إسلام ويب

التجارة الرابحة [2]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ذكر الله التجارة الرابحة معه، ورأس مالها الإيمان بالله وهي من نعمة الله تعالى، أن يعطينا رأس المال، ويعطينا الربح، ولا يطلب منا جزاءً ولا شكوراً غير هذا، أعطانا رأس المال، وهو الإيمان ووفقنا له. واختارنا له من بين خلقه، ثم أعطانا الربح وهو ما بعده، فحقيقة هذه التجارة هي الإيمان بالله تعالى والجهاد في سبيله.

    1.   

    التجارة التي تنجي من العذاب الأليم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    قال الله تعالى: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الصف:10]، ما هي هذه التجارة؟

    لا شك أن هذا الأسلوب مشوق، وأننا بحاجة إلى أن نقبل على هذه التجارة، وأن نسعى من أجل الكسب فيها، والمتاجرة مع الله، وما هي هذه التجارة؟ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ [الصف:11]، هذا أول شيء من التجارة رأس المال، ما هو رأس المال؟ رأس مال المؤمن هو الإيمان بالله، ( كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها، أو موبقها )، فهذه تجارة لا بد منها، وكل يوم يخرج الناس للتجارة، فهذه التجارة رأس مالها الإيمان، ولذلك سبق كما ذكرنا الإيمان القدري في بداية الآية في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10]، فهنا من نعمة الله تعالى، أن يعطينا رأس المال، ويعطينا الربح، ولا يطلب منا جزاءً ولا شكوراً غير هذا، أعطانا رأس المال، وهو الإيمان ووفقنا له.

    واختارنا له من بين خلقه، ثم أعطانا الربح وهو ما بعده.

    1.   

    المقصود بقوله: (تؤمنون بالله)

    فقال: تُؤْمِنُونَ بِاللهِ [الصف:11]، إذاً هذا أول هذه المذكورات وأول هذه التجارات: الإيمان بالله تعالى، والإيمان هنا إذا عطفت عليه الأعمال، فهي وإن كانت في مسماه، إلا أن المقصود به سيكون بالدرجة الأولى في الاعتقاد، وذلك بالجزم وباليقين بالله تعالى وبتحقيق العبودية له سبحانه وتعالى.

    تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ [الصف:11]، أيضاً: عطف على الإيمان به الإيمان برسوله؛ لأن الإيمان لا يقبل بعد بعثة محمدٍ صلى الله عليه وسلم إلا بالإيمان به، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه في الصحيحين وغيرهما: ( والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، لا يهودي ولا نصراني، فلم يؤمن بي، إلا كبه الله على وجهه في نار جهنم )، إذاً شرط الإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم، فقال: تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ [الصف:11].

    بعد هذا ذكر ربح من هذه الأرباح، أو زيادة في رأس المال فقال: وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ [الصف:11]، (تجاهدون) معناه: تبذلون الجهد وتشاركون، والمجاهدة مفاعلة، والمفاعلة تقتضي الاشتراك، وذلك أن الجهاد ليس من الأعمال الخاصة التي يستطيع شخص واحد أن يقوم بها، بل لا بد منها جماعةً.

    أما تؤمنون، فالإيمان يصح من واحد، ولهذا قال: تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ [الصف:11]، ولا يقتضي هذا الفعل المشاركة، أما الجهاد فقال فيه: وَتُجَاهِدُونَ [الصف:11]، ولم يقل: وتجهدون، فهذا يقتضي المشاركة، وهذه المشاركة بها تمام العمل؛ لأنه للتنافس، وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]، وهذه المجاهدة تحصل بجميع أنواع الجهاد.

    1.   

    أقسام مجاهدة النفس

    وأنواع الجهاد التي طلب الله تعالى منا أربعة عشر نوعاً، وهذه الأنواع الأربعة عشر تنقسم إلى أربعة أقسام:

    ‏القسم الأول: مجاهدة النفس، ومجاهدة النفس تنقسم إلى أربعة أقسام، إذاً فيها أربعة من أنواع الجهاد:

    الجهاد الأول: مجاهدة النفس على تعلم ما أمر الله به وما نهى عنه، هذا أول رتبة من رتب الجهاد، مجاهدة النفس على التعلم.

    الرتبة الثانية: مجاهدة النفس على العمل بما تعلمه الشخص. والرتبة الثالثة: مجاهدة النفس على الدعوة إلى ما تعلمه الشخص وعمل به. والرتبة الرابعة: مجاهدة النفس على تحمل الأذى في سبيل الدعوة، فهذه أربع مراتب لمجاهدة النفس، وهذه الأربع كلها مأخوذة من وصية لقمان لابنه، في سورة لقمان يقول الله تعالى حكايةً عن لقمان: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان:17]، وقبل هذا قال: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ[لقمان:13]، وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، فهذا مجاهدة النفس على التعلم.

    ثم قال: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ [لقمان:17]، وهذا مجاهدة النفس على العمل، ثم في الدعوة قال: وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ [لقمان:17]، ثم بالصبر على الأذى في سبيل الدعوة، قال: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان:17].

    إذاً هذه أربعة مراتب من مراتب الجهاد، هي في جهاد النفس.

    1.   

    أقسام مجاهدة الشيطان

    القسم الثاني: جهاد الشيطان، والشيطان هو العدو الأول، ولذلك قال الله تعالى فيه: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:6]، هو عدو، سواء اتخذناه عدواً أو لم نتخذه، فلذلك قال: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ [فاطر:6]، لكن من الناس من يفعل ويتخذه عدواً، وهم المؤمنون الموفقون، ومنهم من يكون عدواً له ولكنه لا يتخذه عدواً، بل يتخذه محبوباً، ويصادقه ويواليه فيكون من حزب الشيطان، أجارني الله وإياكم.

    إذاً كان الناس بهذا منقسمين إلى حزبين: حزب الله، وحزب الشيطان، فحزب الله هم المفلحون، وحزب الشيطان هم الخاسرون، وحزب الشطان جعلهم الله إخوةً للشياطين، وهذا نسب مثل النسب الدنيوي ومثل النسب الآن، فأنت إذا أردت أن تشرف شخصاً وترفع نسبه، تقول: هذا فلان بن فلان، أو أخو فلان أو ابن عم فلان، ولذلك قال الله تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف:44]، لكن هؤلاء -نعوذ بالله- ذمهم الله تعالى بأنهم إخوان الشياطين، هذا هو نسبهم، مثل اليهود والنصارى نسبهم ما هو؟ أنهم إخوان القردة والخنازير، وهؤلاء نسبهم ما هو؟ أنهم إخوان الشياطين، ولهذا قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201]، (( وَإِخْوَانُهُمْ )) معناه: إخوان الشياطين، يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [الأعراف:202]، إذاً هؤلاء نسبهم أنهم إخوان الشياطين، فلم يتخذوا الشيطان عدواً، وإن كان الواقع أنه عدو لهم، إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:6].

    الجندان اللذان تتمثل فيهما عداوة الشيطان وكيفية جهادهما

    وعداوة الشيطان تتمثل في جندين:

    الجند الأول: يسمى جند الشهوات، وهو جند يغزو به الشيطان الإنسان، فيسلط عليه الشهوات، فهذا يسلط عليه شهوة حب الرياسة، ويحب أن يشار إليه بالبنان، وأن يكون معروفاً بين الناس مشتهراً بينهم، فيسلط عليه هذه الشهوة، وآخر يسلط عليه شهوة الدنيا وجمعها، وستبقى بعده ويموت عنها، وحينئذٍ تكون حسرةً عليه ويحاسب عليها، وقد انتفع بها غيره.

    كذلك منهم من يسلط عليه شهوة المنكرات والفواحش، منهم من يغريه بالخمور، ومنهم من يغريه بالزنا، ومنهم من يغريه بالمخدرات، ومنهم من يغريه بالربا، ومنهم من يغريه بعداوة الله تعالى بمختلف أجناسها، ومنهم من يسلط عليه شهوة اللسان فيكون لسانه عدواً له، يقبل ويعرض دون أن يبالي ودون أن يحاسب نفسه، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ( إن المرء ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالاً، يهوي بها سبعين خريفاً في قعر جهنم )، كلمة واحدة من سخط الله، لا يلقي لها الشخص بالاً، يهوي بها سبعين خريفاً في قعر جهنم.

    إذاً هذا بعض تسليط الشهوات على الناس، تجدون كثيراً من الناس لا يبالي بما يقول، ويلقي الكلام على عواهنه ولا يفكر فيما يقول، هؤلاء قد سلط عليهم الشيطان جنداً من جنده وهو شهوة الكلام في غير ما يعنيهم.

    ولذلك فإن هذا الوصف منافٍ لحسن الإسلام، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )، ومن هؤلاء من يسلطون على أعراض إخوانهم، ومنهم من يسلطون على أعراض الذين ماتوا ولم يعرفوهم ولم يدركوهم وهكذا، فهؤلاء قد ابتلاهم الله تعالى وسلط عليهم الشيطان جنداً من جنده هو الشهوات.

    جند الشيطان الثاني: هو الشبهات، والشبهات: هي الوساوس والفلسفات الخاطئة التي يسلطها الشيطان على من ابتلاه الله تعالى بتسليطه عليه، فهؤلاء يلقي عليهم الشبهات فيشككهم في دينهم وفي كل شيء، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا يزال الشيطان بالعبد حتى يقول: هذا خلق الله، فمن خلق الله؟ )، فهذا وسوسة ووحي من الشيطان يوسوس بها على الإنسان، فيفسد إيمانه، ويشككه في كل شيء، حتى في ربه الذي خلقه وسواه وهذا الجند وهو جند الشبهات من أخطر الجنود؛ لأن صاحبه قد لا يطلع عليه، ولا يؤنبه ضميره على الوقوع فيه، فالمصاب بالوسوسة لا يجد تأنيباً من ضميره على ما وقع فيه.

    أما الشهوات فإن صاحبها قد يندم، ويعلم أنه مخطئ ويستحيي مما يصنع، فإذا وقع في ذنبٍ يستحي منه ويستره، وأما الشبهات فالمشكلة أن صاحبها لا يستحي منها، ولذلك أصحاب البدع الذين يشرعون ما لم يأذن به الله، هؤلاء ابتلاهم الله تعالى بأنه لم يوفقهم للتوبة، وأخذ بنواصيهم إلى الابتداع، فلم يريهم أن الذي عملوه سيئاً، بل رأوا السوء الذي يصنعونه حسناً وابتلاهم الله تعالى بذلك.

    إذاً هذان جندان من جند الشيطان، أعطانا الله تعالى من منه وفضله جندين نكافحهما به، ما هما هذان الجندان؟

    أما الجند الأول: وهو جند الشهوات، فجنده الواقف في وجهه الذي نكافحه به، هو الصبر، فالصبر جند عظيم، ولذلك قال الله فيه: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46].

    شعب الصبر التي يجاهد بها الشيطان وجنده

    والصبر له ثلاث شعب كبرى:

    الشعبة الأولى: الصبر عن معصية الله، وهذه هي التي تحول دون الشهوات.

    والثانية: الصبر على طاعة الله.

    والثالثة: الصبر على قدر الله.

    إذاً هذه ثلاث شعب: الصبر عن معصية الله، والصبر على طاعة الله، والصبر على قضاء الله وقدره، فهذه هي شعب الصبر، من جمعها نجا من الشهوات، ويكون مالكاً لنفسه منتصراً عليها، وبذلك يكتب له النصر العاجل في الدنيا، ويكتب له النصر الآجل في الملأ الأعلى، عندما ينادى به على رءوس الأشهاد يوم القيامة.

    ولهذا فإن من لم ينتصر على نفسه بصبره، لا يمكن أن ينتصر على غيره، ولاحظوا القاعدة العظيمة التي قالها أحد الدعاة والأئمة، وهو حسن الهضيبي رحمه الله تعالى، يقول: إن من انهزم أمام نفسه في معركة الإصلاح، حري أن ينهزم أمام غيره في معركة السلاح.

    الجند الثاني: هو اليقين، واليقين: هو الجند الواقف في وجه الشبهات، فالشبهات التي يلقيها الشيطان، بماذا نعالجها؟ نعالجها باليقين وتقوية الإيمان بالله، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في علاج الوسوسة: ( قل: آمنت بالله )، عندما يشعر الشخص بأي وسواس، أياً كان، يقول: آمنت بالله، فإذا قالها تلاشت أوهام الشيطان وأحلامه ويتطهر الشخص منها، وإذا لم يقلها في البداية نكتت نكتة في قلبه وصارت بمثابة الصدأ، يتراكم عليها أنواع الأوساخ وبذلك يصعب تطهيرها، لكن إذا كان في البداية كلما جاءه وسواس وكلما جاءته شبهة قال: آمنت بالله، وحينئذٍ تهيأ باليقين لمكافحة جند اللعين عليه لعائن الله.

    إذاً فهذان نوعان من الجهاد: وهما جهاد الشيطان، جهاده بالصبر، وجهاده باليقين، جهاده فيما يلقيه من الشهوات، وجهاده فيما يلقيه من الشبهات، فقد ذكرنا من أنواع الجهاد ستةً، أربعة من جهاد النفس، واثنان من جهاد الشيطان.

    1.   

    أقسام مجاهدة الكفار

    الكفار وجهاد الكفار له أربعة وسائل بها تتم أربعة أقسام من أنواع الجهاد:

    القسم الأول: مجاهدتهم بالقلب، وهذه أدنى الأمور، أن تبغض الكفار في ذات الله، بأن لا تجد ميلاً إلى الكفار، ولا ركوناً إليهم، وأن تعلم أنهم أعداؤك مهما كانوا، ومهما أحسنوا إليك في هذه الدنيا، ومهما قدموا لك من المساعدات، ومهما كانوا أقرباءً لك، تبغضهم بسبب كفرهم، إذاً فهذا أول جهاد بالنسبة للكفار، وهذا مشروط في القرآن، ولذلك يقول الله تعالى: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ [هود:113]، ويقول تعالى: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا [الإسراء:74-75].

    فإذاً هؤلاء الكفار الذين نهانا الله تعالى عن موالاتهم بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا للهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:144]، وبقوله: لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ [آل عمران:28]، وفي قوله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة:78-81]، وفي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [المائدة:51]، وفي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ [المائدة:57].

    إذاً فكل هؤلاء هم من القسم الأول من أقسام جهاد الكفار، وهو بغضهم بالقلب.

    القسم الثاني من أقسام جهاد الكفار: هو جهادهم باللسان، وذلك بالتحذير منهم وذمهم، والغلظة عليهم باللسان، وهذا ما أمر الله تعالى به رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وأمرنا به، فأمره للرسول صلى الله عليه وسلم قوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة:73]، في آيتين من كتاب الله في سورة التوبة، وفي سورة التحريم، وأمره لنا في سورة التوبة، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة:123]، فهذه الغلظة لسانية وأيضاً فعلية، وقد ثبت في سنن أبي داود عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم، وألسنتكم ).

    إذاً جهاد الكفار بالألسنة مهم جداً، وهو ركن من أركان الجهاد ولا بد منه، وكثير من الناس وصل به عفة اللسان إلى أن لا يتنقص الكفار، ولا يتكلم فيهم، وهذا مخالف للجهاد الذي شرط الله عليه وأمره به، وهو مخالف للعفة المطلوبة، وهذا من الحياء المذموم، فكثير من الناس إذا سجل له شريط كلامه منذ كلف ومنذ فهم إلى أن مات، لا يجد نسبة مجاهدة الكفار باللسان فيه إلا قليلاً جداً، واللازم أن يكون المؤمن دائماً يعلم أن على لسانه حقاً في مجاهدة الكفار، لا بد من هذا، ولا بد أن يجد نسبةً من مقولاته، ومما ينطق به في مجاهدة أعداء الله تعالى من الكفرة.

    القسم الثالث من أقسام جهاد الكفار: مجاهدتهم بالمال، وهذا الجهاد بالمال بدأ الله تعالى به قبل الجهاد بالنفوس في آيات كثيرة من كتاب الله تعالى وحض عليه، ولذلك قال هنا: وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [الصف:11]، بدأ بالجهاد بالمال قبل الجهاد بالنفس؛ وذلك لخطورته؛ لأن العدد القليل من المؤمنين إذا كانوا مسلحين مستعدين وكان لهم من المال ما يكفيهم فإن الله تعالى سينصرهم، لكن إذا كان العدد كثيراً غير مسلحين فحينئذٍ لم يأخذوا بوسائل النصر ولا بأسبابه، فالكثرة بغض النظر عن التكوين وعن المال وعن الإعداد والسلاح لا فائدة فيها، ولهذا قال الله تعالى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ [التوبة:25-26].

    القسم الرابع من أقسام جهاد الكفار: هو جهادهم بالنفس، وقتالهم بحسب الطاقة، وهذا إنما هو قسمان: قسم منه هجومي، وقسم منه دفاعي، أما القسم الهجومي فيجب كفايةً على المسلمين أن يخرجوا فرقةً في الشتاء، وفرقةً في الصيف تجاهد خارج أرض المسلمين، تجاهد الذين كفروا بالله واليوم الآخر؛ حتى تعيدهم إلى دين الله تعالى وتدخلهم فيه، أو يقبلوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، وهذا يجب على الأمة الإسلامية أن تفعله، وإن لم تفعل فهي آثمة بعمومها، في الشتاء وفي الصيف، وتسميان الفرقة الشاتية والفرقة الصائفة، هذا الجهاد الهجومي وهذا قد انقطع من زمان، والله المستعان، ويجب على المسلمين إعداد أنفسهم له وإرجاعه.

    القسم الثاني: الجهاد الدفاعي، وهذا يجب عيناً ولا يجب كفايةً، القسم الأول كفائي، لكن الجهاد الدفاعي عيني، ويستوي فيه الذكور والإناث والعبيد والأحرار، حتى أن كثيراً من العلماء قد أوجبه على غير البالغين؛ لأن تركه يؤدي إلى استئصال البيضة، وهذا الجهاد هو الذي يقع في أزمنتنا هذه، مثلما يحصل الآن في الشيشان وفي البوسنة وفي السودان، وفي إرتيريا وفي كشمير، وفي الفلبين، وفي مواقع كثيرة من العالم، وهذا النوع من أنواع الجهاد، أن المسلمين قد انتهكت حرماتهم في ديارهم، فوجب عليهم أن يقاتلوا عن دينهم، ووجب على المسلمين جميعاً أن يساعدوهم، وأن يبذلوا أنفسهم وأموالهم في نصرة إخوانهم، وألا يخذلوهم، فـ ( المسلم أخو المسلم، لا يخذله، ولا يحقره، ولا يكذبه )، فلهذا كان هذا النوع من الجهاد، النوع الرابع من أنواع جهاد الكفار.

    1.   

    أقسام مجاهدة المنافقين

    ثم بعد هذا، تأتي أربعة أقسام أخرى، وهي جهاد المنافقين:

    القسم الأول: جهاد المنافقين بالقلب، وهو بغضهم فيه حتى ولو كانوا أقرب الناس إليك نسباً، وألصقهم بك رحماً، أو كانوا من المحسنين إليك يجب عليك بغضهم في ذات الله تعالى، والنفاق هنا يشمل النفاق العقدي، والنفاق العملي، فالنفاق العقدي: مثل الملحدين الذين يعيشون في دورنا الآن وهم كثير، كثير من الذين يعيشون في دور المسلمين من أولاد المسلمين، يتسمون بأسماء الإسلام ومع ذلك ليس لهم اعتقاد في الله تعالى، ولا إيمان برسوله صلى الله عليه وسلم، ولا تصديق باليوم الآخر، وإنما يجارون الناس، وهؤلاء هم المنافقون النفاق العقدي.

    القسم الثاني: المنافقون النفاق العملي، وهؤلاء هم الذين باعوا آخرتهم بدنياهم أو بدنيا غيرهم، فيخدمون أعداء الله تعالى ويقدمون لهم التنازلات في دينهم، ويرضون بالدنيا مقابل الدين، ويتراجعون عن الصفقة مع الله تعالى، ولذلك قال الله في خلافهم: مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [الأحزاب:23-24]، وهؤلاء المنافقون المقصود بهم المنافقون النفاق العملي لا النفاق العقدي.

    ثم بعد هذا، القسم الثاني من أقسام جهاد المنافقين: هو جهادهم باللسان كجهاد الكفار الذي ذكرناه من قبل، بفضيحتهم والتشهير بهم، وهجائهم وذمهم والتحذير منهم.

    ثم بعد هذا: جهادهم بالمال، على نحو ما ذكرناه في جهاد الكفار.

    ثم جهادهم بالأنفس على نحو ما ذكرناه في جهاد الكفار، وذلك بتغيير المنكر باليد لمن استطاع، ثم إن لم يستطع فباللسان، ثم إن لم يستطع فبالقلب.

    فبهذا تكون أقسام الجهاد أربعة عشر، من عجز عن أحدها، لم يعجز عن كثير منها: مجاهدة النفس على العلم، وعلى التعلم، ثم مجاهدتها على العمل بما تعلم الشخص، ثم مجاهدتها على الدعوة، ثم مجاهدتها على الصبر، ثم مجاهدة الشيطان فيما يلقيه من الشهوات، ثم مجاهدته فيما يلقيه من الشبهات، ثم مجاهدة الكفار بالقلب، ثم مجاهدتهم باللسان، ثم مجاهدتهم بالمال، ثم مجاهدتهم بالبدن، ثم مجاهدة المنافقين بالقلب، ثم باللسان، ثم بالمال، ثم بالبدن، هذه أربعة عشر نوعاً من أنواع الجهاد، كلها داخلةً في عموم قول الله تعالى: وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ [الصف:11]، في هذه التجارة العظيمة.

    1.   

    المقصود بالسبيل في قوله: (تجاهدون في سبيل الله)

    ثم قال: وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ [الصف:11]، (سبيل الله)، معناه: طريقه وصراطه المستقيم الذي ارتضاه للمؤمنين، وهو هذا الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله، هذا هو سبيل الله.

    وقد روى ابن مسعود رضي الله عنه: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خط بيده الكريمة خطاً، ثم خط خطوطاً عن يمين ذلك الخط، وخطوطاً عن شماله، ثم وضع إصبعه على الخط الأول، وقال: هذا صراط الله مستقيماً، ثم أشار إلى الخطوط الأخرى، وقال: وهذه سبل، على كل واحدة منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ قول الله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153] ).

    إذاً هذا الصراط هو سبيل الله، وهو الذي يجب الجهاد في سبيله، ويجب الجهاد فيه، وذلك بإعلاء كلمة الله تعالى ونصرة دينه، وهذا يشمل إعلاء كلمته داخل أرض المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولإظهار شرائع الدين وشعائره، ويشمل الجهاد خارج أرض المسلمين لإدخال الكافرين في الدين، أو أن يدخلوا تحت ذمته ويؤدوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون.

    العلة من ذكر الجهاد بالأموال والأنفس دون غيرهما من الوسائل المتاحة للجهاد

    وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [الصف:11]، وهذه هي الوسائل المتاحة، قال: بأموالكم وأنفسكم، ولم يذكر الألسنة والقلوب هنا؛ لأنها أضعف من القسمين المذكورين، فذكر أبلغ من ذلك وأقواه، وهو المجاهدة بالأموال والأنفس.

    أما المجاهدة بالألسنة والقلوب، فهي أضعف في درجات الإيمان من القسمين المذكورين، فذكر القسمين اللذين هما أقوى، وطوى القسمين اللذين هما أضعف؛ وذلك لبلاغة القرآن وإعجازه، فقال: وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الصف:11]، ذَلِكُمْ [الصف:11]، هذا اسم إشارة خوطب به عموم المؤمنون، وهو في الأصل للمفرد المذكر، ولكنه في القرآن كثيراً ما يستعمل لكل ما سبق، (ذا) تطلق في الأصل على المفرد، ولكنها في القرآن تطلق على العموم السابق، مثل قول الله تعالى في وصف بقرة بني إسرائيل: لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ [البقرة:68]، بَيْنَ ذَلِكَ [البقرة:68]، لم يقل: بين ذينك، مع أن الذي سبق وصفان، وهما فارض وبكر، مع ذلك قال: عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ [البقرة:68]، وهنا قال: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الصف:11]، ذَلِكُمْ [الصف:11]، معناه: الذي سبق من الإيمان بالله، والإيمان برسوله، والجهاد في سبيل الله بالأموال، والجهاد في سبيل الله بالأنفس، كل هذا أطلق على عموم قوله: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ [الصف:11]، خَيْرٌ لَكُمْ [الصف:11]، معناها: هو خير شيء تقدمونه، و(خير) أفعل تفضيل، وهي تقتضي التفضيل على كل ما سواها، معناها هذا خير تجارة تتجرون بها، ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الصف:11]، وحذف المفضل عليه، وهو المجرور بـ (من) بعد أفعل التفضيل، ومعناها هو خير من كل شيء، ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ [الصف:11]، معناه من كل شيء، أو من كل تجارة، ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الصف:11].

    1.   

    جزاء التجارة مع الله تعالى

    هنا عرفنا الطرف الأول في البيع والتجارة، وهو ما نقدمه نحن، فما هو الجزاء؟ وما هو المقابل؟ وما هو الربح الذي سنجنيه من وراء هذا الذي نقدمه؟ ما هو؟

    مغفرة الذنوب وتأتيها بالتجارة مع الله

    قال: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [الصف:12]، هذا أول جزء من الربح، عند أول لحظة بمجرد النية، أن تقبل على الله تعالى وتتاجر معه، تغفر لك السيئات الماضية؛ لأنه بالإقبال على الله تعالى يجب ما سبق، فإذا أقبل الشخص مخلصاً على الله تعالى، أول ربح يناله، هو مغفرة ما مضى، وأن يسدل الستار على كل ما مضى، فيطوى ولا ينشر، فلهذا قال: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [الصف:12]، (ذنوبكم) تشمل: الكبائر، والصغائر، وتشمل منها ما كان في حقوق الله، وما كان في حقوق الناس، وما كان في حقوق النفس، أما ما كان في حقوق الله، فهو في الأصل في المشيئة، وأما ما كان في حقوق الناس، فلا بد فيه من جزاء، ولكن معنى (مغفرته)، أن يجازي الله عباده ويدفع لهم المقابل؛ حتى يرضيهم، وذلك بإرضاء الخصوم، فإذا جاء الشخص مطالب بديون يوم القيامة، قد شتم هذا، وأكل مال هذا، وأكل عرض هذا، وضرب هذا، واعتدى على حرمات هذا، فهذا إذا كان ممن تاجر مع الله، فإن الله سيقضى عنه الحقوق، يدفع لكل واحد من هؤلاء نصيبه حتى يسترضيه عنه.

    وأما إذا لم يكن من هؤلاء، فهو من المفلسين، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أتدرون من المفلس فيكم؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: بل المفلس من يأتي يوم القيامة وقد ضرب هذا، وشتم هذا، وأكل مال هذا، وقتل هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، حتى إذا نفدت حسناته، ألقي عليه من سيئاتهم، ثم ألقي في النار )، أجارني الله وإياكم من التفليس يوم القيامة.

    وقوله: إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الصف:11] هذه جملة اعتراضية، قصد بها تقوية الأسلوب، وذلك أن هذا وإن كان خيراً، إلا أن الذي يطلع عليه ويعرفه من الناس فئة قليلة، ولذلك تجدون المتاجرين مع الله أقل نسبةٍ في المجتمع من المتاجرين مع الناس، فالمتاجرون مع الله لو كان الناس يعلمون أنهم الرابحون لأقبلوا كلهم على التجارة مع الله تعالى، فلذلك قال: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [الصف:11-12]، إذاً هذا أول الربح مغفرة الذنوب، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [الصف:12]، ومعنى المغفرة: ستر الذنب في الدنيا، وعدم المؤاخذة به في الآخرة، فهذا الذنب الآن، لو كشف في الدنيا.

    ونحن نعلم أن بعض الأشخاص تتلوث سمعتهم وينزل مستواهم ويعيبهم كل الناس حتى لا يزنوا شربة ماء عند الناس؛ بسبب ذنب واحد فضحهم الله به في الدنيا، فكيف بمن كشف الله عنه ستره في الدنيا، فإن الله لو كشف ستره عن ذنوب الناس، لمات الناس من نتن الذنوب، فهذه الذنوب لها نتن عظيم جداً، ولو كشف الله الستر لحظة واحدةً عن نتن الذنوب، لمات الناس في النتن بذنوب بني آدم ، ومع ذلك فإن ستر الله الجميل هو الذي يسترنا حتى يمكن أن نتجالس، ولو كشف عنا الستر لم يستطع أحد منا أن ينظر إلى وجه أخيه، لكثرة ما بينه وبين الله من الحقوق والذنوب التي هو مطالب بها، فلذلك كان هذا الستر الجميل في الدنيا مغفرة، ومعه الستر الجميل في الآخرة. والستر الجميل في الدنيا يشمل الستر عن الكرام البررة الذين يكتبون: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، هؤلاء الكرام البررة، قد يستر الله بعض الذنوب عنهم فلا يطلعون عليها، وذلك من فضله وعفوه ولطفه ومنه، أن يغفر لكم ذنوبكم.

    تأتي دخول الجنة بالتجارة مع الله ومعنى هذا الدخول

    بعد هذا تتوالى الأرباح الطائلة التي هي أضعاف مضاعفة، فيقول: وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [الصف:12]، (( وَيُدْخِلْكُمْ ))، هذا الإدخال ليس هو الاستقرار، وليس هو الإسكان، فالإسكان درجة أخرى ستأتي في قوله: وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ [الصف:12]، بل بمجرد دخول الجنة، توقعوا أنكم الآن قد خرجتم من الموقف الهائل بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، إما إلى جنة، وإما إلى نار -نسـأل الله أن يجعلنا من وفد الجنة- وأذن لنا في الذهاب إلى الجنة، وعبرنا الصراط ونجونا من الأزمات التي على الصراط، فوصلنا باب الجنة، فإذا وصلنا باب الجنة تأتي أزمة أخرى، وهي أزمة فتح باب الجنة، وهذه الأزمة تحتاج إلى شفاعة، وأول شافع فيها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فهو أول من يحرك حلقة باب الجنة، وأول من تفتح له أبواب الجنة، فإذا فتحت أبواب الجنة ونادى الملائكة: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73]، حينئذٍ هذا الدخول هو ربح من أرباح هذه التجارة مع الله، فلذلك قال: وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [الصف:12].

    هذه الجنات وصفها بقوله: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [الصف:12]، وهذه الأنهار المذكورة ليست مثل أنهار الدنيا، وهي منوعة على التنويع المذكور في سورة محمد ، في قول الله تعالى: فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد:15]، هذه الأنهار الجارية التي تجري لا حصر لها ولا حد، كيزانها مثل نجوم السماء، بمجرد الدخول فيها يزيل عن الشخص كل ما مر عليه من الأزمات في الدنيا، وفي الموقف وفي المحشر، وفي كل ما مر عليه، أهوال جهنم عندما يمر عليها فوق الصراط تؤزه الملائكة أزاً، فهذه الأهوال بمجرد دخوله من باب من أبواب الجنة، من أي باب من أبوابها زالت عنه هذه الأهوال، وزال عنه ذلك الروع الذي تنتفض منه الفرائص، يزول ذلك الروع كله ويحل الأمان التام؛ لأن الجنة لا يخرج منها أحد، والنار يخرج منها كثير من الناس بعد أن يدخلوها، لكن الجنة بعد أن يدخلها الشخص سيهدأ روعه ويطمئن قلبه؛ لأنه لا خروج منها، ولهذا ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، أتي بالموت على هيئة كبش أقرن، فيقاد فيعرض على أهل الجنة، فيقال: أعرفتموه؟ فيقولون: نعم، هو الموت، ويشمئزون منه، ثم يعرض على أهل النار، فيقال: أعرفتموه؟ فيقولون: نعم، هو الموت، ويشمئزون منه، ثم يضجع على مرقبة بين الجنة والنار، فيذبح فينادي المنادي، يا أهل الجنة خلود فلا موت، و يا أهل النار خلود فلا موت ).

    المقصود بالمساكن الطيبة في الجنة

    فلهذا قال: وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [الصف:12]، هذا الدخول نعمة مستقلة، جاء بعدها نعمة أعظم منها، وهي الخلود، وهي قوله: وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ [الصف:12]، التجارة الدنيوية يقصد منها: المصالح الدنيوية، والمصالح الدنيوية من أهمها وأصعبها المساكن، كثير من الناس، أهم مشروع لديه في حياته، أن يحصل على سكن يعيش فيه، فهذا يبذل أموالاً طائلةً وجهداً جهيداً، وعمراً مديداً؛ من أجل تحصيل مسكن يؤيه في هذه الدنيا، مع أن مسكنه الحقيقي هو قبره الذي لا يتعدى شبراً من الأرض ستختلف فيه أضلاعه، ويجتمع فيه مع كثير من المقبولين الذين سبقوه، ويلحقه كثير منهم ويجتمع ترابهم بترابه، وعظامهم بعظامه.

    مع ذلك فإنَّ هم السكن سيكون الهم الشاغل بالنسبة للإنسان، لذلك جعله الله تعالى من أرباح هذه التجارة الأخروية، فقال: وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ [الصف:12]، وصف هذه المساكن بالطيب، وهذا الطيب شامل للشكل والرائحة واللون والقرب والمزية عند الله تعالى، وهذه المساكن الطيبة وإن كانت متفاوتة تفاوتاً عظيماً، فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أن أهل الجنة يتراءون الغرف كما يتراءى أهل الأرض الكوكب الدري )، فبعض درجات الجنة يكون بعدها من بعض، كما بين أهل الأرض والكواكب البعيدة جداً في مجرات بعيدة دونها آلاف السنوات الضوئية، فلهذا قال: وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ [الصف:12]، فيتفاوتون فيها وهي متسعة للجميع، وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ [الصف:12]، جمع الجنة هنا؛ لأنها جنات بحسب درجاتها وتفاوت أهلها، ولذلك في حديث الربيع لما قتل ابنها عمير بن الحمام شهيداً يوم بدر رضي الله عنه، بعد أن رمى التمرات، وقال: ( ما بيني وبين الجنة إلا أن أقاتل فأقتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، فقال: إن انتظرت آكل هذه التمرات إني إذاً لحريص، فرمى بهن وأخذ سيفه، وضرب في وجه العدو حتى قتل )، فلقي الله راضياً عنه، وكان من شهداء بدر، فجاءت أمه فقالت: ( يا رسول الله! أخبرني عن ابني عمير أفي الجنة هو؟ أم غير ذلك، فترى ما أصنع، فقال: أو جنة هي؟ إنما هي جنان، وابنك في الفردوس الأعلى منها )، الفردوس الأعلى من الجنة تحت عرش الرحمن، سقفه وظله عرش الرحمن، وهذا مكان الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، جعلنا الله وإياكم من رفقائهم وحسن أولئك رفيقاً.

    فلذلك قال: وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ [الصف:12]، والعدن معناه: الاستقرار والخلود، وعدن بالمكان معناه: أقام به، ولهذا قال: جَنَّاتِ عَدْنٍ [الصف:12]. ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الصف:12]، (( ذَلِكَ )) المذكور من المغفرة ودخول الجنة، والمساكن الطيبة فيها، الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الصف:12]، والهدي المستقيم ورضا الله تعالى الأكبر الذي لا سخط بعده، وهو مستقر رحمته، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:55]، فلذلك أخبر عنه بأنه الفوز العظيم، وكل ما سواه لا يزن ريشةً في مقابله، كل ما سواه من كل أمر كان، لا يصل إلى وزن ريشة في مقابل هذا الفوز العظيم، فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].

    تأتي ما يحبه المؤمن في الدنيا والآخرة بالتجارة مع الله

    وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ [الصف:13]، (( وَأُخْرَى )) من هذه الأرباح المتتالية المضاعفة ربح دنيوي، نحن نعلم أن للإنسان دارين: دنيا وآخرة، فليست الآخرة وحدها هم الشخص، وإن كانت الهم الأكبر، ومع ذلك فإن المؤمنين يرجون أيضاً الدنيا والآخرة، ولهذا أخبرنا الله تعالى عن حال الذين رضي عنهم في سؤالهم له، أنهم يقولون: يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201]، وقال في الآخرين: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى:20].

    فإذاً الذين يريدون الآخرة مع ذلك لا ينسون حظهم من الدنيا، فالله تعالى وعدهم على هذه التجارة بربح دنيوي، فقال: (( وَأُخْرَى ))، وهذا التأخير في قوله: (( وَأُخْرَى ))، أخرى معناها: غير الأولى، ولكن المقصود أنها متأخرة رتبة عن الأولى، فالأولى هي الهم الشاغل للمؤمنين وهي أعظم شيء ينالونه، ولكن هذه بعدها، أو متأخرة من ناحية المنزلة، وإن كانت متقدمةً عليها من ناحية الزمن، فالدنيا سابقة على الآخرة من حيث الزمن، ولكنها متأخرة عنها في الرتب، فلهذا قال: (( وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا ))، معناها: حباً دنيوياً، وليس الحب الأخروي، فالحب الأخروي أحب شيء إلى المؤمنين فيه الجنة، وما يقرب من الله تعالى.

    وهنا قال: (( وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا ))[الصف:13]، ما هي هذه؟

    تأتي النصر والفتح بالتجارة مع الله

    نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ [الصف:13]، نصر من الله في الدنيا، وهذا يشمل الانتصار على الأنفس، والانتصار على الشيطان، والانتصار على المنافقين، والانتصار على الكفار، على أقسام الجهاد التي ذكرناها، نَصْرٌ مِنَ اللهِ [الصف:13]، هذا النصر ليس من عند الناس، فنصر الناس منقطع، ولهذا يقول أحد علمائنا هو مولود بن عبد الجواد رحمه الله تعالى:

    أنا الضعيف فذاك الضعف يرحمه ربي القوي فكان الضعف أقوى لي

    ما ذل من بالله عز وكم ذل العزيز بأعمام وأخوالي

    وكم رأينا ذليلاً بعد عزته من عزه بالموالي أو بالأموال

    متى تفز بموالاة الإله يدي فعاد يا أيها المخلوق أو والي

    إذاً فالنصر هنا نصر من عند الله ليس بمجرد الأسباب الدنيوية، ولذلك بنو إسرائيل عندما فرض الله عليهم دخول أريحا مع موسى، وامتنعوا من ذلك لنقص إيمانهم، قال رجلان فيهم من المؤمنين قص الله علينا قصتهما في قوله: قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ [المائدة:23]، هذا النصر نصر من عند الله، معناها ليس بأسباب النصر، بل الأسباب من عند الله، ولكنه ليس واصلاً مباشرةً يطمئن إليه القلب طمأنينته إلى النصر الواصل من دون الأسباب المتساوية، مثلاً: المؤمنون في مختلف العصور نصرهم ليس بكثرتهم ولا بعددهم ولا بعددهم، وإن كانت هذه من الوسائل المطلوبة التي يجب أن يبذلوا الجهد في تحصيلها، ولكن مع ذلك يأتي نصرهم من عند الله تعالى، كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249]، يقول الله تعالى: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ [التوبة:40]، هذا النصر من عند الله، إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا [التوبة:40]، وهكذا في قصة موسى يقول الله تعالى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ [الصافات:114-116]، هذا النصر من عند الله تعالى، بدون الأسباب المعتادة، وإن كان السبب موجوداً ، موسى أمره الله بضرب البحر، ولم يشق الله البحر قبل ضرب موسى ، للتنبيه على أن الاكتساب لا بد منه، والإعداد لا بد منه، والتهيئة لا بد منها، ولكن مع ذلك يأتي النصر من عند الله تعالى بقدر ما في القلب من الإيمان والإخلاص لله تعالى.

    ولذلك قال: نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ [الصف:13]، بعد هذا النصر الذي هو شامل للتمكين ولغيره، فالنصر يحصل حتى مع الشهادة في سبيل الله، فهي إحدى الحسنيين، الشهيد في سبيل الله عندما يقتل نال النصر.

    وكتب له أعلى درجات النصر، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه البخاري في الصحيح وغيره: ( ما من سريةٍ تخرج في سبيل الله فتغنم إلا كان ذلك أنقص لأجرها، وما من سرية تخرج في سبيل الله، فتخفق إلا نالت أجرها كاملةً )، إذاً فالنصر هنا قد يأتي حتى مع الشهادة في سبيل الله، وحتى مع الإخفاق في الغزو، فهذا التمكين وهذا التحبيب في القلوب الذي يكتبه الله تعالى لعباده المؤمنين هو النصر الحقيقي.

    وانظروا إلى رجلٍ قد سلف في القرون السالفة، في عهود قد مضت، فقد أخرجه أهله وتمالأ عليه أبوه وقومه، ورموه في النار، ومع ذلك نصره الله نصراً ما زال بين أيدينا، وما زلنا نتذكره، وهو إبراهيم خليل الله، الذي لما رمي في النار قال: حسبي الله ونعم الوكيل، فنصره الله نصراً عظيماً، وهذا النصر هو الذي يقول الله تعالى فيه: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ [الشعراء:84]، هو في دعائه قال: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ [الشعراء:84]، فنصره الله ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم والتمكين لدينه، وأمر محمداً وأتباعه أن يتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [البقرة:135]، أليس هذا غاية النصر، أن يؤمر أفضل خلق الله وأشرفهم على الله، أن يتبع ملة رجلٍ قد مات في القرون الماضية، وقد أخرج ورمي في النار، فهذا غاية النصر وأعلاه، وهو أعلى المقامات فيما يتعلق بالنصر حتى في معايير الدنيا، هذا الشخص الذي مضى في قرون آلاف السنين السابقة، ومع ذلك إلى ما زال الآن، أسوة وقدوة لكل المؤمنين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، هذا هو النصر الحقيقي، فلذلك قال الله تعالى: وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ [الصف:13]، مع هذا النصر عطف عليه مزيةً أخرى، هي: وَفَتْحٌ قَرِيبٌ [الصف:13]، والقريب معناه: العاجل، وذلك المقصود به الفتح الدنيوي، وهو بالتمكين في الأرض والسيطرة عليها، وإعلاء كلمة الله تعالى فيها، وإعزاز دينه، ومن ذلك فتح مكة وغيره من الفتوحات التي مكن الله فيها للمؤمنين، وأعلى فيها كلمته وأظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون، فقال: وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ [الصف:13]، بشر المؤمنين بهذا كله، وبأنهم الذين يوفقون لهذه التجارة الرابحة مع الله تعالى، فلذلك لاحظوا أن الإيمان ذكر في أول الآية، وهو الإيمان القدري في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10]، ثم ذكر في وسطها في قوله: تُؤْمِنُونَ بِاللهِ [الصف:11]، ثم ذكر في آخرها في قوله: وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ [الصف:13]، فكانت الآية مبدوءة بالإيمان موسطةً به ومختومةً به، وهذا يسمى عند البلاغيين بالتأنق، والتأنق المبالغة في تحصيل العبارة، وفيه يقول السيوطي رحمه الله تعالى في ألفية البلاغة، يقول:

    ويطلب التأنيق في ابتداء وفي تخلص وفي انتهاء

    وسور القرآن في ابتدائها وفي خلوصها وفي انتهائها

    واردة أكمل وجه وأجل وكيف لا وهو كلام الله جل

    ومن لها أمعن في التأمل بان له كل خفيٍ وجلي

    أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وكان بودي أن نأتي على بقية الآيات من خواتيم السورة، ولكن الحديث قد تشعب، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وأسأل الله أن ينفعنا بما سمعنا، وأن يوفقنا للإيمان بالله تعالى، والمتاجرة معه بالأعمال الصالحة، وأن يجعلنا من الهداة المهتدين غير الضالين ولا المضلين، وأن يأخذ بنواصينا إلى الخير أجمعين، وأن يستعملنا في طاعته، وأن يوفقنا لما يرضيه.

    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767424623