الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فهذا هو المجلس الخامس من مجالس التعليق على مقدمات كتاب الموافقات لـأبي إسحاق الشاطبي رحمه الله، وينعقد في الشهر السابع من سنة 1428 بمكة المكرمة.
قال المصنف رحمه الله: [ العلم الذي هو العلم المعتبر شرعاً -أعني: الذي مدح الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أهله على الإطلاق- هو: العلم الباعث على العمل ]، وسبق في المقدمة السابعة، أن المصنف قال: (كل علم شرعي فطلب الشارع له إنما يكون من حيث هو وسيلة إلى التعبد به لله تعالى) يلاحظ في كلام أبي إسحاق كثيراً التأكيد على مسألة: أثر العلم في تحقيق العمل.
وهذه العناية التي عني بها الشاطبي رحمه الله تعد من مقامات التحقيق في طريقته وفي مقدماته، والمقدمة السابعة ذكر فيها أن الشارع إنما يمدح العلم ويطلب العلم إذا كان وسيلةً إلى العمل، وهذا سبق أن فيه بعض التفصيل؛ لأنه لا بد من تقييد كلام العلماء رحمهم الله بوجه من التحقيق المناسب لمقامهم.
ما ذكرناه في المجالس السابقة، وما سيأتي على مقدمات أبي إسحاق هو في الجملة من باب التقييد لكلام المصنف، أو من باب التتميم، أو من باب السؤال، وليس من المنهج المناسب الاعتراض المفتوح على كلام أهل العلم بإطلاق، والقاعدة التي درج عليها السلف رحمهم الله والفقهاء والأئمة، وهي من قواعد الترتيب العلمي التي لا نزاع فيها من حيث الأصل، ومن حيث دلالات النصوص، كما قال مالك رحمه الله: كل يؤخذ من قوله ويترك.
ولكن من حيث النظر في كلام العلماء، سواءً كان ذلك في كلام المتقدمين أو في كلام المتأخرين، فهنا فرق بين النظر في النتائج المحققة بإجماع العلماء، سواء كانت في المسائل العلمية أو في المسائل العملية، فهذه لا يجوز لناظر من طلبة العلم المؤاخذة أو المعارضة أو المخالفة في شيء منها، وهذا له موجبه من العلم والشرع والإيمان، ومن أقرب ما يكون التذكير بها، أنها من موارد الإجماع، وإذا ثبت الإجماع في مسألة لم تصح مخالفته كما هو معروف.
النظر في كلام المحققين من المتأخرين، وفيهم من غلب على طبعه في العلم التقليد، وقد لا يكون هذا التقليد بالضرورة من التقليد المذموم، لكن لم يظهر له اختصاص غالب فيما كتبه من العلم، وإنما عني بتتبع طرق أصحابه مثلاً من الفقهاء أو نحو ذلك والترتيب عليها.
وظهر في المتأخرين محققون، وهذا موجود أيضاً في المنتسبين للمذاهب الأربعة من فقهاء الحنفية والشافعية والحنبلية والمالكية، وأبو إسحاق الشاطبي رحمه الله من أخصهم وأجلهم قدراً، وذلك باعتبار ما كتبه في فقه المقاصد، وما كتبه في مسائل فقه باب الاعتصام، وفي غير ذلك مما أخذ عنه، ولكن أخص ما توصل إليه من التنبيهات العلمية كان في هذا الكتاب.
وطالب العلم والباحث في كلام العلماء ينبغي أن يعرف منهجاً معتدلاً ينافي الطريقة التي اعتادها بعض الناظرين في العلم أو بعض طلبة العلم، من أنه إذا قلد عالماً في منهجه أو في كتابه أو ما إلى ذلك، تجد أنه مطبق على سائر ما يقول، أو بعكس ذلك: إذا دخلت عليه مخالفة لهذا العالم في كتابه هذا أو غيره، فتجد أنه يهون من شأن هذا الكتاب أو من شأن هذا المؤلف أو من شأن هذا العالم، لمخالفات أو لأخطاء في نظره، وقد تكون محققة، أعني: هذه الأخطاء، دخلت على هذا العالم أو على هذا الفقيه، لكن لا يصح تخطئته في كل كتابه بسبب وجود بعض الأخطاء، فهذا المنهج ليس معتدلاً.
بمعنى: أن المحققين من المتأخرين خاصة بخلاف المتقدمين الذين انضبط تحقيقهم بضبط مسائل الإجماع في المسائل العلمية والعملية، وهذا قدر لا تجوز مخالفته، فإذا ثبت الإجماع لا تجوز مخالفته، هذا أمر علمي معروف.
والمتأخرون منهم من غلب عليه التحقيق في عامة الأبواب، ومنهم من يكون محققاً في بعض أبواب العلم.
ابن حزم رحمه الله يعد من كبار العلماء المحققين، وطالب العلم بعدما يستبصر ويحكم القواعد العلمية، لا ينبغي له أن يستغني كثيراً عما أشار إليه ابن حزم من التنبيهات العلمية في المسائل، فله تنبيهات في كتابه المحلى في الفروع، أو فيما كتبه في مسائل الأصول في كتاب الأحكام، أو فيما كتبه في العقائد والملل والنحل ودفع الشبهات عن مسائل الأصول وما إلى ذلك فهو عالم محقق. وقد صنف في هذه الأبواب كتباً مشهورة وشائعة في المعاني الكلية، وما يؤخذ عليه عند عامة أهل العلم، ليس باعتبار نظر شخص عارض وإنما لأن ما ذكره مخالف لكثير من العلماء، وربما يصرح ابن حزم رحمه الله بأن قوله هذا على خلاف ما يعرفه الناس أو يعرفه الفقهاء أحياناً، ثم ينتصر لقوله ويغلط عامة الفقهاء الناظرين في هذه المسألة.
فالنتيجة من ذكر هذا المثال، وهو ابن حزم: ليُعلم أنه ليس من شرط العالم المحقق في المتأخرين أن يكون محققاً في جميع الأبواب، بحيث أن طالب العلم ينظر في كتبه نظر المقلد، فالبعض يريد أن ينظر إلى كتاب الموافقات على قدر من التسليم المطلق بكل إشارة ذكرها أبو إسحاق وكل معنى، وكل دلالة يريدها في كلامه، فهذا المنهج من أصله ليس منهجاً علمياً صحيحاً، بل ينبغي لطالب العلم أن يعرف مكانة كلام هذا العالم من كلام العلماء الذي يجب الاستمساك به ولا تجوز مخالفته؛ لا لكونه كلاماً من هذا العالم بعينه، بل لكون هذا المعنى من المعاني المستقرة عند أهل العلم، وإن كان بعض من العلماء قد أحسن النظم والترتيب، والتعيين والتقرير لها.
ما ذكره أبو إسحاق في كتاب الموافقات يعد من أخص وأجود المصنفات في مقام فقه المقاصد، فهو يعد نظريةً علميةً متينةً، تدل على أن صاحبها أو مؤلفها العلامة المحقق أبو إسحاق قد كد ذهنه، وبذل جهده في ترتيبها ونظمها، لكن مقتضى التحقيق العلمي هو في التتميم لكتب هذا العلم، والاعتناء بها والتكميل لهذه المقدمة ولهذه النظرية التي لا نقول: إنه اخترعها ولكنه نظمها، ولخصها من كلام كثير من العلماء. وبعض المحققين لهذا الكتاب استقرءوا بعض المصادر التي اعتمد عليها، مع أنه يجزم أن كثيراً مما فيها هو من باب الاستقراء العام المحصل بقراءات عامة أكثر من كونه منقولاً من كتب معينة.
فهنا يقال: إن ثمة أعياناً في المتأخرين وهم كثير، محققون في مسائل وأبواب غاية في التحقيق، ولربما فيه مواد غاية في الغلط؛ لكونها خالفت أصلاً محكماً أو إجماعاً، أو نصاً صريحاً، وليس بالضرورة هنا أن الواحد من طلبة العلم هو الذي يحكم على أن هذا غلط محض، فمن أراد أن يحكم على كلام لمثل هؤلاء بأنه غلط محض، فيحتاج إلى مقدمات أطول، إما لكونه مخالفاً لمستقر في كلام العلماء الآخرين أو في النصوص أو نحو ذلك، وأما إذا كان غلطاً في نظرك فحسب، فلا تصف هذا بالغلط المحض، وإنما يحق لك أن تخرج عن هذا الاجتهاد المعين، لكن لا تصف قول القائل بالتغليط المحض وتقطع بمخالفته وتقطع بتغليطه فيه؛ لأنك لا تقطع في تغليط كلام المجتهد، إلا إذا كان مخالفاً لما انضبط من العلم عند السابقين من العلماء.
وكتاب إحياء علوم الدين لـأبي حامد الغزالي وهو يعد من هؤلاء العلماء المحققين، فهو عالم كبير وناسك من النساك. وكتب في كثير من الموارد في الفقه، وله في أصول الفقه كتاب يعد من أمهات ما كتب في أصول الفقه، وهو: كتاب المستصفى، وكتب في مسائل أصول الدين، وفي التصوف والسلوك، وفي علوم كثيرة، ورد على الفلاسفة وكتب في مقاصدهم، فـأبو حامد الغزالي يغلو فيه قوم إلى درجة التقليد والغلو في شأنه في سائر ما كتبه وفي سائر ما قاله، وتجد أن آخرين ربما أسقطوا مقامه في أكثر ما كتبه، مع أنه يعد من المحققين في بعض أبواب العلم، ولكن عنده مقامات خالفت في بعض موادها، إما إجماعاً أو حديثاً صريحاً، أو ربما احتج بحديث ظنه من الأحاديث الثابتة، وهو حديث لا يصح، وربما كان موضوعاً، وله كلام في أصول الفقه، وفي الفقه من أمتن الكلام.
وابن تيمية من اعتداله لما تكلم عن كتاب إحياء علوم الدين لـأبي حامد الغزالي ، قال: وأما الإحياء فغالبه جيد، هكذا عبارة ابن تيمية رحمه الله، فقال: غالبه جيد، لكن فيه ثلاث مواد فاسدة: فيه مادة من تراهات الصوفية، وفيه مادة من الأحاديث الموضوعة، وفيه مادة فلسفية، هذا مثال أيضاً، وكذلك في بعض كتب أصول الفقه تجد مثل هذه التطبيقات.
وعليه: فينبغي أن ينظر للمتأخرين نظر التحقيق، ويكون طالب العلم عنده ميزان معتدل في الضبط، أما أن طالب العلم يأخذ الكتاب بالتشريف المطلق لكل كلام مؤلفه ومقاماته ونظرياته واجتهاداته وإشاراته أو بالعكس، بأن يكون معارضاً لمادة الكتاب من أولها إلى آخرها، ويهون من شأن مقامه، هذا المنهج وذاك المنهج فيما أرى من المناهج المفارقة للحكمة، وحتى أنه مفارق للعدل الذي شرعه الله سبحانه وتعالى وأمر به، وهذا ما يجعلنا نؤكد كثيراً أن طالب العلم ينبغي له أن يحكم، أو أن يأخذ في أوائل طلب العلم محكمات العلم، حتى يكون عنده قدرة على الميزان المناسب.
فـالشاطبي رحمه الله يعد من أعيان المحققين المتأخرين في العلم، وكتابه الموافقات يعد من أجود ما كتب في هذا الباب، وقد بان فيه الشرف والفقه الذي اتصف به أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله في ضبطه ونظمه لهذه النظرية في باب المقاصد، ولكن يبقى أن هذا الكتاب -حتى تستكمل الفائدة العلمية منه- بحاجة من أهل العلم، ومن الناظرين فيه إلى التقييد إذا ناسب المقام التقييد، ويحتاج إلى التتميم للمعاني الناقصة.
وعليه: فما يذكر في هذه المجالس من التقييد أو التتميم لبعض المعاني التي يذكرها المؤلف، أو السؤال على بعض كلام المؤلف، لا ينقص قدر هذا الكتاب أبداً، ولا ينقص مقام التحقيق في مؤلفه، ولكنه نوع من الضبط العلمي لقراءة هذا العلم الذي يعد علماً متيناً في باب المقاصد، فينبغي لطالب العلم أن يبنيه على فهم مناسب صحيح.
منها: قوله: (إن كل مسألة دخلت في مسائل أصول الفقه، ولا يقع تحتها عمل وما إلى ذلك، فدخولها فيه عارية)، فهذا كمعنى عام صحيح، وتمثيله لذلك بمسألة الإباحة فيه نظر، وهكذا يكون الفحص العلمي المناسب.
وقوله أيضاً: (إن الدليل السمعي لا يكون قطعياً إلا إذا علم براءته من المعارض)، ثم يقول: (والعلم ببراءته من المعارض نادر أو متعذر)، لأنه يحتاج إلى العلم ببراءته من الاشتراك والمجاز. ويقول: (وهذا هو المشهور في علم الكلام)، فهذا لا يناسب مقام التأصيل العلمي الصحيح؛ لأنك تقف عند هذا المعنى، ولا تلتزم به؛ لأن هذا ليس كلاماً في جزئية من جزئيات العلم، أو أفراد المسائل، فلا ينبغي التدقيق على كلام العلماء، بل إذا رأيته راجحاً فخذ به، وإذا رأيته مرجوحاً فلا تبالغ في دفعه؛ لأن هذه من أفراد الاجتهاد المحدودة في التأثير، وهذه لا تناهي لها. لكن إذا رجعت إلى التأصيل للقواعد، هل الدليل السمعي لا يكون قطعياً إلا إذا علم براءته من المعارض العقلي، والعلم ببراءته من المعارض العقلي نادر أو متعذر؛ لأنه يحتاج إلى البراءة من الاشتراك والمجاز وكذا؟ هل هذا الكلام صحيح؟ ومتى انضبط هذا المعنى علمياً عند المسلمين؟ هل توارد كما يقول أبو إسحاق رحمه الله على المشهور عند علماء الكلام؟ وإذا كان مشهوراً عند علماء الكلام فيأتي التحقيق، هل ما اشتهر عند علماء الكلام كما عبر أبو إسحاق صحيح أم لا؟ وعلماء الكلام، ما موقفهم من مسألة الدليل السمعي؟ وما الدليل السمعي الذي اشترطوا عليه هذا الشرط؟ هل هو في باب التشريع والعمل؟ أو هو في مقامات العلميات؟
هذه مباحث تحتاج إلى قدر من التحقيق والانضباط، أما أن طالب العلم إذا أتي إلى كتاب ليشرحه أو ليقرر عليه بعض القواعد، إما أن يصدق الكتاب أجمع، أو يرد الكتاب أجمع! فهذا لا يكون صحيحاً، فلا يصدق الكتاب أجمع إلا إذا كان القرآن الكريم، أو كلاماً محفوظاً عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو الذي يصدق أجمع، أما كلام العلماء فيجب التأدب مع مقامهم، ويرد ما خالف الحق.
وطالب العلم إذا لم يفهم هذا فاته الاستفادة من كثير من الكلام المحقق عند كثير من العلماء الذين أصابوا في أبواب ونقصوا في أبواب؛ لأسباب علمية وتاريخية معروفة، فاتهم التحقيق في بعض الأبواب.
فقد يكون بعض العلماء ليس محدثاً، فإذا استدل أتى بأحاديث من الضعيف، والمتروك، وربما من الموضوع، وهذه حال عرضت لبعض العلماء الذين لم يشتغلوا بعلم الرواية، ولكن لهم كلام في أبواب أخرى، أو قد يكون كثر اشتغاله بعلم النظر فغلب عليه علم النظر وعلم الكلام، حتى فارق كثيراً من كلام السلف الأول، ثم تجد أنه يرجع عن هذا رجوعاً مجملاً كما حصل من أبي حامد مثلاً، أو من أبي المعالي الجويني لما امتدح في الرسالة النظامية الطريقة التي كان عليها السلف في ترك التأويل وما إلى ذلك.
وهكذا ينبغي أن ينظر إلى أعيان العلماء، ولا سيما بعد القرون الأولى بمثل هذه النظرة المحققة المعتدلة، أما غلبة التقليد وغلبة التعصب، فلا شك أن هذا من الأسباب التي أدت إلى التأخر العلمي عند المسلمين في القرون الأخيرة؛ لما بالغوا في التعصب لبعض الكتب أو لبعض الأشخاص، وهذا ليس منهجاً شرعياً من حيث الأصل؛ لأن من الهدي العام عند المسلمين باعتبار أصول دينهم: أنهم لا يتعصبون إلا للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن كلامه كله حق، ولهذا لما ذكر ابن تيمية رحمه الله تعالى: من صفات أهل السنة والجماعة، قال: ومن صفاتهم أنهم ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله عليه الصلاة والسلام .
وهذا فرق بين الاعتراض، وبين التأويل، بين الاطراح للكلام المؤلف، أو كما يعبر في التعبير المعاصر: بين نقد كلام المؤلف، وبين القراءة الصحيحة للكتب، يعني: أن كل كتاب ينبغي أن يقرأ قراءةً صحيحة، أما أنك تدير القراءة بين تعصب مطلق لهذا الكتاب، أو تهوين مطلق لهذا الكتاب، فهذا مفارق للتحقيق.
فإذا قرأت لـأبي الوليد بن رشد في كتابه: مناهج الأدلة الذي بناه على معنى فلسفي قلد فيه فلسفة أرسطو في نظره للشريعة، فكلام أبي الوليد بن رشد في طريقة القرآن، وأنها للجمهور، وأن الطريقة التي عليها الحكماء هي الفاضلة باعتبار ذاتها، وإن كانت ليست طريقةً مناسبة في الخطاب، وثناؤه على الحكماء في كتابه هذا، وبين أن تقرأ لـأبي الوليد بن رشد في كتابه: بداية المجتهد، وهو يتكلم عن مسائل الفروع والفقه، فلا شك أن ما يذكره هنا لا ينبغي أن يعدى إلى ما يذكره هناك.
وإذا قرأت في كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد وجدت فيه أوجهاً من التحقيق، من أخصها أنه يرتب لطالب العلم السبب العلمي في الخلاف، ويعد من أميز الكتب الفقهية التي تعين على معرفة أسباب الخلاف، فيذكر الخلاف بين المذاهب الأربعة أو الثلاثة في الغالب؛ لأنه قلما يذكر مذهب الإمام أحمد ، ثم بعد ذلك يقول: وسبب اختلافهم كذا. لكن السؤال هو هل السبب الذي يذكره أبو الوليد في كتابه بداية المجتهد هو السبب الموجب للخلاف، أو أن هناك سبباً آخر في الخلاف؟
بعضهم يأخذه على أن هذا هو السبب الموجب للخلاف، وبعضهم يفهم أنه سبب من أسباب الخلاف، قد يصل إلى درجة الابتداء وقد يكون من الأسباب الثانية أو الثالثة وما إلى ذلك، والصحيح: أنه سبب من أسباب الخلاف، وإنما أبو الوليد رحمه الله استقرأ في كتابه هذا ما كتبه ابن عبد البر في التمهيد بشكل أخص، وجمع عليه الأسباب الفقهية التي أدارها أبو عمر بن عبد البر في كتابه، ورتب على ذلك أنها هي أسباب الخلاف عند الفقهاء في هذه المسائل.
فينبغي لطالب العلم أن تكون موازينه بينة في القراءة لكتب العلماء، فقد يكون هذا العالم ليس محققاً في باب ولكنه محقق في الباب الآخر، وهذا أمر معروف، والمهم أن طالب العلم يعرف وجه الموافقة ووجه المخالفة، وإذا خالف يكون معتدلاً في مخالفته.
قال المصنف رحمه الله: [ ومعنى هذه الجملة: أن أهل العلم في طلبه وتحصيله على ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: الطالبون له ولما يحصلوا على كماله بعد، وإنما هم في طلبه في رتبة التقليد، فهؤلاء إذا دخلوا في العمل به؛ فبمقتضى الحمل التكليفي، والحث الترغيبي والترهيبي، وعلى مقدار شدة التصديق يخف ثقل التكليف، فلا يكتفي العلم هاهنا بالحمل دون أمر آخر خارج مقوله من زجر أو قصاص أو حد أو تعزير، أو ما جرى هذا المجرى، ولا يحتاج هاهنا إلى إقامة برهان على ذلك؛ إذ التجربة الجارية في الخلق قد أعطت في هذه المرتبة برهاناً لا يحتمل متعلقه النقيض بوجه ].
وهناك كلام لـأبي عمر بن عبد البر ، وكلام لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهناك كلام لغيرهم في مراتب أهل العلم، وبعضهم كـأبي حامد الغزالي رتبهم على تنوع النظر إلى المذهب أصلاً في أخذ العلم، فتجد أن أبا حامد يذكر أن المذاهب ثلاثة: مذهب التقليد للعوام، ومذهب الجدل في دفع الصائلين عن الإسلام، كما هي عبارة أبي حامد ، ومذهب اليقين الذي هو بين العبد وبين ربه، وهكذا يفسر أبو حامد السبب في اختلاف مادة كتبه وطريقته، وأنها جاءت على نحو هذا السبب، وهذه الطريقة في الأساس هي التي بدأ يفصلها قوم من المتفلسفة الذين يميلون إلى طريقة الإشراط كـابن سينا وأمثاله.
فالمراتب الثلاث التي يذكرها المؤلف: (المرتبة الأولى: الطالبون له ولما يحصلوا على كماله بعد) وكأنه يشير إلى المقلدة الذين يأخذون الفروع والنتائج التي يقررها أصحاب مذهب معين، دون أن يتتبعوا الدليل في هذا، فيرى أن هؤلاء من أهل العلم في الجملة، ولكنهم على رتبة التقليد فيه، وهم الآخذون بنتائج قوم من أصحابهم، أو بنتائج مذهب من المذاهب دون الأخذ بأوجه هذا المذهب من حيث الدليل، أو بموجب هذه النتائج من حيث الدليل، فهذه أدنى الرتب في كلامه، وهي لا شك موجودة على مدار التاريخ.
إذاً: فالمرتبة الأولى هم: الطالبون له على وجه من التقليد، وهذه موجودة على مدار التاريخ منذ أن تأسس الفصل بين المجتهد وبين المقلد، فإذا نظرت في زمن الصحابة رضي الله تعالى عنهم لا تجد هذا الانفصال أصلاً، وتجد أن الواحد من الصحابة يجتهد في مسائل، وربما رجع إلى غيره في مسائل، وربما كان الاجتهاد مركباً من أكثر من نظر .. وهلم جرا.
لكن فيما بعد أصبح هناك انفصال بين رتبة التقليد وبين رتبة الاجتهاد، وصار يقال: هذا مجتهد وهذا مقلد، مع أنه هناك شك كثير وتردد كثير في إيجاد ضابط مطرد من كل وجه في تمييز أو في فصل جهة التقليد عن جهة الاجتهاد فصلاً تطبيقياً، يكون فيها المجتهد مجتهداً في سائر حاله، أو يكون المقلد مقلداً في سائر حاله؛ لأن الواقع أنه حتى المجتهد بحكم كونه بشراً تعرض له مقامات يحتاج إلى تقليد غيره من أهل العلم، سواء ممن عاصره أو ممن سبقه لعله يجد مخرجاً لهذه المسألة.
فإذا خرج المجتهد كلام المسألة النازلة على كلام قوم من السابقين فهذا من الاجتهاد. فالاجتهاد قد يركب مع وجه من التقليد، إذا ما فسر التقليد بأنه الاعتبار بكلام السابقين، وهذا ليس تقليداً محضاً، ولا يستغنى عنه، وليس معنى المجتهد المطلق: أنه لا ينظر في كلام العلماء، وتراتيبهم الفقهية، أو أصول الفقه أو في غيرها، فربما المجتهد المطلق في قرن من القرون بنى حكمه على حديث، واعتمد في تصحيح هذا الحديث على عالم متقدم من أهل الحديث فهو في تصحيحه للحديث قلد هذا العالم.
وصحيح أن ثمة اجتهاداً، وثمة تقليداً، فهذا لا إشكال فيه، لكن السؤال الأول: أين محل الاجتهاد؟ وأين محل التقليد؟ هذا والسؤال الثاني: هل العلاقة التقليد والاجتهاد علاقة تضاد، كما هو الذي يتبادر أحياناً، أنه إذا دخل التقليد في المسألة بوجه، كان هذا معارضاً للاجتهاد؟ أم أن المسألة قد يكون فيها تقليد من وجه واجتهاد من وجه آخر؟
فأكثر الناظرون في المسائل عندهم وجه من التقليد المشروع، وهو من باب الاقتداء والأخذ بكلام السلف الأول من أهل الحديث أو أهل الفقه، وعندهم اجتهاد، أما أن المسألة تكون بريئة من التقليد بمعنى: الاعتبار بكلام العلماء السابقين، فهذا ليس كذلك.
فالإمام أحمد لا شك أنه من أئمة الاجتهاد، ومع ذلك فكثيراً من فتواه قلد فيها الإمام الشافعي ، وكذلك الشافعي ، ومالك ، بل هذا موجود في كلام كل المتقدمين من العلماء الذين يعدون في أوائل طبقات المجتهدين، ومع ذلك فالإمام أحمد رحمه الله ربما بنى جوابه في المسألة على كلام عن فقهاء أهل المدينة، كما هي طريقة مالك ، وقال: أدركنا فقهاءنا يقولون ذلك، فهذا ليس تقليداً.
وقد يقول قائل هذا ليس تقليداً مذموماً، ولا دليل على ذم التقليد في سائر أوجهه، وقد يقول قائل: أليس الأفضل ألا نسميه تقليداً؟ فيقال له: لا تسمه تقليداً، سمه اتباعاً واقتداءً، فهذه تسميات أشرف؛ لأن كلمة: التقليد إذا ذكرت في الغالب، فإنها تذكر في الإسقاط، وكلما كانت الكلمة أشرف من حيث الشرع، وأفصح من حيث اللغة، فهي أنسب في التعبير، وهذا منهج معروف، وأحمد يسأل عن مسألة مثلاً في الحيض في قضاء الحائض لصلاة الظهر إذا طهرت في وقت العصر: الحائض يا أبا عبد الله ! إذا طهرت في وقت العصر هل تصلي الظهر؟ قال: نعم، قيل: ما وجهه يا أبا عبد الله ! هل قال: روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم كذا، أو روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم كذا، فيقال: إنه اجتهد في الدليل، قال: عامة التابعين على هذا القول إلا الحسن ، فالإمام أحمد أخذ في هذه المسألة بكلام الجمهور وعامة التابعين، وجعله هو الوجه والدليل لما قيل له: ما وجهه؟ وهذا لا يسمى تقليداً، وإنما هو اقتداء، فهذه هي التسمية المناسبة: هذا اقتفاء، وحسن توقير.
فإذا لم نسمه تقليداً، فما هو المعنى الذي يليق به؟ لأن البعض الآن يسقط الاعتبار بكلام السابقين من العلماء، فصار يفر من مصطلح التقليد ويباعد أحياناً مباعدة غير رشيدة وغير حميدة، فينبغي لطالب العلم أن يفقه التقليد المذموم شرعاً، فكلمة التقليد في نصوص الكتاب والسنة لا يوجد نص على مدحها بالتصريح، ولا على ذمها بالتصريح، فهي اصطلاح عارض.
فالسابقون من الأئمة كـمالك ، و أحمد نهوا عن التقليد، وقالوا: لا تقلدني ولا تقلد مالكاً، ولا الشافعي وخذ من حيث أخذوا، فهذا منهج صحيح، ويجب أن يعتبر طلبة العلم خاصة والمسلمون عامة منهج الدليل؛ لأنه هو المنهج الذي تعبدهم الله به، وفيه تعظيم لكلام الله، وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام؛ ولهذا بعض العلماء الذين حملوا تجديداً لهذا الباب في هذا الوقت من حيث العناية بالدليل، يعد هذا من المقامات التي تحمد لهم، ويذكرون فيها بمقام من الإجلال والإكبار، كسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، والشيخ العلامة ناصر الدين الألباني رحمه الله .
لكن هذه العناية يجب أن تكون منضبطة معتدلة المقام؛ لأن الله يقول في كتابه: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ [القصص:50]، فحينما تنظر في كلام الفقهاء، ولا أحد يقول: إن فقهاء المسلمين من المذاهب كلها أصحاب أهواء.
فالمقصود: أن طالب العلم عليه الاقتداء بالدليل باعتدال، وعليه توقير العلماء، وتوقير كلامهم، ومذاهبهم التي تعبوا فيها كمذهب الشافعية أو الحنفية أو المالكية، لكن لا ندعو أحداً إلى التعصب، فالتعصب ما يكون إلا للحق الذي لا يأتيه الباطل، وهو: الكتاب والسنة، والدليل من الكتاب أو من السنة لا إشكال فيه، إنما الإشكال في الدلالة، وفقه الدلالة، وإلا لما اختلف الفقهاء والمجتهدون، بل لما اختلف الصحابة رضي الله تعالى عنهم .
فمسألة التقليد ينبغي أن يؤخذ النظر فيها باعتدال، وكذلك مسألة الاجتهاد، ولا يصل إلى مقام الاجتهاد إلا من كان عنده قدر من الإمكان، فالأصوليون لما تكلموا عن الاجتهاد، ذكروا له شروطاً بالغة الإغلاق في قوتها وشدتها من حيث من يصل إلى رتبة الاجتهاد، فاشترطوا علمه بأحاديث الحلال والحرام، وعلمه بلسان العرب، واشترطوا شروطاً بالغة القوة والشدة من حيث التحصيل لها، فهذا المنهج ينبغي لطالب العلم أن يكون له محكماً، وأن يكون فيه معتدلاً في اعتباره وفي نظره.
قال المصنف رحمه الله: [ والمرتبة الثانية: الواقفون منه على براهينه، ارتفاعاً عن حضيض التقليد المجرد ]، يعني: الذي لا يأخذ بالتقليد المحض، وإنما ينظر في دليل الحكم، سواءً كان هذا النظر في دليل الحكم من داخل مذهب معين من مذاهب الفقهاء، أو تتبعه في كلام غيرهم من الفقهاء، فإن العلم بالدليل لا شك أنه أشرف من العلم بالحكم دون العلم بدليله، والأصل في طالب العلم أنه يعرف الحكم بدليله، فيعرف الحكم ويعرف الدليل عليه.
وتتبع الأدلة قد يطول، لكن في الغالب أن أصول أدلة كل مسألة وخاصة مسائل الفروع تبتدئ بدليل أو دليلين، ويكون ما بعدها من الدلائل التي تذكر هي من باب الاستئناس، فإذا نظرت في كلام بعض الباحثين اليوم الذين يذكرون كل أوجه الاستدلال على هذه المسألة عند مذهب معين كالشافعية أو الحنبلية أو الحنفية، فيقولون: استدل الحنفية بأدلة، ثم تجد أن الباحث أو الناظر جمع بضعة عشر دليلاً لهذا المذهب على هذا الحكم الفقهي، وفي الحقيقة أن الدليل المؤثر في الحكم عندهم دليل واحد أو دليلان، فيبقى ما بعدها هو من باب الاستئناس، بمعنى: لو لم يوجد الدليل الأول والثاني لما توجه القول من أصله .
والمعروف في الشريعة كقواعد: أن الحكم يولد من الدليل الواحد، فإذاً: المهم أن طالب العلم يعرف أصول الأدلة، وأما تتبع الأوجه والتعليلات، فهذه تكون بحسب المقامات العلمية المناسبة لها في البحوث أو نحو ذلك.
قال المصنف رحمه الله: [المرتبة الثالثة: الذين صار لهم العلم وصفاً من الأوصاف الثابتة، بمثابة الأمور البديهية في المعقولات الأول أو تقاربها، ولا ينظر إلى طريق حصولها].
لا يقصد المصنف هنا أنه صار العلم وصفاً لهم، بمعنى: أنهم سموا: علماء، فإن هذا ليس هو المؤثر، والناس قد يزيدون أو ينقصون في تسمية أو وصف الآخرين، وإنما مقصوده رحمه الله: أن العلم صار وصفاً لهم، بمعنى: أنه صار أحدهم مطبوعاً على حسن الفقه، وعلى حسن الفهم في العلم، وهذا أمر يكون للبشر وللناس، حتى في أمور صنعتهم، فتجد أن البعض يأخذ علماً من العلوم على نوع من الأخذ بنتائجه العامة، والآخر يأخذ بعض البراهين عليها ولكنه في رتبة التقليد حتى في البراهين، فإنما يحكي الدليل الذي عينه صاحب الاختصاص في هذا العلم، لكن تجد أن البعض كأنه قد طبع على حسن الضبط لهذا العلم ومداركه ومعانيه.
فالرتبة الأولى في كلام أبي إسحاق والرتبة الثانية: اكتساب، وفيها توفيق من الله باعتبار الأمور العامة للعبادة، فهي بإذن الله وبأمره وبتوفيقه، لكن الرتبة الثالثة: موهوبة من الله، فباب السداد فيها والاختصاص الإلهي يكون متميزاً، أو لا يتحصل بمحض الاكتساب، بمعنى: أنه في الرتبة الأولى: ممكن لبعض الناس أن يحفظ الفروع حفظاً ويكد ذهنه، فهو اكتسب هذا، وفي الرتبة الثانية: أن يحفظ الدليل والحكم من علم معين.
لكن الفقه في العلم، كما يعبر عنه أبو إسحاق في بعض كلام له، وفقه نفس الشارع، كما يعبر الجويني أحياناً: أن يكون في صفات المجتهد، قال: ومن صفاته عندي أن يكون فقيه النفس، فهذا الاكتساب يحرك فقه النفس الكامن، لكن بعض الناس خلقه الله أحمق، عقله فيه شطط وضيق، كما أن بعض الناس آتاه الله ملكة الحفظ، والآخر آتاه الله دون ذلك.
فهكذا خلق الله، كما أن الشجاعة طبع في بعض النفوس، فمثلاً حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه طبع على الشجاعة حتى في جاهليته رضي الله تعالى عنه، فعنده ملكة الشجاعة، فليست كلها اكتساب، أو رياضة معينة وتطبيق معين، فلو أن شخصاً في زمن عمر قلده فيها لأصبح مثله، وكذلك الشعراء وغيرهم، فـالأشج لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة ).
فإذاً: الناس متفاوتون في طبائعهم وفي الكوامن عندهم، فبعض الناس آتاه الله عقلاً فقيهاً، وآتاه الله نفساً فاضلة معتدلة، نفساً مائلةً إلى حسن النظر، والاكتساب يكمل هذا المعنى، ولعل من أسباب ظهور كثير من الأئمة في التاريخ، هو أنهم مع ما اكتسبوه من العلم وتعبوا في جمعه واستقرائه مسددون بالصفات التي خلقهم الله عليها مع توفيق الله لهم؛ ولهذا تجد أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يوصي علياً ، فيقول: (يا علي! قل: اللهم وفقني وسددني).
فبعض العلماء فيه سداد غير اعتيادي من حيث الجوابات التي يقولها والكلمات التي يقولها إلخ؛ ولهذا تجد كلاماً لبعض العلماء ككلام كبار الصحابة أو نحو ذلك، عليه مسحة من أثر النبوة أو ما إلى ذلك، بحكم قربهم من النصوص، وحسن فقههم في النصوص، انظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه لما قال: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين )، ولما قال -كما في حديث أبي موسى -: ( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكان منها ... ) ، فذكر أصناف الأرض.
والرتبة الثالثة: (الذين صار لهم العلم وصفاً)، هكذا علمهم الله سبحانه وتعالى وخلق فيهم هذه الصفات، والله أعلم حيث يجعل هذا الميراث من ميراث الأنبياء في نفوس الصالحين، أو في نفوس أهل العلم المقيمين له على حق مقام، وفي حديث يروى وإن كان في ثبوته كثير من النظر: ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله )، فمن معاني العالم الراسخ أو العالم الرباني: أن تكون نفسه فقيهةً، وأن يكون مطبوعاً أو نقول بالعبارة الشرعية: جبله الله؛ لأن الطبع كما يذكره بعض أهل اللغة يكون في الأمور السيئة والصفات السيئة، وهذا الذي يجيء ذكره في القرآن: وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [التوبة:93]، والجَبْل يكون في الخير فنقول جبله الله على صفات الخير، وطبعه على صفات الشر.
ومن تتميم هذا الكلام: أن ابن تيمية رحمه الله له كلام في المحل: الذي هو نفس العالم وعقل العالم، وفي الدليل: الذي هو من عند الله سبحانه وتعالى كتاباً وسنة، فيقول شيخ الإسلام رحمه الله: إن الصلة بينهما: أن الكتاب والسنة من حيث هي أدلة الشارع أو أدلة الشريعة بمثابة: النور، والمحل القابل: الذي هو عقل ونفس العالم أو الفقيه أو المجتهد أو الناظر بوجه عام بمثابة: البصر، فمن كان عنده بصر حديد من حيث الإدراك، وكان النور حوله تام الإشراق، فيكون إدراكه ونظره للأشياء أتم من غيره بحسب قوة الإبصار وبحسب مادة النور؛ لأن الله سبحانه وتعالى سمى ما أنزل على نبيه نوراً: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ [الأعراف:157] ، وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]، فهذا صريح في القرآن، أنه سمي ما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم بهذه التسمية.
فيقول: إن الكتاب والسنة كالنور، وعقل الإنسان ونفسه بمثابة البصر، فبعضهم فيه ضعف من جهة العقل ومن جهة انضباط النفس، فهو كالأعشى الذي أمامه نور كثير، فمهما أخذ من العلم لا تجد أنه يخرج إلى مقام الاجتهاد ومقام السداد في العلم؛ لأن المادة الكونية في حقه فيها ضعف، هكذا خلقه الله، فمهما كان النور حوله مضيئاً لا ينتفع به كانتفاع حديد البصر. وبالمقابل يقول: ربما كانت بعض العقول نفساً أو عقلاً فاضلين، ولكن معرفتها بدلائل الشريعة وتتبعها قليل، فهو كحديد البصر الذي عنده نور ليس بالكثير، فقوة بصره تفيده هنا لا شك، لكن يبقى أنه ينقصه مادة كثيرة من النور، وعلى هذا انتظم في الترتيب.
الأمر الأول: أن طالب العلم ينبغي له أن ينظر إلى نفسه، ويتأمل فيها تأملاً عادلاً، ولا يجعل الآخرين هم الذين يحكمون عليه بأنه فقيه أو عاقل أو ليس كذلك، بل يتأمل في نفسه فهو أدرى بها من غيره، فيزن القول الذي يقوله بحسب ما آتاه الله؛ لأن الله يقول: لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ [المائدة:48].
الأمر الثاني: ليعلم طالب العلم والناظر في العلم عموماً، سواء كان في عداد الطلبة، أو حتى في عداد العلماء، أن هذا المعنى لا يفارق حتى الكبار ممن أصبحوا من أهل الاجتهاد أو أهل العلم .. إلخ، وهو أن العلم ليس اكتساباً محضاً، أعني: علم الشريعة بالذات، ليس اكتساباً محضاً، بل مقام التوفيق فيه والتسديد فيه من الله سبحانه وتعالى أصل، وفعل العبد هو من باب: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، فطالب العلم خاصة ينبغي له أن يكثر من سؤال الله التسديد والتوفيق فيما يقوله وفيما يأخذه من العلم، وفيما يقوله من الحكم؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو المسدد للعباد: ( ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ) ، وعليه أن يدعو بما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو به لـابن عباس : ( اللهم فقهه في الدين ) ، فيسأل ربه أن يرزقه الفقه في الدين؛ لأن الاكتساب في العلم ليس مجدياً، الاكتساب وحده لا يكفي.
بل الإنسان إذا وكل أمر نفسه وقوله في العلم إلى الاكتساب، فإنه يفوته كثير من التحقيق، وهذا معروف في تاريخ المسلمين كلهم الذين امتازوا بقوة الاجتهاد وقوة العلم، حتى صار لهم أثر بين في تحصيل مسائل العلم وترتيبه، فقد كانوا قوماً من أئمة الصالحين، فـالشافعي ، ومالك ، وأحمد ، وأبو حنيفة ، والأوزاعي وأئمة الحديث والفقه كانوا صالحين قانتين مقبلين على طاعة ربهم. والأنبياء يصفهم الله بقوله: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا [الأنبياء:90] .
فالإقبال على الله سبحانه وتعالى والصدق مع الله هو من أخص الموجبات لتحصيل العلم وتحقيقه.
الأمر الثالث: ينبغي لطالب العلم أن يبدأ بمحكمات العلم في كل باب، وأن يغلب عليه في طلبه للعلم الاشتغال بالمحكمات؛ لأنه إذا غلب عليه الاشتغال بمتشابه العلم، أو بما قد لا يسمى متشابهاً ولكنه ليس من أصول العلم وصلبه، بل من ملحه، فإن هذا لا يخرج عالماً، ولا ينتهي إلى علم مهما انشغل بالعلم.
ومن استقراء الإنسان لحياة الناس وحياة أصحابه الذين يقارنونه في طلب العلم ومن جالسهم في المجالس العلمية، يجد أن رجالاً قد اشتغلوا كثيراً بالمجالس العلمية وما إلى ذلك، ولكنهم غلب عليهم التتبع لآحاد المسائل من ملح العلم، أو من متشابه العلم الذي يحتاج إلى تحصيل من حيث تمييز الألفاظ قبل كل شيء، ولكنهم لم يشتغلوا بأصول العلم ومحكماته وصلبه .
وهذا معنىً ينبغي لطلبة العلم أن يعتنوا به، وأن يحرص العلماء على تنبيه طلابهم عليه، وأقل ما ينبغي لطالب العلم: أن يحفظ القرآن أولاً، وهذا من أساس العلم عنده، وهو مقام ضروري في العلم.
ومن حيث كتب السنة أقل ما يكون: أن يستقرئ الكتب الستة استقراءً، حتى ولو لم يحفظها، فيستقرئ هذه الكتب؛ ليطلع على الأدلة، ويطلع على كلام الشارع عليه الصلاة والسلام في أخص الكتب روايةً وصلت إلينا، وينبغي أن يزيد عن ذلك، ويقرأ في الكتب التي لخصها الحفاظ المتأخرون في أحاديث الأحكام، بلوغ المرام أو منتقى الأخبار أو غيره من الكتب التي جمعت أحاديث في أدلة الأحكام، ويقرأ في بعض الأمهات من كتب الفقه، ومن كتب التفسير، ومن كتب أصول الفقه إلخ، وقبل ذلك في كتب أصول الدين والعقائد .
وأن يقبل طالب العلم على القراءة، وأما أنه يغلب على وقته الجدل والأخذ والعطاء في مسائل هي من ملح العلم ربما، أو من متشابه العلم، فإن هذا هو الذي يفوت على طالب العلم التحقيق والاستفادة من العلم.
قال المصنف رحمه الله: [ من العلم ما هو من صلب العلم، ومنه ما هو من ملح العلم لا من صلبه، ومنه ما ليس من صلبه ولا ملحه، فهذه ثلاثة أقسام: ] .
هذه المقدمة من حيث الجملة هي من التراتيب العلمية الفاضلة، التي ينبغي لطالب العلم أن يعرفها؛ لأن من العلم -كما هي عبارة أبي إسحاق - ما هو من صلب العلم، ومنه ما هو من ملح العلم، ومنه ما ليس من هذا ولا هذا، وكنتيجة لهذا الكلام ينبغي لطالب العلم أن يقصد ابتداءً إلى تحصيل ما هو من صلب العلم قبل أن يشتغل بما هو من ملح العلم، فضلاً عما بعد ذلك.
قال المصنف رحمه الله: [القسم الأول: هو الأصل والمعتمد، والذي عليه مدار الطلب، وإليه تنتهي مقاصد الراسخين، وذلك ما كان قطعياً أو راجعاً إلى أصل قطعي، والشريعة المباركة المحمدية منزلة على هذا الوجه؛ ولهذا كانت محفوظةً في أصولها وفروعها ].
التعبير عن الشريعة، أو عن الأمة بالمحمدية قليل في كلام العلماء، فيكون هذا مما قد يحتاجه طالب العلم أحياناً؛ لأن بعض الناس قد ينفي هذا التعبير مطلقاً، ويقول: إنه ليس بمناسب، أو لم يوجد من السابقين من عبر به، فقد وجد هذا التعبير ولكنه قليل.
قال المصنف رحمه الله مستدلاً بالآية: [ كما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]؛ لأنها ترجع إلى حفظ المقاصد التي بها يكون صلاح الدارين، وهي: الضروريات والحاجيات والتحسينيات ].
وسبقت الإشارة إلى جملة من المقصود في معنى الضروريات والحاجيات والتحسينيات، وفي الغالب أنهم إذا ذكروا الضروريات يريدون بها الكليات الخمس .
ثم قال: [ وما هو مكمل لها ومتمم لأطرافها، وهي أصول الشريعة، وقد قام البرهان القطعي على اعتبارها، وسائر الفروع مستندة إليها، فلا إشكال في أنها علم أصل راسخ الأساس ثابت الأركان.
هذا وإن كانت وضعيةً لا عقلية، فالوقعيات قد تجاري العقليات في إفادة العلم القطعي، وعلم الشريعة من جملتها ].
وهذا في بيان وجه كونها قطعيةً أو مستفادةً من القطعي، فالمقصود: أن صلب العلم هو ما كان قطعياً أو مستفاداً من القطعي ومحصلاً من جهته .
قال: [ إذ العلم بها مستفاد من الاستقراء العام الناظم لأشتات أفرادها، حتى تصير في العقل مجموعةً في كليات مطردة عامة ثابتة غير زائلة ولا متبدلة، وحاكمةً غير محكوم عليها، وهذه خواص الكليات العقلية، وأيضاً فإن الكليات العقلية مقتبسة من الوجود، وهو أمر وضعي لا عقلي، فاستوت مع الكليات الشرعية بهذا الاعتبار، وارتفع الفرق بينهما.
فإذًا: لهذا القسم خواص ثلاث، بهن يمتاز عن غيره:
إحداها: العموم والاطراد، فلذلك جرت الأحكام الشرعية في أفعال المكلفين على الإطلاق].
بين رحمه الله أن ما سماه: صلب العلم، وهو: القطعي والمستفاد منه، فيه ثلاث خواص لا تقع في غيره مما هو من ملح العلم أو دونه.
الخاصية الأولى: أنه مطرد عام، أي: لا يدخله التأخر، فإن الاطراد يعني: أنه يتسلسل معك في المعنى في سائر موارده.
الخاصية الثانية: [ الثبوت من غير زوال ] لأنها ليست محصلةً بالاجتهاد الذي يدخله التغيير، ويدخله الصواب والخطأ بل هي من القطعي، وهي عبارة عن قواعد أو معاني تكون من محل الإجماع.
الخاصية الثالثة : [ كون العلم حاكماً لا محكوماً عليه ]، يقول: إن صلب العلم هو: الحاكم، فهي التي يعلم بها الأحكام الأخرى، وهي المفسرة لغيرها من مقام العلم.
قال المصنف رحمه الله: [والقسم الثاني: وهو المعدود في ملح العلم لا في صلبه: ما لم يكن قطعياً ولا راجعاً إلى أصل قطعي بل إلى ظني، أو كان راجعاً إلى قطعي، إلا أنه تخلف عنه خاصة من تلك الخواص أو أكثر من خاصة واحدة، فهو مخيل ].
في الحقيقة حينما يقال: إن هذا من صلب العلم أو من ملحه، هو تقسيم وتنبيه حسن للناظر في العلم؛ ليعرف أن العلم منه ما هو أصل، ومنه ما دون ذلك. وهذا كله من الإشارات التي أشار إليها المحققون كـأبي إسحاق وغيره، لكن يبقى أن ما يعبر عنه بأنه راجع إلى القطعي يحتاج إلى بيان.
ما معنى الرجوع إلى القطعي عند الشاطبي رحمه الله؟ هل المقصود: التولد من القطعيات؟ فيكون هذا من ضمن المذكور في صلب العلم، أو: أن التولد من القطعيات إلى درجة الظنيات يكون من باب ملح العلم؟ وهذا الأمر لا ينبغي لطالب العلم أن يفصل فيه بناءً على ظواهر الألفاظ التي يذكرها المؤلف، حينما يقول: إن الظنيات من ملح العلم لا من صلبه.
فإذا ما أريد أنها ليست من صلبه، بمعنى: أنها دون القطعيات في الرتبة، فهذا صحيح، لكن أنها من ملح العلم، بمعنى: أنها ليست أصلاً في العلم، فالظني من حيث هو نتيجة اجتهادية: أصل في العلم، ولا بد من العلم به، وحكم الشارع في نفس الأمر ليس ظنياً، إنما هو ظني في حكم المجتهدين فقط، فجمهور الفروع الفقهية الحكم فيها يكون من باب الظنيات.
وهكذا يعبر الأصوليون بإطلاق، مع أنه يحتاج إلى تقييد، لكن هم يقولون ومنهم الشاطبي هنا: إن الفروع جمهورها ظني، فإذا قيل: إن جمهورها ظني، فهل هذه الفروع هي من ملح العلم، وما النتيجة بعد ذلك؟ هل يُشتغل بها في رتبة متأخرة؟ وهل الذي تفوته هذه الملح لا يؤثر في إحكامه للعلم؟ هذا ليس كذلك.
إذاً: لا بد من حسن تفسير لكلام المؤلف حتى يفقه على وجهه؛ لأن الإشكال هو في تحرير ما معنى: الرجوع إلى القطعي؟ لأننا نقول: إن صلب العلم هو القطعي، والراجع إلى القطعي، أي: هل المتولد عن القطعي يكون من صلب العلم؟ وعلى مسألة التولد المتسلسلة ينتهي الأمر أحياناً إلى وجه ظني، ولماذا تولد عن القطعي ما يكون ظنياً؟ فيتولد عن القطعي ما يكون ظنياً لا باعتبار القطعي، وإنما باعتبار تسلسل الجهات المؤثرة في التحصيل، ومنها نظر المجتهد الذي قد ينظر في الدليل ولا يراه قطعياً على الحكم أو ما إلى ذلك، فهذه مسألة تحتاج إلى ضبط في تفسيرها.
قال المصنف رحمه الله: [ والقسم الثالث: وهو ما ليس من الصلب، ولا من الملح: ما لم يرجع إلى أصل قطعي ولا ظني، وإنما شأنه أن يكر على أصله أو على غيره بالإبطال].
جعل الشاطبي رحمه الله مُلح العلم أنها تتخلف عنه الخواص الثلاث التي ذكرها في صلب العلم، وهي: الاطراد والثبوت وكونها حاكمة.
قال المصنف رحمه الله: [ وأما تخلف الخاصية الأولى وهو الاطراد والعموم، فقادح في جعله من صلب العلم؛ لأن عدم الاطراد يقوي جانب الاطراح، ويضعف جانب الاعتبار؛ إذ النقص فيه يدل على ضعف الوثوق بالقصد الموضوع عليه ذلك العلم ] .
فما يسمى: من صلب العلم، لا بد أن يتمتع بهذه الخواص الثلاث، فكأنها من باب الشروط فيه، وعليه فتكون ملح العلم لا تتسم بالاطراد، ولا بالثبوت المطلق، ولا بالحكم المطلق من جهة كونها حاكمةً يفرع عليها ما يحصل عنها؛ ولهذا قال: [ ولتخلف بعض هذه الخواص أمثلة يلحق بها ما سواها:
أحدها: الحكم المستخرجة لما لا يعقل معناه على الخصوص في التعبدات، كاختصاص الوضوء بالأعضاء المخصوصة، والصلاة بتلك الهيئة].
يعني: البحث في هذا والتحصيل في هذا هو من ملح العلم.
قال: [ الثاني: تحمل الأخبار والآثار على التزام كيفيات لا يلزم مثلها ولا يطلب التزامها ].
ثم ذكر في أهل الحديث مثالاً لما هو من ملح العلم، وهو: الإكثار من تتبع الطرق لا على نتيجة في ضبط التواتر، وإنما على الاستكثار من الشيوخ ... إلخ .
قال: [ والثالث: التأنق في استخراج الحديث من طرق كثيرة ].
ذكر بعد ذلك أمثلةً والمعنى الكلي في كلامه بين كما سبق.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
السؤال: ما هي الشروط والمقتضيات المطلوبة لدى طالب العلم، حتى يجتنب الغلو في هذا الكتاب أو غيره؟
الجواب: من الأمور التي ننبه طلبة العلم عليها: أن العلم له شروط، منها شرط يتعلق بأصل المقصود من العلم، وهو التعبد لله، وهو الشرط التعبدي، والشرط الثاني: الشرط الأخلاقي، والشرط الثالث: الشرط العلمي من جهة الفقه في المنهج، ومن جهة حسن التحصيل.
هذا في الجملة -أعني: الثالث- يكون مكتسباً، لكن المهم أن طالب العلم يبني لطلبه للعلم خلقاً مناسباً، بحيث يكون نظره في العلم نظراً معتدلاً؛ لأن هذا العلم أشرف من النفس البشرية، العلم بذاته زكاة، العلم بذاته صحيح، العلم بذاته حق، لكنه يرد على محل وهي نفس الإنسان وعقل الإنسان.
هذا المحل هل هو على الخيرية المطلقة؟ الجواب: لا، ليس كذلك، وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:7-8]، فالعلم قد يرد على محل قابل للنقص قابل للخطأ.. إلخ، فكما أن الإنسان يعنى بجمع العلم ووعيه حفظاً، فينبغي له العناية بإصلاح المحل الذي يستقبل هذا العلم، من حيث المدارك العقلية من جهة، والأحوال النفسية من جهة، فإن الإنسان عنده عقل وعنده نفس.
فلا بد من ذلك لطالب العلم أكثر من غيره، وإلا هذا الخطاب في الأصل يقال للكل، لكن طالب العلم أكثر من غيره ينبغي أن تكون عنايته أن يعنى بضبط مداركه العقلية، ويعود نفسه على الضبط العقلي للمدارك العقلية، ويعود نفسه على الضبط للأحوال النفسية، إذا ما عني طالب العلم بضبط المدارك العقلية في حق نفسه، وفي ضبط الأحوال النفسية في النفس المختصة به، فإن العلم هنا يكون مناسباً لهذا المحل، فإذا ورد عليه نظر واجتهاد، فتجد أن مداركه العقلية منظمة تنظيماً واعياً صحيحاً، إذا ما تكلم في باب الأمر والنهي والزجر والوعظ كما هو التعبير، تجد أن توجيهه وأمره ونهيه ووعظه معتدلاً؛ لأن أحواله النفسية فيها اعتدال، لا تحمله غيرة على شطط في الحكم، ولكن لا يقع عنده تفريط في حدود سبحانه وتعالى .
وفي كلمات القرآن من حيث تمام السياق: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر صفات المؤمنين في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [التوبة:111] ، لما جاءت صفاتهم ذكر فيها قال: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ [التوبة:112] ، في هذه الصفات قال: وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ [التوبة:112] ، فإذا ذكرت حدود الله، لا يذكر الغيرة فيها، يقال: والغائرون لحدود الله، أو من عندهم غيرة لحدود الله، (وَالْحَافِظُونَ) لأن المقصود في هذا المقام هو حفظ الحدود بمعناه الشرعي العام .
ويجب على طالب العلم أن يعنى ببناء الملكة العلمية؛ لأن هذا العلم كتبه العلماء، والقرآن من عند الله، والسنة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، هذا هو العلم من حيث هو، لكن بقي المحل القابل لها، المحل القابل يحتاج إلى تزكية، يحتاج إلى تصحيح؛ ولهذا حتى في منهج الرسول والأنبياء يذكر الله عنهم أنهم يعلمون الكتاب ويزكون النفوس، فإبراهيم لما كان يدعو لهذه الأمة بنبي، قال: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:129] ، لاحظ! الصفة الأولى: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ) أي: يبلغهم ما جاء من عند الله، ثم الصفة الثانية، قال: وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129] ، انظروا: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمران:164] ، تجدون أنه يذكر تلاوة الآيات والتعليم والتزكية .
فطالب العلم هو الذي يصحح المدارك العقلية ويضبط الأحوال النفسية، هاتان جملتان ينبغي لطالب العلم أن يُعنى بها: تنظيم المدارك العقلية، وضبط الأحوال النفسية له، حتى يكون أمره منضبطاً.
السؤال: هل للطبيعة البشرية التي جبل عليها الإنسان أثر في فتوى العالم ونظره الشرعي من حيث التشدد أو التساهل ونحو ذلك، وكيف يتخلص الإنسان من أثر ما جبل عليه أم أنه لا يتأثر بذلك علمه وفتواه؟
الجواب: لا يستطيع أي بشر أن يتخلص من طبيعته إلا بالعصمة المحضة من الله سبحانه وتعالى، وهذه لا تقع إلا لأنبياء الله عليهم الصلاة والسلام كما هو معروف، فإذاً: الطبيعة موجودة، والله جل وعلا خلق الخلق وخلق الناس على جملة من التنوع والاختلاف، صحيح أن بينهم قدراً من الاشتراك، ولكن هناك قدر كثير من التفاوت في الطباع أيضاً، فالطبيعة موجودة ومختلفة ومتنوعة، وربما متضادة أحياناً بين بعض الناس أو كثير من الناس، فما المقصود هنا؟ المقصود جهتان أو أمران:
الجهة الأولى: العناية بتصحيح هذه الطبيعة وتقريبها إلى الشريعة، وتأديبها بأدب الشريعة وخلق الشريعة، فهذه جهة.
الجهة الثانية من حيث النتيجة: أن تكون الشريعة مهيمنةً على الطبيعة، يعني: في الحقيقة إن الطبيعة موجودة، حتى ولو هذبت، فهي موجودة، وفي تهذيبها كثير من العنت على كثير من الناس، فالطبع يصعب التغلب عليه، مع أن هذا الحكم العامي لا ينبغي أن يستمسك به، لكن على كل حال: الطبيعة جزء من وجود الإنسان وثبوته وقيامه، ولا بد أن له طبائع وإلا لما اختلف الناس فالطبيعة موجودة والشريعة موجودة، ولا بد من أن الشريعة تهيمن على الطبيعة.
فالصحابة رضي الله تعالى عنهم إن استقرأت سيرهم وجدت أن ثمة تنوعاً في طبائعهم، فطبيعة أبي بكر ليست كطبيعة عمر ، فمتى قام أبو بكر رضي الله عنه وقال: دعني يا رسول الله! أضرب عنق هذا المنافق؟ لكن عمر قام كثيراً، فهذا تنوع. ولما جاء الأسرى، كما في حديث ابن عباس في الصحيح في بدر وأسر النبي صلى الله عليه وسلم الأسرى، ولم ينزل عليه شيء فيهم، أتى بـأبي بكر ، و عمر وهما أجل أئمة الإسلام وعلماء الإسلام، قال: يا أبا بكر ويا عمر ! ما ترون في شأن هؤلاء الأسرى؟ فانظروا إلى أن الطبيعة لها وجود، لكنه في حق أبي بكر و عمر وجود محكم بهيمنة الشريعة.
(قال أبو بكر : يا رسول الله، هم بني العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فديةً فتكون لنا قوةً على الكفار )، هل طبيعة أبي بكر هنا هيمنت على الشريعة، أليس كلامه ومناطاته شرعية؟ كلام أبي بكر ومناطاته شرعية ومتينة في النظر الشرعي والمقاصد الشرعية، لكن طبيعة أبي بكر أيضاً من حيث اللين بينة في كلامه؛ لأنه يقول: هم بنو العم، مع أنهم جاءوا يقاتلون الآن، وهو صحيح كحكم وجودي أنهم بنو العم، لكن يريد أن يقرب نفس النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحكم، فيقول: يا رسول الله! هم بنو العم والعشيرة، وهذا من فقه المقاصد، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ).
لكن عمر لما رجع الأمر إليه: (ماذا ترى يا ابن الخطاب ؟ قال: كلا يا رسول الله! ما أرى الذي رأى أبو بكر ، ولكن أرى أن تمكني من فلان نسيب لـعمر فأضرب عنقه، وتمكن علياً من عباس عم النبي صلى الله عليه وسلم -وكان وقتها أسيراً قبل إعلان إسلامه رضي الله عنه- فيضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها )، فالطبيعة الأولية بينة هنا، لكن هل طبيعة عمر رضي الله عنه هيمنت على الشريعة؟ الجواب: لا، كذلك كما نقول: إن مناطات أبي بكر في اجتهاده مناطات شرعية كمناطات عمر رضي الله عنه أيضاً مناطات شرعية .
فالطبيعة وجدت حتى عند الشيخين، ولكنها مهذبة بأدب الشريعة من جهة.
ومن جهة ثانية: أن الشريعة في حق الصحابة في هذا المثال أو في غيره مهيمنة على الطبيعة.
الذي يخاف على كثير من طلبة العلم وربما عرض لبعض الخواص في العلم: أن تكون طبيعته مهيمنةً على الشريعة، فهذا من نقص الديانة ونقص الفقه، ولا ينبغي لأحد أن يرمي غيره بهذا؛ لأن هذا يرجع إلى العلم بضمائر الناس وما في نفوسهم، وهذه لا يعلمها إلا رب العالمين سبحانه وتعالى، فلا ينبغي أن يرمى أحد بذلك، لكنه ينبه إلى المعنى نفسه، ليتفطن الناظر في العلم إلى أنه يجب أن تكون الشريعة مهيمنةً على الطبيعة، وهذا من فقه الإخلاص لله سبحانه وتعالى.
نسأل الله أن يجعلنا مخلصين له الدين، وأن يرزقنا الفقه والدين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر