إسلام ويب

تطور المعارف بتطور الحضارات [2]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من العوامل المؤثرة في تطور الثقافة عامل السياسة، فالسياسة مؤثرة في الدين، ومؤثرة في الاقتصاد، ومؤثرة في الاجتماع، ومؤثرة في تطور الناس، وتتأثر جميع جوانب الحياة بالسياسة.

    1.   

    تأثير السياسة على تطور الثقافة

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

    فمن العوامل المؤثرة في تطور الثقافة عامل السياسة، فالسياسة مؤثرة في الدين، مؤثرة في الاقتصاد، مؤثرة في الاجتماع، مؤثرة في تطور الناس، وقد جاء في التوراة: الناس على دين ملوكهم، أو الناس على دين الملك، وسلم لهذه القاعدة عدد من الأئمة كـأبي عمر بن عبد البر و ابن تيمية و الكمال بن الهمام كلهم تواتروا على أن الناس على دين ملوكهم.

    وقد ذكر ابن خلدون تأثر جميع جوانب الحياة بالسياسة، فقال: إن الملك إذا اتجه إلى التدين سيتدين الناس، وإذا اتجه إلى الفجور والفسوق سيفشو الفسوق والفجور في الناس، وإذا اتجه إلى العمران والبناء والتطاول سيتجه الناس إلى ذلك، وإذا اتجه إلى الزراعة سيتجه الناس إلى ذلك، وثبت هذا من التاريخ في الوقائع التي لا تقبل الشك.

    حال الناس في أيام عمر بن عبد العزيز

    ولهذا فإن الناس في أيام عمر بن عبد العزيز أقبلوا على العلم وتدوين السنن، وروايتها، وعلى الورع والزهد، فنشأت منهم النماذج العجيبة من الصالحين ومستجابي الدعاء، ونظير ذلك ما تكرر أيضاً في أيام المهدي العباسي الذي يقول فيه أحد الشعراء:

    تلقى الأمان على حياض محمد ثولاء مخرفة، وذيب أطلس

    لا ذي تخاف ولا بهذا صولة تهدى الرعية ما استقام الريس

    وعندما تولى عمر بن عبد العزيز رحمه الله الخلافة دعا رجاء بن حيوة ، وكان من أئمة التابعين، فقال: يا رجاء ! إني أريد إصلاحاً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ولا أرى رجالهم، فهو يرى رجال الدولة إذ ذاك، وهم الذين اختارهم الحجاج و المهلب بن أبي صفرة و يزيد بن المهلب ، فلما قال ذلك لـرجاء قال له رجاء : يا أمير المؤمنين! السلطان كالسوق، يجلب إليها ما يروج فيها، والشيء غير المروج لا يجلب إلى السوق عادة، فإذا صلح السلطان صلح من دونه.

    الحال في أيام المنذر بن سعيد البلوطي

    ونظير ذلك ما حصل في الأندلس أيضاً للـمنذر بن سعيد البلوطي فإنه لما جاء القحط الشديد في الأندلس، وانقطعت الأنهار، أرسل إليه عبد الرحمن الناصر يريد أن يصلي الاستسقاء في الناس، فامتنع من ذلك، فقال: لمَ تمتنع من الاستسقاء بالناس، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل )، والاستسقاء سنة بالإجماع؟ فقال: لأنك أنت ومن حولك تعيشون في نعيم، ولا تحسون بأوضاع الرعية، وإنما هذا العقاب عقاب للجميع، فقد قال الله تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الروم:41]. والناس من ألفاظ العموم: لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].

    فانكسر الخليفة وبكى، ثم أرسل إليه فوعده يوماً معيناً أنه سيستسقي لهم، ولكن المنذر كان صاحب حزم، فأرسل أحد طلابه إلى الخليفة فقال: انظر إلى ما يعمله الخليفة في هذا اليوم، فقال: وجدته في مصلاه والمصحف بين يديه، ودمعتاه على خديه، فقال: الآن نصلي وتمطرون، فلما خرج للاستسقاء، وصلى بالناس ورأى من بكائهم وضراعتهم، ورأى الخليفة يبكي افتتح خطبته بقوله: سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ[الأنعام:54]. فكانت ضراعة استهلال، ورفع يديه في الاستسقاء فما ردهما حتى امتلأتا من الماء.

    وكذلك فقد كان عدد من الأمراء فيما بعد يتجهون إلى جهة الجهاد، وإعلاء كلمة الله وقتال العدو، فيذهب الناس إلى هذا ويسجلون جميعاً في جيوش الجهاد، فكان الناس في أيام عمر بن الخطاب وفي أيام عثمان بن عفان يتنافسون في الخروج إلى الجهاد والغزوات، كما قال مالك بن الريب :

    في جيش ابن عفان غازيا.

    فهذا كان فخرهم إذ ذاك.

    وبعد هذا كان هارون الرشيد يغزو عاماً ويحج عاماً، فكان الناس يتنافسون في الغزو والحج، وقد كتب ابن المبارك من الثغور إلى الفضيل بن عياض وهو في المدينة:

    يا عابد الحرمين لو أبصرتنـا لوجدت أنك في العبادة تلعب

    من كان يخضب نحره بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضــب

    أو كان يتعب خيله في باطـل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب

    ترجمة الفكر اليوناني في عهد المأمون وتأثيره على الثقافة الإسلامية

    وهذا التأثير الواضح للسياسة في الثقافة اقتضى أن المأمون لما تولى الخلافة ترجم فكر اليونان، وأقام دار الحكمة لترجمة علوم الهند واليونان والرومان، فدخلت علوم جديدة إلى العالم الإسلامي، وكان لهذا بعض الإيجابيات، وبعض السلبيات، فبعض الإيجابيات لا ننكرها، وهي: تطور العلوم وتشققها، فالعلم في الأصل كان علم رواية فقط، فأنت إذا قرأت الموطأ تجد فيه حديثاً، وتفسيراً، وفقهاً، ومصطلحاً، وبعض العقائد، وبعض الآداب، وبعض الأدعية، وهكذا في صحيح البخاري ، وصحيح مسلم ستجد التفسير والفقه والحديث، وغير ذلك من العلوم مندمجة في كتاب واحد، لكن لما ترجمت علوم الأمم الأخرى تشققت العلوم، وتطورت، ففي أيام المأمون أصبح المشتغلون في الفقه متجردين له، والمشتغلون في الحديث متجردين له، والمشتغلون في اللغة متجردين لكل علم من علومها بحسب الحال، والمشتغلون بالطب متجردين له، وهكذا، فتشققت العلوم وكثرت، وهذا إيجابي لا محالة.

    لكن مع ذلك ثمت بعض الهفوات، والأمور السلبية منها: أن تلك الحضارات الوافدة فيها بعض الأمور التي هي مخالفة لأصل الديانة، وفيها بعض الفلسفات التي نحن في غنىً عنها، ومع ذلك دخلت فنشأ بعض العلوم والانشغالات في الفلسفة والجدل، وقد كان سلف هذه الأمة على طهر ونقاء وصفاء، ولم يكونوا محتاجين إلى تلك الفلسفات الجديدة، فنشأت تلك الفلسفات بسبب هذه الترجمة، وهنا يعلم أن كل المناهج حتى مقررات المعهد العالي وغيرها لا بد أن يكون فيها إيجابيات وفيها سلبيات، والناظر ينبغي أن يكون عدلاً فينظر بعينين، فيقوم الإيجابيات والسلبيات معاً، فإذا نظر فقط بعين الرضا أغفل السلبيات، ولم يشارك في علاجها، وإذا نظر بعين السخط أيضاً أهمل الإيجابيات، وكان غير عدل في حكمه، وهذا من الأمور التي لا بد منها.

    تأثير السياسة في المذاهب في الدولة العثمانية

    كذلك هذا التطور نشأ بعد دولة بني العباس في دولة بني العثمان، وقد كانت دولة في الأصل قائمة على المذهب الحنفي، ومع ذلك تطورت المذاهب الأخرى من باب المنافسة في ظل دولة بني عثمان، وكان المذهب المالكي منتشراً في هذه البلاد في أفريقيا وفي جنوب أوروبا، في الأندلس وغيرها بسبب السياسة؛ لأن الأنظمة تبنته فنشرته، وكان المذهب الحنفي منتشراً في جمهوريات في آسيا وتبنته دولة بني عثمان.

    وبعد ذلك أيضاً كان المذهب الشافعي منتشراً في اليمن وفي أندنوسيا، وفي المناطق التي دخلها الحضارم، وكان المذهب الحنبلي في بعض المناطق في الشام، وفي بعض المناطق في جزيرة العرب، وقليل من المناطق في العراق، فكانت المنافسة الإيجابية بين علماء المذاهب سبباً لوفرة المؤلفات وانتشارها وتناقلها.

    ولذلك يقال: إن أهل نابلس في فلسطين -نسأل الله أن يفرج كربهم، وأن يرفع عنهم البلاء- كانوا حنابلة في الأصل، فجاء إمام من أئمة الحنفية، فأقام دروسه في الجامع الكبير يدرس المذهب الحنفي، فحاول علماء الحنابلة مناقشته فانهزموا أمامه لقوة عارضته ودليله، فتآمروا عليه وكان أكثرهم عمياناً، فقالوا: كل واحد يأتي يتوكأ على عصاه، فإذا اقترب من الشيخ وسمع صوته ضربه بالعصا، ثم يعتذر إليه بعد ذلك، ويأتي آخر من جهة أخرى، فأكثروا ذلك على الشيخ حتى انسحب عن نابلس وتركها.

    وهذه المنافسة العلمية أدت إلى حصول التشابه بين بعض المؤلفات في بعض المذاهب، فمثلاً في علم القضاء في المذهب المالكي تبصرة ابن فرحون وهو كتاب من أهم الكتب وأجودها، ولكن الحنفية نقلوه إلى مذهبهم، فـالطرابلسي ألف كتاب تنبيه الحكام، فجعله تبصرة ابن فرحون في الواقع، لكنه أهمل الفروع المنسوبة إلى ابن رشد وغيره من أئمة المالكية، وأتى بدلها بفروع من المذهب الحنفي، لكن ترتيب الكتاب هو هو، وتبويبه هو هو، ويكاد القارئ يرى أنه مجرد دبلجة، وجمع بين كتابين. ونظير هذا أيضاً الحاصل في مؤلفات أخرى، فمثلاً المذهب المالكي استفاد أيضاً من طريقة الشافعية في التأليف، فـابن شاس هو أشهر مؤلف في المختصرات في المذهب المالكي، وقد ألف كتابه على غرار كتاب الوجيز للغزالي في المذهب الشافعي ، ولذلك لم يتخلص من بعض الآراء للغزالي ، فبعض المسائل وهي تقريباً سبع مسائل أو ثمان مسائل أدخلها ابن شاس في المذهب المالكي وهي أصلاً في المذهب الشافعي ، وتبع ابن شاس عليها ابن الحاجب ، وتبع ابن الحاجب عليها خليل فكانت إلى الآن، وتجدون في شروح المختصر هذه المسألة ليست راجحة في المذهب، وإنما هي من المذهب الشافعي نقلها خليل عن ابن الحاجب ، ونقلها ابن الحاجب عن ابن شاس ، ونقلها ابن شاس من موجز الغزالي .

    وهذا إيجابي في تلاقح الثقافات، وليس فيه بأس، فقد ذكرنا أن المذاهب ليست ديانات وإنما هي مدارس، وطرق للتعامل مع النصوص، ولا بأس في أخذ أي إنسان بما ترجح لديه من دليل، فذلك هو مذهب مالك وغيره من الأئمة، فقد قال مالك : ما منا أحد إلا هو راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر، وقال: ما من أحد إلا يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال أبو حنيفة رحمه الله: إذا جاء النص من القرآن، أو من السنة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو الحديث عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، فإذا جاء عن عبيدة السلماني و زر بن حبيش و عامر بن شراحيل الشعبي فهم رجال ونحن رجال، يقصد التابعين.

    وكذلك قال أحمد بن حنبل رحمه الله: إذا عارض قولي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضربوا بقولي عرض الحائط، وقال الشافعي رحمه الله: إذا صح الحديث فهو مذهبي.

    وبهذا يعلم أن المذاهب الأربعة مجمعة على أن العمل بالراجح واجب لا راجح، وأنه أصل على غيره، فهذا التلاقح الثقافي، والتطور لا بأس به.

    1.   

    المؤسسات العلمية في موريتانيا

    وهنا أضطر الآن لطي بعض المسافات وتجاوزها من الناحية التاريخية؛ لأن الموضوع مرتبط بالتاريخ، فأصل إلى واقعنا الحديث، وعصرنا الجديد، فنحن اليوم في عصر ليست فيه خلافة عامة للمسلمين؛ تجمع دار الإسلام وتوحد لواء المسلمين.

    وقد جاء الاستعمار الغازي الغاشم البغيض، فقسم بلاد المسلمين إلى دويلات، وحد لها حدوداً، وأقام لها أنظمة، وأقام لها مقررات ومعاهد تربوية تقرر في مدارسها ما فيها.

    وقد عصم الله ديننا بهذه البلاد وحفظه عليهم بما كان فيها من المحاضر، والعلماء العاملين الصالحين.

    وكذلك ما كان أيضاً في الجانب التربوي لدى بعض الصالحين من الصوفية وغيرهم، فقد حافظوا أيضاً على بعض السلوك والأخلاق.

    مؤسسة المحضرة والمؤسسة التربوية

    ووقع التكامل بين المؤسستين في هذه البلاد؛ مؤسسة المحضرة، والمؤسسة التربوية، وربما حصل تخالف بينهما أشار إليه العلامة ... محمد جميل رحمة الله عليه حين قال: إن المحاضر بدايتها محرقة، ونهايتها مشرقة، وإن الطريق بدايتها مشرقة، ونهايتها محرقة، وهو يقصد بذلك أن الطالب المحضري في وقت طلبه لا يتورع عن شيء؛ لأن المجتمع قد رفع عن المحاضر الضرائب الاجتماعية، كما قال الأخ مصطفى بن ندى رحمة الله عليه قال: إن المجتمع الموريتاني رفع عن طلاب المحاضر الضرائب الاجتماعية، فهم يفعلون كثيراً من الأمور التي هي غير مقبولة في الشرع، ولا في العادة، ولكن الناس يرضون عنها ولا ينكرونها عليهم، ويقبلون بها.

    وكذلك فالمحضرة بدايتها كما قال الشيخ: محرقة؛ لأن أهلها لا يتورعون عن شيء، لكن نهايتها مشرقة، ودليل ذلك أن تلميذ المحضرة إذا تخرج دائماً يرأس حلته، ويكون إمام مسجد أهله، وإذا مات ميت شيع بجنازته إليه، وإذا أرادوا عقد نكاح أتوا إليه، فهو مسئول الدين تلقائياً، والناس يعودون إليه في أمور دينهم، وحتى في أمور معاشهم، فإذا حصلت فتنة أو مشكلة لم يصلحها في العادة إلا مشايخ المحاضر.

    فالعلماء هم الذين يقومون بالوساطات والإصلاحات، ويتحملون الحمالات، وهذا معنى قول الشيخ: نهايتها مشرقة، فالنهاية هي: أن يتخرج ويكون عالماً عاملاً، ويكون مصلحاً في مجتمعه.

    أما الطريقة فقد ذكر فيها عكس ذلك؛ لأن بدايتها مشرقة؛ لأن التلميذ عندما يلتحق بشيخ التربية، يبدأ بذكر الله والانقطاع عن الدنيا، والزهادة فيها، وتصفية نفسه، والتخلص من أمراض قلبه، والتواضع لجميع المخلوقات، والعناية بالعبادة، والعناية بالسنن، فتكون بدايته مشرقة، لكن النهاية التي خافها الشيخ هي ما يقع من الانحراف بعد أن يصدر، فبعض الذين يصدرون يأكلون أموال الناس بالباطل، ويتظاهرون بما ليس فيهم، وليس هذا عاماً في كل أحد ولكنه مثال، وقد ذكره مشايخ الصوفية في كل عصر من العصور، وقد ذكره العلامة ... رحمة الله عليه في عصره فقال:

    آكل مال الناس بالباطـل مزخرف القول بلا طائل

    مميلهم عن سنة المصطفـى إلى سبيل البدعة الفائـل

    محصل المال بلا فتـــرة في جمعه المانع للحاصـل

    عجلان في حوض له عاجل كسلان في منفعة الآجـل

    هذا هو المعروف في دهرنا بين الورى بالعارف الكامل

    وهذا طبعاً ليس على إطلاقهم، وإنما يقصد أفراد هم الذين اتصفوا بهذا، ولدينا قاعدة معروفة في التفسير، وهي: أن ألفاظ الوعد والوعيد كلها مقيدة، سواء كانت من الآيات أو من الأحاديث، ونظير ذلك ما قال العلامة حامد بن محمد بن حبادة :

    إن فلاناً قد وصل ونال منتهى الأمل

    وصدرت منه أمائل على الخير تدل

    فهجر العلم وعاد سعياً من به اشتغل

    ونفقت أقواله لدى الكبار والسفل

    واتسعت أمواله واتخذ الناس حول

    وأصبحت أشياعه أعداء من عنه عدل

    وأصبحت آماله تنيره مالم ينل

    يا أيها الواصل يا منار من يخشى النظل

    أهكذا الدين الذي شرع في الشارع جل؟

    أم هكذا هدي رسو ل الله أزكى من وصل

    أم هكذا هدي الصحـ ابة الكرام والأول

    أم هكذا عندكم يا سعد تورد الإبل

    أم أنت أهدى منهم بل أنت دجال مضل

    من النماذج التي جمعت بين المؤسستين

    وهذا نفس الشيء عدد قليل، وليس قاعدة عامة، وعلى هذا فمثلاً من النماذج التي جمعت بين الجانبين الشيخ ... رحمة الله عليه فقد كان يمثل العالم المحضري والزاوية الصوفية، وكان كما حدثني بعض الذين لقوه من الثقات يتنافس لديه الطلاب، ويأتيه طلاب المحضرة يشكون من مضايقة طلاب الزاوية، فيناديهم فيقول: أنتم ماذا عملتم؟ هؤلاء يبيتون يذكرون الله ويصلون، وأنتم تبيتون تفرون في الأحياء، فيسكت طلاب المحضرة عن طلاب التصوف، فإذا أتاه طلاب التصوف قال: ماذا عملتم؟ ذكرتم الله ويذكره الشجر والحجر وكل شيء، وهؤلاء يدرسون العلم الذي لا تدرسونه، فهذا من فقه الشيخ ومن اقتداره، وأيضاً من الشخصية القيادية التي فطره الله عليها، فقد كان قيادياً في مختلف المجالات، فهو قيادي في المجال المحضري، وقيادي في المجال الطرقي، وقيادي في المجال الجهادي، وقد حصل نظير هذا أيضاً عند الشيخ سيديا وعند الشيخ المختار الكنتي وعند عدد من المشايخ.

    وقد أدركنا عدداً من العلماء الذين جمعوا بين المدرستين معاً، فمنهم الشيخ: عبد الله بن ... رحمة الله عليه فقد كان من أبرز علماء أهل السنة المتقنين للقرآن والسنة، والمتطوعين للتعليم، الذين لا يأخذون عليه أجراً ولا ذكراً، فقد كان حريصاً على عدم الظهور، حتى الذكر لا يريده من خلال التدريس، وأيضاً كان يربي الناس على الطريقة السنية.

    وقد حدثني بعض طلابه العدول: أنه كان يقول لهم: لن أترك هذه الطريقة حتى ألقحها، وهذا ابن حسان ... شق ... معناه: يزيل كل ما لا يعرف دليله، فكل أمر لا يعرف دليله يزيله، وقد سبقه إلى هذا شيخه الشيخ: صراد رحمة الله عليه فقد أنكر كثيراً من الأمور التي كانت دارجة لدى بعض الناس في الطريقة، وحاول إصلاحها، وله في ذلك منظومات سائرة يحفظها الناس.

    فهؤلاء الأئمة الأعلام جمعوا بين المؤسستين اللتين حفظ الله بهما الدين في هذه البلاد، وكان لاجتماع المؤسستين في شخص أثر بالغ في قيادته للمجتمع.

    وانظروا إلى قيادة الشيخ المختار الكنتي لمجتمعه؛ لأن هذه القيادة تجاوزت مجتمع أهل شنقيط حتى وصلت إلى مالي والنيجر، وحتى وصلت إلى نيجيريا وبعض السودان، وكذلك قيادة الشيخ: سيديا التي وصلت إلى المغرب، وإلى أفريقيا، وإلى مختلف المناطق.

    وهذه القيادة سببها الجمع بين المؤسستين، وقد سبق نظير ذلك لـ ناصر الدين رحمة الله عليه فقد جمع بين المؤسستين فاستحق أن يبايعه الناس خليفة؛ لأنه كان يدرس متطوعاً، وقد قال: إنه لا يدرس إلا ثلاثة علوم: القرآن، والفقه، والنحو. وقد كان يقصر جهوده على هذه العلوم الثلاثة، ويقول: لا ينبغي للرجل أن يشتغل بما لا علم له به، وأنا أعلم ثلاثة علوم فأشتغل في تدريسها، وكان يقرأ القرآن على المرضى فيعالجهم به، ولا يأخذ على ذلك أجراً، وكان كذلك مربياً ناصحاً، فكان لا يأتيه أحد وهو من أصحاب الذنوب إلا ساره، فنصحه وزجره عن معصيته، وله بذلك خوارق وكرامات في تغيير المنكرات التي ضربت ...، وقد رزقه الله الشهادة في سبيله، نحسبه كذلك، فكانت تتويجاً لجهوده، وكتابة لذكره فقد كان في عصره عدد كبير من العلماء الذين هم أعلم منه، ولكن لأنه نال الشهادة في سبيل الله بقي الذكر له، والمكانة له، ونظير هذا لدى المتأخرين في مصر مثلاً: عليش صاحب منح الجليل في مختصر خليل، فإن هذا الرجل مات في سجن الإنجليز وعمره فوق التسعين سنة، فكتب الله له الذكر بسبب أنه وقف مع الدعوة ضد الإنجليز.

    ولما أعلن المجاهدون الداعون للجهاد ضد الإنجليز كان هو واقفاً ضدهم، فوضعوه في السجن وهو فوق التسعين، وهو من كبار علماء الأزهر، فمات في السجن، واليوم أصبحت الدولة تتبنى مجال التعاليم، وتنفق عليه مالاً وتضع له برامج وخططاً، وتقيم له دوراً، وتعين مسئولين عليه، وهذا الدور الذي تقوم به ليس بديلاً عن المؤسسات المجتمعية التي هي المحاضر، ولا يمكن أن تكون بديلاً عنها؛ لأن المدارس النظامية أصل نشأتها وتطورها كان في علوم الدنيا، وإنما يؤتى بها من علوم الدين بالأمر المضطر إليه فقط، ولذلك لا يوكل تربية الأولاد والبنات إلى المدارس النظامية؛ لأنها مدارس تريد أن تعلمهم سبل عيشهم، وطرق كسب المال في هذه الدنيا، ولا تريد في الأصل تعليمهم أمور الدين؛ لأن هذا له مؤسسات أخرى، وليس معنى هذا أيضاً الانفصال، والقطيعة الكاملة بين المؤسستين، فنحن نطالب وسيكون هذا إن شاء الله من توصيات هذا الملتقى بإقامة جامعة إسلامية كبيرة في هذا البلد تطور هذا المعهد، ويكون لها أيضاً روافد من المعاهد الثانوية في مناطق مختلفة.

    التعليم الحديث في موريتانيا إيجابياته وسلبياته

    وهذا الأمر الذي حصل في الدول الحديثة له إيجابيات وله سلبيات، فمن سلبياته على المعارف أن المعارف الآن انطبعت بطابع علماني، فأصبح الدارس في كلية القانون والاقتصاد، أو الدارس في كلية اللغة لا يشعر أن عليه مسئولية في دراسة الدين، فأصبحت العلمانية مركزة فيما يتعلق بفصل التخصصات، والعلمانية الحديثة آثارها في انفصال شخصية المسلم بارزة منها:

    تحطيم دائرتي الحلال والحرام في تصور المسلم، فكثير من المسلمين اليوم المتأثرين بهذه العلمانية لا يميزون بين الحلال والحرام، بل يزنون الأمور بميزان المصلحة المادية، فما كان فيه مصلحة بادروا إليه، وما لم يروا فيه مصلحة، ولو كان فيه مصلحة أخروية، أو أجر عظيم تركوه وأهملوه.

    وكذلك من آثارها أيضاً: التركيز على الأسباب المادية، وإهمال ما سواها كالأسباب الشرعية، فإذا جاء القحط والجفاف، قال الناس: انتقلت الجبهة الملارية بفعل تيار كناري إلى كذا، وأهملوا قول الله تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[الروم:41].

    والإيجابيات منها: وهو ما لا نتنكر له أن طلاب المدارس النظامية يتقنون المطالعة، ويتقنون تنظيم معلوماتهم، ويستطيعون النجاح في الامتحانات، ويستطيعون التعبير بطلاقة وسلاقة، ويستطيعون كذلك الإجابة عن الأسئلة إذا امتحنوا، وهذه أمور يفقدها كثير من طلاب المحاضر، إن لم نقل جميع طلاب المحاضر، بل إن كثيراً من أساتذة المحاضر إذا أجروا امتحاناً في أمور درسوها ويحفظونها كما يحفظون الفاتحة يشق عليهم تنظيم الجواب، وقد شهدنا هذا في كثير من المسابقات، وهذا أمر لا شك أنه يحتاج إلى مراجعة.

    ومن هنا ينبغي أن تكون من توصيات هذا الملتقى أن يقع اندماج وتكامل بين المؤسستين بحيث تقام دورات في المحاضر، يكون فيها التكامل بين المحاضر أنفسها؛ لأن من المحاضر ما تكون على مستوى جامعي يدرس فيها بعض العلوم التي لا يدرس في غيرها، وتخصصات المحاضر التي تدرس فيها ترجع إلى خمسة وأربعين تخصصاً، ويمكن أن نجعلها سلالات، فسلالة القرآن مثلاً فيها ستة علوم، هي: علم الأداء والتجويد، وعلم الرسم والضبط، وعلم التفسير، وعلم القراءات، وعلم علوم القرآن، وعلم طبقات القراء والمفسرين، فهذه العلوم الستة كلها تحت علم القرآن، وعلوم الحديث كذلك ستة علوم وهي:

    علم الحديث رواية، أي: قراءة الموطأ والصحيحين والكتب الستة.. إلخ، وعلم الحديث دراية بمعنى: شروح الحديث، مثل شروح الموطأ، وشروح الصحيحين، وهكذا، ثم علم المصطلح، ثم علم التخريج ودراسة الأسانيد، ثم علم الجرح والتعديل، وعلم الرجال، ثم علم العلل، فهذه الستة العلوم، هي علوم الحديث.

    وكذلك الفقه وهو أربعة عشرة علماً، تندرج تحت لواء الفقه، منها الفقه المذهبي، مثلاً المذهب المالكي عندنا هنا لا بد من دراسته، ودراسته تقتضي وقتاً؛ لأن الطالب إذا بدأ وهو في أول التحاقه بالمحضرة أو بدراسته على أمه بدراسة مختصر الأخضري ، ثم ابن ... ثم الرسالة، أو نبض الرسالة، ثم مختصر خليل ينبغي أن يزيد على ذلك في المذهب المالكي، فالكثير من أمهات المذهب مهملة لا يرجع إليها، ومختصرة واحدة لا يمكن أن تمثلها جميعاً، وقد طبع مختصر ابن حاجب وطبع مختصر ابن عرفة ، وطبع كتاب ابن شاس وأصبحت في متناول الجميع.

    وأيضاً بعض الكتب المطولة الأخرى التي هي في متناول الجميع، وفيها أدلة المذهب والعناية بها، مثل كتاب الإشراف القاضي عبد الوهاب ، وكتاب المعونة للقاضي عبد الوهاب ، وشرح التلقين للمازري وقد طبع منه ثلاثة مجلدات، وشرح السفاريني للرسالة وقد طبع منه ثلاثة مجلدات.

    وأيضاً من التوصيات: العناية بهذه الأمهات وطباعتها من جديد، وطباعة المقررات المحضرية، فالمقررات المحضرية التي تستحق العناية، فلم يعد الآن الوقت كافياً لأن يجلس الطالب على ضوء النار أو على ضوء القنديل ليكتب طرة المختار بن بونة كاملة وليكتب طرة ... على مختصر خليل ، أو ليكتب طرة ... على عقود الجمان، أو غير ذلك، لم يعد الوقت كافياً لهذا، فقد كان للمحاضر وقت كثير، فكان الطالب يدرس ثمانياً وعشرين سنة، فيدرس هذه العلوم كلها، ويكتبها كما قال الشيخ المختار :

    كتب الإجازة وحفظ الرسم قراءة تدهش عقل العلم

    لكن اليوم أصبحت المطابع ينبغي أن تقوم بهذا الدور، ويتفرغ الطالب للدراسة، ولم تعد الوسائل القديمة، ولا ضياع الوقت الذي كان يحصل في المحاضر مناسباً لهذا الوقت، فهذا الوقت قد انتزعت البركة من ساعاته، فأصبح يمر بسرعة هائلة، وقد جاء في حديث أخرجه أحمد في المسند وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن بين يدي الساعة أياماً تكون السنة فيها كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كالساعة، والساعة كاشتعال السعفة ).

    وقد شاهدنا ذلك بسرعة ذهاب الأيام والليالي، وقد كنا نسهر أيام الطلب ليالي ذوات عدد ولا نحس بالسهر، نبيت الليل كله ونحن نكتب ونقرأ، وفي الصباح يجلس الشيخ للتدريس، فنجلس إليه إلى صلاة الظهر، وهكذا لا نحس بالنعاس، واليوم لا يستطيع أحد منا أن يتحمل ذلك، ولا أحد من طلابنا، ولا أحد من الناس، وقد وصف الشيخ محمد عالي رحمة الله عليه حال الطلاب إذ ذاك بقول:

    وأقصاص طلاب العلوم أمامهم موقرة من هيبة وجــلال

    وأكثر طلاب المدارس همه بيان حرام أو بيان حــلال

    وعمارها من كل ظل كريمة كريم كلاب من كريم خلال

    أغرك مصباح الظلام بل إنه كمثل تلال العارض المتـلال

    يظلون لياليون حتى كأنهم وليس بهم داء مراض سلال

    يقيمون فرض الخمس عند ندائها نداءً للأعمى أو نداء بلال

    وكذلك كانت ليالي المذاكرة لدى أهل المحضرة ليلتين في الأسبوع؛ يتذاكر الطلاب فيهما كل ما حفظوه وقرأوه، وقد نظم ذلك الشخص الشيخ ... بن سليمان رحمة الله عليه، فذكر ما كانوا يراجعونه من القصائد وما كانوا يقرءونه، حتى أتى بقصاد المحضرة، قال:

    ومن جالب عيشاً كثيراً لصحبه ومن جالب لحماً ومن جالب تمرا

    بعد أن ذكر ما كانوا يراجعونه من القصائد، ومحفوظاتهم.

    ونظير هذا أيضاً ما ذكره الشخص محمد ... في نونيته مما كانوا يذاكرونه عندما كان يذاكر أولئك الفتو الكرام بشعر مهلهل، ومرقشين إلى آخر ما كان يذكره، فهذه الأمور كان يجد لها طلاب المحاضر الوقت، وتطورت الحضارة اليوم فلم يعد الوقت كافياً لها.

    فلذلك لا بد أن يحس طلاب المحضرة بقيمة الوقت، وأن يستشعروا ترتيب المواد، وأن يكونوا على منهجية دقيقة تضمن لهم الاستمرار إلى النهاية، ونحن لا نريد أن تكون المحضرة مجرد سلم يرتقى به إلى الوظيفة والشهادة، وأن تكون مجرد مرحلة من مراحل التعليم يشارك فيها الإنسان، يذهب إلى شيخ من الشيوخ ويتعبه ويجلس إليه مدة، ثم يذهب ويشارك في امتحان البكلوريا، ثم يذهب إلى الثانوية العامة، فيدرس أمراً بعيداً جداً عما كان يدرسه، فقد كان يدرس لدى الشيخ مثلاً مالك عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله )، فيأتي إلى أستاذ الثانوية فيدرس عنده مثلاً السد أو غيرها من المقررات التافهة، ونحن لا نريد أن نجعل من المحضرة مجرد روضة يتوصل بها لغيرها، بل نريد أن تبقى هذه المؤسسة شامخة عزيزة، وأن ترتفع بالتطور الحضاري، ولا بأس من انتفاع طلاب المحاضر بما نشأ اليوم من التكنولوجيا الحديثة، فلماذا لا ينتفع طلاب المحاضر من الدسكات المضغوطة التي تحتوي مكتبات بكاملها؟ دسك واحد يكون فيه أكثر من ألف عنوان، مثلاً الموسوعة الألفية فيها ألف عنوان من كتب الحديث، وموسوعة إحياء التراث فيها ألف وثلاثمائة عنوان، وهناك موسوعات كبيرة جداً من خلال دسك واحد.

    أيضاً قد كان الطالب يبحث بحثاً مضنياً، ويتعب نفسه في البحث في الكتب للوصول إلى شاهد واحد أو إصلاح كلمة، فقد كان المختار بن بونة رحمه الله يسافر سفراً طويلاً إلى بني بيضان من أجل أن يسأله عن مسألة واحدة من نحو، يقول:

    أنا يا بني بيضان ألا زال يرتحل إليكم مريد المنجيات من المظل

    محبكم المختار قبلاً سبيلكــم وسعيكم الممضي إلى أشرف الأمل

    يسآئلكم ما عين فعل ولامه إذا صححا الواحد أو يراد ...

    من أحداهما لفظ للأخرى مغاير

    إلى آخر أبياته، ونظير ذلك ما حصل أيضاً للعلامة ابن حفظان في سفره إلى الدوعري للسؤال عن بعض المسائل القليلة التي يمكن أن توجد في الكتب ببساطة، فهذه المسائل بحثها أولئك العلماء الأجلاء وهي موجودة أيضاً في مراجع، لكن كانت المراجع خطية، وكانت كتباً يحتاج الباحث فيها إلى الاختلاء والبحث ليالي ذوات العدد من أجل الوصول إلى المعلومة.

    واليوم إذا أدخلت رأس المسألة في الكمبيوتر يخرج لك في نفس الوقت الحديث من أخرجه، ومن حكم عليه، وكل رجاله، ... ويخرج لك المسألة الفقهية في أسرع الأشياء، وقد كنت في وقت البحث في رسالة الماجستير أو رسالة الدكتوراه أبحث في مسألة النقود هل تتعين بتعيين أم لا؟ ومكثت ثلاثة أسابيع وأنا أقلب كتب الفقه من مختلف المذاهب، فطلعت الموسوعة الفقهية إذ ذاك على الدسك، فوضعت هذا العنوان هل النقود تتعين بالتعيين؟ وفي نفس اللحظة خلال أقل من دقيقة طلع علي كل المراجع التي ذكر فيها هذا اللفظ، من جميع كتب الفقه، بالأجزاء والصفحات، فما كنا نفني فيه أوقاتنا أصبح الآن بالإمكان أن تستغل فيه التكنولوجيا الحديثة والتطور الحضاري الجديد، وينبغي أن يكون للوزارة عناية بهذا، ومشاركة فيه.

    ولا ينبغي أن يتحسس أهل المحاضر كذلك من هذا التطوير، فهو نفع لهم، وليس ضرراً عليهم، أن يكون لديهم وسائل وآليات، فنحن الآن نحتاج إلى تكبير الصوت فنأخذ هذه الآلات، ونحتاج من السياسة إلى ما نعرف به الأصوات والاستفتاء، فنحتاج إلى صناديق الاقتراع، وهي مستوردة، وقد استورد النبي صلى الله عليه وسلم فكرة الخندق، وفكرة الخاتم، وفكرة المنبر من حضارات أخرى غير حضارة العرب، فلا بأس من استيراد ما هو نافع من هذه الحضارات.

    ولا بأس كذلك من أن يكون للطلاب ابتكارات وإبداعات، وبالأخص طلاب المحاضر الذين لديهم ذكاء مفرط، فنحن نريد إذا درسوا طريقة ابتكار مالك رحمه الله للاستدلال بالإشارة عندما قال إن الله تعالى يقول: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187].

    قال: لم يترك للغسل وقتاً فدل هذا على جواز إصباح الصائم جنباً وهذه دلالة خفية جداً، ولا يمكن أن يستخرجها إلا من كان من أهل الإبداع والابتكار، وقد وفق الله لها الإمام مالك رحمه الله فنريد نظير هذا من طلاب المحاضر، نريد منهم أن يبدعوا ويبتكروا، وأن يستغلوا الوسائل كلها التي تجددت في حضارتنا وواقعنا، ولا نريد أن ينظر إليهم تلك النظرة الدونية، وأنهم أصحاب الاتساخ بالملابس والكتب، وأنهم الذين لا يستفيدون من واقع الناس وحياتهم، وأنهم إذا تخرجوا أيضاً لا يجدون مكانهم في المجتمع، فهذه النظرة قد طواها الزمن، ولم تعد ممكنة الآن، ولنتذكر قول الشريف الجرجاني رحمه الله:

    ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما

    ولكن أذلوه جهاراً وجهموا محياه في الأطماع حتى تجهما

    ولا بد أن يستشعر طلاب المحاضر وأساتذتها قول سليمان بن داود عليهما السلام فيما حكى الله عنه: فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ [النمل:36]، ولا بد أن يستشعروا عزة الإسلام، وأن يحصلوها في أنفسهم، وأن يحافظوا على قيم الإسلام وأخلاقه، ونظافته.

    ومن أسوأ ما يسوءني إذا زرت محضرة من المحاضر فدخلت سكن الطلاب، أن أجد الغبار والتراب والأوساخ مجتمعة، فالحضارة تقتضي الانتقال عن مخلفات الحياة، فالحياة لا بد لها من مخلفات، ونفايات، إما أن تنتقل عنها، وإما أن تنتقل عنك، فأهل البادية ينتقلون عنها، وأهل الحاضرة ينقلونها عنهم، لكن لا بد من نقلها عموماً، وقد حدثت عن العلامة ... رحمة الله عليه أنه قال: إنه لا يلوم الرجل إذا لم يكن له جمل، ولكن يلومه إذا لم يكن له نعل، ولا يلومه إذا لم يكن له لباس جديد، لكن يلومه إذا كان لباسه متسخاً؛ لأن هذه الأمور بالإمكان أن يغيرها الإنسان، وقد قال أبو الطيب المتنبي :

    ولم أرَ من عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام

    إذاً لا بد من استغلال طلاب المحاضر وأساتذتها للأوقات، ولا بد من تطبيق للعلم، وأن يتركوا ما كانوا يفعلونه من المخالفات، ولا بد أن يربوا أنفسهم على الورع، فهو سر حفظ العلوم وبقائها، ولا بد أيضاً أن يحافظوا على النظافة، وأن يندمجوا في الحضارة، وأن يقوموا بدورهم في المجتمع، وأن يكون لهم الأثر البارز في نصرة هذا الدين، ونشره والدعوة إليه، وأن يعتزوا بعزة الإسلام، وأن لا يظهروا بالمظهر المزري غير المناسب.

    وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لكل خير، وأن يجعل ما نقوله ونسمعه حجة لنا لا علينا.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767081966