إسلام ويب

فقه الاختلافللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • خلق الله تعالى العباد، وجعلهم مختلفين لحكمة يعلمها، وجعل الخلاف سائراً حتى بين أبناء الملة الواحدة، والدين الواحد والكتاب الواحد؛ وقد وقع حتى في زمن النبوة وهو ممتد إلى يومنا هذا، وسبب الخلاف التفاوت في فهم النصوص الشرعية، ومن ذلك نشأت المذاهب الفقهية التي ينبغي أن نتخذها كوسيلة لفهم النصوص لا ديانات، والتي ينبغي ألا نقف منها موقف المتعصب، الذي يفرق شمل الأمة، وقد حذرنا الله تعالى من ذلك.

    1.   

    خلق الله العباد على حزبين

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته، وسلم تسليماً كثيراً.

    أما بعد:

    فإن الله عز خلق الناس من نفس واحدة، ولكنه حكم على أن يكونوا حزبين:

    الحزب الأعلى وهو حزب الله، والحزب الأدنى حزب الشيطان؛ فأما حزب الله فقد حكم لهم بالغلبة والفلاح، وذكر أوصافهم في كتابه وأثنى عليهم وأشاد بهم.

    وأما الحزب الثاني حزب الشيطان، وقد حكم الله عليهم بالخسران، وذكر أوصافهم، ونفر منهم في كتابه؛ فقال سبحانه وتعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ[البقرة:253]، تجدون أحياناً الشقيقين خرجا من بطن واحد، وتغذيا بغذاء واحد، وتربيا على هيئةٍ واحدة، أحدهما من حزب الله، والآخر من حزب الشيطان؛ بل تجدون أكبر من ذلك، فتجدون أحدهما هو أول من يأخذ كتابه بيمينه، وشقيقه هو أول من يأخذ كتابه بشماله.

    فهذا أبو سلمة بن عبد الأسد رضي الله عنه هو أول من يأخذ كتابه بيمينه، وشقيقه الأسود بن عبد الأسد هو أول من يأخذ كتابه بشماله، وهما أخوان شقيقان من قريش، وتجدون الفرق الشاسع بين العباس بن عبد المطلب ، و أبي لهب بن عبد المطلب ، وهما عمان من أعمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللذين أدركا البعثة، هذا من خيرة أهل الجنة، ومن أعلى الناس منزلة فيها، والآخر من شر أهل النار، ومن أدناهم منزلة فيها، أجارني الله وإياكم.

    وكذلك تنظرون إلى هذا المستوى أيضاً؛ فتجدونه في كثير من الأشقاء كأبي جهل ، وأخيه الحارث بن هشام ، فـأبو جهل من قادة أهل النار، وأخوه الحارث بن هشام من قادة أهل الجنة.. وهكذا؛ فهذه حكمة بالغة يمحص الله تعالى بها عباده، ويختار جنده وحزبه لا على أساس نسب ولا حسب، وإنما على أساس حكمة واختيار، يختار الله به من شاء، كما قال: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهمْ الْخِيَرَةُ[القصص:68]، وقال: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُدًا[الكهف:51].

    1.   

    تكالب وتألب الكافرين على الدين وأهله والواجب على المسلمين مقابل ذلك

    إن حزب الشيطان يحاولون دائماً أن يتألبوا ويتألفوا، وأن يكونوا يداً واحدة على حزب الله، وحزب الله المفروض فيهم كذلك أن يتألبوا ويتألفوا، وأن يكونوا يداً واحدة على من سواهم، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( المسلمون تتكافأ دماؤهم وأموالهم، وهم يد على من سواهم ويقوم بذمتهم أدناهم ).

    وكذلك حذرهم الله عز وجل من الخلاف، وأمرهم بتوحيد جهودهم، وتكثيف وحدتهم، واتفاق كلمتهم، ونبه على ذلك في كثير من الآيات، وبين ما يقنع به من الناحية العقلية، قال سبحانه وتعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ[التوبة:36]، بين هنا علة أمرنا بأن نقاتل المشركين كافة، وهي أنهم يقاتلوننا كافة، فكما تألبوا علينا، واجتمعت صفوفهم رغم اختلاف قلوبهم وتنافرهم إلا أنهم جميعاً يد واحدة على من قال: لا إله إلا الله؛ فعلى المسلمين إذا علموا هذا وأيقنوا أن أعداءهم مهما اختلفت مشاربهم، وتباينت آراؤهم أن يحاولوا أن يكونوا يداً واحدة ضدهم، على المسلمين أن ينتبهوا لهذا الأمر الرباني الموجه إليهم، ويدركوا قول الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا[النساء:76].

    وقد أعاننا الله تعالى عليهم، بحصول النفرة في صفوفهم؛ ولأن الله تعالى لن يؤلف قلوبهم في الواقع، كل شخص منهم يكره صاحبه، ويحسده، ويمقته، ويحاول أن يزداد عليه حظاً من أمور الدنيا، بينما نجد أن القيم الإسلامية تحض المسلم على أن يحب لأخيه ما يحبه لنفسه، وعلى ألا يحسده، وعلى ألا يبغضه، وعلى ألا يسوم على سومه، ولا يخطب على خطبته، ولا يسعى لأي شيء يغير قلبه عليه؛ ولهذا جعل الله تعالى المؤمنين بعضهم أولياء بعض، قال الله تعالى: وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ[التوبة:71].

    إن أعداءنا يحدثنا الله تعالى عنهم بقوله في وصف اليهود ومن شايعهم من المنافقين: لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى[الحشر:14]، (تحسبهم جميعاً)؛ من شدة تكالبهم على هذا الدين، وحرصهم على ضرر أهله، ولكن مع ذلك قلوبهم شتى، كل شخص منهم يحسد الآخر ويحاول أن يزداد حظه من الدنيا على حظه، والسبب واضح، وهو أن المؤمنين يريدون مرضاة الله وتنافسهم إنما هو في القرب من الله، والكافرون يريدون الزيادة في حظوظ الدنيا، والدنيا يتنافس فيها أهلها، أما المؤمنون فحرم عليهم التنافس في أمور الدنيا، وشرع لهم التنافس في أمور الآخرة؛ ولذلك يقول الله تعالى: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ[المطففين:26].

    1.   

    موقف المسلم ممن فضل عليه في الدنيا

    إن التنافس يكون في ما يقربنا من الله تعالى، والرسول صلى الله عليه وسلم أوصى أبا ذر أن ينظر في الدنيا إلى من دونه حتى يشهد نعمة الله عليه، وينظر في الآخرة إلى ما فوقه حتى يحاول أن يلتحق به؛ ففي أمور الدين يحاول الشخص أن ينظر إلى من فوقه ومن هو أقوى منه ديناً وأكثر علماً، ينظر إلى الذين يأتون المسجد قبل الأذان على طهارة، ويحاول أن يلتحق بهم، ويكون مثلهم، ينظر إلى الذين يملكون ألسنتهم ولا يتكلمون في أعراض الناس، ولا يغتابون الناس، ولا يحملون النميمة؛ فيحاول أن يكون مثلهم.

    ينظر إلى الذين ينفقون أموالهم عن طواعية، وتستر، ينفقونها طيبة بها قلوبهم، لا يريدون رياء ولا سمعة، ويحاول أن يلتحق بهم، ينظر إلى الذين يصومون الأيام القائظة في الصيف الحار، ابتغاء مرضاة الله ويحاول أن يكون مثلهم، ينظر إلى الذين يقومون الليالي الشاتية الطويلة، ويحاول أن يلتحق بركبهم، إذاً: ينظر في الدين إلى من فوقه.

    أما في أمور الدنيا فالمسلم إذا كان مريضاً في بدنه فينظر إلى الذي هو ملازم للفراش قد ابتلي بنقص في خلقته، وإذا كان فقيراً نظر إلى المحروم الذي لا يجد غذاء يتغذى به، وإذا كان غنياً نظر إلى الفقير الذي دونه، حتى يحمد نعمة الله عليه، لا ينظر الفقير إلى الغني ليعجبه ما هو فيه؛ بل حذر الله رسوله من هذا فقال: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى[طه:131]، لتمتد عينك إلى الذين زادوا في الخير، وزادوا في التقرب من الله، ولا تنظر إلى الذين تنافسوا في الدنيا، وامتحنهم الله بها؛ لأن ما آتاهم الله كثير من الناس يظن أنه دائماً نعمة، والواقع خلاف ذلك؛ بل قد يكون نقمة؛ فكثير من الناس تغدق عليه الخيرات، ويعطى صحة في البدن، وقوة فيه، وكثرة في المال والأولاد، ومع ذلك يقول الله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا[المدثر:11-17]، نعوذ بالله، يتوعده الله تعالى بأن يحمله فوق عنقه جبلاً عظيماً من جبال النار، وهو صعود، نعوذ بالله.

    وكذلك فإن هذه الأموال التي يمتحن الله تعالى بها الناس، كثير من الناس قد يظن أن الذي تمتلئ يداه من الدنيا، يوفق دائماً فيها لصرفها في رفاهيته وتعففه في الدنيا، وفي نجاته في الآخرة، والذي يسألهم ويطلع على أحوالهم عن كثب؛ يجد كثيراً منهم في شقاء عجيب، دائماً مشغول البال، دائماً يخاف أن تخرب تجارته، وأن تتعطل منافعه، وهو في حذر دائم، وقلق دائم، يستيقظ على حذر، ولا يجد وقتاً للراحة ولا يجد وقتاً للطمأنينة؛ لأنه قد امتلأ قلبه بالدنيا؛ بل دخلت في قلبه ولم تدخل في يده.

    أنتم هنا جماعة المسجد كم منكم من يملك شيئاً من أمور الدنيا لكنها تكون في يده، ولا تكون في قلبه، لكن وراءكم أقواماً من جماعات البيوت، تدخل الدنيا في قلوبهم، ولا تكون في أيديهم؛ ولذلك لا يستطيعون توزيعها، ولا يستطيعون أن يسخروها لخدمتهم، ولا أن يشتروا بها أنفسهم يوم القيامة، في ذلك اليوم الذي يود الناس فيه لو يفتدون بأي شيء: يَوَدُّ المُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ[المعارج:11-14].

    1.   

    الحكمة من تفاوت الناس في الدنيا وأحوالها

    إن التفاوت في الدنيا من مظاهر الاختلاف الذي فرضه الله على عباده، ولا تنزعجوا منه فهو واقع لابد منه، خلق الله الجنة والنار، وتعهد لكل واحدة منهما بأهلها، ولا يمكن أن تمتلئ الجنة وتخلو النار، ولا أن تمتلئ النار وتخلو الجنة؛ بل لا بد أن يسير بعث النار إلى النار، ويسير بعث الجنة إلى الجنة، هذه حكمة لا بد منها؛ فلذلك لا تنزعجوا من هذا النوع الأول من أنواع الخلاف، واعلموا أنه امتحان يمتحنكم الله به، وأن الله عز وجل غني عنكم جميعاً، لا يريد التكثر بكم، ولا القوة بكم، فهو الغني الحميد، القوي الشديد، شديد المحال، يقول في خلقه: ذلك وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ[محمد:4].

    ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إن الله سبحانه وتعالى لو كشف الحجاب لحظة واحدة لأحرقت سبحات وجهه السموات السبع، والأرضين السبع، وما فيهن )، فلذلك ما أهون أهل الأرض كلهم على الله إن عصوه؛ فلا تساوي الأرض وأهلها جميعاً شيئاً من خزائن الله ومن ملكوته، كل ما فيها لا يساوي شيئاً مما عند الله، لاحظوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصفه للجنة، والجنة دار من خلق الله ليست هي كل شيء، ومع ذلك يقول فيها الرسول صلى الله عليه وسلم: ( موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها )، الدنيا تشمل السموات السبع، والأرضين السبع، والمجموعة الشمسية التي نحن فيها وكل الكواكب، كل ذلك موضع سوط أحدكم في الجنة خير منه، موضع سوطه، المكان الذي يضع فيه عصاه فقط خير منه.

    ولاحظوا ما روى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل في وصف الجنة، حيث يقول: ( أعددت لعبادي ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر )، يفكر الناس كل تفكير وما وصلوا إلى أدنى شيء من نعيم أدنى أهل الجنة نعيماً، ومع هذا فنجد التفاوت الشاسع بين منازل أهل الجنة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إن أهل الجنة ليتراءون الغرف كما يتراءى أهل الأرض الكوكب الدري)، من تباعد منازلهم فيما بينهم، اقرأوا إن شئتم سورة الرحمن، وسورة الواقعة، تجدون التفاوت الشاسع بين المنزلتين من منازل الجنة، بين منزلة المقربين، ومنزلة أصحاب اليمين.

    1.   

    حتمية الخلاف والصراع في الدنيا

    إذا كان الأمر كذلك فنعود هنا، ونرجع عن هذا الخلاف الحتمي الذي لا بد منه وهو الخلاف بين حزب الله وحزب الشيطان، إلى أن نصل إلى الخلاف الحاصل بين حزب الله المؤمنين الموحدين؛ أنصار الله الذين رضوا واستجابوا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعوا قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ[الصف:14]؛ فقال المؤمنون: سمعنا وأطعنا، جاءوا جميعاً مقبلين بقلوبهم على الله سبحانه وتعالى لما سمعوه يناديهم، وهم يعلمون أن نداء الله ليس كنداء الناس، يعلمون الشرف العظيم لدى كل البشر الذي أحرزه موسى حين أصبح كليم الله، حين كلمه الله، وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ[المطففين:26]؛ لذلك إذا سمعوا الله يناديهم ويقول: (يا أيها الذين آمنوا) اقشعرت أجسامهم، وتهيأت قلوبهم، وأنصتت آذانهم؛ لأنهم حصلوا على شرف عظيم حيث كلمهم ربهم الذي خلقهم وسواهم، يتهيئون لأن يكونوا كلهم آذاناً لسماع كلام الله، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللهِ[الصف:14]، فيقولون: سمعنا وأطعنا، لبيك ربنا، قد استجبنا، كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ[الصف:14]، هذا مثل ضربه الله لهذا الصراع المستمر الحتمي بين الحق والباطل، دائماً ما يبدأ الدين وتبدأ الدعوة إليه في قلة من الناس مستضعفين أذلة، ولكنهم مستضعفون أذلة بمعايير أهل الأرض، أما بمعايير السماء فهم الأعلون والله معهم، وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ[محمد:35].

    ولذلك قال الله تعالى لأهل أحد حين رجعوا من تلك الغزوة العظيمة: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ المَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ[آل عمران:139-143].

    لذلك فإن علينا معاشر المؤمنين الذين استجبنا لدعاء الله، واستجبنا لنداء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نكون كما رضي لنا، أن نكون يداً واحدة، حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا تناجشوا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يحقره، ولا يكذبه، التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره ثلاثاً، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه ).

    إذاً: أمرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن نكون يداً واحدة على من سوانا، وأن نزيل الفوارق فيما بيننا، وأن نحاول أن نزيل الخلاف إذا حصل.

    نحن نعلم أن للخلاف أسباباً كثيرة، يحصل الخلاف على أمور الدين، ويحصل على أمور الدنيا، يأتي أولاً صغيراً ضعيفاً ثم ينفخ فيه الشيطان فيزداد ويكبر، وهكذا تبدأ الحروب كما تبدأ النار، بداية النار إنما هي من الشرر، هذا الشرر البسيط تتقد منه النيران العظيمة، التي تأكل الأخضر واليابس، كما قال أحدهم:

    وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم

    والحرب أول ما تكون فتيةً.

    ففي بداية أمرها كل الناس يظنون أن الأمر بسيط، ولكنه ينفخ فيه الشيطان فيزداد؛ لذلك فإن الخلافات التي تحصل ينبغي لأهل العقول أن يتدبروا فيها، وأن ينظروا إلى أسبابها، وأن يشخصوها، ويحاولوا علاجها، قبل أن يتسع الخرق على الراقع.

    1.   

    حصول الخلاف في عهد رسول الله وعلاجه لذلك

    حصلت خلافات بين الجماعة المسلمة في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه عالجها علاجاً حسم مادة المرض.

    لاحظوا ما حصل في غزوة بني المصطلق حين خرج وارد من المهاجرين، ووارد من الأنصار، وحين وصلا إلى الماء وتخالفا في طريقة أخذ الماء، فضرب المهاجري الأنصاري فصاح المهاجري: يا للمهاجرين! وصاح الأنصاري: يا للأنصار! فتألب المنافقون وقال ابن أبي : إن هؤلاء الجلابيب قد غلبوكم على دوركم ولَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ[المنافقون:8]؛ فحسم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الخلاف، أمرهم أن يرتحلوا فخرجوا في الارتحال من وقت صلاة الظهر، ولم ينزل بهم إلا في آخر الليل حتى نزلوا وقد تعبوا من طول السفر، وجد السير ليشتغلوا بالتعب، عن ما دار في نفوسهم، وما أثاره المنافقون فيهم، ثم بعد ذلك تلا عليهم ما أنزل الله عليه في هذه الواقعة، وقرأ عليهم سورة المنافقين، وجاء الناس وهم الأنصار يقولون: إن ما حصل إنما حصل من المنافقين، فإن أمرتنا أن نقتلهم قتلناهم، فامتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، وجاء عبد الله بن أبي ، وهو أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عبد الله فلما وصلوا إلى المدينة، أمسك بركاب أبيه وأقسم يميناً بالله لا يدخل المدينة حتى يأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: ولمَ يا بني؟ أنت الأذل ورسول الله الأعز، فولله لا تدخلها حتى يأذن لك، وشهر سيفه في وجهه، حتى جاء إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل المدينة فدخلها، هذا ولده الذي رباه ونشأ في حجره، لكن الله ملأ قلبه من الإيمان وملأ قلب الآخر من النفاق.

    1.   

    زمن نشوء الخلافات المذهبية

    إن الخلاف الذي يحصل بسببه -وبالأخص بين أهل القبلة المصلين الذين يجتمعون في المساجد ويجيبون نداء الله- بعض الخلافات، التي تنكر تسويتها بطرق بسيطة. منها مثلاً وهو الخلافات المذهبية.

    الخلافات المذهبية في زمن الصحابة

    نحن نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاءنا بالبينات والهدى، جاءنا بكتاب الله وهو كلام الله، وجاءنا بالسنة المبينة لمعنى القرآن، حيث أمره الله أن يبين لنا معنى كتابه، والكتاب والسنة كلاهما من الأقوال، والأقوال يبحث فيها من جهتين:

    الجهة الأولى: جهة الورود والثبوت، معناه: وهل ثبت فعلاً أن هذا آية من كتاب الله؟ هل ثبت أنه من كلام الله؟ هل ثبت فعلاً أن هذا حديث من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله أو فعله؟ هذه الجهة هي الجهة الأولى وهي جهة الورود.

    الجهة الثانية: هي جهة الدلالة، ما معنى هذه الآية بعد أن تحققنا أنها في المصحف آية من كتاب الله؟ ما معنى هذا الحديث بعد أن تحققنا أنه في موطأ مالك ، أو في صحيح البخاري ، أو صحيح مسلم ، ما معناه، وماذا يريد الله بهذه الآية؟ وماذا يريد رسوله صلى الله عليه وسلم من هذا الحديث؟ هذا الوجه الثاني من أوجه البحث، ويسمى البحث في الدلالة.

    هذان الوجهان لم يحتج الصحابة إلى البحث فيهما، لم يحتاجوا إلى البحث في جهة الورود لماذا؟ لسماعهم من الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى[النجم:3-4]، وأنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تحتج إلى أحد يصدق لك أو يكذب، آمنت به وصدقت، ( صدقناك على خبر السماء، ألا نصدقك على خبر الأرض )، كما قال خزيمة بن ثابت .

    إذاً: يكفيهم أنهم سمعوا من الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم، إذاً هذا في مجال الثبوت والورود.

    وأما في مجال الدلالة فلم يحتاجوا أيضاً إلى البحث؛ لأنهم جميعاً من الناطقين بالعربية على وجه السليقة، كلهم من الذين يفهمون كلام العرب، ومن ليس منهم من أصل عربي كـبلال و سلمان يتقنان كلام العربية، بل كلاهما مشهور بالفصاحة والبلاغة، وكلاهما كان خطيباً يقف على المنبر يقوم في الناس ويعلمهم بلال رضي الله عنه جاء بأخيه إلى بيت من الأنصار التي هي من بيوت الشرف؛ فلما أتاهم قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: هذا أنا بلال وهذا أخي كنا كافرين فهدانا الله للإسلام، وكنا عبدين فحررنا الله، وكنا فقيرين فأغنانا الله، فإن أنكحتمونا فلكم الشكر، وإن رددتمونا فلكم العذر؛ فقالوا: والله لا نردكما؛ فزوجوهما، لاحظوا هذه الكلمات البليغة جداً، التي يفكر فيها البلغاء باستخراج بعض النكات البلاغية منها، وهو يقولها على وجه السليقة والبديهة.

    وهكذا سلمان الفارسي الذي أمره عمر بن الخطاب على مدائن كسرى كلها، وكان لا يأكل من بيت المال وإنما يأكل من كسب يده، يصلح النخل للناس ويحفر لهم الآبار، ويبني لهم البيوت، ويعيش من كسب يده، وهو أمير على مدائن كسرى كلها، وهو الخطيب الذي يخطب على المنبر في الجمعة وفي الأعياد وغير ذلك.

    الخلافات المذهبية في زمن التابعين

    إذاً: لم يحتج الصحابة إلى البحث في جهة الدلالة، جاء من بعدهم التابعون؛ فلم يحتاجوا أيضاً كثيراً إلى البحث في الجهتين، أما جهة الورود؛ فلسماعهم من الصحابة، والصحابة عدول كلهم فيما يتعلق بالرواية؛ لأن الله تعالى يقول: فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ[التوبة:96]، ويقول: لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ[الفتح:18]، فإذا أثبت لهم الرضا نفى عنهم الفسق؛ لأنه لا يرضى عن القوم الفاسقين، وقد رضي عن الصحابة فعلم أنهم غير فاسقين، إذا كانوا غير فاسقين فإن المحل القابل للصفة لا يخلو منها أو من ضدها، يعني: المحل الذي يقبل صفة هذا الثوب، إما أن يكون أبيض، وإما أن يكون غير أبيض، لا يمكن أن يجتمع فيه البياض وغير البياض في وقت واحد، ولا يمكن أن يخلو منها، كذلك الإنسان لا بد أن يكون عدلاً أو فاسقاً، وقد انتفى عن الصحابة الفسق؛ فثبت لهم ضده وهو العدالة فهم جميعاً عدول بتعديل الله؛ فلذلك كل من أخبره صحابي بأمر فإنه يقتنع به لأنه معدل بتعديل الله.

    فإذاً لم يحتج التابعون للبحث في جهة الورود كذلك لم يحتاجوا كثيراً إلى البحث في جهة الدلالة؛ لأنهم ما زالوا أهل اللسان العربي على وجه السليقة، ولم تتغير الألسنة ولم تختلف الحضارات بعد.

    الخلافات المذهبية في زمن تابعي التابعين

    وحين جاء أتباع التابعين، حصلت المشكلة، فاحتاجوا إلى البحث في الجهتين جميعاً، جهة الورود لأنهم ما لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم المعصوم، ولا لقوا الصحابة رضوان الله عليهم المعدلين بتعديل الله؛ بل لقوا التابعين فيهم العدول وفيهم غير العدول، فاحتاجوا إلى البحث في الثبوت.

    كذلك احتاجوا البحث في جهة الدلالة؛ لأنهم لم يعودوا أهل اللسان العربي على وجه السليقة، بل فيهم من يفهم العربية على وجهها، وفيهم من لا يفهمها على وجهها، أضرب لكم مثالاً: نحن الآن لو قرأت عليكم آية واحدة من كتاب الله، وامتحنتكم كل شخص منكم سيفهم فيها قدراً مما آتاه الله، وتتفاوت أفهامكم فيها وهذا راجع إلى الرزق؛ فبعضكم يقسم الله له فيها رزقاً في الفهم عجيباً، وبعضكم يكون رزقه فيها؟ دون ذلك، فيتفاوت الناس فيها بحسب الرزق، أنتم تشاهدون الناس يمكث أحدهم عشرين سنة، وهو يبذل الجهد من أجل الحصول على المال، ولا يحصل على شيء، وتشاهدون آخر يأتي فلا يمكث إلا أياماً قلائل ويحصل على الملايين أو المليارات، وهذا راجع إلى قدر الله فهو الذي يكتب ما شاء، وكذلك هنا الفهم والعلم، توزيعه قدري، راجع إلى قدر الله يكتب لمن شاء ما شاء.

    ولهذا محمد بن مالك في تفسير الفوائد يقول: وإذا كانت العلوم منحاً إلهية، ومواهب اختصاصية فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين، ما عسر على كثير من المتقدمين. ويقول العلامة محمد الفال المتالي رحمه الله:

    وقسمة الحظوظ فيها يدخل فهم المسائل التي تنعقل

    فيحرم الذكي من فهم الجلي إن لم يكن من حظه في الأزل

    غير مكتوب له، جاء أتباع التابعين فاحتاجوا إلى البحث في الجهتين، احتاجوا إلى البحث في جهة الورود، ووضعوا قواعد لذلك هي قواعد الجرح والتعديل؛ فلان ثقة، وفلان غير ثقة، وهذه يقول فيها أحدهم وهو محمد بن سيرين : والله ما كنا نبالي عن من نأخذ هذا العلم حتى ركب الناس الصعب والذلول، فقلنا: سموا لنا رجالكم، فمن كان مقبولاً قبلناه، ومن كان مردوداً رددناه.

    ويقول أحدهم: إن هذا العلم دين فانظروا عن من تأخذوا دينكم. وبدأوا ينتقدون الناس واشتهر قوم بنقد الرجال، وهم أئمة الجرح والتعديل، وقد ألف فيه كثير من الأئمة، وممن ألف في هذا المجال مثلاً، من أقدمهم محمد بن سعد في كتابه الطبقات، وبعده خليفة بن خياط في كتابه الطبقات، وكتابه التاريخ، وهو شيخ البخاري ، ثم بعده الإمام أحمد في كتابه العلل ومعرفة الرجال، و يحيى بن معين في التواريخ، ثم بعده علي بن المديني أيضاً في عصره، ثم بعد ذلك البخاري في كتاب التاريخ الكبير، والتاريخ الصغير، والضعفاء، ثم بعد ذلك ابن أبي حاتم الرازي في الجرح والتعديل، الذي ذكر في مقدمته أئمة الجرح والتعديل من أتباع التابعين، وبدأهم بـمالك بن أنس ؛ فهو أول من ذكر من أئمة الجرح والتعديل لخبرته بالرجال؛ ولذلك لم يروِ مالك عن ضعيف قط إلا عن رجل واحد، وهو عبد الكريم بن أبي المخارق ، ولماذا روى عنه مالك ؟ يقولون: ليس من بلده فرأى حسن صلاته فغره بحسن صلاته، فروى عنه، وكان من شدة انتقاده للرجال، أنه قال: إني لأرى الرجل لو أقسم على الله لأبره، من التزامه بالسنة، والصلاح، ولكني لا أرضى الرواية عنه؛ لأنه يتكلم كلام الجمعة في اليوم الواحد، وكلام الشهر في الجمعة، فالشخص الكثير الكلام لا يثق بروايته، لأن من كثر كلامه كثر سقطه؛ ولذلك لقي كثيراً من الناس يتنافس في الرواية عنه فأعرض عنه مالك ولم يروِ عنه شيئاً.

    وكذلك من بعده شعبة بن الحجاج ، و سفيان بن عيينة ، و سفيان الثوري ، و يحيى بن سعيد القطان ، و عبد الله بن المبارك و عبد الرحمن بن المهدي ، و الأوزاعي وغيرهم من أئمة الجرح والتعديل، هؤلاء آتاهم الله تعالى ذكاءً وقوة خارقة فيما يتعلق بتمييز الصحيح من الضعيف، كانوا أمناء الله على الوحي، اختارهم الله لهذه المهمة، فهم من معجزات محمد صلى الله عليه وسلم، هم معجزة من معجزات محمد صلى الله عليه وسلم، يبقرون للناس حتى يبينوا الصحيح من الضعيف؛ ولذلك حين قام محمد بن سعيد المشهور بـالمصلوب فوضع بعض الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاع أمره رفع إلى الخليفة؛ فلما أتاه أراد أن يقتله ويصلبه، قال: لئن قتلتموني وصلبتموني فقد تركت فيكم أربعة آلاف حديث أحل فيها الحرام وأحلل فيها الحلال، وضعتها من عند نفسي، قال له الخليفة: ويلك أين أنت من ابن المبارك و ابن مهدي ، يبقران عنها حتى يخرجانها؟ فدعا الخليفة عبد الله بن المبارك ، و عبد الرحمن بن مهدي، فسألهما عن محمد بن سعيد هذا هل يعرفانه؛ فقالا: نعم، فقال: تعرفان روايته، قالوا: عنده بعض الأحاديث موضوعة، التي هو وضعها، فقال: ما هي؛ فجعلا: يتذكران، ويعدان حتى وصلا أربعة آلاف حديث وتوقفا، فإذا هي قدر الأحاديث التي ادعى الرجل.

    قال عبد الله بن المبارك : والذي نفسي بيده لو أن رجلاً بالصين، هم من الليل أن يضع حديثاً، على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصبح الناس في بغداد يقولون: فلان كذاب وضاع، هذا حفظ الله لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

    لذلك فإن جهة الورود اشتغل بها الناس، وألف فيها كثير من الكتب، واشتغل فيها كثير من النقاد، وليست محل البحث الذي سنتكلم فيه الآن.

    1.   

    تنوع ورود النصوص في الأحكام الشرعية وتفاوت الناس في فهمها

    أما جهة الدلالة فسأضع لكم فيها قاعدة واضحة، وهي أن الله عز وجل له حكمة في كل جليلة وصغيرة، ما من مسألة أياً كانت إلا وهي لها حكم؛ لكن هذه الأحكام بعضها يبينه في كتابه، ويفصله تفصيلاً لا يحتاج بعده إلى بيان، مثلاً آيات التركة، هل تحتاج إلى زيادة؟ لا تحتاج إلى زيادة، العدد عدد المطلقات، وعدد المتوفى عنهن من النساء، هذه بينها بيان في القرآن لا يحتاج إلى الزيادة، وهكذا كثير من الأمور بينت بياناً لا يحتاج إلى الزيادة، وبعض الأمور كان بيانها دون هذا، ومراتب البيان عند الأصوليين ثمان درجات، بتفاوت، بعضها يكل بيانها إلى رسوله صلى الله عليه وسلم مثل الصلاة من حيث عدد الركعات، فهذا ما جاء في القرآن، وكذلك طريقة الوضوء، جاء ذكر غسل الوجه، واليدين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين، لكن ما جاءت سنن الوضوء، طريقة نصب الزكاة، وما يؤخذ فيها ما جاء في القرآن، طريقة ترتيب مناسك الحج ما جاء في القرآن، جاءت أركانه وجاء بعض سننه في القرآن، وبعض واجباته، ولكن ما جاءت طريقة ترتيبه، وهكذا؛ لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أمره الله أن يبين لنا هذا فبينه بسنته بياناً شافياً لا يحتاج بعده إلى بيان؛ لذلك فإن مراتب البيان متفاوتة، وما من شيء إلا ولله فيه حكم، فآيات القرآن كلها بالعد المدني الذي لديكم في مصاحفكم الآن ستة آلاف ومائتان وأربع عشرة آية، والأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي وصلت إلينا الآن لا تتجاوز ثلاثمائة ألف حديث، وآيات الأحكام خمسمائة آية فقط، وأحاديث الأحكام أحد عشر ألف حديث فقط، هذه لا تغطي كل الأحكام التي تجد، والوقائع التي تنزل بمنطوقها وبنصها، فاحتيج إذاً إلى استنباط الأحكام منها؛ لأن الله أحالنا على الاستنباط فقال: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ[النساء:83]، وهذا الاستنباط ستتفاوت فيه العقول، فالناس عقولهم متفاوتة تفاوتاً عجيباً، وكل شخص منهم راض عن الله في عقله؛ ولذلك من القواعد يقولون: ما من شخص إلا وهو راضٍ عن الله في عقله، وأقلهم عقلاً أرضاهم، وأقل الناس عقلاً يظن أنه أعقل الناس.

    لذلك تتفاوت العقول تفاوتاً عظيماً جداً، ولو ترك الأمر فوضى في فهم النصوص، لجاءتنا الأفهام الشاذة التي أصيب أصحابها بالفتن، وملأ الله قلوبهم بالفتن؛ فلبس ذلك على إيمانهم، مثل الباطنية من الشيعة الذين -مثلاً- يفسرون قول الله تعالى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً[البقرة:67]، يقولون: هي عائشة أم المؤمنين، ما هذا الفهم هل يوصل إلى هذا عقل؟ أي عقل يصل إلى هذا؟ إن الله أمر بني إسرائيل على لسان موسى أن يذبحوا بقرة هي أم المؤمنين عائشة .

    إذاً هذا لا يمكن أن يترك الأمر فيه فوضى، وكل شخص يفسر ما شاء من النصوص بما شاء، فلا بد أن توضع قواعد يتحاكم الناس إليها، عند تفاوت تفاسيرهم للنصوص.

    وضع أئمة المسلمين قواعد تضبط فهم النصوص

    هذه القواعد أرشدت إليها النصوص تؤخذ من ثناياها؛ ولكنها لا يأخذها إلا العباقرة أهل الاستنباط، هم الذين يستطيعون استخراج هذه القواعد، وإذا قعدوها نفعوا من سواهم. ومن المعلوم أن الأرض واسعة، ومناكبها أمرنا الله بالسير فيها، وفيها فلوات شاسعة، وفيها مياه، وموارد، هل كل الناس يعرفون كل الخطوط وكل الطرق في الأرض؟ لا، لكن فيهم أقوام يعرفون هذه المناطق جيداً، ويعرفون هذه البلاد، ويعرفون المياه يهدون الناس، إذا سار واحد منهم، سارت على أثره طريق معبده، كل من سلك تلك الطريق يعرف أنه سيصل إلى هذا المكان، لكنه يتبع أثر ذلك الأول الذي عرف هذا المكان وعبد طريقهم، لاحظتم هنا أن اقتداء الناس بالأول الذي يعرف الطريق ليس تقليداً له، وإنما لأنهم جربوا أوصلهم إلى طريق الحق، جربوا أنه أوصلهم إلى طريق الحق فتبعوه على ذلك، جاء الأئمة فوضعوا لنا علماً، يمكن من خلاله أن نستنبط جميع الأحكام من القرآن والسنة.

    وهذا العلم يمكن أن نسميه علم اقتصاد الشريعة، علم الاقتصاد في علوم الدنيا هو علم يمكن من خلاله تغطية الحاجيات غير المحدودة من الموارد المحدودة، هذا الرجل راتبه محصور، وحاجياته غير محصورة، في هذا الشهر يأتيه ضيوف، يمرض له صبي، يأتيه سائل، يحتاج إلى تغيير شيء من متاعه ولباسه، فإذاً الحاجيات غير محصورة، والموارد محصورة، العلم الذي يمكن من خلاله تغطية الحاجيات غير المحصورة من الموارد المحصورة هو علم الاقتصاد، هذا في علوم الدنيا.

    كذلك علم أصول الفقه، يمكن من خلاله تغطيه الوقائع والحوادث، غير المحصورة من النصوص المحصورة، فالنصوص لن تزداد، قد ختم الوحي بقول الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا[المائدة:3]، لكن هذه النصوص الموجودة فيها حل كل المشكلات، يتفاوت الناس في فهمها، ونحن نأخذ هذه القواعد التي من أجلها نتوصل إلى حل المشكلات من خلال النصوص المحصورة.

    مفهوم المذاهب الفقهية

    هذه القواعد وضعها الأئمة من أتباع التابعين سموها المذاهب، والمذاهب ليست ديانات منزلة من السماء، إنما هي طرق للتعامل مع النصوص، والذين يتعاملون مع النصوص لا يدعي أحد منهم أنه معصوم، ولا أن رأيه صواب مائة بالمائة؛ بل كلهم يعلم أنهم قد يخطئون، وقد يصيبون، وهو مكلف باجتهاده لا باجتهاد الآخرين.

    ولذلك قال مالك رحمه الله: ما منا أحد إلا وهو راد ومردود عليه، إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم. وقال الشافعي : رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، وكذلك كان الأئمة كل واحد منهم يعلم أن رأيه يمكن أن يكون صواباً، ويمكن أن يكون خطأ؛ فمالك كان يقول إذا استفتي في أمر يقرأ آية من القرآن: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ[الجاثية:32]، فالأمور الاجتهادية ليست قطعية.

    لذلك فإن هذه المذاهب ينبغي أن تؤخذ على أنها طرق معينة للتعامل مع النصوص، ليس فيها طريق جازم صواب مائة بالمائة، وليس فيها طريق مخطئ مائة بالمائة، يؤخذ من كل واحد منهم ويرد، وليس واحد منهم أتى بنظرية جديدة شاملة مغيرة لما قبلها، ناسخة له، وليس أحد منهم يدعي لنفسه العصمة، ولا ينبغي لأتباع مذهب من المذاهب مثلاً أن يتعصبوا لذلك المذهب ويجعلوه معصوماً؛ بل هذه المذاهب كما ذكرنا بمثابة المدارس، أنت درست في هذه المدرسة، وقرأت كتباً مشتركة على هذا الشيخ، وهذا الآخر قرأ في مدرسة أخرى على شيخ آخر؛ فلماذا تتعصب أنت وترى أن ما لديك صواب مائة بالمائة، وأن ما لدى الآخر خطأ مائة بالمائة؛ بل كلاكما لديه صواب، ولديه خطأ، وبالإنصاف لا يتعصب أحد منكما لما لديه، بل عليه أن يذكر دليله فيما لديه، ويستمع إلى دليل الآخر، والله أثنى على الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، فقال: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ[الزمر:18]، وأحسن القول ما قام عليه الدليل من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لذلك قال الله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ[فصلت:33].

    التعصب للمذاهب الفقهية

    إذا أخذنا بهذا وعلمنا أن المذاهب طرق للتعامل مع النصوص؛ فلا ينبغي أبداً أن نجعلها ديانات، ولا أن نتعصب لها؛ بل نعلم أن فيها الخطأ وفيها الصواب، وبذلك نبحث عن ما يرجح لدينا صوابها، وإذا حكمنا على رأي لإمام من الأئمة بأنه خطأ؛ فليس ذلك طعناً في ذلك الإمام، إذا حكمنا على رأي من الآراء لأحد الأئمة بأنه خطأ؛ فليس معنى ذلك أننا نتنقص من قدر ذلك الإمام، أو أننا ننبذه ونتبرأ منه؛ بل هو إمام لا يضره إذا خالفناه في أمر من الأمور، ولا يدعي لنفسه العصمة، وهو يعلم قطعاً أن ما قاله فيه خطأ وفيه صواب، فإذا أطلع الله بعض عباده على بعض الخطأ فيما قال، ليس هذا نقصاً في ذلك الإمام ولا تنقصاً له؛ بل هو خدمة له، فالتعصب لأحد هذه المذاهب مذموم شرعاً، مقيت لا يراه أئمة المذاهب، بل ثبت عنهم ما يخالفه، فقد ثبت أن أبا يوسف صاحب أبي حنيفة خرج حاجاً مع هارون الرشيد ، وكان أبو يوسف على مذهب أبي حنيفة يرى أن كل نجس خرج من أي مكان من البدن، إذا تفاحش نقض الوضوء، وهذا بناءً على قاعدة أصولية، وهي أن العلة القاصرة لا تصلح للتعليل عند الحنفية والحنابلة، وعند مالك و الشافعي أن العلة القاصرة تصلح للتعليل فعند مالك و الشافعي لا ينتقض الوضوء إلا بالنجس الخارج من أحد السبيلين؛ سبيل البول وسبيل الغائط، وعند أحمد و أبي حنيفة كل نجس خرج من البدن إذا تفاحش انتقض به الوضوء؛ فمن جرح في يده، أو في ساقه، فخرج منه دم كثير انتقض وضوءه، عند أبي حنيفة و أحمد ، ولم ينتقض وضوءه عند مالك و الشافعي ، وقد جرحت ساق مالك فخرج منها دم فصلى وراءه أبو يوسف ؛ فقيل له: أليس خروج الدم الكثير من البدن ناقضاً للوضوء قال: بلى، قيل له: كيف تصلي وراء من انتقض وضوءه، قال: سبحان الله! لا أصلي خلف مالك ! هو يعلم أن رأي مالك مرجوح لديه هو، وهو مخاطب بمقتضى عقله هو، وبما ترجح لديه، لا بما ترجح لدى مالك ، ولكنه غير متعصب.

    وكذلك أحمد بن حنبل سئل عن الطلاق المعلق؛ فقال: لا طلاق على الشخص في ما لا يملك، الشخص الذي يقول: إن تزوجت فلانة فهي طالق، قال: ليس هذا طلاقاً، إن تزوجها لا تطلق عليه؛ لأنه لا طلاق على شخص في ما لا يملك، فقيل له: أرأيت لو استفتيت المدنيين -والمدنيين المقصود: أصحاب مالك ، تلامذة مالك - فأفتوا لي بخلاف ما أفتيت به أأتبعهم؟ قال: سبحان الله! كيف تستفتهم ولا تتبعهم.

    إذاً لم يكن بينهم ولم يكن لديهم غضاضة أبداً ولم يكن بينهم تعصب لرأي من الآراء، يعلمون أنها جميعاً قابلة لأن تكون صواباً، وأن تكون خطأ.

    موقف المسلم عند ترجح أحد المذاهب عنده

    وهنا أشير -ونحن في وقت التصويت- إلى أن المذاهب عندما يترجح لدى شخص من الأشخاص قول فيها فإنما ازداد أحد القولين بصوت واحد، ولا تحسم القضية بذلك، كثير من الناس يريد جواباً من الراجح في كل مسألة، كل مسألة حصل فيها اختلاف يقول: ما هو الراجح؟ الراجح عند من؟ إذا ترجح لدي أنا قول فيها فلم يزدد الأمر على أن زاد أحد القولين بصوت واحد، ويترجح لدى مئات الناس خلافه؛ فلذلك لا يحسم الخلاف، وإذا كان الخلاف حاصلاً من لدن أتباع التابعين ... يقول: حدثني به علقمة فيؤتى بـعلقمة فيقال: أحدثته؟ فيقول: نعم، فيفك إبراهيم ، ويؤخذ علقمة ، فيقال: حدثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث، فمن حدثك به؟ فيقول: ابن مسعود فيؤتى بـابن مسعود فيقال: حدثته بهذا الحديث عن رسول صلى الله عليه وسلم، فيقول: نعم، فيفك علقمة ، ويؤخذ ابن مسعود ، فيقال: حدثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن أخبرك به؟ فيقول: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيُسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: نعم، فينتهي الأمر، ولا ينتهي الأمر قبل هذا.

    فكذلك هنا كل من يفتي، والناس اليوم يتسارعون إلى الإفتاء، والإفتاء مسئولية يتحملها الشخص على رقبته ويحملها إلى آخرته، والناس يتسارعون فيها ويفتون بما يعلمون، وبما يجهلون، والله تعالى يقول: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا[الإسراء:36]، وقد سئل مالك عن اثنتين وأربعين مسألة فقال في ثمان وثلاثين: لا أدري، وأتاه رجل من خراسان، من مسافة آلاف الكيلو مترات، فقال: أتيتك رسولاً من أهل خراسان يسألونك عن مسألة كذا وكذا، فقال: لا أدري، فقال: أيرسلني أهل خراسان إليك من هذه المسافة لأسألك في أمر، فتقول: لا أدري؟! فقال: ارجع إليهم فقل لهم: أبو عبد الله يقول: لا أدري، لا يجد غضاضة في أن يقول: لا أدري فيما لا يعلم. كان مالك يقول: ينبغي للعالم أن يورث جلساءه قول لا أدري ليكون أصلاً في أيديهما يرجعون إليه، وقال ابن جريج :

    ومن كان يهوى أن يرى متصدراً ويكره لا أدري أصيبت مقاتله

    فلذلك لا بد أن يتعود الناس على قول: لا أدري، وقد أخرج أبو عمر بن عبد البر في كتاب جامع بيان العلم وفضله موقوفاً على أبي الدرداء رضي الله عنه، أنه قال: نصف العلم لا أدري، بمعنى أنه إذا كان الشخص يستطيع ويجرؤ أن يقول: لا أدري، فقد أحرز نصف العلم، وقبل ذلك لم يحصل على شيء منه.

    إذاً: هذه الخلافات المذهبية، والأقوال المتضاربة والفتاوي المتنافسة، ينبغي أن ينظر إليها بعين الإنصاف، وأن ينظر إليها على أن فيها صواباً وخطأ، وحينئذٍ لا يتعصب لأحد الآراء فيها؛ فمن كان طالباً للعلم فعرضت له مسألة، فبحثها وسأل عن أدلتها، وتوصل فيها إلى رأي معين، فليتعلم ذلك لنفسه وليعمل به، وإذا سئل أفتى بما ترجح لديه.

    موقف الجاهل عند تعارض الآراء

    من كان جاهلاً لا يستطيع البحث فعرضت له مسألة عليه أن يختار من الناس من يثق بعلمه وأمانته وورعه ودينه ويسأله؛ فما أفتاه به عمل به، ولا يسأل من سواه. هناك كثير من الناس إذا عرضت له مسألة لا يرى شخصاً يتوسم فيه الخير إلا سأله عنها فتتضارب عليه الأقوال ويبتلى بالفتنة، هذا يفتيه بالإباحة، وهذا يفتيه بالتحريم، وهذا يفتيه بقول متوسط، وهذا يخلط عليه فتاوي الماضي فلا يدري أيها صواب، وهذا العمل مخالف للهدي الصحيح؛ لأن الهدي الصحيح أن يختار من الناس من يثق بدينه، وأمانته، وعلمه فيستفتيه، ويقف عند هذا الحد يعمل به، والمقلد لا يجوز له أن يدعو الناس إلى ما قلد فيه؛ لأنه غير عالم، لأن التقليد لا يكون إلا عن جهل؛ ولذلك قال الشاعر:

    عرف العالمون فضلك بالعلم وقال الجهال بالتقليد

    التقليد لا يكون أبداً إلا عن جهل، والذي يعرف دليلاً لا يكون مقلداً؛ لأنه لديه حجة وبرهان من الله تعالى، وليس معنى هذا أن نتنكر لنتاج العلماء وما أنتجوه وما أتوا به من تفسير كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الفقه والأصول؛ بل لا نستغني عن هذا أبداً، ولا يستطيع أحد اليوم أن يفهم مباشرة كل أحكامه، وكل الفتاوي الذي يحتاج الناس إليها من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مباشرة.

    أذكر مرة من المرات كنا في الحج في منى، وكنا في درس؛ فجاء أحد علمائنا علماء موريتانيا ، وكان من الذين يتنكرون في الفقه فعرضت عليه مسألة في الدرس، وهي أن لدينا مجموعة من الحجاج من إخواننا من التكارين الذين لا يفهمون كلمة واحدة من العربية، ولا يمكن أن نوصل إليهم أحكامهم إلا بالترجمة، نترجمها أولاً إلى الفرنسية، ثم من الفرنسية إلى التكرورنية، فقلت: إذا كنت ستنبذ أقوال العلماء جميعاً؛ فخذ المجموعة هذه وعلمها كتاب الله، وسنة رسوله مباشرة دون أن تمر بكلام آخر، قال: هؤلاء لا يمكن أن يفهموا القرآن والسنة مباشرة، قلت: إذاً أقررت بحاجتك إلى أقوال العلماء، الذين يفسرون هذه ليضعوا القواعد التي على أساسها نتفق في أفهامنا، ونتحاكم إليها عند خلافنا، فأقر بذلك.

    موقف طالب العلم عند تضارب الأقوال

    ونظير هذا يحصل لدى المتعجلين، الذين ينظرون إلى مستوى من الناس وهم طلاب العلم، الذين لا ينبغي أن تقصُر بهم هماتهم على الفروع غير المؤصلة، طلاب العلم لا ينبغي أبداً أن يقتصروا على الفروع غير المؤصلة، ينبغي أن يبحثوا عن الأدلة، لكن ليس هذا لكل الناس، كثير من الناس لا يصل إلى هذا المستوى، لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا[البقرة:286]، لا يكلفهم الله بذلك، إذاً هذا في مجال اختلاف المذاهب.

    ومنه التضاربات التي تسمعونها في الفتاوي، يأتي مفتٍ من المفتين فيفتي بمسألة معينة إذا أفتى بمسألة وذكر دليله من كتاب أو من سنة فقد برئت ذمته، وإذا أفتى بها ولم يذكر دليلاً، فهي على عنقه حتى يأتي بها يحملها يوم القيامة.

    لذلك فإن هذه الفتاوي التي تتضارب عليكم ينبغي ألا تأخذوا بها على أنها ديانات، إنما تنظرون إليها بنظرة محق، ليس فيها تعصب، تعلمون أن فيها خطأ وفيها صواباً؛ فالشخص الواحد قد يفتي فتوى، في مجلس واحد، فتكون صواباً، والفتوى التي تليها خطأً، وهكذا.

    كذلك تحصل الخلافات في أمور أخرى، وهي فيما يتعلق بأمور الدنيا أكثر، خلافات الناس عن أمور الدنيا أكثر، لكن الشيطان يلبسها بأمور دينية.

    ما يتعلق بالخلافات في أوقات الصلاة مثلاً، أو في إمامة المساجد، أو في الأذان، هذه في الأصل خلافات على أمورٍ دنيوية صدقوني، ولكن الشيطان يلبسها بأمر ديني، يكون الأصل أن شخصاً يريد المعارضة، ويريد الظهور، ويريد أن تكون له قوة وسيطرة، ولكن الشيطان يلبس عليه هذا فيجعله من باب الدين، فيتعصب له ويراه من الدين، والواقع أن الدين ينهاه عن التعصب.

    موقف المسلم عند تعارض رأيه مع رأي الجماعة

    أنت إذا كنت طالب حق، وعرضت عليك قضية معينة، لا ينبغي أن تلزم الناس برأيك، رأيك لك، ولا ينتزعه أحد منك، ولكن النتيجة التي سيوصلك إليها رأيك لو كان صواباً خيراً منها نتيجة اجتماع الكلمة.

    لاحظوا لو أن بين يديك ميزاناً عادلاً، ورأيت رأياً من الآراء، ورأت جماعة أو أكثرها رأياً مخالفاً لهم، وأنت تعلم أن رأيك الصواب، وأن رأي الجماعة الخطأ، لكن النتيجة التي يؤدي إليها رأيك ما هي إلا حصول نتيجة بسيطة، والذي يقابله اتفاق كلمة الجماعة، واتفاق كلمة الجماعة أعظم من الرأي من النتيجة التي سيوصل إليها رأيك، ودليل هذا من السنة ما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد رأى ألا يخرج إلى المشركين، وأن يقاتلهم داخل المدينة، يقاتلهم داخل الحصون، لكن الشباب لحماسهم قالوا: لا؛ بل نخرج ونقاتلهم خارج المدينة، فلبس الرسول صلى الله عليه وسلم لامته وأطاعهم؛ فلما خرج قال لهم بعض كبار السن: إنكم قد استكرهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما خرج مقتنعاً بالخروج، فجاءوا فقالوا: ( يا رسول الله! كأننا استكرهناك على أمر لم تكن تريده؟ فقال: ما كان لنبي إذا لبس لامة الحرب أن يخلعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه )، هنا تنازل الرسول المعصوم عن رأيه لصالح الجماعة؛ لأن أكثر الناس اقترحوا عليه رأياً يخالف ذلك، والصواب قطعاً هو ما كان الرسول يراه صلى الله عليه وسلم.

    وكذلك يوم الحديبية عندما وقع الرسول صلى الله عليه وسلم العهد مع قريش جاءه عمر بن الخطاب فقال: ( يا رسول الله! أنعطي الدنية في ديننا؟ ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ وشهداؤنا في الجنة وقتلاهم في النار؟ فسكت، فذهب إلى أبي بكر فقال: يا أبا بكر! أنعطي الدنية في ديننا؟ ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ وشهداؤنا في الجنة وقتلاهم في النار؟ فقال: ألست تشهد أنه رسول الله؟ قال: بلى، قال: فالزم غرزه )، (فالزم غرزه)، معناه: الزم ما يقول ولا تخالفه.

    وحين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يحلقوا رءوسهم، وينحروا هديهم، تكاسلوا عن ذلك حتى أنقذت أم سلمة الموقف؛ فاقترحت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبدأ هو فيحلق رأسه، وينحر هديه ففعل؛ فابتدر الناس لذلك.

    ومن هنا يعلم قاعدة واضحة وهي أن الجماعة تصادر العمل، ولا تصادر الرأي، كل شخص حر في رأيه، فيما يؤديه اجتهاده، ولكنه يتنازل عن رأيه لصالح جماعته، الجماعة التي هو فيها محتاجة إلى أن تتفق كلمتها.

    1.   

    النصوص الواردة في التحذير من الخلاف

    بعض الآيات الواردة في النهي عن الخلاف

    والخلاف شر كله، وحذر الله منه في كتابه، فقال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا[آل عمران:103].

    ثم بعدها جاء في القرآن النهي عن الخلاف في كثير من الآيات، يقول الله تعالى: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ[هود:118-119]، فجعله منافياً للرحمه، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ[الأنعام:159]، وقال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ[الروم:30-32]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[الأنفال:45-46].

    بعض الأحاديث المحذرة من الخلاف

    1.   

    الواجب على المسلم نحو الخلاف

    فعلينا أن نزيل الفوارق فيما بيننا، وأن نحقق وحدتنا، وأن نزيل أسباب الخلاف فيما بيننا، وأن ننظر إلى كيد الشيطان لنا، الذي يريد أن يحدث بيننا العداوة والبغضاء، كما قال تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ[المائدة:91]؛ فالشيطان يريد أن يوقع بيننا العداوة والبغضاء، ويستغل لذلك الوسائل المختلفة، كالخمر والميسر، ويصدنا بذلك عن ذكر الله، وعن الصلاة.

    فلذلك علينا جميعاً أن نخشى من كيد الشيطان، وأن نحاول أن نؤلف جماعتنا، وأن نؤلف بين قلوبنا؛ ولهذا قال الله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ[الأنفال:1]، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( دب إليكم داء الأمم، وظهرت فيكم الحالقة )، وحذر منها غاية التحذير، ثم قال: ( هي الحالقة، ألا إنها لا تحلق الشعر، ولكنها تحلق الإيمان )، وهي قضية الخلاف بين الناس، والسعي لخلخلة الصفوف فيما بينهم؛ فهذا مما يمقته الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

    فعلينا أن نحذره، ونحذر كل الوسائل التي تؤدي إليه، علينا أن يتنازل بعضنا عن رأيه لصالح الجماعة، وليعلم أن رأيه غير معصوم، وأنه إن تنازل عنه ما نخسر إلا بعض النتائج البسيطة التي أتى بنتيجة أعظم منها وهي اتفاق الكلمة، هذا لو طبقناه في حياتنا كلها لانحسمت المشكلة، وبالأخص إذا عدنا إلى ما بدأت به في المقدمة، أننا الآن جماعة المسجد جند الله، الذين يتربصون بهم أعداء الله الدوائر في كل مكان؛ الكفرة في الخارج، والمنافقون في الداخل، يتربصون الدوائر بأهل المساجد، ويريدون أن يحصل بينهم الخلاف، ويفرحون به فرحاً شديداً، ويطبلون له.

    فينبغي أن نحذر أن نجعل سبيلاً على أنفسنا لهؤلاء، ينبغي أن يلتفت كل واحد منا إلى أخيه بقلب سليم، وبوجه طيب، وأن يبتسم في وجه أخيه، وليعلم أنها صدقة، كما أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن يلين بعضنا الجانب لبعض كما وصف الله تعالى أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ[الفتح:29]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ[المائدة:54]، على كل شخص أن يكون ذليلاً على المؤمنين، عزيزاً على الكافرين، أن يكون متواضعاً للمؤمنين، يخفض لهم الجناح، كما أمر الله رسوله بذلك في قوله تعالى: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ[آل عمران:159].

    كل شخص منا يعلم أنه لا يمكن أن يخالط أحداً إلا وجد منه ما يحتاج معه إلى الصبر، لا يخالط زوجة إلا وجد منها ما يحتاج إلى الصبر، ولا يخالط أخاً إلا وجد منه ما يحتاج إلى الصبر، ولا يخالط شريكاً مالياً إلا وجد منه ما يحتاج إلى الصبر، ولا يخالط والداً إلا وجد منه ما يحتاج إلى الصبر، ولا جاراً إلا وجد منه ما يحتاج إلى الصبر، وأولى من يصبر له هم إخوانه الذين يعرفهم في بيوت الله، الذين يرضون بكتاب الله وسنة رسول الله حكماً.

    ومما يعين على هذا ويفيد فيه حصول المرجعية، وذلك بأن يكون لنا أقوام نرضى دينهم وأمانتهم، إذا اختلف فهمنا في شيء رجعنا إليهم، وتحاكما إليهم، ورضينا بهم؛ فالله تعالى نصب هؤلاء للإصلاح في كل الأمور، قال تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ[الحجرات:9]، وقال تعالى في قضية الصيد في الحرم: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا[المائدة:95]، وقال تعالى في خلاف الزوجين: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا[النساء:35].

    فلذلك على المسلمين جميعاً أن يحاولوا إصلاح هذا الخلل، وأن تكون لهم مرجعية دائمة يتراجع إليها، ويرضى بحكمها وتصلح هذا الخلل، ويرضى عنها الناس، ولا يتهمونها، وأصل هذا حصول الثقة فيما بينهم، ولين الجانب، والإنصاف، وإذا حصل هذا زال الخلاف.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم وصلى الله وسلم على النبي محمد وآله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767303287