بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:
فالذكر قد أمر الله به في كتابه، وبالإكثار منه في عدد كثير من الآيات، فقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الأحزاب:41-42].
وقال تعالى: فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10].
وقال تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ [الأعراف:205].
وقال تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152].
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإكثار من ذكر الله، فذكر سبب مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، فقال للذي طلب ذلك: ( لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله ).
والذكر في اللغة خلاف النسيان؛ ولهذا قال أهل العلم: كل عامل لله تعالى بطاعة فهو ذاك، فالذكر ضد النسيان، ومن تقرب إلى الله سبحانه وتعالى بأية طاعة فهو ذاكر له غير غافل عنه في ذلك الوقت.
الذكر أقسام، أكملها وأعظمها كما قال سهل بن عبد الله التستري : ذكر الله عند أمره ونهيه، يعني: أن يتذكر الإنسان أمر الله ونهيه، فإذا أراد أن يطبق الأمر كان ذاكراً لله، متقرباً به إلى الله عز وجل، مخلصاً فيه، غير مراء ولا مسمع، وكان حاضر القلب عند أدائه للعبادة والنسك، وفي وقت النهي كذلك في وقت إقلاعه واجتنابه لما نهى الله عنه يكون متذكراً لعظمة الله وجلاله ليكون ذلك راجعاً له زاجراً له على اقتراف ما نهى الله عنه، وهذا الذكر هو الاستجابة للموعظة، فقد قال الله تعالى: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ [البقرة:275].
فالله سبحانه وتعالى يعظ عباده بالأوامر والنواهي، فمن استجاب للأوامر وانزجر عن النواهي فهو متعظ بموعظة الله سبحانه وتعالى منتفع بها، ومن ليس كذلك لم ينتفع بتلك الموعظة ولم يقبل هدي الله سبحانه وتعالى الذي وجه إليه، وكذلك منه ذكر اللسان والقلب وأفضله ما جمع بينهما، أن يكون الإنسان ذاكراً بلسانه حاضراً بقلبه، فاللسان يتلفظ بالثناء على الله وبذكره، والأذن عند النطق تسمع ما ينطق به الإنسان فتنقله إلى القلب، والقلب يحضره ويخشع له، فهذا هو أكمل الذكر؛ لأن الجوارح الثلاث مشتغلة به، فاللسان يشكر لقضاء الله على أساس الدافع الذي دفعته إليه عقيدته، والأذن تستمع إلى اللسان فتنقل ما ينطق به بأمانة إلى القلب، والقلب يتأثر به فيحيله إلى الجوارح عملاً وطاعةً وقربةً إلى الله سبحانه وتعالى؛ وبهذا يكون الإنسان مشتغلاً في دورة كاملة في ذكر الله سبحانه وتعالى قلباً ولساناً وأذناً، ثم يفيض الذكر على الجوارح، وإذا فاض الذكر على الجوارح فإنها ستستقيم للطاعة والعبادات كلها، وتكون قابلةً لذلك.
ومن هنا احتاج الإنسان إلى رياضة نفسه على الذكر القلبي، فيسهل على الإنسان أن يروض نفسه على ذكر الله باللسان، وهذا سائر دارج على ألسنة الناس، لكن يصعب عليه أن يروض قلبه على الاشتغال بالذكر في وقته؛ ولهذا قال القشيري رحمه الله: استغفارنا هذا يحتاج إلى استغفار كثير، فالاستغفار من قلب غافل لاه صاحبه لا يقصد به استغفاراً يشهد الله على أمر ليس في قلبه، فلذلك يحتاج الذاكر إلى أن يرد نفسه إلى معنى الذكر كلما شردت عنه، وبالأخص في حال الذكر المكرر، فالذكر المكرر قد يحضر الإنسان مرةً واحدةً أو مرتين، ثم يغيب ذهنه بعد ذلك وينشغل بالعدد أو بالسبحة أو بغير ذلك، ومن هنا ينتقص أجره نقصاً عظيماً بيناً، فيحتاج إلى رد قلبه إلى معنى ما يقول، وإلى استحضاره، فالله سبحانه وتعالى أثنى على المؤمنين بأنهم إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، فقال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2]، والنبي صلى الله عليه وسلم عد في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ( ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه )، وهذا لا يمكن أن يتم إلا باشتغال القلب الاشتغال الكامل بالله سبحانه وتعالى، أما إذا كان القلب غافلاً عن الله ولو اشتغل اللسان بذكره فإن صاحبه لا يتأثر به هذا التأثر أبداً؛ ولذلك يحتاج الإنسان إلى رياضة قلبه على تدبر ما يقول، وعلى الانتفاع بذكر الله سبحانه وتعالى في وقت الذكر سواءً كان سامعاً له من غيره، أو كان متدبراً له في نفسه، أو حتى بالنظر إلى عجائب خلق الله، فكل الخلائق مسبحة بحمد الله سبحانه وتعالى، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]، فالسموات السبع والأرضون السبع، والبهائم والدواب كلها تسجد لله سبحانه وتعالى وتسبح بحمده، وإذا تذكر الإنسان ذلك فلينظر إلى أقرب شيء إليه، فكل شعرة من جسمه أو بشرة أو ذرة من ذراته أو حتى خيط من لباسه هو ساجد لله ذاكر، وعلى الإنسان إذا علم أن ملابسه ذاكرة لله ساجدة له مسبحة بحمده أن يكون منافساً لها في ذلك، وأن يكون -على الأقل- خيراً من ملابسه، فهل يرضى أحد أن تكون ملابسه خيراً منه؟ فلذلك لا بد أن يستشعر الإنسان معنى هذا الذكر، وأن يرد إليه نفسه.
ثم بعد ذلك لا بد في رياضة الإنسان على ذكر القلب أن يستحضر أن الله سبحانه وتعالى يذكر الذاكرين، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]، وهذا الذكر الموعود به لا يكون إلا على أساس الحضور؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا ينظر إلى الأشكال والأموال، وإنما ينظر إلى القلوب، فإذا كان الإنسان غافلاً لاهياً وهو يذكر بلسانه، فلا يمكن أن يكون في مقام الذين يذكرهم الله عز وجل من خاصته من خلقه، إنما الذين يستحقون ذلك المقام العالي هم الذين يشتغلون بقلوبهم بذكر الله والإقبال عليه؛ ولهذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: ( أنا عند ظن عبدي بي، فإذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولاً ).
سبحان ربنا ما أحلمه وأكرمه، فهو الغني الحميد، لكنه هو الشكور، فيشكر لعباده ما يتقربون به إليه من الأعمال الصالحة التي هو وفقهم إليها، وهو تقبلها منهم، وهو أعانهم عليها، وهو أرشدهم إليها، وهو علمهم إياها، ومع ذلك يشكرها لهم ويتقبلها منهم، فيذكرهم سبحانه وتعالى بحضرة القدس، ويذكرهم في نفسه، فهذا تشريف عظيم، سبحان ربنا ما أكرمه وأحلمه.
ثم على الإنسان كذلك في رياضته لنفسه بحضور قلبه عند الذكر أن يذكر بما يعرف معناه، فكثير من الناس يذكر بأذكار لم يتعب نفسه ولم يكلفها يوماً من الأيام أن يبحث في معنى هذا الذكر الذي يقوله، ومن هنا فإن كثيراً من المصلين لا يعرف معنى كثير من أذكار الصلاة، كثير من المصلين لا يعرف معنى (التحيات لله) ولا يعرف معنى (ربنا ولك الحمد) ولا يذكر معنى العطف في: (ربنا ولك الحمد)، وهذه الأمور لا بد من دراستها؛ لأن الإنسان لا يكون متدبراً لها بقلبه ما لم يكن عارفاً بمعناها.
كذلك ذكر الإنسان بقلبه ولسانه داخل في الدعاء، وهو متحمل له بقضاء حوائجه، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ). وقد سئل سفيان بن عيينة رحمه الله عن معنى هذا الحديث فقيل له: لا إله إلا الله ليست دعاءً، فقال: أما سمعت قول أمية بن أبي الصلت الثقفي :
أأذكر حاجتي أم قد كفاني حياؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوماً كفاه من تعرضك الثناء
هذا ثناء على الله سبحانه وتعالى، وهو تعرض إلى مجده وكرمه، وهو الكريم.
ثم بعد ذلك لا بد أن يتذكر الإنسان أن الله سبحانه وتعالى خص بعض الأزمنة وبعض الأمكنة بخصائص متعلقة بالذكر، فهذا الذكر نوعه الله سبحانه وتعالى ولم يجعله على وتيرة واحدة، ونوع أوقاته وفاضل بينها.
فوقت السجود نهينا فيه أن نقرأ القرآن، ووقت الركوع كذلك، فنهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، وبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم ما شرع لنا الله من التسبيح في الركوع والسجود، وما شرع لنا من الدعاء في ذلك، ومثل ذلك أذكار ما بعد الصلاة، فقد حددها النبي صلى الله عليه وسلم وبين لأصحابه: أنهم إذا فعلوا لا يكون أحد خيراً منهم إلا من فعل مثلما فعلوا أو من زاد.
وكذلك بين فضل بعض الأذكار بخصوصها كأذكار الصباح والمساء، والنوم والاستيقاظ، وهذه الأذكار توقيفية، أي: بين النبي صلى الله عليه وسلم الأجر المترتب على بعضها، وهذا الأجر لا يمكن أن يؤخذ بالقياس ولا بالاجتهاد، بل المرجع فيه إلى الوحي، ومن هنا فلا يعدل عنه لأنه لا يمكن أن يقوم غيره مقامه، فمثلاً: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة في الصباح والمساء، بين النبي صلى الله عليه وسلم ما يترتب عليها من الوعد العظيم والأجر الكثير الذي لا يمكن أن يقاس غيرها مقاسها، أو أن يقبل عليها فيه؛ لأن هذا مما لا يعرف إلا بالوحي، ومثل ذلك سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، ( كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم ). وكذلك ( من قالها مائة مرة في اليوم والليلة، أو في الصباح ثم في المساء لم يأت أحد بمثل ما جاء به إلا من زاد ).
ومثل ذلك أذكار أخرى حددها النبي صلى الله عليه وسلم وبين الأجر العظيم فيها، فهذه الأذكار لخصوصها اختيرت اختياراً ربانياً لهذا الوقت بخصوصه، وما مثالها إلا ركعات الصلاة، فقد حدد الله لنا عند طلوع الفجر هاتين الركعتين لصلاة الصبح، وعند زوال الشمس الركعات الأربع لصلاة الظهر، وعند دلوكها أربعاً للعصر، وعند غروبها ثلاثاً للمغرب، وعند غروب شفقها أربعاً للعشاء، فهذا التحديد لا يمكن أن نبلغه نحن بعقولنا، وإنما يقتصر فيه على ما بينه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فكذلك هذه الأذكار المخصوصة التي جاء عليها وعد بخصوصها لا يمكن أن يدرك ذلك بالعقل وإنما يرجع فيه إلى النص.
ثم بعد هذا الأوقات التي حض الله على الذكر فيها فهي أوقات فاضلة مخصوصة، والذكر فيها لا يعدل بغيره، وهذه الأوقات منها: الصباح والمساء، وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ [الأعراف:205]، فالصباح والمساء وقتان عظيمان من أوقات الذكر يغفل عنهما الغافلون؛ ولذلك يتنافس فيهم المتنافسون في التقرب إلى الله سبحانه وتعالى بما يذكرونه فيهما من أنواع الذكر وذلك تقرب إليه، وانتساب إلى جنابه العالي، ومنافسة لعباده الذاكرين في ذلك الوقت، وبراءة من كل ما يذكر من دونه، فعباد الطواغيت يعبدونها من دون الله في هذه الأوقات، والذين يسجدون للشمس يسجدون لها عند طلوعها وعند غروبها، وهذه الأوقات خصها الله بفضيلة الذكر فيها.
ومثل ذلك ما كان في أدبار الصلوات، ففي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( يا معاذ ! إني أحبك، فلا تدعن أن تقول في دبر كل صلاة مكتوبة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ).
وكذلك ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحافظ عليه من الأذكار في أدبارها، فقد كان صلى الله عليه وسلم يقول بعد السلام من كل صلاة مكتوبة: ( أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام! اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد )، وكان يقول: ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير )، ( لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، وله النعمة والفضل وله الثناء الحسن )، ( لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ).
وكذلك كان يقول بعد صلاة الصبح وصلاة المغرب وهو جاث على ركبتيه قبل أن يتكلم: ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير عشر مرات ).
وقد أخرج النسائي كذلك في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يحل بينه وبين الجنة إلا الموت ) وذلك ذكر لله؛ لأن آية الكرسي فيها ثناء على الله وتمجيد له بأوصافه، وهي أعظم آية في كتاب الله.
فهذه الأوقات المخصوصة ميزها الله سبحانه وتعالى عن غيرها بفضل الذكر فيها.
ومنها الثلث الأخير من الليل الذي هو وقت النزول، فإن الله سبحانه وتعالى يحض على دعائه في ذلك الوقت، ( ينزل إلى سماء الدنيا، فلا يزال يقول: ألا من يدعوني فأستجيب له؟ ألا من يسألني فأعطيه؟ ألا من يستغفر لي فأغفر له؟ )، فهذا الوقت وقت استجابة لا محالة؛ ولذلك قال أهل التفسير في وعد يعقوب عليه السلام لأبنائه بالاستغفار لهم: قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي [يوسف:97-98]، وعدهم بالتسويف ينتظر هذا الوقت الذي هو وقت النزول وقت الاستجابة، فأخر الدعاء لأولاده إلى هذا الوقت؛ لأنه مظنة الاستجابة.
ومثل ذلك الأوقات الأخرى التي بين النبي صلى الله عليه وسلم فضل الذكر فيها، فمنها الذكر عند الصف، أي: عند التقاء الصفين، عند التحام المعركة بين المسلمين والكفار، فهذا الوقت من أوقات الذكر الفاضلة، ولا تكاد ترد فيه دعوة للمؤمن، ومثل ذلك الذكر عند سماع صوت الرعد، وكذلك عند أصوات الديكة فإنها ترى الملائكة، وكذلك عند حضور الإنسان للمصائب، وعند حصول الزلازل والآيات، فهذا وقت فاضل للذكر قد شرع الله الذكر فيه.
كذلك لا بد أن يتعود الإنسان على أن يكون له من الذكر في أوقات خلواته ما يشغل به ذلك الوقت، فإذا خلا الإنسان بنفسه فهذا وقت لأن يذكر الله خالياً، وعليه أن يدرب نفسه على التأثر بذلك الذكر حتى تفيض عيناه حتى يدخل في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
وعليه كذلك أن يحاول أن يكون من الذين إذا سمعوا الذكر من غيرهم تأثروا له، فليس الذاكر لله بالذي يتأثر بذكر نفسه فقط، بل الذي إذا سمع الذكر تأثر به أيضاً، فالذين إذا سمعوا ذكر الله عز وجل هيجهم إلى محبته وذكره ودعائه، هؤلاء من الذاكرين الله؛ ولذلك شرع رفع الصوت بالذكر في بعض المواضع ليكون ذلك تنبيهاً للغافلين وتعليماً للجاهلين، وقد شرع الله عز وجل رفع الصوت بالتلبية ليكون ذلك تذكيراً للغافل وتعليماً للجاهل، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن أفضل أعمال الحج: الثج والعج )، فالثج: إراقة الدماء بالنحر، والعج: رفع الصوت بالتلبية والذكر، وبين كذلك أن الأنبياء السابقين كانوا يرفعون أصواتهم بالتلبية، ففي حديث جابر في حجة الوداع: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما استقبل فج الروحاء رأى وادياً فسأل: ما اسم هذا الوادي؟ فقيل: الأزرق، فقال: لكأني بـموسى بن عمران يقطع بطن هذا الوادي له عجيج بالتلبية، ولما مر بثنية قال: ما اسم هذه الثنية؟ فقيل: هرش، فقال: لكأني بـيونس بن متى على ناقة له حمراء يقطع هذه الثنية له عجيج بالتلبية ).
وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم كان يبين لأصحابه إذا كانوا في سفر أن يذكروا الله سبحانه وتعالى، فإذا هبطوا الأودية سبحوا، وإذا ارتفعوا على التلال والجبال كبروا، وكان يوصيهم بذلك فيقول: ( أوصيكم بتقوى الله، والتكبير على كل شرف )، والشرف ما ارتفع من الأرض مطلقاً ومنه قول لبيد :
آتي النبي فلا يقرب مجلسي وأقود للشرف الرفيع حماري
(أقود للشرف الرفيع) يعني: ما ارتفع من الأرض. والتكبير على كل شرف هو من الذكر اللساني والذكر القلبي معاً؛ لأن الإنسان إذا رأى شيئاً مرتفعاً من الأرض أعجبه وعظم في نفسه، فإذا عظم في نفسه شيء مما في الأرض من جبالها وشعابها فليذكر عظمة الله وجلاله؛ وذلك مزيل لاستعظام المخلوق مطلقاً، فاستعظام المخلوق وصف ذميم على الإنسان أن يتخلص منه؛ ولهذا لا بد أن يستحضر الإنسان كلما عظم في نفسه مخلوق عظمة الله وجلاله وكبرياءه، وهذا هو من الذكر القلبي المطلوب.
وكذلك التسبيح في بطون الأودية فهو تنزيه لله سبحانه وتعالى عن كل ما لا يليق به، وثناء عليه بالعلو، وأيضاً بالإحاطة والعلم، فإنه سبحانه وتعالى لا يحجز عنه مكان مكاناً، ولا يشغله شأن عن شأن، محيط بالخلائق جميعاً، علمه قد أحاط بكل شيء، ولذلك قال: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59].
فلا بد من استحضار ذلك إذا رأى الإنسان شيئاً من عجائب خلق الله، ومثل ذلك كل موعظة يراها الإنسان من عجائب الكون فهي مقتضية منه لتمجيد الله سبحانه والثناء عليه.
وإذا رأى الإنسان إبداعاً من خلق الله سبحانه وتعالى فذلك مقتض منه للذكر في تلك اللحظة حين رأى بديع صنعة الله في الكون، فعليه أن يشكره وأن يذكره بما هو أهله من الثناء، فهو أهل الثناء والمجد.
كذلك فإن هذا الذكر مقتض من الإنسان للتشبه بالملائكة الكرام، فالله سبحانه وتعالى عندما أمرنا به في سورة الأعراف فقال: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ [الأعراف:205]، ذكر حال الملائكة فقال: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ [الأعراف:206]، فبين هنا أن الملائكة يشغلون أوقاتهم كلها بذكر الله عز وجل؛ ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أطت السماء وحق لها أن تئط، فما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك لله فيه ساجد أو راكع )، فهذه السماء ذات السعة العظيمة ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك لله فيه ساجد أو راكع.
كذلك فإن الذاكر لله سبحانه وتعالى لا بد أن يتحلى بآداب الذكر، وهذه الآداب بعضها باطن وبعضها ظاهر، فالآداب الباطنة منها: عدم الانشغال عن الذكر بالغير، فالإنسان قد تسول له نفسه أن تفكيره واسع، وأنه بالإمكان أن يشتغل بعدد من الأعمال في وقت واحد، يظن أنه سيدبر شئون حياته ومع ذلك يوفي الذكر حقه وهذا غير صحيح، فلا بد أن يستشعر الإنسان أنه ذو قلب واحد، وأن هذا القلب له توجه واحد لا يمكن أن ينشغل بأمرين فيتقنهما في وقت واحد، وعلى هذا لا بد أن يخلص نفسه للذكر في وقته.
وكذلك من الآداب الباطنية: التدبر في معاني الذكر، وفي صفات الله سبحانه وتعالى، واستحقاقه للثناء والمجد.
وكذلك من آداب الذكر الباطنية محبته للذكر، بأن يقبل عليه وهو محب له غير متعسف له، فالذي يذكر وهو متعسف للذكر لم يستحضر محبة الذكر، فلا بد أن يكون محباً للذكر.
كذلك من الآداب الباطنية: أن يجعل له مدرسةً ليتعلم فيها الثناء على ربه الذي يستحق الثناء، والناس يتعودون كما سبق على الثناء على المخلوقين، ويكثرون من ذكرهم بما فيهم وبما ليس فيهم، والذي يحسن الثناء على المخلوقين كان عليه أن يحسن الثناء على الخالق من قبل، فمن المؤسف أن تعرض على الإنسان صحائف أعماله فيجد فيها كثيراً من الثناء على المخلوقين، ولا يجد فيها كثيراً من الثناء على الخالق، والله هو الذي يستحق الثناء.
ثم الآداب الظاهرة للذكر منها: أن يكون الذاكر لله على طهارة تعظيماً لله وإجلالاً لشأنه، فهذه الطهارة إن تمكن من أن تكون طهارةً حسية فبها ونعمت، وإلا طهر نفسه قبل الذكر من الأدران بالتوبة، فقبل البداءة بالتوبة يشرع للإنسان التهيؤ للذكر بأن يطهر نفسه بالتوبة إلى الله؛ ولذلك يذكر المربون أن التوبة تسبق الذكر كله، فإذا أراد الإنسان أن يبدأ ورداً من الذكر فليبدأه بالاستغفار توبةً إلى الله سبحانه وتعالى قبل أن يشرع في التمجيد والثناء والحمد وغير ذلك من أنواع الذكر.
وكذلك الاستقبال، فاستقبال القبلة هو أفضل المجالس ( أفضل المجالس ما استقبلت فيه القبلة )، فإذا كان الإنسان مستقبلاً للقبلة فهذا أبعد له عن الشيطان، وأولى لحضور قلبه في الذكر.
كذلك من آداب الذكر الظاهرة: أن ينقطع الإنسان له بجوارحه، فإن كان في مسجد أو في مكان من بيته خصصه هو للعبادة فذلك أكمل وأبلغ، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصصون أماكن من بيوتهم لعبادة الله سبحانه وتعالى، وفي حديث عتبان بن مالك : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أتاه سأله: أين يصلي له من بيته؟ فحدد له مكاناً يصلي له فيه ليتخذه مصلىً من بيته ).
وفي حديث أنس بن مالك كذلك : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما زار جدة أنس مليكة قال: قوموا فلأصلي لكم. أمرهم أن يصلوا معه، فأرته العجوز مكاناً يصلي لها فيه من بيتها، فأرته حصيراً قد اسود فنضح عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الماء وقال: قد اسود هذا الحصير من طول ما لبس، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصففت أنا والغلام وراءه والعجوز من وراءنا ).
فعلى الإنسان أن يكون له من بيته مكان يذكره بالله، إذا مر منه تذكر أن هذا المكان حقه أن يذكر الله فيه، وأن يصلى فيه لله.
وكذلك من آداب الذكر: أن لا يجهر الإنسان به جهراً شديداً، فرفع الصوت في الذكر رفعاً شديداً يمنع التبجيل له والتوقير، وحتى في الأذان الذي يطلب به رفع الصوت ينبغي للإنسان أن يدخر بعض جهده في رفع الصوت به؛ ولذلك فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ذهابه إلى بيت المقدس لفتحه، وفي خطبته المشهورة في الجابية -أي بالأردن- سمع رجلاً يؤذن فرفع صوته رفعاً غير معتاد فقال له: أما تختشي يا هذا! أن تنشق بريداؤك، والبريداء هي أسفل البطن تسمى المريداء والبريداء، قال: أما تختشي يا هذا! أن تنشق بريداؤك، والله سبحانه وتعالى أرشد إلى عدم الرفع الكثير للصوت بالذكر، قال: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ [الأعراف:205].
وكذلك من آداب الذكر: الإفصاح فيه، وأن يكون الإنسان فصيحاً فيه، فلا بد أن يكون الإنسان في حال ذكره غير مستعجل حتى يضيع الحروف، ولا يخرج عن مخارجها، وأن يكون معرباً له، فالإنسان الذي يلحن في ذكره معتد في الذكر وبالأخص إذا تعلق ذلك اللحن بإخلال باسم من أسماء الله، كما قال ابن هلال رحمه الله:
نفوا من اسم الله الهاءِ فألحدوا في أعظم الأسماء
فالإلحاد في أسماء الله منه الإلحاد في ألفاظها، أن ينطق الإنسان باسم من أسماء الله محرفاً، فهذا من شأن اليهود عليهم لعنة الله، فهم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه كما قال تعالى: وَإِذْ قِيلَ لَهُمْ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ [الأعراف:161] حولوها إلى حنطة وكنوا عنها أيضاً؛ فلذلك لا بد أن يتقن الإنسان لفظه بالذكر، وأن يقوم لسانه به؛ ولهذا إذا كان الإنسان يذكر بجملة سرداً لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، فعليه أن يعرب وأن لا يجمع بين الوقف والوصل لما في ذلك من اللحن؛ لأنه إذا أسكن فهو واقف، وإذا وصل مع الوقف فذلك لحن، ومثل هذا: سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله، لا يقف إلا عند منقطع صوته.. وهكذا إذا خالف ذلك فقد لحن في ذكره، وهذا مناف لهذا الأدب من آداب الذكر.
كذلك من آداب الذكر أيضاً: الاجتماع عليه، فمن ذكر الله سبحانه وتعالى النافع الذي تتعدى بركته: أن يكون الإنسان إذا وفق لذكر الله يدعو أهل بيته لذكر الله، وأن يتعاونوا على ذلك، ويدعو أصحابه أن يجلسوا جلسات إيمانيةً يذكرون الله فيها، ويثنون عليه بما هو أهله، وأن يكافئ من أثنى على الله من أهل بيته أو من أصحابه على ذلك، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، ( فقد جاء أعرابي فوقف في جانب المسجد فأثنى على الله فأبلغ الثناء، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعاً إلى بيته، فجاء بذهيبة فقال: خذ هذا لحسن ثنائك على ربك ).
فالذي يشجع أهل بيته على الثناء على الله سبحانه وتعالى عامل بأمر الله تعالى في التعاون على البر والتقوى؛ ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن لله ملائكةً سيارين في الأرض بغيتهم حلق الذكر، فإذا وجدوهم حفوهم بأجنحتهم وتنادوا: أن هذه بغيتكم ) وفي رواية: ( حفوهم بأجنحتهم إلى سماء الدنيا، وتنادوا: أن هذه بغيتكم، فإذا انفضوا ارتفعوا إلى ربهم فيسألهم وهو أعلم: ماذا يقول عبادي؟ فيقولون: يحمدونك ويكبرونك ويهللونك، فيقول: وهل رأوني؟ فيقولون: لا، فيقول: فكيف لو رأوني؟ فيقولون: وعزتك وجلالك لو رأوك لكانوا لك أشد ذكراً، فيقول: وماذا يسألونني؟ فيقولون: يسألونك الجنة، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا، فيقول: فكيف لو رأوها؟ فيقولون: وعزتك وجلالك لو رأوها لكانوا لها أشد طلباً وعليها أشد حرصاً، فيقول: ومن ماذا يستعيذونني؟ فيقولون: يستعيذونك من النار، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا، فيقول: فكيف لو رأوها؟ فيقولون: وعزتك وجلالك لو رأوها لكانوا منها أشد خوفاً، فيقول: أشهدكم أني قد غفرت لهم، فيقول ملك فيهم: يا رب! فيهم عبدك فلان وليس منهم إنما جاء لحاجته فيقول: هم القوم أو الرهط لا يشقى بهم جليسهم ).
فهؤلاء يغفر لهم جميعاً، ويشهد الله ملائكته على المغفرة لهم أجمعين، وهذا فضل عظيم من أفضال الذكر، ومزية عظيمة من مزاياه، ومن مزايا الاجتماع عليه، فالناس يجتمعون على أمور الدنيا التافهة، ويتناقشون فيها، فكيف لا يجتمعون على أعظم شيء في هذه الأرض وهو ذكر الله وما والاه؟ ( الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه )؛ فلذلك لا بد أن يكون للمؤمنين مجالس لذكر الله سبحانه وتعالى يقام فيها الذكر، ويتعود فيها على ذكر الله، والثناء عليه.
وفي حديث ابن عمر في سنن الترمذي بإسناد حسن: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يجلس مجلساً فيقوم منه حتى يدعو بهذا الدعاء: اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك )، وهو الدعاء الذي ندعو به في أدبار المجالس.
وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم كان يكثر تقطيع الكلام بالذكر، وهذا من آداب الذكر: أن يقطع الإنسان كلامه بذكر الله، فقد كان يعد له في المجلس الواحد أكثر من مائة مرة أن يقول: ربي اغفر لي، أكثر من مائة مرة، وقال: ( أيها الناس! توبوا إلى الله واستغفروه؛ فإني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة )، ( وكانوا يعدون للنبي صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة أن يقول في ذلك المجلس: ربي اغفر لي، ربي اغفر لي، ربي اغفر لي ).
ومثل ذلك: تقطيع الكلام بـ: لا إله إلا الله، وبالتسبيح، فهذا مما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أصحابه يفعلون، وفي حديث عائشة : كانت هجيرا أبي بكر : لا إله إلا الله، والهجيرا: الكلمة التي تتردد على لسان الإنسان إذا سها قالها، وإذا تألم قالها، وإذا استيقظ قالها، وإذا فوجئ بأمر قالها، هزيرا الإنسان: الكلمة التي يتعود عليها في كل الأوقات، فهزيرا أبي بكر أن يقول: لا إله إلا الله في كل الأوقات.
كذلك فإن هذا الذكر أيضاً خبيئة للإنسان تفتح له خزائنه، وهذه الخزائن العظيمة لا يقدر الإنسان ما فيها من جزيل الثواب، وما يدخره الله سبحانه وتعالى له فيها من الفضل العظيم، فقد أعد الله سبحانه وتعالى جزاءً عظيماً للذاكرين الله كثيراً والذاكرات، فمنه مغفرة الله سبحانه وتعالى، وكذلك رضوانه، فالله تعالى ارتضى لعباده أن يؤمنوا به وألا يشركوا به شيئاً، وارتضى لهم ذكره.
وقد كان عدد من الأئمة ينهون عن إكثار الكلام في غير ذكر الله، ويبينون خطر ذلك على حياة القلب، وقد أخرج مالك في الموطأ و أحمد في الزهد عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه بلغه أن عيسى ابن مريم كان يقول: لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلىً ومعافىً، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية.
وقد أخرج مسلم في الصحيح بعض هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر ، قال ابن القيم : هذا الحديث خرج من مشكاة النبوة سواءً كان من كلام عيسى أو من كلام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فهو حق ومتضمنه صدق.
فتعودنا على ذكر الله سبحانه وتعالى أيضاً من آثاره: أن يتعرف الله علينا في الشدة، وقد ورد بالأمس في كلمة الإمام الحديث عن قصة يونس بن متى عليه السلام، فإنه ذكر الله سبحانه وتعالى تعريضاً في حول نزول البأس به، فقال: لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]، وبين الله أنه استجاب له وهو لم يدع بالتصريح ولكنه دعا بالتعريض حين قال: لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ [الأنبياء:87-88]، وكان ذلك من عجائب أمر الله سبحانه وتعالى فإن الله من سنته أن لا يرد بلاءً قد نزل بقوم إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [يونس:98].
ولذلك فإن ذكر هذا النبي لله سبحانه وتعالى كان سبباً في نجاة قومه من العذاب بعد أن رأوه، فرد الله عنهم العذاب، وأخرجه هو من بطن الحوت ومن الظلمات الثلاث، وأنبت عليه شجرةً من يقطين، وأرسله إلى قومه فآمنوا به جميعاً، فأتم الله عليه نعمته بإيمان قومه، وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [الصافات:147-148].
لا بد إخواني أن نتعود على ذكر الله، وأن ينصح بعضنا بعضاً في ذكر الله، وأن نعلم أن إكثار الكلام في غيره لا خير فيه، وأن هذا الذكر هو حياة للقلوب، وإشغال للجوارح بما خلقت من أجله، وفيه كذلك تعرض لنفحات الله كما سبق، ولاستجابة الدعاء، وأيضاً فيه شغل لنعم الله سبحانه وتعالى فيما يرضيه، واستغلال لخلق الله في ذلك، فهذا الذكر تسعد به السموات والأرضون، فهو يرفع إلى الله سبحانه إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10]، فيصعد إليه هذا الكلم الطيب، وبذلك تستبشر به السموات والأرضون، والملائكة عليهم السلام عندما أبلغهم الله سبحانه وتعالى بخلق آدم واتخاذ خليفة في الأرض قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة:30]، وهذا دليل على أن هذه الأرض ينبغي أن تشغل بالتسبيح والتقديس لله، وأن لا تشغل بالمعاصي، أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة:30].
ومن هذه الآداب: أن الذكر لا يحتاج فيه إلى إسناد، فبالإمكان أن يذكر الإنسان الله سبحانه وتعالى بأي ذكر دون التقيد بعدد إلا ما جاء به النص في تقييده، ولا يحتاج الإنسان إلى أن يأخذه عن غيره، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بلغ الرسالة، وأنهى ذكر الله سبحانه وتعالى بأنواعه كلها، وقد بلغ ذلك للأمة كلهم، فلا يحتاج أحد إلى طلب إسناد فيه ولا أخذه عن أي أحد.
كذلك من آدابه: ما يتعلق بالأعداد، فما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم تحديده بعدد محدد كأذكار ما بعد الصلاة، وكأذكار الصباح والمساء ونحو ذلك فيتقيد فيه بالعدد الذي ورد فيه الوحي، أما ما لم يرد فيه تقييد فيبقى على إطلاق الكثرة الذي ورد في قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً [الأحزاب:41]، وفي قوله تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10].
وكذلك فإن الأذكار لم تقيد أيضاً بهيئات، ولا طرق محددة، بل أطلقها الشارع في هذه النصوص السابقة الذكر.
كذلك من الآداب فيه: أن يكون بما هو جملة، فلا يكون الذكر إلا بالجمل التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم ذكراً لله: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.. ونحو ذلك.
أما الذكر بالأسماء المفردة فالراجح أنه لا يعتبر ذكراً لله سبحانه وتعالى؛ لأنه ليس من المركبات، والكلام المفيد لا بد أن يكون مركباً، ولا بد أن يكون جملةً، وذكر المفرد لا يدل على ذلك، والذين رأوا جواز الذكر بالاسم المفرد استدلوا بحديث: ( لا تقوم الساعة حتى لا يبقى على الأرض من يقول: الله الله )، لكن المقصود بذلك: من يعرف الله سبحانه وتعالى ويذكره فهو لا يقصد بذلك تخصيص هذا الاسم بخصوصه، واستدلوا أيضاً بحديث بلال أنه كان يقول عند إيذاء أمية بن خلف له: ( أحد أحد )، وهذا ليس ذكراً بالاسم المفرد، وإنما هو رد لإشراك المشركين حين كانوا يدعون من دونه آلهةً أخرى، فكان بلال يبين لهم أنه إله واحد؛ فلذلك إنما يذكر الله سبحانه وتعالى بالجمل المركبة المفيدة التي بينها الشارع ذكراً لله عز وجل.
وكذلك لا يذكر الله بالأذكار الأعجمية في حق القادر بالعربية، فمن كان قادراً على النطق بالعربية فذكره هو ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من الألفاظ العربية، أما من كان عاجزاً عن العربية ولا يستطيع النطق بها، ويعرف معاني الذكر بلغته، فيمكن أن تترجم له هذه الأذكار: الحمد لله، سبحان الله، لا حول ولا قوة إلا بالله.. وهكذا، فيأتي بها على نحو ما يتكلم في لغته، وقد اختلف في أذكار الصلاة، فالراجح أنها لا بد فيها من العربية حتى الناطق بالأعجمية لا بد أن يتعلم من العربية ما يقيم به أذكار الصلاة، وإن كان العربي قادراً على بعض النطق بألفاظ العربية، ولكن بعض الحروف لا يستطيع النطق به، فإن كان ذلك الحرف الذي لا يستطيع النطق به إذا فصل عن الكلمة لم تؤد معنىً أصلاً لم يذكر بالكلمة الناقصة، وإن كان الحرف إذا سقط من الكلمة بقيت دلالتها على معنىً فقد قال بعض أهل العلم: ينطق بذلك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم )، وهذا مثل الذي لا يستطيع النطق بالهمزة والكاف مثلاً من أكبر فيقول: الله بر، فهذا يؤدي إلى معنىً؛ لأن الله هو البر، والعاجز عن النطق بالهمزة والكاف قد قدر على النطق بما هو مفيد له معنىً، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم )، أما إذا كان قادراً على النطق فقط بالهمزة والكاف وهذا لا معنى له، فلا يؤمر بذلك؛ لأن المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم: ( ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم )، أي: ما كان قائماً بنفسه مؤدياً للمعنى المقصود، أما ما لا قيام فيه بنفسه، ولا تأدية لمعنىً مقصود، فلا يمكن أن يكون داخلاً في الأمر النبوي، وعلى هذا فالألفاظ التي يزعمها بعض الناس أذكاراً لله ولا يعرف معناها في لغة من اللغات، هذه مما لا يذكر الله به.
وكذلك الذكر بالضمائر كما يزعم بعض الناس أنه مما يذكر الله به هو مثلاً أو نحو ذلك، فهذا ليس ذكراً لله سبحانه وتعالى، وهو مردود من باب أولى في الذكر بالاسم المفرد، ومن المعلوم أن الضمير وحده لا يفهم معناه ما لم يكن له مفسر، ومفسره يقتضي ذكراً سابقاً عليه؛ فلذلك لا فائدة من ذكر الضمير وحده.
كذلك من آداب ذكر الله سبحانه وتعالى: أن يلتزم الإنسان بالأذكار المخصوصة في الأوقات المحددة، فمثلاً حدد النبي صلى الله عليه وسلم أذكاراً في أوقات الأزمات، كالذكر في وقت الكرب، وهذا الذكر هو أفضل ما يقال في وقت الكرب، وعلى الإنسان أن يحافظ عليه وهو: ( لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات السبع ورب الأرض ورب العرش الكريم )، فهذا الذكر في أوقات الكرب مطلقاً، أي: كرب دخل على الإنسان يشرع له أن يذكر بهذا الذكر، وهو يدل على أن الإنسان في أضيق أوقاته ينبغي أن يخلص العبودية لله سبحانه وتعالى، وأن يذكره بما يقتضي توحيده من الذكر الذي فيه ثناء عليه وتوحيد له، وإسناد الملك كله إليه، فالذي يقول: لا إله إلا الله العظيم الحميد يتذكر عظمة الله وجلاله، ويتذكر كذلك مغفرته وحلمه عن المخطئين من عباده، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، يتذكر كذلك عموم ملك الله سبحانه وتعالى، فالسموات السبع والأرضون السبع كدراهم نثرتها في كرسي بالنسبة للكرسي، والكرسي في العرش كحلقة في فلاة، وهذا يدل على عظمة الله وجلاله وكبريائه، فالسموات السبع والأرضون السبع في الكرسي كدراهم نثرتها في كرسي، والكرسي في العرش كحلقة في فلاة.
فمن تذكر ذلك عرف أن المخلوق لا يمكن أن ينازع الله ملكه، وأن الملك كله لله الملك الديان ذي الجلال والإكرام، وأنه لا يمكن أن يقع أي تصرف في هذا الكون إلا بأمره سبحانه وتعالى وإرادته، فهو قيوم السموات والأرض، وتدبير كل شيء بيده.
ومن هنا لا يمكن أن يلجأ إلى مخلوق، ولا أن يجأر بدعائه من دون الله، بل لا بد أن يسند حاجته بالله سبحانه وتعالى، وأن يتوكل عليه وحده؛ ولذلك يقول: لا إله إلا الله رب السموات السبع ورب الأرض ورب العرش الكريم، فيعيد ذلك أيضاً.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أوقات الكروب أيضاً يدعو بأدعية مخصوصة مثل أدعية القنوت في الصلاة، فقد كان يدعو باستنقاذ المستضعفين من المسلمين، فقنت شهراً بالدعاء لثلاثة من قريش من المستضعفين الذين آذاهم أهلوهم في سبيل الله، وخصوصية هؤلاء شدة أهليهم عليهم، ومن المعلوم أن أذى القريب أشد على الإنسان من أذى الغريب؛ ولذلك يقول الحكيم:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضةً على المرء من وقع الحسام المهندِ
فكان هؤلاء يؤذيهم أقاربهم؛ فلذلك دعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يقول: ( اللهم أنج الوليد بن الوليد و سلمة بن هشام و عياش بن أبي ربيعة )، وهؤلاء الثلاثة كلهم من بني مخزوم، وكذلك في دعائه على المشركين كقوله: ( اللهم العن عصية ورعلاً وذكوان )، ومثل قوله لـابن أبي لهب حين بصق في وجهه: ( اللهم سلط عليه كلباً من كلابك )، ومثل دعائه على قريش جميعاً ( أن يجعلها الله عليهم سنين كسني يوسف ).. وهكذا، فكان ذلك في أوقات الأزمات والمشكلات.
وكذلك فإن من هذه الأذكار ما يتعلق بأذكار المطر والمواسم، (
وهذا من شدة خوفه من الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك وصف نفسه بذلك فقال: إن أعلمكم بالله، وأخشاكم لله أنا )، فكان يذكر عند نزول المطر، ( وكان إذا بدأ نزوله كشف له عن كتفيه وقال: إنه حديث عهد بربه ).
وقد جاء الحض على الدعاء في وقت نزول المطر وأنه مستجاب؛ لأنه ينزل في أكف الملائكة تتنزل به.
وكذلك عند سماع أصوات الديكة، ومثل ذلك الاستعاذة من الشيطان الرجيم عند نهيق الحمر الأهلية، وكذلك كان إذا أوتي بباكورة من الثمر أيضاً يدعو دعاءً مخصوصاً، وقد جيء بباكورة من ثمر المدينة، فقال: ( اللهم بارك لنا في مدينتنا، اللهم بارك لنا في مدنا وصاعنا، واجعل مع البركة بركتين )، ودعاؤه للمدينة ما زالت آثاره باديةً إلى الآن، فإنه صلى الله عليه وسلم دعا لها بالبركة في عدد من الأحاديث الصحيحة، فقال: ( إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها، وإني أحرم المدينة وأدعو لها بضعفي ما دعا به إبراهيم لمكة، قال: اللهم اجعل في المدينة ضعفي ما جعلت في مكة من البركة ).
وكان إذا جيء بتلك الباكورة فدعا نظر إلى أصغر أحد في مجلسه فأعطاه ذلك الثمرة؛ وهذا من الرحمة بالصغار، وهو من وسائل الاستجابة والبركة أيضاً اقتداء النبي صلى الله عليه وسلم فيه.
وكذلك من الآداب المختصة بالذكر أيضاً: أن يكون الذاكر لله سبحانه وتعالى في حال اعتدال وتوازن، فالإنسان الذي يذكر وهو مشغول شغلاً يؤثر على خشوعه في ذكره لا يستقيم ذكره؛ لأنه يمكن أن يحضر في بعض الذكر ويغيب في بعض، فلا يكون ذكره كاملاً، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم من غلبته عيناه في النوم عن المواصلة في القراءة والصلاة، فإنه يريد أن يثني على الله، أو أن يقرأ القرآن فيسب نفسه؛ فلذلك أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالنوم إذا غلبه النوم، ويكون بذلك النوم ذاكراً لله؛ لأنه فعله بنية العبادة؛ ولهذا قال أبو الدرداء رضي الله عنه: إني لأحتسب في نومتي ما أحتسب في قومتي.
فهذا من تمام النية أن تصير المباح مندوباً، أو أن تتعدد النية للمندوب الواحد حتى يكون عدداً من العبادات، وكل ذلك من تزكية العمر الذي هو محتاج إلى التنمية.
وكذلك من آداب الذكر: أن ينوع الإنسان فيه، فيمكن أن يتقبل منه بعض الأذكار، ويمكن أن يتعرض بهذه النفحات لله سبحانه وتعالى دون بعض؛ فلهذا ينبغي للإنسان أن ينوع في الذكر بالتسبيح، والحمد، والتكبير، والتهليل.. وغير ذلك.
وما ورد من الأحاديث في تفضيل بعض الأذكار إنما يعارضه أيضاً ما جاء في تفضيل أذكار أخرى تقابلها، فيعلم بذلك أن المقصود الحض على الذكر مطلقاً لا على خصوص ذلك الذكر الوارد في ذلك الحديث، ومن هنا فحضه صلى الله عليه وسلم على (سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)، وحضه على (سبحان الله والحمد لله)، كلاهما يقتضي أن هذا الذكر فاضل مطلقاً، ولا يقتضي تفضيل أحد الذكرين على الآخر، وأما قوله: ( تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض ) وقوله: ( تملأ الميزان )، فقد اختلف أهل العلم في الجمع بين ذلك، فقيل: ملء الميزان أكبر مما بين السماء والأرض؛ لأن ما يملأ ما بين السماء والأرض سيكون في الميزان أيضاً، فقوله: ( تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض ) هما قطعاً من الحسنات، والحسنات كلها ستكون في الميزان، فدل ذلك على أن ما بين السماء والأرض كله يتسع له الميزان؛ فلذلك كان قوله: ( تملأ الميزان ) أكبر، و ( سبحان الله، والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض )، ومع ذلك فسبحان الله تملأ الميزان، فدل هذا على أنه لا يقصد الحض على ذكر مخصوص دون غيره؛ لأنه ذكر الفضل فيهما معاً، والفضل الذي ذكر في (سبحان الله) وحدها أكبر من الفضل الذي ذكر في (سبحان الله والحمد لله).
كذلك فإن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من الأذكار التي لا ينبغي أن يخلو منها دعاء ولا ذكر، فإن الله حض على ذلك في كتابه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من صلى علي مرةً صلى الله عليه بها عشراً ).
وصح عنه أنه حض على الإكثار من الصلاة عليه في يوم الجمعة، وذكر أنها معروضة عليه، فقال: ( أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم ، وفيه أهبط، وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مؤمن يسأل الله حاجةً إلا أعطاه إياها، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مطرقة مسيخة من طلوع فجره إلى طلوع شمسه تنتظر الساعة إلا الإنس والجن ).
والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أفضلها الصلاة الإبراهيمية التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث كعب بن عجرة وغيره، ( فقد قالوا له حين نزل قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] قالوا: أما السلام عليك فقد عرفناه فعلمنا كيف نصلي عليك؟ فعرفهم هذه الصلاة )، وقد جاءت بعدد كثير من الصيغ الثابتة، فهي عموماً أفضل صلاة يصلى بها على النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فما سواها من الصلوات التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بها على نفسه، وكان أصحابه يصلون عليه بها، مثل الجملة المختصرة: صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو صلى الله عليه وآله وسلم، ونحو ذلك فهذه جملة مختصرة إنما هي عند ذكره للكلام، فهي حينئذ أفضل كما درج عليه أهل الحديث جميعاً في التحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم اختاروا هذه الجملة المختصرة؛ وذلك لئلا يقطع حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فقد نصوا على أن الحديث لو لم يرد فيه ذكر للصلاة فيجوز أن تدخل فيه الصلاة، وليس ذلك كذباً على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله حض على الصلاة عليه؛ ولأنه هو أمر بالصلاة عليه، حتى لو جاء الحديث فيه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم دون ذكر الصلاة عليه فيجوز لك أن تصلي عليه صلى الله عليه وسلم في أثناء الحديث، ولا يكون ذلك تغييراً لروايته، ولو صليت عليه بلفظ آخر فإن ذلك جائز ما دام منسجماً مع ما ذكر معناه ما دام بلسان عربي واضح معروف.
وأيضاً لا بد من اجتناب ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم في ذكره هو والثناء عليه، فإنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الإطراء فقال: ( لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم )، وهذا الإطراء معناه أن يوصف ببعض أوصاف الألوهية أو نحو ذلك، فهذا مما جاء في نقضه وهدمه، ورسالته كلها مبنية على إخلاص الله سبحانه وتعالى بالعبودية، وهذا الذي بعث به النبي صلى الله عليه وسلم فلا يمكن أن يخالفه مؤمن في أصل رسالته وما جاء به، وهذا الإطراء مثله القول على الله بغير علم، فإن كثيراً من الناس يثني عليه بكثير مما لم يرد ومما لا يمكن أن يعلم باجتهاد، بل لا بد أن يكون بتوقيف بنص، ومع ذلك فقد تسامح في هذا كثير من الناس وأكثروا فيه الكلام، والنبي صلى الله عليه وسلم يكفي في الثناء عليه ما أثنى الله به عليه، وقد بين الله سبحانه وتعالى مزيته ومنزلته وأنه أعظم الخلق مزيةً عنده، وسورة الضحى والتي بعدها كذلك تدل على هذا، وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى [الضحى:1-8].
والسورة التي تليها كذلك يقول الله فيها بسم الله الرحمن الرحيم: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:1-4].
فكل ذلك رفع لمنزلته صلى الله عليه وسلم، وتنويه بمقامه العالي عند الله سبحانه وتعالى، فلا حاجة به صلى الله عليه وسلم إلى الإطراء بما لم يرد، فيكفي في الثناء عليه ثناء الله عليه سبحانه وتعالى؛ ولذلك يقول أحد الشعراء:
أبعد ثناء خالقنا تعالى على طه ثناء للورى لا
فما أبقت على خلق كريم مؤكدةً لمخلوق مقالا
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
فلذلك ينبغي للإنسان في دعائه وفي ذكره أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بألفاظ الواردة، وإذا تعداها فإن عليه ألا يبالغ في الغلو، وألا يتجاوز الوارد، وأن يحذر من الإطراء الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر