بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين, وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد:
فإن الله سبحانه هو المدبر الخلاق, وقد خلق خلقه فدبر شئونهم بإرادته وقدرته: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ[الأنبياء:23], وقد جعل بعضهم عالةً على بعض، فجعل بعضهم يملك من الوسائل والأدوات والعقليات ما يتجاوز حدود حاجته, وجعل بعضهم لا يملك إلا قدر حاجته، وجعل بعضهم يملك أقل من حاجته؛ وذلك ليترابطوا فيما بينهم ويتعاونوا ويتآخوا؛ لأن الإنسان إذا وجد ما يغنيه ويكفيه ولم يجد نفسه محتاجاً إلى غيره بوجه من الوجوه لم يكن له اتصال بالخلق, فاحتاج إذاً إلى أن يعطي ما يحتاج إليه غيره، وأن يحتاج هو إلى ما لدى غيره حتى يقع التبادل, وهذا التبادل هو أساس الثقة وأساس بناء الصداقة والمعرفة.
وقد جعل الله سبحانه وتعالى أوجه التصرف والكسب في هذه الدنيا التي يحصل منها على الأرزاق منوعةً متفاوتةً، وجعل الرغبة فيها متفاوتة كذلك, ولو أن الله تعالى حصر البشرية جميعاً في صعيد واحد فخيرهم وسألهم جميعاً: من أي أوجه الرزق تحبون أن ترزقوا؟ لما اختار أحد إلا أكثرها جزاءً وأقلها تعباً, وحينئذ ستتوقف كثير من المصالح التي يحتاج الناس إليها.
لو أنه سبحانه وتعالى خيرنا جميعاً لما اختار أحد منا الاشتغال في المناجم تحت الأرض, ولما اختار أحد منا الغوص في أعماق البحار, ولما اختار أحد منا أن يشتغل بدفن القمامات وإزالة الأوساخ من الطرقات, بل لما اختار كثير منا أن يرزق من الطب والعلاج لكثير من الأمراض, ولما اختار كثير منا أن يرزق من المهن التي يحتقرها الناس ويظنونها ناقصةً نازلة, والواقع أن جميع المهن والأعمال شريفة؛ لأن صاحبها يكتسب بها ويستغني بما آتاه الله عن الحرام, ويستغل الطاقة التي جعلها الله فيه في وجهها الصحيح, فكل مهنة يمتهنها الإنسان وينتج من خلالها ما فيه خدمة لأهل الأرض فهي مهنة شريفة.
أما المهنة التي لا تقبل وهي غير شريفة فهي ما ليس فيه نفع لأهل الأرض وفيه معصية للخالق سبحانه وتعالى، فهذا الذي لا خير فيه حتى لو كان من ورائه الأرباح الطائلة، ولو كان مكاناً مرموقاً لدى الناس ومنزلة سامقة إلا أنه لا يرضي الله تعالى فلا خير فيه.
فلذلك على الإنسان المدرك لهذه الحكم الربانية أن يعلم أن توزيع الله سبحانه وتعالى للأرزاق سابق على الخلق, وأن كل إنسان كتب معه وهو جنين في بطن أمه رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد, وقد رفعت الأقلام وجفت الصحف عما هو كائن.
فإذا جاءته السراء وفتحت عليه الدنيا أبوابها فذلك امتحان له من الله, وإذا جاءته الضراء وقدر عليه في رزقه فذلك امتحان من الله تعالى، وقد قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ[الأنبياء:35], فكل ذلك امتحان من الله سبحانه وتعالى والمآب إليه، ويجازي كل إنسان على ما وقر في قلبه وما تحقق منه, فالناس لا يعاملون لدى الله فيما نعاملهم نحن به من الظواهر, فليست العبرة بكثرة العمل ولا بحسن الصورة ولا باسم الوظيفة العالية ولا بالمكانة الاجتماعية، هذه الأمور لا ينظر الله إليها يوم القيامة: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم, وإنما ينظر إلى قلوبكم).
قد يكون الإنسان في هذه الحياة الدنيا ممن لا يؤبه به, ولكنه لو أقسم على الله لأبره, قد يكون مغموراً بين الناس ليس له أية مكانة ولا أية وظيفة, يلبس طمرين مخرقين, ولكنه لو أقسم على الله لأبره, ومكانته عند الله عالية جداً, وهذه الحكمة لا بد من الانتباه لها، فقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم عليها في كثير من دروسه العامة, فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم ( أنه كان في مجلس من أصحابه فمر رجل من المنافقين من الأغنياء فقال: ما تعدون هذا فيكم؟ قالوا: هذا سيد من سادة الناس، جدير به إذا خطب ألا يرد, وإذا تكلم أن يستمع إليه, فسكت، فمر رجل من فقراء المهاجرين فقال: ما تعدون هذا فيكم؟ قالوا: مسكين من مساكين المسلمين، جدير إذا خطب ألا يجاب، وإذا تكلم ألا يستمع إليه, قال: هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا ), هذا المسكين الذي لا يؤبه له خير من ملء الأرض من مثل هذا.
وكذلك لما ( صعد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه -وهو من فقراء المهاجرين وكان نحيفاً- في شجرة يأخذ منها سواكاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، رآه بعض الصحابة فضحكوا من حموشة ساقية، أي: رقتهما, فقال: أتضحكون من حموشة ساق ابن مسعود ؟ فلهي عند الله أثقل من جبل أحد ).
وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم بين لـأبي ذر رضي الله عنه كما في الصحيحين هذا البون الشاسع والفرق الكبير بين منظار الناس في الدنيا، والمنظار الذي به القيمة الحقيقية في الآخرة, فقال: (إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من عمل في المال هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وبين يديه ومن خلفه).
فهؤلاء المكثرون في الدنيا هم الأقلون يوم القيامة ( إلا من اتقى وبر وصدق ) كما في الحديث الآخر, وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم التجار ذلك، فقد صح في حديث أبي هريرة : ( أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى السوق في وقت اشتغال الناس بالعيد عندما جاء أناس يشترون ويقبلون على أمور الدنيا فمر بجدي أسك -أي: به عيب في أذنيه فهما صغيرتان خلقةً- وهو ميت جيفة, فقال: من يشتري هذا؟ فأقبل الناس عليه يظنونها بضاعةً يبيعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظروا فإذا هو جدي ميت أسك, قالوا: يا رسول الله! لو كان حياً لكان عيباً فكيف وهو ميت؟ لا أحد يشتريه ), فبين لهم أن قيمة الدنيا عند الله كقيمة هذا الجدي, ( فلو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء ).
ومن هنا فإن على الإنسان أن يرضى بقضاء الله سبحانه وتعالى وقدره، وأن يجمل في الطلب، وأن يأخذ الدنيا من حلها، وأن يضعها في محلها, وأن تكون في يده لا في قلبه, وألا يتعلق بها قلبه، فهي مجبولة على الكدر والمشكلات, إذا زادت عن الحاجة كان الإنسان في ورطة ومشكلة لا حصر لها؛ لأنه سيحملها على قلبه، وكل نقص فيها سيكون الطامة الكبرى لديه, وإذا نقصت عن الحاجة تعلق الإنسان بها وطلبها، وأتعب نفسه في الطلب, فيحتاج الإنسان إلى هذا التوسط في طلبها، وأن ينظر إليها على أن طلبها هو من الأسباب، وقاعدة الأسباب: التوكل على الأسباب شرك وتركها معصية.
فيعمل الإنسان الأسباب في طلب الدنيا، لكن مع ذلك لا يتوكل عليها, ويعلم أنها لا تغير شيئاً من قضاء الله وقدره, وقد قال الله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ[الحديد:23], أي: حكمة الإيمان بالقدر وكتابته: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ[الحديد:22-23], أي: لا تحزنوا على ما عدمتم من أمور الدنيا: وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ[الحديد:23], فإذا جاءت السراء فعليك أن تتذكر الضراء أيضاً فلا تفرح فرحاً مقيتاً، فإن الله لا يحب الفرحين, وإذا جاءت الضراء فتذكر أيضاً أن بعدها سراء، وأن الجميع من عند الله سبحانه وتعالى، ومن هنا لن تستكين ولن تذل, بل ستبقى راجياً لما عند الله تعالى مستعداً له.
وإدراك الإنسان لهذا يقتضي منه أن يعرف الوقت الذي ينبغي أن ينفقه في طلب المال وفي الاكتساب؛ لأنه إذا لم يحدد لذلك حداً فسيطلب إلى غير حدود, كالذي يجري وليس له حد ينتهي إليه, فلا بد أن يموت في جريه, كذلك الذي يجمع ويجمع ويجمع الدنيا ليل نهار, يواصل جمع الليل بجمع النهار, إلى متى وهو يجمع؟ إلى الموت, حده ونهايته الموت.
فيحتاج الإنسان إلى أن يجمل في الطلب, وأن يجعل لنفسه أوقاتاً لعبادته وراحة قلبه وأوقاتاً للطاعات والإنفاق مما في يده, وأوقاتاً أخرى للاكتساب الحلال, وأوقاتاً أخرى لتشريد ما عنده وترتيب أولوياته, وأوقاتاً أخرى لمحاسبة نفسه على ما أحرز وما أنعم الله عليه, وكل هذه الأوقات يعدل فيها ولا يقضي بعضها على بعض, فإنه لو قضى بعضها على بعض فكان وقت الإنسان مشغول الليل والنهار، فكيف يكون من العابدين؟! وكيف يكون من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات؟! كيف يكون من الذين يرجون أن يبيض الله وجوههم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه, وهو ليس من المبادرين إلى المساجد، ولا من المجيبين لداعي الله, ولا من الذين يشهدون الدروس والمواعظ التي تشهدها الملائكة، ويكتب أصحابها على أبواب المساجد, وليس من المتصدقين البالغين, ولا من المهتمين بشأن المسلمين؟! كيف يرجو هذا الدرجات العلى من الجنة وهو مشغول ليله ونهاره بأمور الدنيا الفانية؟!
قد يحتاج الإنسان إلى أن يعلم أن للدنيا وقتاً لجمعها، ووقتاً لاستغلالها؛ حتى لا يكون عبداً لها تستغله ولا يستغلها، لا بد أن يدرك ذلك, وإذا أدركه فلنعلم أننا جميعاً تجار، فما من أحد مكلف إلا وهو تاجر, وتجارته رأس مالها العمر, وربحها الطاعة, فرأس المال العمر الذي كتب الله له, والربح هو ما ينفق فيه هذا العمل من الطاعات, وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بهذا فقال: (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها), الناس كلهم على هذين القسمين: تاجر رابح باع نفسه لله تعالى فأربحه لصفقته, وتاجر مفلس باع نفسه في هوانها وأذاها فأوبقها في عذاب الله نسأل الله السلامة والعافية.
فالناس جميعاً إذاً تجار، والوقت هو رأس المال, وفائدة هذا الوقت ما يقرب من الله سبحانه وتعالى من الطاعات.
لا بد أن ندرك أن التجارة هي وجه من أوجه الاكتساب المطلوب شرعاً ومن النشاط المأمور به, وهي من أنشطة الأنبياء فقد مارسوا التجارة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في تجارة خديجة إلى الشام مرتين, وكان صلى الله عليه وسلم يعرف في الجاهلية بالأمين, لا يبايعه أحد إلا وهو يعرف أمانته وصدقه, وكانوا يلقبونه المأمون؛ لكثرة ما يفي لهم, فكانوا يودعون عنده تجاراتهم وأموالهم في الجاهلية لأمانته وصدقه.
وكذلك غيره من الأنبياء فقد قص الله علينا في كتابه عدداً من صفقاتهم العجيبة, فهذا يوسف عليه السلام في صفقته مع إخوانه يعاملهم بمعاملة حسنة, ويتوصل بذلك إلى إرضاء والده وجمع شمل أسرته والتفضل على إخوانه بالصفح والمغفرة, وقد كان مكرماً لهم في ضيافته وافياً لهم في بيعته وتجارته.
وكذلك قص الله علينا العقد الذي عقده شيخ مدين مع موسى عليه السلام: أن يأجره ثماني سنين, وإذا أتم عشراً فمن تفضله هو من عند نفسه على أن ينكحه إحدى ابنتيه يختار هو منهما, فهذه صفقة من صفقات الأنبياء باقية مخلدة في كتاب الله المعصوم.
ومثل ذلك صفقة أصحاب الكهف التي بينها الله بكتابه: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى المَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا[الكهف:19], فهذه الصفقة يستشف من خلالها أيضاً كثير من صفات التجار الصادقين: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ[الكهف:19], فهو يعرف أنه مأمور لا أمير ومتصرف بالنيابة عن أصحابه: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ[الكهف:19], وهم شركاء فيها، وهو الذي ينوب عنهم بالشراء لهم جميعاً, وهذا يدل على أن الأصل في التجارة التعاون بين أهلها, وأن التاجر اقتصر على جهده الشخصي، فلا يمكن أن يستغني، بل لا بد أن يحتاج إلى جهد الآخرين.
فليبع التجار معاً وليشتروا بالشراكة وليتفقوا على نوع البضاعة، كل ذلك من الأمور المحمودة، فلذلك قال: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى المَدِينَةِ[الكهف:19], فهنا مكان السوق.
ثم بينوا نوع البضاعة المبتغاة: فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا[الكهف:19], معناه: أن التجارة لا يشترى لها ما فيه عيب ونقص وقصور، فهذا لا يرغبه المشتري, فلذلك قالوا: فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ[الكهف:19], وهنا تقللوا وتزهدوا ولم يقولوا: فليأتكم به جميعاً: فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ[الكهف:19], وكثير من التجار إذا ذهبوا لاشتراء البضاعة يتصلون فيقولون: نحن نحتاج إلى مبالغ كبيرة وفي ضرورة إليها لنشتري بها بضاعةً كبيرة, فيريدون التحايل على الربا، ولو اقتصروا على ما عندهم من المال لاشتروا به بضاعةً من الحلال، ولما دخلوا في تلك المشكلة التي يسألونها.
كثيراً ما أسأل أحدهم عندما يستفتي فيقول: أنا مضطر لأن أتعامل بهذه المعاملة, فأقول: مضطر في معاشك؛ في شربك؟ في أكلك؟ في لباسك؟ في سفرك؟ لست مضطراً له، إنما تريد به زيادةً في الربح، وليس هذا من الضرورة, اربح مما آتاك الله من حلال, وهو المبارك الذي يبارك لك فيه، واترك البقية إلى صفقة أخرى أو إلى رحلة أخرى إن شاء الله.
فلذلك قالوا: فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ[الكهف:19], من هدي التجار يختار المعاملة, فالتاجر إذا أراد أن يخاطب الناس كي يشتروا منه فلا بد أن يكون صاحب تلطف مع الناس حتى يشتروا منه, وهذا التلطف لا يقصد به الخديعة, وأن يضطرهم إلى شراء ما لا يريدون شراءه, بل المقصود به: حسن التعامل حتى يقع ذلك عن رضاً, فالرضا هو أصل التجارة كما قال الله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ[النساء:29], وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما البيع عن تراض).
وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا[الكهف:19], هذا واقعهم هم، لكنه مع ذلك يؤخذ منه: أن التجارة لها أسرار وينبغي الحفاظ عليها, فالمفشي لكل الأسرار الذي لا يستطيع كتمان سر لا يمكن أن يكون ناجحاً في التجارة, فالتاجر يحتاج إلى إخفاء الثمن الذي اشترى به، وإخفاء الربح الذي ربحه لئلا يحسد أن يعاند أو تتسلط عليه الأضرار من غير وجه شرعي، فلذلك يحتاج إلى الحصافة والنباهة: وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا[الكهف:19].
ثم إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً كان فيهم عدد كبير من التجار, وقد أثنى الله عليهم بذلك فقال: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ[المزمل:20], فبين في هذه الآية أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من أمته ثلاثة أقسام:
القسم الاول: الذين هم معذورون لضعفهم لا يستطيعون الجهاد في سبيل الله بسبب ضعف.
القسم الثاني: غير معذورين لضعفهم، لكنهم مشتغلون بمهام الدنيا الضرورية التي لو تعطلت لتعطل تمويل الدنيا كلها, وهم الضاربون في الأرض الذين يبتغون من فضل الله وهم التجار.
القسم الثالث: هم المجاهدون في سبيل الله لإعلاء كلمة الله.
إذاً هذه ثلاثة أقسام: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ[المزمل:20], والجميع مطالبون بالتعلم: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ[المزمل:20].
المرضى والضعفاء غير معذورين في تعلم ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه رسالة الله إليهم, والتجار غير معذورين كذلك؛ لأنه حظهم من رسالة النبي صلى الله عليه وسلم, والمجاهدون كذلك غير معذورين في تعلم ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فهو رسالة الله إليهم, فلهذا لا بد أن يتعلم الجميع.
ومن هنا نعلم أن التعلم من واجبات التجار كغيرهم من الناس, لا بد أن يكون لهم مشاركة في التعلم على حسب طاقتهم وما لا يضر بأعمالهم, ومعظم ذلك يندرج في السؤال إذا عرض للإنسان أي أمر يسأل عن حكمه كما قال الله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ[النحل:43].
وإذا استطاع أن يجعل لنفسه وقتاً لتعلم العلم الشرعي حتى يعرف الحلال من الحرام فهذا أكمل وأولى، فقد قال عمر رضي الله عنه: من لم يكن فقيهاً أكل الربا شاء أو أبى.
وكان يأمر بانتقال من ليس من أهل الفقه من السوق, فيحتاج الإنسان الذي يجلس في السوق ويتعامل مع الناس ويشغل التعامل حيزاً جيداً من وقته أن يعرف هذه الأحكام حتى لو لم يحتج إليها بخاصة نفسه، فسيحتاج إليها في إرشاد الآخرين ونصيحتهم وإسداء المعروف إليهم في إرشادهم إلى الصواب.
والتاجر المسلم الملتزم بحدود الله سبحانه وتعالى تعرف صفاته من وجهين:
الوجه الأول: الصفات النظرية العلمية, والوجه الثاني: الصفات التطبيقية العملية.
أما الصفات النظرية: فمن أولها: أن يكون صادقاً, فمن عرف بالكذب والغش فإنه لا يكون من التجار المسلمين، بل لم يتصف بصفات أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا), وقد ( مر صلى الله عليه وسلم بصرة من حب -أي: بطعام قمح في السوق- فأدخل يده فيه فأخرج منه بللاً في داخله كان صاحبه يستره فقال: ما هذا؟ من غشنا فليس منا, فالرجل اعتذر بأنه أصابه المطر فقال: هلا رفعته -أي: رفعت ما أصاب المطر منه- حتى يراه الناس ).
فلذلك لا بد أن يكون التاجر المسلم صادقاً, وقد يتوقع بعض الناس أن هذا مما يشق على كثير من التجار، ويظنون أن الربح المطلوب لا يمكن أن يتحقق مع الصدق, لكن الواقع خلاف ذلك، فالربح إنما هو ما بورك فيه, المال الكثير إذا كان الإنسان يصاب عنه بمرض عضال فلا يستطيع التصرف فيه ما فائدته؟ إذا جمع منه فأوعى ثم أصيب بمرض عضال فحرم عليه كل ما فيه دسم، وكل ما فيه سكر، وكل ما فيه أي شيء ستهواه نفسه ما فائدة جمعه له؟ هذا غير مبارك فيه.
فلذلك يحتاج الإنسان إلى أن يأخذ المال من حله حتى يبارك له فيه, وإذا كان صادقاً في تعامله يبين العيوب التي لا يرتضي هو كتمانها عنه, وينصح ولا يغش, فإن الله سيبارك له في صفقة يمينه.
الصفة الثانية: التقوى, أي: الخوف من الله, فالتاجر يؤتمن على كثير من الأمور, ومنها: صفات البضاعة التي يبيعها، ومنها: صفات الثمن الذي يأخذه ويتقاضاه, ومنها: ما يدخل على الصفقات كذلك من العيوب, وما تتعرض له من المشكلات, فكل هذه الأمور إذا لم يكن تقياً يخاف عذاب الله ويرجو ثوابه ويعلم رقابته فلا يمكن أن يكون صادقاً، بل لا بد أن يقع في أنواع ما وقع فيه بنو إسرائيل من قبلنا.
وهاتان الصفتان ركز عليهما النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه ابن ماجه في السنن و الحاكم في المستدرك بإسناد صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التجار هم الفجار, إلا من اتقى وبر وصدق).
(اتقى وبر), متكاملتان؛ لأن التقوى معناه في أصله الخوف؛ لأنه اتخاذ وقاية من رضا الله دون سخط الله, انظروا قسم من التقوى وهو ما يتعلق بالطاعة منه فهذا البر, فالبر يجمع الخير كله, قال: (إلا من اتقى وبر وصدق). فإذاً صفة التقوى وصفة الصدق من أهم الصفات النظرية للتجار.
الصفة الثالثة: معرفته لمهمته، فالإنسان الذي يقدم على عمل لا يعرفه ولا يعرف نتيجته ولا ما يترتب عليه يعتبر مقلداً تقليداً أعمى، رأى الناس يبكرون إلى السوق ويبيعون نوعاً من أنواع البضاعات، فبكر هو إلى السوق وباع ذلك النوع من أنواع البضاعات، واشتغل بهذا العمل, دون أن يكون لذلك معنىً وقناعة, فما فائدة هذا؟
كثير من الذين يبيعون المواد الضارة التي لا ينتفع بها أحد ما فعلوا ذلك إلا تقليداً، فقد رأوا بعض الناس سبقهم إلى هذا فاشتغلوا بهذا العمل, وكثير من أهل الأسواق إنما يقلدون حتى في هيئة العرض وفي هيئة البيع, ولذلك ترون كثيراً من الناس طريقتهم في العرض متحدة, حتى يلتبس عليك المحل من محل إلى آخر؛ لأن طريقة تنظيم البضائع يقلد فيها الجميع, هي صورة واحدة, وهذا النوع من التقليد مناف للابتكار المطلوب لدى المسلم الذي يقتضي إنتاجاً وتجديداً، وحرصاً على ما فيه النفع, فلا بد أن يدرك التاجر مهمته, ولماذا أتى؟
وهذه المهمة تتلخص في قصد انتفاع نفسه بإغرائها بالحلال، ونفع الآخرين بإيصال ما يحتاجون إليه لأيديهم, فهو يقدم هذه الخدمة في مقابل شيء يناله هو, ومن هنا لا يريد أن يكون فقط منتفعاً لا نافعاً, كما لا يريد أيضاً أن يكون نافعاً لا منتفعاً فهذا غير صحيح, التاجر علمه ليس خيرياً محضاً، فهو يريد أن ينتفع, لكن في المقابل أيضاً ليس انتفاعياً محضاً, بل لا بد أن يريد تقديم خدمة ويريد في مقابلها ربحاً, فإذا كان هو لا يخطر على باله هذا، ولا يحدد مهمته، فسيتجر في المحرمات التي لا نفع فيها, وكثير هم أولئك الذين يستوردون أنواع الدخان وأنواع المشروبات المحرمة، وغير ذلك من البضائع التي لا نفع فيها للبشر, بل يستوردون هذه البضاعات من أجل أمر دنيوي فقط, يظنون أنهم سيربحون منها حتى لو لم يكونوا يستعملونها، ولو لم يكونوا من أهل القناعة بها, تجد كثيراً من الرجال يستوردون الملابس الرقيقة ويبيعونها لكل من هب ودب، وفي ذلك من التعاون على الإثم والعدوان ما فيه.
وتجد كثيراً من الطيبين أيضاً يبيعون بعض المواد التي لا خير فيها، وهم يعرفون أنها لا خير فيها ولا يستعملونها لأنفسهم ولا يرضونها لأولادهم كالمجلات الخليعة والأشرطة الخليعة والصور الخبيثة, أمور كثيرة لا يرضونها لأولادهم ولا لبناتهم ولا لنسائهم ولا لأنفسهم، ومع ذلك يبثونها في المجتمع وهي سموم, وحق هذا المجتمع عليهم مثل حق ذويهم عليهم, فهم أبناء هذا المجتمع وعليهم أن يحرصوا على مصلحته.
كذلك من فهم التاجر لمهمته أن يدرك أن التصور الذي يقول: أنا أربح وأنت تخسر, أو أنت تربح وأنا أخسر كلاهما غير صحيح, والتصور الصحيح: كلانا يربح, أنا رابح لكنني أعرف أن للربح حدوداً ولا أطلب منه المستحيل، فأريد أن أكون طريقاً لإيصال الخير إلى الناس, ومع ذلك لا أخسر أنا لأنني ربحت ولا أتغالى في الربح, ولا أزيد فيه على الناس غلاءً فاحشاً لما في ذلك من الإضرار بهم، فأنا مهمتي أن أوصل هذه البضاعة والخدمة إليهم.
وهذه الصورة أو فهم الرسالة التي يستغربها التاجر ويقوم بها، من الغريب أن بعض الكفار يستغربونها ويفهمونها, وقد كنت ذات مرة في زيارة للولايات المتحدة الأمريكية فذهب بنا إلى مدير شركة إبويت لصناعة الطائرات, ومعنا عدد من الدكاترة والطلاب في الجامعات, وكان اللقاء مثمراً معه بسؤاله عن تطورات شركته, وعن العقليات التجارية التي لديه, والإنتاج، وتأثر السعر بالعرض والطلب, وتحسن الأداء وغير ذلك.
لكن كان من الأسئلة التي وجهتها إلى هذا المدير هذا السؤال: هو إذا وجدت ربحاً طائلاً في هذه الشركة ستبيع أسهمك منها وتتخلص منها؟ قال: أبداً، لا أبيعها بشيء, قلت: إذاً هي ليست شركةً تجاريةً محضة. قال: لا, أنا ارتبطت بهذه المؤسسة فأصبحت سمعتي مربوطةً بها، وعرضي مربوطاً بها, فلذلك أنا أخسر كثيراً لإصلاح خلل واحد, فلذلك اسمي مرتبط بهذه الشركة, ومن هنا لا أريد بيعها بوجه من الوجوه, فهمت أنا أن التجارة رسالة, وأن من استوعبها لم يكن من الذين يطلبون الربح فقط.
وأمارة كون التاجر يعرف رسالته ويفهم مهمته أن يكون طلبه للربح في حدود, فإذا كان فتح هذا المحل فقط من أجل الوصول إلى مبلغ قدره كذا وكذا من المال لو عرض عليه الآن لباع المحل, وفشل المشروع وبقي هو دون مشروعه, فلذلك لا بد أن يفهم رسالته، وأن يعرف أن هذه الخدمة التي يقدمها هي خدمة للمجتمع وهو مقتنع بها، ويريد أداءها على الوجه الصحيح، فيمارس بذلك نشاطاً ينفع المجتمع ويقدم خدمةً لهذا المجتمع هو مستحق لها, ومع ذلك يربح ربحاً معقولاً مقبولاً.
الصفة الرابعة من هذه الصفات النظرية التي لا بد أن توجد في التاجر المسلم: إيثاره للآخرة على الأولى, أن يعلم أنه قد فهم الفرق بين الربح والخسارة, ولو ذكر ربح في أي مكان لخاطر بالوصول إليه, ولو عرف بضاعةً تربح بعشرة أضعاف لكان من المبادرين إلى شرائها وبيعها, وقد عرف بضاعة الآخرة, فعليه أن يكون من المبادرين لها الساعين في الربح منها, وألا يقصر طلبه بالربح على أمور الدنيا فقط.
فهذا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لما جاءته عير تجارية إلى المدينة في وقت الشدة والقحط وهو يملك تلك العير بكاملها, جاءه التجار فقالوا: نجعل لك على الدرهم درهماً وعلى الدينار ديناراً فبع لنا, فقال: أعطيت أكثر من ذلك, فقالوا: نجعل لك على الدرهم درهمين وعلى الدينار دينارين, فقال: أعطيت أكثر من ذلك, فقالوا: نحن تجار المدينة فمن أعطاك أكثر من هذا؟ قال: ربي أعطاني أكثر من ذلك, فتصدق بها عبد الرحمن في وقت حاجة الناس إليها, فهو يعلم أن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، والله يضاعف لمن يشاء, ورأى المجاعة والشدة في ذلك الوقت، فرأى أنها صفقة مربحة مع الله سبحانه وتعالى، وأن الله لا يضيعه فبادر لذلك.
وهذا النوع من استيعاب المهمة، ومن إيثار الآخرة على الأولى أيضاً يقتضي التوكل في المخاطرة, فالتاجر من طبيعته المخاطرة والمغامرة, لكن إذا كان صاحب توكل على الله سبحانه وتعالى وصدق, فإنه يعلم أن الله لا يضيعه ولا يخيبه.
وقد حدثني بعض الصادقين عن محمد بن لادن رحمة الله عليه الذي بنى الحرمين الشريفين, وكان من التجار الحضارمة ومن الأغنياء, فتعاملت معه الدولة السعودية على بناء الحرمين, فتأخر صرف المال له وأنفق كل ماله في بناء الحرمين حتى باع حلي أزواجه, فلامه التجار على ذلك وقالوا: قد ضيعت تجارتك وبضائعك، ومتى تقضيك الحكومة هذه المبالغ الكبيرة؟! فقال: أنا أعرف ربي، ومن المستحيل أن أعمر بيته فيخرب بيتي.
فأبدى هذا التوكل العجيب، فلما حاجهم بهذه الحجة جاءه المال من لدن الحكومة فقضي كل شيء في وقت واحد, فهذا من تدبير الله سبحانه وتعالى وامتحانه، فلا بد من الوصول إلى هذا المقام في التوكل على الله سبحانه وتعالى في أحوال المخاطرة التجارية.
الصفة الخامسة من هذه الصفات النظرية التي يطلب تحققها في التاجر المسلم: الرحمة, فالرحمة هي التي تحمل على المسامحة والتخفيف عن كل صاحب معاناة, ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا ( عن تاجر من السابقين لم يكن له عمل صالح إلا أنه كان يداين الناس، فإذا أرسل غلمانه لاستقضاء حقوقه قال: إذا وجدتم فقيراً فسامحوه لعل الله يسامحنا, فغفر الله له بذلك ), هو لم يخسر شيئاً، إنما كان يوصي غلمانه على المسامحة والحطيطة إذا وجدوا من يحتاج إلى ذلك, فسامحه الله بسيئاته وغفر ذنوبه بسبب هذا الحرص على المسامحة.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم الحض على هذه المسامحة في كثير من النصوص، كقوله صلى الله عليه وسلم: ( رحم الله امرأً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا اقتضى، سمحاً إذا قضى ), فالمسامحة هي من الصفات المحمودة المطلوبة في التاجر.
الصفة السادسة من هذه الصفات النظرية المطلوبة في التاجر: أن يكون صاحب تدبير وعقل في أمور الدنيا, فالعقلية التجارية هي أبلغ وأولى من رأس المال, كثير من الناس يملكون أموالاً طائلة، ولكن لا يعرفون كيف يتصرفون فيها ولا يضعونها في المكان المربح المثمر, فالعقلية التجارية أولى وأهم من رأس المال, ولذلك يحتاج الإنسان إلى أن تكون لديه هذه العقلية التجارية بحيث لا يضع ماله فيما لا نفع فيه ولا يضعه فيما ليس له مستقبل وليس له ربح, بل يضعه في المكان الملائم, ويعرف أيضاً أوجه كسب الزملاء, وأوجه التعامل معهم.
وقد حدثني أحد العلماء من أهل القصيم: أن أهل القصيم كانوا يشتهرون بالتجارة قديماً, وكانوا فقراء، فخرج رجل منهم إلى المدينة في وقت موسم الحج، فرأى بائعاً يبيع على باب الحرم أثواباً له، كل ثوب بريال واحد, وهو يصيح: ثوب بريال، ثوب بريال، فما أحد يشتري منه, فأتاه هذا القصيمي فقال: بعنيها جملةً بنصف ريال فباعه جملتها بنصف ريال, فوقف القصيمي فقال: ثوب بريالين وواحد نقد والآخر دين, فأقبل الناس عليه يشترون منه, فسأله الرجل عن ذلك فقال: الناس يرغبون فيما فيه دين ولو كان أغلى, وهذا الدين إذا وجدته ريالاً واحداً نقداً فقد ربحت، فالدين مخاطرة وزيادة في الربح, فهذه العقلية التجارية إذا حصدت لدى الإنسان فإنه بها يستطيع الإنتاج, ولو لم يكن لديه رأس مال كافٍ.
أما الصفات التطبيقية فيشترك فيها مع التاجر غيره من المستثمرين والمنتجين للمال كله، سواء كانوا مزارعين أو منمين أو موظفين, وهي معرفته لأوجه كسب المال وأوجه صرفه بالسوية, فليس التاجر البطل هو الذي يتقن فقط جمع المال, بل هو الذي يتقن جمعه، ويتقن أيضاً تفريقه والتصرف فيه, ولذلك فإنكم لم تسمعوا قط من يمدح بالجمع، وقد سمعتم كثيراً من يمدح بالتفريط كما قال حاتم بن عبد الله الطائي :
أرني جواداً مات هزلاً لعلني أرى ما ترين أو بخيلاً مخلداً
وكما قال أبو الطيب المتنبي :
إذا قيل رفقاً قال للحلم موضع وحلم الفتى في غير موضعه جهل
ولولا تولي نفسه حمل حلمه عن الأرض لانهدت وناء بها الحمل
تباعدت الآمال عن كل وجهة وضاقت بها إلا إلى بابه السبل
ونادى الندى بالنائمين عن السرى فأسمعهم هبوا فقد هلك البخل
وحالت عطايا كفه دون وعده فليس له إنجاز وعد ولا مطل
فأقرب من تحديدها رد فائت وأسهل من إحصائها القطر والرمل
إلى رب مال كلما شت شمله تجمع في تشتيته للعلى شمل
(إلى رب مال كلما شت شمله) أي: تشتت شمل المال، (تجمع في تشتيته للعلى شمل).
فهذا التفريق يحتاج الإنسان إلى فقهه كما يحتاج إلى فقه الجمع.
سأجمل عشر قواعد، خمس منها في فقه الجمع، وخمس في فقه التفريق.
فالخمس الأول في فقه الجمع, حديث عن عثمان بن عفان رضي الله عنه, وقد سأله رجل فقال: يا أمير المؤمنين! إنك كنت من فقراء المهاجرين فأصبحت أغنى إخوانك فبم نلت ذلك؟ فقال: كنت أعالج وأنمي ولا أزدري ربحاً ولا أشتري شيخاً وأجعل الرأس رأسين. خمس قواعد.
القاعدة الأولى: (كنت أعالج), فالتاجر لا بد أن يكون ذا نفس طويلة, إذا كان فقط يريد التجربة السريعة إذا نجح فيها استمر، وإذا لم ينجح تركها لا يكون تاجراً, التاجر لا بد أن يعول على أنه لن يربح في المرة الأولى ولا الثانية, وأنه سيعالج ويكد, وأن تعلمه أهم من الأرباح, فالخسارة الحقيقية هي خسارة شخصيته ومعنوياته, والربح الحقيقي هو ربحه هو لشخصية متزنة ولمعنويات مرتفعة يستطيع بها الصمود والمقاومة, فلذلك قال: كنت أعالج.
القاعدة الثانية: (وأنمي), فلا بد أن يحرص الإنسان على التنمية ولو كانت الزيادة محدودة ضئيلة، لكن الزيادة إذا جاءت بالتدريج شيئاً فشيئاً، فهي مثل قطر المطر يحصل منه السيل الكبير بالقطرة بعد القطرة, فكذلك الأرباح إذا جاءت قطرةً بعد قطرة يحصل السيل الكبير والتيار الهادئ، وأصله من قطرات, لذلك قال: وأنمي.
القاعدة الثالثة قوله: (ولا أزدري ربحاً), أي: لا أحتقر أي ربح فوق الثمن الذي اشتريت به, فإذا كان التاجر إذا اشترى بضاعة يريد منها أرباحاً غير متصورة, ويحلم فيها أنه سيحقق منها كل آماله فلن يفلح, طيب لو أنك بعت هذه البضاعة وحدها بمليار فماذا تصنع في غد وبعد غد؟ وما هي آمالك المستقبلية في البضائع الأخرى التي تشتريها؟ لا بد أن تكون التجارة عمل له هواية تمارسه بروح فيها نشاط، وتريد أن يكون عملاً لك لا تريد أن يستحوذ على يومك فقط، ويكون غدك خالياً منه, فلذلك اطلب ربحاً مناسباً للوقت, إذا بعت في هذا اليوم الذي اشتريت فيه فأي ربح فبع به, إذا بعت في اليوم الذي يليه فزد قليلاً وهكذا، فيكون الثمن تابعاً للوقت, وبهذا تكون مفرقاً بين ما بيع بالنقد وما بيع بالدين, فالدين له حصة من الثمن مقابل الوقت, فلذلك قال عثمان رضي الله عنه: ولا أزدري ربحاً.
والقاعدة الرابعة هي قوله: (ولا أشتري شيخاً), فكل ما ليس له مستقبل في السوق لا ينبغي أن يشتريه التاجر العاقل؛ لأنه إذا اشتراه وقد ولى وولى الانتفاع به وأدبر الناس عنه فإنه لن يخرج منه ما دفع فيه, وبالتالي فيقدم على خسر محقق, فلهذا قال: ولا أشتري شيخاً.
والقاعدة الخامسة قوله: (وأجعل الرأس رأسين), كل مخاطرة ومغامرة يستطيع الإنسان الخروج منها فعليه أن يحرز منها, فالإنسان إذا أرسل ماله جميعاً في مخاطرة واحدة فعدمه سيصبح فقيراً, لكن إذا أرسل بعضه سيكون الربح أقل، لكن تكون المخاطرة أقل أيضاً، إذا خسر ذلك الجانب منه بقي لديه أشياء أخرى.
والإنجليز يذكرون: أن تاجرين ذهبا إلى قبرص لشراء البضائع، فأما أحدهما فقد اشترى بضائعه فكان يرسلها إلى إنجلترا كل يوم يرسل منها دفعة شحنةً في سفينة متجهة إلى إنجلترا, والتاجر الآخر جمع جميع بضائعه فاستأجر سفينةً فجعلها فيها, فقال الذي وزع بضائعه: أنا أعقل منك، فلم أجعل البيض في سلة واحدة, وقال الآخر: لا بل أنا أعقل منك؛ لأنك أنت لو حسبت إيجار الشحنات لوجدت أنه يساوي إيجار ثلاث سفن، وأنا استأجرت سفينةً واحدة, لكن حصل في الطريق أن غرقت السفينة التي فيها جميع بضائع التاجر الأخير، ونجت بضائع الآخر؛ لأنها جاءت بالتدريج والتقسيط, فهذا عدم كل شيء، وفقد الأمل في ساعة واحدة, والآخر لم يحصل على الربح المطلوب وخسر فيما يتعلق بالإيجار، لكنه في مقابل ذلك حافظ على أصل المال.
وهذا النوع لا بد أن يعلم فيه أن وزن الربح ليس دائماً على زيادة, بل الربح يعول فيه أيضاً على الأمان, والتشكيل في مثل هذا النوع من الأمور التي ينبغي أن يفكر فيها التجار أن يفكروا في الأمر الآمن الذي لا يقع فيه خلل، قبل أن يفكروا في الازدياد الطائل في الربح, وهذا الزمان الذي نحن فيه زمان القرصنة, وقل ما يخلو بلد من بعض العصابات التي تغدر الناس وتأخذ أموالهم بدعوى وخديعة ظاهرها أرباح طائلة ينالها الإنسان, وفي الواقع إن هذه العصابات قد نجحت في كثير من البلدان الإسلامية, عصابات تأتي إلى الشخص الذي يرغب في الربح الطائل من غير عمل كثير ومن غير تعب فتقول: أعطنا مبلغاً قدره كذا وكذا، وستحصل في مقابله على مبلغ قدره كذا وكذا أضعاف ذلك المبلغ فقط، نحن محتاجون لهذا لتخليص جمركي أو لأمر من هذه الأمور, فيغتر هو بهذا ويقدم على المخاطرة والمغامرة؛ لأنه من الذين لا يقدرون الخطر، ويرغبون في الربح الطائل فيقع الخطأ.
والتذكير في مثل هذا النوع هو من تمام العقل والتدبير, والإنجليز يمثلون له بملك لهم كانت له فرس لا يركبها أحد إلا وقع عنها, فأقام مسابقةً للناس فقال: من ركبها ولم يسقط أعطيته مبلغاً قدره كذا وكذا, فجاء أصناف الناس، جاء الأقوياء الأشداء, جاء الجند, جاء طلاب الجامعات, حتى جاء التجار, ولما جاء التجار قام أحدهم فركبها إلى القفا وهو متجه إلى جهة ذنبها فأمسك بذنبها والفرس تعودت على أن ترفع مؤخرتها فيسقط من ركبها إلى الأمام, وهذا التاجر رأى هذه الفرس فركب عليها بالعكس وأمسك بذنبها وهو متجه إلى الخلف فنجا, وذلك أن تذكيره في الطريق الذي يصل منه إلى مقصوده حتى لو كان بصورة مزرية أداه إلى النتيجة الحقيقية فنجح في المسابقة, فلذلك قال: وأجعل الرأس رأسين.
إذاً هذه خمس قواعد, يعرف بها الإنسان كيف يحصل المال.
أما الخمس الأخرى فهي كيف يصرفه؟ ولا تظنوا أن هذا ليس فيه مشكلة, فكثير من الإخوة يقول: أنا مشكلتي تحصيل المال إذا أحرزته، فدلني على طريقة أحرزه بها وأدعها بيني وبين إنفاقي, هل صحيح لدى كثير منكم هذا التصور؟ لكن أنا متأكد أن المشكلة الكبرى ليست في الجمع, لو دعي أحدنا فأعطي مبلغاً كبيراً من المال لكان عقدةً عظيمةً لديه ومشكلةً كبيرة, سيفكر الآن في أول صلاة له ماذا يصنع به؟ وسيضطر لتأخير الصلاة أو لإضاعة المال, وتكون عقدةً كبيرةً لديه حتى في صلاته, فلذلك يحتاج الإنسان إلى التفكير أيضاً لو قدر له أن ابتلي بشيء من هذا المال ماذا يصنع؟ إن المال خطر عظيم، وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أخوف ما أخافه عليكم ما تستجدون بعدي من زهرة الدنيا, فإنها خضرة حلوة, وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم, إلا آكلة الخضر فإنها رتعت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم رتعت, ولنعم صاحب المسلم هو، إن أطعم منه الفقير والمسكين وابن السبيل), والله تعالى بين أنه فتنة فقال: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ[الأنفال:28].
ومع ذلك بين الله سبحانه وتعالى ما يترتب على المال من الفوائد فجعله تجارةً رابحة فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ[الصف:10], وهذه الآية فيها من أساليب الإعجاز والبلاغة الشيء الكثير, فالله تعالى خاطب المؤمنين بقوله: هَلْ أَدُلُّكُمْ[الصف:10], ولم يقل: سأدلكم؛ لأنه لو قال: سأدلكم لم تتشوق النفوس إلى الأمر؛ لأنه أصبح محروزاً مقطوعاً به, لكن لما جاء بصيغة الاستفهام تشوقت النفوس إليه واحتاجت إليه: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ[الصف:10], وجاء بهذا الاسم المحبوب إلى النفوس الذي ليس فقط لذوي الهمم الدنيئة، فذوو الهمم الدنيئة يحبون العطايا, وهي أهم عندهم من التجارات, لكن ذوي الهمم العالية لا يريدون شيئاً فيه منّ, ويريدون التجارة الرابحة التي يبذلون فيها جهداً وينالون مقابله ربحاً, هذا الفرق بينهم وبين ذوي الهمم الدنيئة، فأهل الهمم الدنيئة يرضون بالمسألة والمذلة ويريدون أن يعطوا دون أن يبذلوا شيئاً, وذوو الهمم العالية يريدون تجارةً لن تبور يربحون فيها، وفي مقابل خدماتهم وعرق جبينهم ينالون ربحاً؛ لذلك قال: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ[الصف:10].
ثم شوقنا تشويقاً عجيباً بوصف هذه التجارة فقال: تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ[الصف:10], التجارة في الأصل يتوقع منها خلاف ذلك, فالذي يتوقعه الإنسان إذا دعي إلى تجارة أنه ستحوجه تلك التجارة إلى أن يشريها هي فسيسعى هو لأن يكون حارساً لهذه التجارة, وهذه التجارة ليست من التجارات التي تحرسك, بل أنت في الواقع والمعتاد أن تجارتك تحتاج منك إلى حارس, لكن هذه التجارة هي التي تحرسك: تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ[الصف:10], ما هي هذه التجارة؟ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ[الصف:11], وبدأ بالجهاد بالأموال قبل الأنفس: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ[الصف:11], هذا الجانب الذي تبذله أنت, ما هو مقابله؟ ما هو ربح هذه التجارة والثمن الذي تجنيه منها؟ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ[الصف:12-13].
إذاً: يحتاج الإنسان إلى طرق تفريق المال بعد أن عرف طرق جمعه, وهذه الطرق تضمنتها آية واحدة فذكرت خمس قواعد, وهي في نصيحة قوم قارون له: إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ[القصص:76-77].
خمس قواعد أمور:
القاعدة الأولى: لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ[القصص:76].
إذا أحرزت ربحاً ومالاً فلا تفرح به؛ فقد تكون الصفقة التي بعد هذه في العكس, الدنيا متقلبة، يوم لك ويوم عليك, لذلك: لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ[القصص:76].
وقد قال أهل العلم: إنما كان جزاء الفرحين نقص محبة الله سبحانه وتعالى لهم، فإن الله تعالى لا يحبهم؛ لأن فرحهم في الدنيا مؤذن بإيثارهم لها على الآخرة, فهم يؤثرون الدنيا على الآخرة ولذلك يفرحون بها, وهذا هو الفرح المذموم.
والفرح قسمان: فرح محمود، وفرح مذموم.
فالفرح المحمود: يكون في أمور الدين وأمور الآخرة كما قال الله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ[يونس:58].
والفرح المذموم: هو الفرح بأمور الدنيا وجمعها وحطامها.
فإذا كان الإنسان يفرح بفضل الله وبرحمته فليس هذا الفرح مذموماً وليس هو من الفرحين الذين لا يحبهم الله: لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ[القصص:76].
وهذه القاعدة من المهم أن يتحلى بها كل تاجر: ألا يفرح؛ لأنه إذا فرح في ربحه في صفقة من الصفقات فسيظن أن كل صفقة ستكون كذلك ويقول: ما أشبه الليلة بالبارحة, لكن سرعان ما يتضاءل أمله ويتراجع فيصاب بإحباط عندما يجد أن الصفقات ليست جميعاً على هذا المنوال.
القاعدة الثانية: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ[القصص:77], لا بد أن تدرك لماذا تجمع المال؟ هل أنت من البهائم التي تأكل من أجل أن تقوى، ثم تعود لتأكل أيضاً فهذا شأن المشركين: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهمْ[محمد:12], لا بد أن تدرك لماذا تجمع؟ والنبي صلى الله عليه وسلم بين ذلك فقال: (الخيل لثلاثة: هي لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر), هذا بينه في الخيل، لكن مثلها الدنيا كلها, فهي ثلاثة أقسام:
القسم الأول: (لرجل أجر), رجل أراد بها وجه الله والدار الآخرة, والاستغناء عن المذلة للناس, والاستعفاف بما آتاه الله, والقيام بالحقوق التي أوجب الله عليه, فما أوتي هو من المال سيكون أجراً له حتى ولو لم ينو التصدق به, أما ما ضاع منه وما فقد وما فقد كان في سبيل الله؛ لأنه متجه إلى كفة الحسنات فهو ما نوى جمع المال إلا من أجل الاستعفاف والاستغناء وإيصال الحقوق إلى ذويها وقضاء الديون القيام بالنفقات الواجبة, فكل ما ضاع من ماله, وكل ما فقد منه, وكل ما سرقه السراق, وكل ما اغتصبه المغتصبون فهو في كفة حسناته يوم القيامة.
القسم الثاني: (هي لرجل ستر), رجل لم يطلبها للآخرة, ولكنه أرادها ليستغني بالحلال عن الحرام فقط, لم يردها رياءً وسمعة, ولم يردها للملذات المحرمة, لكنه مع ذلك لم يردها أيضاً لأداء الحقوق الواجبة وما افترض الله عليه, فهذا هي له ستر، تستر وجهه عن الذم والعيب، فليس هو من الذين يسألون الناس إلحافاً, ولا هو من الذين يتكلون على الناس في أمورهم, لكن مع هذا ليس هو من المضحين الباذلين, ولا من المسابقين في الخيرات بإذن الله.
القسم الثالث: (هي على رجل وزر), رجل جمعها من أجل السمعة والرياء والتكبر على الناس والخيلاء والفخر, وجمعها من أجل أن يصل بها إلى ملذاته المحرمة وشهواته, ولم يرد أن يؤدي حق الزكاة, ولم يرد أن يؤدي الحقوق الواجبة, وحاول التخلص منها بكل الوسائل, إذا حان وقت الزكاة لم يكن من المزكين, وقد قال الله تعالى: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ[فصلت:6-7], وقال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ[الأعراف:156], وإذا سمع النداء بالصدقات المندوبة لم يكن من المبادرين إليها, وإذا سمع النداء بالجهاد في سبيل الله لم يكن من المجاهدين بالمال, وإذا رأى وجهاً من أوجه الخير يمتحن بها بين يدي الله فرأى مسكيناً محتاجاً أو نقل إليه أن أحداً من عيال الله في ورطة أو في حاجة لم يكن من المبادرين لإنقاذه، فهذا من الذين يقول الله لهم يوم القيامة: (مرضت فلم تعدني, وجعت فلم تطعمني, وظمئت فلم تسقني), فقد امتن الله عليه بالنعمة وفي مقابلها لم يقدم أي شيء.
كذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين أربع مراتب أخرى من مراتب الدنيا فذكر أن الدنيا لأربعة:
الأول: ( رجل آتاه الله مالاً فسلط على هلكته في الحق ), فقد أوتي المال والفقه فصرف المال فيما يأذن الله بصرفه فيه، فهذا بخير المنازل.
والرجل الثاني: لم يعط مالاً ولكنه أوتي فقهاً فهو يقول: لو كان لي مالاً لفعلت فيه مثل ما فعل هذا فهو شريكه في الأجر.
والرجل الثالث: رجل أوتي مالاً ولم يؤت فقهاً فهو يصرفه في غير مرضاة الله, فهذا من شر المنازل.
والرجل الرابع: رجل لم يؤت مالاً ولا فقهاً فهو يقول: لو كان لي مال لفعلت فيه مثل ما يفعل هذا المسرف على نفسه، فهو شريكه في الوزر، نسأل الله السلامة والعافية, فلهذا قال الناصحون لـقارون: لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ[القصص:76-77].
والقاعدة الثالثة: وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا[القصص:77], لا تنس نصيبك من الدنيا: هذا محتمل لعدة أوجه في التفسير:
الوجه الأول: أن معناه تذكر أن نصيبك الذي تذهب به من الدنيا هو كفنك وحنوطك فقط، وبالتالي لا تحرص على ما زاد على ذلك من شأنها, وفي التفسير أيضاً أن الفعل: وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا[القصص:77], أي: لا تهمل أن الدنيا فيها نصيب لك، ولبدنك حقوق منها, فأد الحقوق إلى مستحقيها، فمنها: أن تستر نفسك بلباس يناسب مستوى غناك, وأن تأكل منها بالمعروف الحلال على الوجه الذي يناسب غناك، وهكذا من دون سرف ولا تجاوز للحدود, وأنتم تعرفون ما يذكره الفقهاء في باب اللباس:
لباس موسر لباس معسر شح وضده ثوب السري
على الدني خيلا والضد مهانة والمستجاز القصد
وحسنه يندب للمصلي وللمؤذن وذات البعل
والعلما يندب حسن الزي لهم ليعظموا لكف الغي
كما قال أحمد مولود رحمه الله.
فهذا القدر يكون به الإنسان عارفاً بأن هذه الدنيا التي جعلت تحت يده ينبغي أن يستغل منها ما ينتظر به نعمة الله عليه، فالله تعالى يحب أن يرى آثار نعمته على عبده.
ومن أوجه التفسير كذلك في هذه الآية: لا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا[القصص:77], ألا ينسَ الإنسان في ماله الحق الذي يمكن أن يأخذه في دنياه فهو يعلم أن ما تركه ليس له, فحقه من هذه الدنيا هو ما قدم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: ما منا أحد إلا ماله أحب إليه, قال: فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر), فما تركه الإنسان ليس من ماله إنما هو مال غيره مال الوارث.
القاعدة الرابعة: وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ[القصص:77], على التاجر أن يحسن كما أحسن الله إليه, فكل من أنعم الله عليه بنعمة عليه أن بشكرها لله تعالى بالإحسان إلى عباد الله المحتاجين, والله تعالى تأذن بجزاء الشاكرين فقال: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ[إبراهيم:7], هذه الآية فيها (تأذن)، أي: ضمان من الله تعالى للشاكرين بالمزيد, وهذا يقتضي أن كل من أحسن مما أحسن الله به إليه فما يبذله سيعاد إليه قطعاً, فما تصدق به الإنسان يعود إليه قطعاً، فجزاؤه جاهز حتى في الدنيا قبل الآخرة: (يا ابن آدم أنفق أنفق عليك), (وما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً, ويقول الآخر: وأعط ممسكاً تلفاً).
فلذلك يحتاج الإنسان إلى أن يكون من المحسنين، إذا أنعم الله عليه بنعمة يشرك فيها غيره: وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ[القصص:77], وبذلك يتذكر الإنسان حاجة الفقراء, فإذا كنت تركب سيارتك وتمر في الشارع على الذين يزدحمون من أجل النقل تذكر أنك كنت يوماً من الأيام تقف معهم وأنت لا تجد وسيلةً للنقل, وهكذا في كل شئونك وأمورك، كلما أنعم الله عليك بنعمة تذكرت حال المحرومين منها وقد كنت منهم من قبل, حتى في الالتزام، إذا أنعم الله عليك بالهداية والالتزام فمررت بالغاوين فتذكر أنك كنت من قبل منهم, وقد نبه الله على ذلك في سورة النساء.
فليحذر الإنسان من أن يظن أن هذا مما ورثه كابراً عن كابر, وأن ينسى نعمة الله به عليه كحال أولئك النفر الثلاثة: الأعمى والأقرع والأبرص، فإن الله سبحانه وتعالى امتحنهم، فنجح واحد منهم في الامتحان والبقية لم ينجحوا فيه, فلذلك يحتاج الإنسان هنا إلى أن يدرك أن ما أنعم الله به عليه من النعم هو امتحان له وابتلاء, وأنه إذا أحسن فيه فسيحسن الله إليه قطعاً: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ[سبأ:39], كل ما أنفقه فسيخلف قطعاً, فلذلك قالوا له: أَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ[القصص:77].
القاعدة الخامسة: وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ[القصص:77], فعلى التاجر ألا يبغي الفساد في الأرض, وذلك يشمل كثيراً من الأوجه:
منها: الإفساد بالسوق بزيادة الأسعار والغلاء، فهذا من الإفساد في الأرض.
ومنها كذلك: إغراق السوق بالبضائع التي فيها خراب سواء كان انتهاء في التاريخ, أو تغيراً في المادة, أو تغييراً للمواصفات التي عرفت بها الماركة التجارية، فكل ذلك من الفساد في الأرض.
ومنها أيضاً: تغيير سمعته هو، فقد كان موثوقاً به لدى الناس، فإذا أساء سمعته التجارية فقد أفسد في الأرض, وكذلك إغلاق أبواب الارتزاق التي يرتزق منها الناس, إذا كان هذا الإنسان من قبل يرى الناس يذهبون في هذا الباب فيتسعون منه، فتصرف هو تصرفاً فيه رعونة وظلم فأدى ذلك إلى إغلاق الباب بالكلية عن المنتفعين, فقد أفسد في الأرض بعد إصلاحها, لذلك قالوا: لا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ [القصص:77].
فهذه القواعد الخمس مهمة جداً في الصرف.
أسأل الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا, وأن يجعلنا أجمعين من الذين يتبعون القول فيتبعون أحسنه, وأن يجعلنا أجمعين في قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر