي عليه الصلاة والسلام في تلك الحياة المتواضعة، عشر حوادث لا تتم، وكن مع النبي عليه الصلاة والسلام في حياة الدنيا وليس في الملأ الأعلى، بل في هذه الحياة وفيها طبيعة البشر؛ فهناك غفلة، وسهو، وتقصير، وخطأ، وإنه من علامة نبل الإنسان أن يعد سقطه، وهذه ليست متعمدة، والإنسان إذا أخطأ ورجع فهذا من طيب معدنه، وكل بني آدم خطاء، وهي حوادث معدودة، وهذه الأخطاء التي تجري في حياة الصالحين لا يذكرها ويشهر بها ويريد أن يجعلها محور حياة الصالحين إلا من غضب عليه رب العالمين، بل هذه سلبية تذكر في حينها ويستغفر لصاحبها وانتهى الأمر، ويقال: هذا للدلالة على أنه بشر، وليس حاله كحال الملائكة الذين لا يعصون ولا يخطئون ولا يتصور منهم خطأ، بل وقد كان يجري بين الصحابة الكرام الرجال العقلاء، ما يجري بين البشر من معاتبات ومن أخطاء، لكن كل واحدٍ بعد ذلك يصفو قلبه نحو أخيه بأقل من لمح البصر، وهذا وضع الحياة، ولا بد من حصول شوائب فيها، وهذا الذي حصل من أمنا عائشة .

    فهذا الحديث للزيادة التي فيه لا يدل على ما ذكره الإمام ابن كثير ، وعلى ما قرره بعض العلماء من أن أمنا عائشة رضي الله عنها هي أفضل من خديجة ؛ لقول نبينا عليه الصلاة والسلام: (ما أبدلني الله بخيرٍ منها)، نعم تبقى معنا الرواية المتقدمة: (فضل عائشة على سائر النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)، ودلالتها ظاهرة ولا إشكال فيها، لكن هذه الزيادة التي في نهاية الحديث الثابت في الصحيحين، وهي في المسند والطبراني ، ورواها الإمام الدولابي في الذرية الطاهرة النبوية على نبينا وأهل بيته صلوات الله وسلامه، هذه الزيادة استنبط منها بعض العلماء عكس الاستنباط المتقدم، فقال: هذه الزيادة تدل على تفضيل أمنا خديجة على غيرها من نسائه؛ لقول نبينا عليه الصلاة والسلام: (ما أبدلني الله بخيرٍ منها)، أي: هي أفضل نسائي، وهي خيرهن وأكملهن وأطهرهن عليها وعليهن جميعاً سلام الله ورضوانه، وهذا ذكره الإمام ابن كثير نفسه في البداية والنهاية.

    لكن في الجزء الثالث في ترجمة أمنا خديجة في المكان الذي قال عن إسناد هذه الزيادة: لا بأس به، قال: وقد استدل بهذا جماعةٌ من أهل العلم على تفضيل خديجة رضي الله عنها على عائشة ومن سواها، ثم قال: وقد تكلم آخرون في إسناد هذه الزيادة، وليس هناك كلامٌ معتبر، فإسناد الزيادة -كما قلت- حسنٌ صحيحٌ ثابت ونص على ذلك الإمام ابن كثير ، يقول: وتأوله آخرون. والتأول هنا على معنى قالوا: (ما أبدلني الله بخيرٍ منها)، أي: في أمر العشرة الزوجية، لا لأنه ما جاءني خير منها وأفضل وأكمل، وهذا تأول من يذهب إلى القول الأول ويرى تفضيل أمنا عائشة ؛ فإن خديجة رزق منها الولد، وهي أول زوجةٍ واسته، وآثرته، وناصرته، فهذه الأمور ما وجدت في غيرها، فهي أحسن في هذا الباب وهذا الجانب لا من سائر الجوانب، وليس المعنى أنها أفضل من سائر نسائه رضوان الله عليهن أجمعين.

    ثم قال الإمام ابن كثير : وهذا التأويل محتملٌ -مقبولٌ هذا القول- أو ظاهره.

    و عائشة رضي الله عنها اهتمت بشبابها وحسنها وجميل عشرتها، فأرادت أن تفضل نفسها على أمنا خديجة رضي الله عنها فيما يتعلق بالعشرة الزوجية، فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام: (ما أبدلني الله بخيرٍ منها)، وعليه يكون لدينا قولان: قولٌ في تفضيل أمنا عائشة ، وقولٌ في تفضيل أمنا خديجة رضي الله عنهما وعن نساء نبينا عليه الصلاة والسلام وأهل بيته أجمعين.

    وهناك قولٌ ثالث في تفضيل فاطمة بنت رسول الله على نبينا وأهل بيته صلوات الله وسلامه على خديجة وعلى أمنا عائشة ، وقد ذهب إلى ذلك جمٌ غفير من علماء هذه الأمة الطيبة المباركة المرحومة منهم الإمام السبكي الكبير تقي الدين، والد تاج الدين السبكي صاحب الطبقات، فقال: الذي ندين الله به أن فاطمة أفضل نساء هذه الأمة، بل هي أفضل النساء مطلقاً، ثم خديجة ثم عائشة ، فقدم البنت على الأم، ثم بعد ذلك ثلث بالزوجة الثالثة، ثم قال: والخلاف في ذلك شهير، لكن الحق أحق أن يتبع، وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: وقيل: انعقد الإجماع على تقديم فاطمة على غيرها، وبقي الخلاف بين عائشة وخديجة فرضي الله عنهن أجمعين.

    ما ورد في تفضيل فاطمة رضي الله عنها على سائر النساء

    وأصرح ما ورد فيما يدل على تقديم سيدتنا الطاهرة المطهرة فاطمة رضي الله عنها وأرضاها: ما رواه الترمذي بسندٍ حسن عن أمنا أم سلمة رضي الله عنها قالت: ( دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة عام الفتح -وهذه الرواية التي معنا عام الفتح وهو كما قال أئمتنا إما أن لا نقيد هذه الدعوة بوقتٍ، وإما أن نقول: دعاها في مرض موته عليه الصلاة والسلام كما بينت ذلك الروايات الأخرى- فناجاها طويلاً فبكت، ثم حدثها رضي الله عنها وأرضاها فضحكت، فلما توفي سألتها عن سبب بكائها وضحكها، فقالت: أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيموت في مرضه هذا، فبكيت، ثم أخبرني أنني سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم ، فضحكت)، ومن كانت سيدة النساء في تلك الدار فهي سيدة النساء في هذه الدار، وأفضل النساء قطعاً وجزماً.

    وقد ورد التصريح بأن فاطمة رضي الله عنها وأرضاها سيدة نساء العالمين في أحاديث كثيرة عن نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام، منها: ما في مسند الإمام أحمد ، ومسند الإمام أبي يعلى بسندٍ صحيح من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وفاطمة سيدة نسائهم -أي: نساء أهل الجنة- إلا ما كان لـمريم بنت عمران )، وأول الحديث وهو قوله: ( الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)، ثابتٌ في سنن الترمذي بإسنادٍ صحيح، وزيادة: (و فاطمة سيدة نسائهم)، أي: نساء أهل الجنة ثابتة في المسند ومسند أبي يعلى بإسنادٍ صحيح.

    إذاً: هذه الرواية تبين أيضاً تقديم سيدتنا فاطمة رضوان الله عليها على سائر نساء الأمة، وقد وردت رواياتٌ كثيرةٌ تقرر هذا المعنى، ففي المسند والصحيحين من حديث أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: (كنا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عنده لم يغادر منهن امرأةٌ)، أي: في مرض موته الذي توفي فيه عليه صلوات الله وسلامه، (فأقبلت فاطمة رضي الله عنها تشبه مشيتها مشية النبي عليه الصلاة والسلام)، وكانت أشبه الخلق بنبينا عليه الصلاة والسلام في دلها وسمتها، ومشيتها، وجلوسها، وكلامها، عليها وعلى نبينا وآل بيته جميعاً صلوات الله وسلامه، (فأقبلت إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فدعاها وأجلسها عن يمينه أو عن يساره، ثم بعد ذلك أسر إليها طويلاً بشيءٍ فبكت رضي الله عنها وأرضاها، ثم أسر إليها بعد ذلك طويلاً بشيءٍ فضحكت رضي الله عنها وأرضاها، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم سألتها أمنا عائشة -وهي هنا راوية الحديث وهو غير الحديث المتقدم الذي روته أم سلمة رضي الله عنهن أجمعين- عن سبب بكائها وضحكها؟ فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلما قبض النبي صلى الله عليه وسلم قالت أمنا عائشة رضي الله عنها لسيدتنا فاطمة رضي الله عنها وأرضاها: عزمت عليك بما لي عليك من الحق لما حدثتني بسبب بكائك وضحكك عندما أسر النبي صلى الله عليه وسلم إليك؟ قالت: أما الآن فنعم -أي: الآن أتكلم بما أسر إلي النبي صلى الله عليه وسلم، وأما في حياته فلا أفشي سره- أسر إلي في أول الأمر أنه مقبوضٌ في مرضه هذا، وأن جبريل على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه كان يعارضه القرآن كل سنةٍ مرةً في شهر رمضان، وقد عارضه في هذه السنة القرآن مرتين، قال: ولا أراه إلا قد حضر أجلي )، فالأجل قد اقترب، وهذا القرآن قد توثقت من ضبطه وتبليغه على أتم وجه، والمهمة قد انتهت، ثم قال لها النبي عليه الصلاة والسلام في البشارة الأولى وفي الإسرار الأول: ( أنا سأقبض في مرضي هذا، وأنت أول أهلي لحوقاً بي، ثم أسر إليها نبينا عليه الصلاة والسلام مرةً ثانيةً فقال لها: أنت سيدة نساء المسلمين)، وفي رواية: (سيدة نساء هذه الأمة)، وهذا لفظ الإمام مسلم في صحيحه، وفي الصحيحين: (أنت سيدة نساء أهل الجنة، وأنك أول أهلي لحوقاً بي)، وفي رواية المسند للإمام أحمد : (أنت أفضل نساء أهل الجنة، فضحكت رضي الله عنها وأرضاها)، والبشارة لها بأنها أول أهله لحوقاً به وردت في الإسرار الأول والإسرار الثاني كما وضح ذلك الإمام ابن حجر جمعاً بين الروايات التي وردت في ذلك، وقد حقق الله ذلك لهذه البضعة الطاهرة، فتوفيت بعد موت نبينا عليه الصلاة والسلام بستة أشهر رضي الله عنها وأرضاها.

    إذاً: هي أفضل نساء هذه الأمة، فهي سيدة نساء أهل الجنة، وأفضل نساء أهل الجنة، فالإمام السبكي عليه رحمة الله وغيره يقولون: هي أفضل النساء مطلقاً، ثم خديجة، ثم أمنا عائشة رضي الله عنهن أجمعين، والإمام ابن حجر يحكي في ذلك الإجماع، لكنه يحكيه في صيغة تمريض حيث قال: انعقد الإجماع على تقديم فاطمة، والخلاف بين أمنا عائشة وأمنا خديجة رضي الله عنهن أجمعين.

    قال الحافظ في الفتح في الجزء السابع صفحة خمسٍ ومائة: أقوى ما يستدل به على تقديم فاطمة رضي الله عنها وأرضاها على غيرها من نساء عصرها وما بعدهن، هذا الحديث -أي: المتقدم الذي ذكرته لكم- قال: وقد كنت أقول بذلك استنباطاً، إلى أن وجدته منصوصاً عليه.

    وقد روى البخاري معلقاً في صحيحه في كتاب المناقب، في مناقب أمنا فاطمة رضي الله عنها بصيغة الجزم، فقال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فاطمة سيدة نساء أهل الجنة)، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: وروى الحاكم في المستدرك بسندٍ جيد عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: جاء جبريل على نبينا عليه الصلاة والسلام إلى نبينا صلى الله عليه وسلم فقال له: (إن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة).

    وورد في ذلك أحاديث كثيرة تشير إلى تقديم فاطمة وخديجة مع الصديقتين المباركتين في الأمم السابقة مريم وآسية.

    أفضل نساء أهل الجنة

    روى الإمام أحمد في المسند والنسائي في السنن بإسنادٍ صحيح، والحديث رواه الحاكم في المستدرك بسندٍ صحيحٍ أقره عليه الذهبي ، والأثر رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير وأبو يعلى ، وقال الإمام الهيثمي في المجمع: رجاله رجال الصحيح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أفضل نساء أهل الجنة خديجة ، وفاطمة ، ومريم ، وآسيةخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت سيدنا محمدٍ عليه الصلاة والسلام، ومريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم .

    قال الحافظ في الفتح: هذا نصٌ لا يحتمل التأويل في تفضيل هؤلاء النسوة الأربع على من عداهن، ومراده: أن زيادة: ( ما أبدلني بخيرٍ منها )، أولها بعض العلماء بأنها فيما يتعلق بالعشرة الزوجية والحياة الزوجية، أما هذا النص فلا يحتمل التأويل.

    وثبت في المسند وسنن الترمذي ، وقال الترمذي : إسناده صحيح، والحديث رواه ابن حبان وهو برقم ألفين ومائتين واثنين وعشرين، ورواه الحاكم في المستدرك في الجزء الثالث صفحة سبعٍ وخمسين ومائة، وصححه ووافقه عليه الإمام الذهبي عن أنس رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (حسبك -أي: يكفيك- من نساء العالمين أربعٌ: مريم وخديجة وفاطمة وآسية )، رضي الله عنهن أجمعين.

    الراجح في التفضيل بين خديجة وعائشة وفاطمة

    لا شك في فضيلة أمنا خديجة وسيدتنا فاطمة رضي الله عنهما أجمعين، ولا شك في فضيلة أمنا عائشة رضي الله عنهن أجمعين، لكن تقديم واحدةٍ منهن على وجه التحديد أمر محتمل؛ فعندما ينظر الإنسان إلى هذه النصوص يحار، وتبهره تلك الآثار الواردة في فضل هؤلاء النسوة، فكل واحدةٍ امتازت بشيء، ولذلك لو فضلت كل واحدةٍ بجانبٍ معين على من عداها أو لزمنا الوقف لكان أحسن، وقد ذهب إلى هذا جمٌ غفيرٌ من أئمة المسلمين، منهم الإمام ابن القيم ، وشيخه الإمام ابن تيمية عليهم جميعاً رحمات رب البرية.

    ينقل الإمام ابن القيم عن شيخه الإمام ابن تيمية في كتابه جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام في صفحة ثلاثٍ وثلاثين ومائة، يقول: في المفاضلة وتفضيل عائشة على أمنا خديجة ثلاثة أقوال: تفضيل عائشة ، وتفضيل خديجة ، والقول الثالث: الوقف، يقول: وكنت سألت شيخنا شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية عن ذلك فقال: اختصت كل واحدةٍ منهن بفضيلة، أما خديجة رضي الله عنها وأرضاها فتأثيرها في أول الإسلام شديدٌ عظيم، فبذلت مالها في نصرة نبينا عليه الصلاة والسلام، وهي أول من آمن به، وكل امرأةٍ تؤمن بعد خديجة فلأمنا خديجة رضي الله عنها أجرها، فهي قدوتها وأسوتها، كما أن كل رجلٍ يؤمن بعد أبي بكرٍ رضي الله عنه له أجره فهو قدوته وأسوته، وهو الذي سن تلك السنة الحسنة، ولذلك لا يعلم أجر هذين الشخصين خديجة وأبي بكر رضي الله عنهما أجمعين إلا الله، فكل امرأةٍ تؤمن فقد سبقها بالإيمان هذه الصديقة الطيبة المباركة أمنا خديجة رضي الله عنها، وكل ذكرٍ يؤمن قد سبقه بالإيمان أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، (ومن سن سنةً حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة)، فأمنا خديجة تمتاز بهذا الجانب.

    وأما أمنا عائشة رضي الله عنها فلها أثرٌ عظيمٌ في آخر الإسلام، فهي الفقيهة العالمة، ولا يوجد من النساء مطلقاً وليس في نساء هذه الأمة فقط منذ أن خلق الله الدنيا إلى أن تنقرض هذه الحياة من يصل إلى درجة أمنا عائشة رضي الله عنها في العلم والفقه ودقة الاستنباط، وحفظ أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، وهي من المكثرات في الرواية عن نبينا عليه الصلاة والسلام كما سيأتينا عند بيان أسباب حبها، وبيان العلم الغزير الذي كان بين جنبيها، إذاً لها أثرٌ عظيم في حمل السنة، وتبليغ الدعوة، ونشر أحكام الله جل وعلا في آخر الإسلام، فتلك أسست، وهذه شيدت وبنت على ذلك الأساس المحكم المتين.

    وأما سيدتنا فاطمة رضي الله عنها فلها شرف الأصل والسيادة، فحتماً لا تصل أمنا خديجة ولا أمنا عائشة إلى منزلة فاطمة من ناحية شرف الأصل، فهذه ابنة خير خلق الله عليه الصلاة والسلام، وبضعةٌ منه، والبنت أعلى من الزوجة مهما كان، فشرف الأصل الذي في سيدتنا فاطمة رضي الله عنها وأرضاها لا يساويه شيءٌ في أمنا خديجة ولا في أمنا عائشة ولا في سائر النسوة، ثم لها منزلة السيادة على نساء العالمين بقول نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام؛ فكل واحدةٍ تمتاز بجانب، فهن -كما يبدو لي- قطع ذهب خالصة صافية، لكنها تختلف في الأشكال، فهذه قد تكون مربعة، وتلك مستطيلة، وتلك مثلاً بيضاوية، على حسب ما يروق لبعض الناس من الأشكال، لكن الذهب خالص والقيمة واحدة، وهن عسل نافع لكن تختلف ألوانه.

    وعليه؛ فإما أن نقف وإما أن نقول: كل واحدةٍ تمتاز بجانبٍ من جوانب التفضيل، وإلى هذا ذهب كلام الإمام ابن كثير في البداية والنهاية.

    قال الإمام ابن كثير في البداية والنهاية في الجزء الثالث صفحة تسعٍ وعشرين ومائة: لكلٍ منهن من الفضائل ما لو نظر الناظر إليها لبهرته وحيرته. وقال نحو هذا أيضاً الإمام الذهبي ، لكنه قبل الإمام ابن كثير ؛ لأن الذهبي توفي سنة ثمانٍ وأربعين وسبعمائة للهجرة، يقول في سير أعلام النبلاء: أنا واقفٌ في أيتهما أفضل، فيما يتعلق بأمنا خديجة وأمنا عائشة ، ثم رجع وقال: جزمت بأفضلية خديجة عليها بأمورٍ ليس هذا محلها، وكما قلت: الأحسن أن نقف وأن نقول: كل واحدةٍ تمتاز بجانب.

    قال الإمام ابن كثير : والأحسن التوقف في ذلك، فالطريق الأقوم والأسلم أن نقول: الله أعلم، نعم.. من ظهر له دليلٌ يقطع به، أو غلب على ظنه بتفضيل واحدةٍ منهن على غيرها فليقل به، وأما نحن فالذي نراه الأسلم والأقوم أن نقول: الله أعلم، فكل واحدةٍ تمتاز بجانب، فأمنا عائشة رضي الله عنها فضلها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام، وأمنا خديجة رضي الله عنها ما جاء نبينا عليه الصلاة والسلام خيرٌ منها، ولها منزلة عظيمة لما بذلته في أول الإسلام، وفاطمة البضعة الطاهرة لها شرف الأصل والسيادة التي جعلها نبينا صلى الله عليه وسلم لها، فكل واحدةٍ لها جانبٌ في الأفضلية، وهن -كما قلت- كقطع الذهب الخالصة الصافية التي تختلف في الأشكال.

    هذا فيما يتعلق بالأمر الأول من الأمور الستة في فضلها وأفضليتها على غيرها رضي الله عنها وأرضاها.

    1.   

    بعض مظاهر حب النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها

    أما الأمر الثاني: وهو حب نبينا عليه الصلاة والسلام لأمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فحبه لها حباً زائداً يفوق على محبته لسائر نسائه أمر معلوم متواتر، يعرفه كل من اطلع على سنة نبينا عليه الصلاة والسلام، أو كان في الصدر الأول في حياة نبينا عليه الصلاة والسلام، فقد كان عليه الصلاة والسلام يعلن بحبها، ويقدمها على غيرها، عليه وعلى آل بيته جميعاً صلوات الله وسلامه.

    قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء: وهذا كان مستفيضاً، أي: يعرفه كل أحد، وهو أن عائشة رضي الله عنها لها منزلةٌ خاصة في قلب النبي عليه الصلاة والسلام دون سائر نسائه.

    والإمام ابن القيم عليه رحمة الله يقول: إن أول حبٍ في الإسلام هو حب نبينا عليه الصلاة والسلام لأمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وحقيقةً درجة حبه لها وصلت إلى درجةٍ عظيمةٍ ما أظن أنها وجدت في مخلوقٍ نحو مخلوق، فاستمع لهذا الحب الذي كان يتصف به حبيبنا نحو أمنا حبيبة نبينا عليه الصلاة والسلام.

    روى الإمام أحمد في المسند -والحديث في الجزء السادس صفحة ثمانٍ وثلاثين ومائة، وإسناد الحديث لا بأس به- عن أمنا عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (إنه ليهون علي -يعني: الموت- أنني رأيت بياض كفك في الجنة)، أي: لا أبالي بالموت، وهو عندي شيءٌ يسير عندما علمت أن مفارقتي لك ليست مفارقة نهائيةً بل سنجتمع بعد ذلك في دار كرامة الله جل وعلا، فهان علي الموت عندما أعلمت من قبل الله أنك ستكونين معي في دار كرامة الله، وفراق هذه الحياة سهل يسير ما دمنا سنجتمع عما قريب بجوار العلي الكبير سبحانه وتعالى، وهذا الحب ما وصل إليه مخلوق نحو مخلوق، يعني أن تقول لحبيبك: يهون علي الموت ولا أبالي به؛ لأننا سنجتمع في الآخرة في الجنة! لكن نبينا عليه الصلاة والسلام كان يقول هذا لأمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها.

    قال الإمام ابن كثير في البداية والنهاية في الجزء الثامن صفحة اثنتين وتسعين بعد أن أورد هذا الأثر: تفرد به الإمام أحمد ، وهذا في غاية ما يكون من المحبة العظيمة حيث يرتاح المحب؛ لأنه يرى بياض كف محبوبه في الجنة فارتاح بذلك.

    تصريح النبي صلى الله عليه وسلم بحبه لعائشة

    وقد صرح نبينا عليه الصلاة والسلام بأن أمنا عائشة رضي الله عنها أحب النساء إليه، كما أن والدها أحب الرجال إليه، فثبت الحديث بذلك في المسند والصحيحين، والحديث رواه الإمام النسائي في سننه، والترمذي في سننه أيضاً، وقد استدركه الحاكم أيضاً في المستدرك في الجزء الرابع صفحة اثنتي عشرة، وهو في الصحيحين، عن عمرو بن العاص أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة ، قلت: من الرجال؟ قال: أبوها، قلت: ثم من؟ يعني من الرجال، قال: ثم عمر )، فعد رجالاً، لكن أفضل المحبوبين هذه الطيبة الطاهرة عائشة رضي الله عنها وأرضاها، ومن الرجال أبوها، ثم عمر رضي الله عنهم أجمعين، والحديث رواه الإمام الترمذي في سننه عن أنسٍ رضي الله عنه، والرواية المتقدمة عن عمرو بن العاص ، ورواه الإمام أحمد في المسند عن أمنا عائشة رضي الله عنها.

    قال الإمام الذهبي معلقاً على هذا الخبر -ونعم ما قال- في الجزء الثاني صفحة اثنتين وأربعين ومائة في سير أعلام النبلاء: هذا خبرٌ ثابت وهو في الصحيحين، ومنكره كافر، على رغم أنوف الروافض، وسيأتينا الإشارة إلى حالهم في نهاية هذا المبحث الثاني. يبغضون حبيبة حبيب الله، فيحق لهم أن يبغضوا من قبل رسول الله عليه الصلاة والسلام ومن قبل الله، ومن قبل أولياء الله، وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحب إلا طيباً، فهو طيب ولا يحب إلا من كان طيباً، وهذه سيدة الطيبات، فأحبها خير المخلوقات عليه الصلاة والسلام.

    يقول الإمام الذهبي : فأحب أفضل رجلٍ من أمته وأفضل امرأةٍ من أمته؛ عائشة وأبوها رضي الله عنهما، فمن أبغض حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حري أن يكون بغيضاً إلى الله ورسوله عليه الصلاة والسلام.

    إذاً: نبينا عليه الصلاة والسلام كان يعلن حبها ويظهره، ولا يسره ويكتمه، ويقول: (يهون علي الموت؛ لأنني رأيت بياض كفك في الجنة)، ولما يسأل: من أحب الناس إليك؟ يعلنها صريحةً ظاهرةً واضحة: ( عائشة )، رضي الله عنها وأرضاها.

    مداعبة النبي لعائشة وحسن معاشرته لها

    وقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام من محبته لأمنا عائشة رضي الله عنها يداعبها غاية المداعبة، ويعاشرها عشرةً تدل على كمال حبه لها عليه صلوات الله وسلامه، وعلى آل بيته أجمعين.

    ثبت في المسند والصحيحين وسنن النسائي من حديث أمنا عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: ( عائشة ! إني لأعلم إذا كنت عني راضية، وإذا كنت علي غضبى -انظر لهذا التواضع، وهذه المداعبة، وهذا الخلق من حبيب الله نحو حبيبته عليه وعلى آل بيته صلوات الله وسلامه- قالت: وكيف تعرف ذلك يا رسول الله؟ قال: إذا كنت عني راضية تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنت علي غضبى تقولين: لا ورب إبراهيم )، أي: إذا أردت أن تؤكدي الأمر وكان الحب بيني وبينك متصلاً فاسمي هو ما يصدر عن لسانك فتقولين: (ورب محمد)، وإذا حصل في قلبك شيء يعني مما يجري في قلوب البشر تقولين: (لا ورب إبراهيم )، على نبينا وعلى نبي الله إبراهيم وأنبياء الله أجمعين صلوات الله وسلامه، فقالت أمنا عائشة رضي الله عنها: (أجل يا رسول الله! -عليه الصلاة والسلام- لا أهجر إلا اسمك )، أي: قلبي يخفق بحبك، لكن الهجر وقع في اللسان فقط في هذه الحياة الظاهرة التي نعيش فيها وفينا طبيعة البشر، وأما قلبي فما حصل فيه هجر ولا عتاب، ولا تغير طرفة عين، ولا يمكن أن يحصل. انظر لهذه المداعبة، وهذا التواضع، وهذا الخلق من نبينا عليه الصلاة والسلام نحو أمنا.

    ثم تأمل بعد ذلك أحوال نبينا عليه الصلاة والسلام معها ليتبين لك شدة حبه لها، وهو لا يحب إلا طيباً عليه وعلى آل بيته صلوات الله وسلامه.

    ثبت في المسند وسنن أبي داود والنسائي وابن ماجه، وإسناد الحديث صحيح، والإمام النسائي روى الحديث في كتاب عشرة النساء لا في السنن، والحديث رواه الإمام الحميدي في مسنده عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: (سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته، حتى إذا رهقني اللحم -أي امتلأت لحماً وكانت نحيفةً ضعيفة- سابقني فسبقني، فقال: هذه بتلك يا عائشة )، لما كانت نحيفةً ضعيفة كان يسابقها فتسبقه، ثم لما غشيها اللحم سابقها فسبقها، فقال: (هذه بتلك)، أي: واحدة بواحدة، انظر لهذا الخلق الكريم من نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام نحو هذه الزوجة الطيبة الطاهرة المباركة.

    وبلغ من حب نبينا عليه الصلاة والسلام لزوجه ما ثبت في المسند، وصحيح مسلم والسنن الأربعة إلا سنن الترمذي ، عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العرق)، والعرق: هو العظم الذي عليه بقية لحم، (فأتعرقه، ثم يأخذه فيديره حتى يضع فاه على موضع فمي)، فكانت إذا أخذت هذه العظمة، وبدأت بعد ذلك تنهش ما فيها من لحم ووضعته، يأخذ عليه الصلاة والسلام هذا العرق ويديره حتى يضع فاه الشريف موضع فمها رضي الله عنها وأرضاها، قالت: (وكان يحضر الشراب فيقسم علي فيه)، تقول: كان يحضر كوز الماء ويقسم علي أن أبدأ بالشرب، سبحان الله! الزوج يخدم الزوجة ويقدم لها الشراب، ويقسم عليها أن تشرب قبله، تقول: فأتناوله منه، فإذا شربت أخذه، فأداره ووضع فمه موضع فمي، عليه وعلى آل بيته صلوات الله وسلامه، هذا كله يدل على الحب الذي في قلبه نحو هذه الزوجة الطيبة الطاهرة المباركة.

    توسيط النبي لعائشة للصلح بينه وبين بعض نسائه

    وحب نبينا عليه الصلاة والسلام لـعائشة كان معلوماً لسائر نسائه، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا وجد على بعض نسائه شيئاً كن يوسطن في الصلح عائشة رضي الله عنها، فيلجأن إليها لتتوسط في الصلح بين نبينا عليه الصلاة والسلام وبين نسائه الكريمات عليه وعلى آل بيته جميعاً صلوات الله وسلامه.

    من ذلك: ثبت في المسند بإسنادٍ جيد عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: (وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على صفية في شيءٍ -أي: غضب عليها وتأثر منها عليه الصلاة والسلام في شيء من الأشياء التي تجري بين الزوج وأزواجه- فجاءت أمنا صفية رضي الله عنها وأرضاها وقالت لأمنا عائشة : يا عائشة ! أرضي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم ولك يومي -أي: توسطي في الصلح ولك يومي، فأعطيك ليلتي إذا رضي عني رسول الله عليه الصلاة والسلام- وأنت لك منزلة، فقلت: نعم)، قالت عائشة رضي الله عنها: (فأخذت خماراً مصبوغاً بالزعفران، فرششته بالماء ليفوح منه الرائحة الطيبة الزكية، وجئت وقعدت إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم ومددت يدي إليه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا عائشة ! إنه ليس يومك، هذا يوم صفية ، قلت: يا رسول الله! ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21]، قال: وماذاك؟ فذكرت له القصة، وأن أمنا صفية رضي الله عنها وسطتها في الصلح، وقالت: إذا رضي النبي عليه الصلاة والسلام عنها فهذا اليوم الذي هو لـصفية لأمنا عائشة ، فطابت نفس النبي عليه الصلاة والسلام، ورضي عن صفية )، رضي الله عنها وعن سائر أزواج نبينا الكريمات الطاهرات المباركات.

    ومثل هذا حوادث كثيرة سأذكر بعضها لأقرر حب نبينا عليه الصلاة والسلام لأمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، ولنعلم بعد ذلك ضلال وكفر وخبث من يبغض هذه الطيبة الطاهرة حبيبة حبيب الله على نبينا وعلى أزواجه وآل بيته جميعاً صلوات الله وسلامه.

    رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201]، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيه، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، وصلى الله على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756705942