إسلام ويب

مراتب أعمار الإنسانللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد جعل الله عز وجل للإنسان خمسة أعمار: العمر الأول منها: عمره في عالم الذر عندما مسح الله ظهر آدم فأخرج منه ذريته. العمر الثاني: عمر الإنسان فوق الأرض، وأما العمر الثالث فهو عمر الإنسان في البرزخ، بينما عمره في أرض المحشر يعتبر رابع الأعمار، كما أن الخامس منها هو العمر الأبدي إما في الجنة أو في النار

    1.   

    عمر الإنسان في عالم الذر

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن الله سبحانه وتعالى خلق الموت والحياة ليبلو الناس أيهم أحسن عملاً، وقد جعل للإنسان خمسة أعمار، العمر الأول منها في عالم الذر عندما مسح الله ظهر آدم فأخرج منه ذرية فقال آدم: أي ربي! من هؤلاء؟! قال: خلق من ذريتك خلقتهم للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره أخرى فأخرج منه ذرية فقال آدم: أي ربي! من هؤلاء؟! قال: خلق من ذريتك خلقتهم للنار وبعمل أهل النار يعملون، ثم خلطهم حتى ما يتميزون، فناداهم فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، قالها مؤمنهم وكافرهم وبرهم وفاجرهم، فأقروا له جميعاً بالربوبية؛ فأخذ عليهم العهد أن يعبدوه وأن لا يشركوا به شيئاً، وقد قال الله في ذلك العهد: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ[يس:60-61].

    وهذا العمر الأول دخلنا فيه حيز الوجود حينما كلمنا ربنا جل جلاله فرددنا بجواب فصيح، وبقيت الأرواح من ذلك الوقت محبوسة في سماء الدنيا، وقد ثبت في حديث المعراج أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة عرج به إلى سماء الدنيا قال: ( فاستأذن جبريل؛ فقيل: من؟ فقال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أو قد بعث إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به! ونعم المجيء جاء؛ ففتح له باب السماء.. )، قال: ( فإذا آدم وإذا عن يمينه أسودة وعن شماله أسودة، إذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى، فسألت جبريل : ما هذه الأسودة؟! فقال: نسم بنيك )، أي: نسمات بنيك في هذه الأرواح، ( أما الذين عن يمينه فأهل السعادة، إذا نظر إليهم ضحك لكثرتهم، وأما الذين عن شماله فأهل الشقاوة إذا نظر إليهم بكى لكثرتهم ).

    1.   

    عمر الإنسان في الحياة الدنيا

    والعمر الثاني هو عمر الإنسان فوق الأرض في هذه الحياة الدنيا، وهو عمر الامتحان ومدته يسيرة محصورة، إذا قورنت بالعمر السابق نجد بوناً شاسعاً كبيراً، فالعمر السابق دخلت حيز الوجود فيه في حياة آدم، ومن ذلك الوقت وأنت موجود في السماء الدنيا حتى أهبطت روحك فنفخت فيك وأنت جنين في بطن أمك عندما أكملت أربعة أشهر في بطن أمك، بعد ذلك النفخ بدأ العمر الجديد، وهو عمر الإنسان فوق الأرض في هذه الحياة الدنيا.

    وهذا العمر الإنسان فيه بين نوعين من أنواع الخلائق:

    نوع أسمى منه، وهو الملائكة كلفهم الله بالتكاليف ولم يمتحنهم بالشهوات، وقد محضهم لطاعته فهم عباد مكرمون، لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[التحريم:6]، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ[الأنبياء:20].

    والصنف الثاني صنف أدنى منه وهو الحيوان البهيمي، سلط الله عليه الشهوات ولم يكلفه بالتكاليف، والإنسان جمع الله له بين الأمرين؛ فهو مكلف بالتكاليف ممتحن بالشهوات، فإن هو أدى التكاليف ولم يتبع الشهوات التحق بالصنف الأسمى وهو الملائكة، وإن هو ضيع التكاليف واتبع الشهوات التحق بالصنف الأدنى وهو الحيوان البهيمي، بل يكون أدنى من الحيوان؛ لأن الحجة القائمة على الإنسان بالعقل والوحي أكبر من الحجة القائمة على الحيوان؛ ولذلك قال الله تعالى: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا[الفرقان:44].

    وهذا العمر هو أيام وليال، ومدته محصورة يسيرة، والإنسان فيه غريب، أهبطت روحه من السماء إلى هذه الأرض فكانت غريبة فيها تنتظر الخروج فهي محبوسة داخل البدن، وانتزاعها من البدن عند الموت هو نهاية هذا الحبس، ومدة بقائها في البدن مجهولة، لا يدري الإنسان هل يكون من المعمرين فيعيش مائة سنة أو أكثر، أو يكون من الذين تقصر أعمارهم فيموت في أسرع رعيل، ولا شك أن ليلة القدر من كل عام فيها يفرق كل أمر حيم، فيكتب من يموت في ذلك العام من الناس، وقد تحدد ذلك حتى لدى ملائكة الأرض؛ فهم يعرفون أن فلاناً من الناس مثلاً من موتى هذا العام.

    وكم من فتى يمسي ويصبح لاهياً وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري

    كثير من الأحياء الآن أكفانهم موجودة في السوق، قد نسجت واستوردت وحضرت، ولكنهم لا يدرون ذلك.

    ومدة هذا العمر هي مدة تأشيرة جاء فيها الإنسان لعمل محدد ولمدة مؤقتة، فإذا جلس في الفندق ولن يباشر عمله حتى انتهت التأشيرة ورجع خائباً هل يكون رشيداً؟! لا يمكن أن يعتبر رشيداً.

    الوظيفة التي يكلف بها الإنسان في هذا العمر

    والوظيفة التي يكلف بها الإنسان في هذا العمر هي إحدى وظيفتين:

    إحداهما خاصة بالبشر وهي الاستخلاف في الأرض، أي: السعي لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه والتمكين لمنهج الله في الأرض، والسعي لأن تكون كلمة الله هي العليا، يبذل الإنسان جهده في تعبيد الناس لرب الناس، وتحريرهم مما سوى ذلك من العبوديات، من عبودية الهوى، ومن كل العبوديات الأخرى، وهذه المهمة والوظيفة خاصة بالجنس البشري؛ ولذلك قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً[البقرة:30]، قال ذلك وآدم منجدل في طينته؛ فجعل هذا الجنس خلفاء في الأرض.

    والوظيفة الثانية يشترك فيها الإنس والجن وهي العبادة لله سبحانه وتعالى، عبادة الإنسان كطهارته وصلاته وصيامه وتركه للمحرمات وأدائه للواجبات، هذه العبادات الشخصية، والقسم الأول - الاستخلاف -عبادات عامة، وكثير من الناس لا يستشعر إلا النوع الثاني المشترك بين الإنس الجن ويترك الوظيفة الكبرى التي يختص بها الجنس البشري؛ فلا يظن أن عليه أية مسؤولية تجاه هذا الدين ولا أنه مسؤول عن نصرته ولا عن إعلاء كلمة الله ولا عن تعبيد الناس لله، وقد قامت عليه الحجة بما آتاه الله من العلم والعقل والإدراك، وبما عاشه من هذا العمر فوق الأرض، ولو كان عمراً يسيراً فإن الحجة لله قائمة به؛ ولذلك يقول الله لأهل النار يوم القيامة: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ[فاطر:37].

    الرقابة على الإنسان في هذا العمر

    وهذا العمر هو أقصر أعمار الإنسان، وهو فيه تحت خمس رقابات:

    الرقابة الأولى: رقابة الملك الديان جل جلاله؛ فهو الشاهد الذي لا يغيب، وهو يعلم السر وأخفى، وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، يعلم ما يدور في خلده وما يفكر فيه، مجرد خطرة يفكر فيها الإنسان فهي معلومة عند الله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى هو أسرع الحاسبين، لا يفوته أي شيء من تصرفات عباده ولا يختلط عليه تصرف إنسان بتصرف إنسان آخر، ولا يلتبس عليه تصرف الوالد بتصرف الولد ولا تصرف أحد الأخوين بالآخر؛ لأنه فصلهم، فكل إنسان سيأتيه فرداً يوم القيامة؛ وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا[مريم:95]، يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ[النحل:111]، فكل إنسان سيبعث وحده يجادل عن نفسه؛ يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ[عبس:34-37]، فالعلاقات النسبية والسببية تنقطع بمجرد النفخ في الصور؛ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ[المؤمنون:101]، وأعظم الناس سيادة الأنبياء، وهم يقولون يوم القيامة: نفسي.. نفسي، رب لا أسألك إلا نفسي.

    والرقابة الثانية هي: رقابة الرسول الشاهد؛ فكل أمة بعث الله فيها رسولاً يشهد عليها بأعمالها، وهذه الأمة اختار الله لها أفضل الرسل وأزكاهم وهو الحكم الذي لا يعزل والشاهد المزكى المعدل، اختاره الله سبحانه وتعالى وفضله وشرفه، وشهادته لا يمكن أن يطعن فيها من وجه من الوجوه، وهو يطلع على أعمال أمته تعرض عليه؛ لأن الشهادة من شرطها العلم وقد قال الله تعالى: وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ[يوسف:81]، وقال تعالى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ[الزخرف:86]، فيعلمه الله سبحانه وتعالى بأعمال أمته ليشهد بها يوم القيامة؛ فهو شهيد على أعمالها كما قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا[البقرة:143]، وقال تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا[النساء:41]، وقال تعالى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ[النحل:89]، فهو شاهد لا يستطيع الإنسان جرحه ولا منازعته، وهو يشهد عليه بأعماله.

    والرقابة الثالثة: رقابة الملائكة الكرام الكاتبين، فكل واحد من البشر رتب الله عليه واحداً وعشرين من الملائكة، يحصون عليه أعماله ولا يمكن أن يفوتهم منها شيء؛ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ[الانفطار:10-12]، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ[ق:18]، وهؤلاء الملائكة منهم صاحب اليمين الذي يكتب الحسنات وصاحب الشمال الذي يكتب السيئات، وملائكة الجوارح، كل جارحة عليها ملك، والمعقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله، والملائكة الذين يتعاقبون في الناس يجتمعون في صلاة الفجر وفي صلاة العصر؛ فجميع ذلك يحصل منه واحد وعشرون ملكاً، وهؤلاء الملائكة يحصون على الإنسان أعماله ويكتبونها ويشهدون بها عند الله وهو أعلم منهم.

    والرقابة الرابعة: رقابة المؤمنين؛ فهم شهداء الله في أرضه، يشهدون على الناس بأعمالهم، كما قال الله تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ[التوبة:105]، وكما قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ[البقرة:143]، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنه كان في مجلس فمر بجنازة، فأثنى الناس عليها خيراً فقال: وجبت، ثم مر بجنازة أخرى فأثنى الناس عليها شراً فقال: وجبت؛ فقال عمر : وما وجبت يا رسول الله؟! قال: أنتم شهداء الله في أرضه؛ فمن أثنيتم عليه بخير وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه بشر وجبت له النار )، والمقصود بــ(أنتم) العدول، وليس عوام الناس والسواد الأعظم من الناس، فلا يغتر الإنسان بمدح المادحين الكاذبين ولا يغتر بثنائهم؛ فأغلب المثنين والمداحين هم من الكذابين كما قال الله تعالى: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ[الشعراء:224-226]، وقد قال الفرزدق :

    يقولون ما لا يفعلون مذمة من الله مذموم بها الشعراء

    ولم يك ذاكم وحدهم بل زيادة يقولون ما لا يفعل الأمراء

    وكذلك الرقابة الخامسة هي رقابة الإنسان على نفسه؛ بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ[القيامة:14]، يشهد على نفسه بكل أعماله، فما من شعرة فيه ولا عضلة إلا تشهد عليه بما اقترفه يوم القيامة، عندما يختم على فمه وتتكلم جوارحه؛ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[يس:65]، يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[النور:24]، وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ[فصلت:21]، وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ[فصلت:22].

    فرص النجاة من عذاب الله في هذا العمر

    وهذا العمر للإنسان فيه ثلاث فرص للنجاة من عذاب الله:

    الفرصة الأولى هي عمر هذه الحياة الدنيا؛ فهي دار العمل، وبعدها الآخرة دار جزاء ولا عمل، فما لم يعمله الإنسان في هذه الحياة الدنيا لن يجده؛ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ[آل عمران:30]، وهذه الدنيا قد وقفت بثنية الوداع، وهم قبلي مزنها بالإقلاع؛ فهي الآن في نهايتها، مضت القرون وتبعتها القرون، وآخر الأمم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد مضى منها عدد من القرون، ونحن قطعاً في آخرها؛ فلذلك لا ننتظر الآن إلا خروج الدجال أو بعض الأشراط الكبرى مثل طلوع الشمس من مغربها، أو أن يأذن الله لإسرافيل في النفخ في الصور فإنه سينفخ فيه، وقد التقمه الآن وأصغى ليتاً، أي: رفع أحد شقي رقبته ينتظر الإذن له بالنفخ، وإذا نفخ فيه نفخة الفزع يصعق لها الخلائق جميعاً، ويمكثون أربعين سنة، ثم ينفخ فيه النفخة الثانية فإذا هم قيام ينظرون.

    والفرصة الثانية هي عمر الإنسان الشخصي نفسه؛ فهذ العمر إذا مات الإنسان حيل بينه وبين العمل؛ فأنت الآن يمكن أن تقول: لا إله إلا الله وسيحال بينك وبينها، وهكذا في كل تصرف من تصرفاتك يمكن أن تؤدي ما عليك الآن، لكن سيأتي الوقت الذي يحال بينك وبينه فيه؛ فما كنا نذكره في أداء الزكاة ومثل ذلك في أداء الصلاة ومثل ذلك في كل الفرائض يستطيعه الإنسان الآن في صحته ومضاء تصرفه، لكن سيأتي الوقت الذي يمنع منها، لا يستطيعها؛ فلذلك عليه أن يبادر قبل فوات الأوان.

    والفرصة الثالثة: ما أنعم الله به علينا من أنواع النعم؛ فهذه النعم في هذا العمر الدنيوي لها آجال محددة، كل نعمة منها لها أجل مسمى، وإذا لم يستغلها الإنسان كانت ترة عليه وحجة، فكل وظيفة يشغلها الإنسان إذا لم يستغلها في مرضات الله ونصرة دين الله فلن يمتع بها وسيفارقها؛ لأن بقاءه في أية نعمة كبقائه على كرسي الحلاق ينتظر الحلاقة ثم يقوم ليترك مكانه لغيره، ولو دامت لغيرك ما وصلت إليك؛ فكل نعمة تشغلها قد كان متع بها قبلك غيرك وستؤول بعدك إلى غيرك فلذلك بادر مدة بقائك فيها فاستغلها في مرضات الله قبل أن يفوت الأوان، وكم من إنسان كان في نعمة عظيمة فلم يصرفها في طاعة الله ففارقته تلك النعمة فندم ندماً شديداً، ولا شك أن من تقدم به العمر يتذكر نعمة الشباب ونعمة الفراغ ونعمة القوة، وقد ذهبت، كان يستطيع قيام الليل، كان يستطيع كثيراً من نصرة الدين، كان يستطيع كثيراً من الأعمال وقد ضعف عنها، لا يستطيعها الآن؛ فما تشتهي غير أن تشتهي.

    فهذا الحال إذا كان الإنسان يدركه فليعلم أن الفرص لا تتكرر وأنها إذا حصلت ينبغي أن يستغلها، إذا كان في أية وظيفة، سواءً كانت رسمية أو اجتماعية كما مكن الله فيهم من أنواع النعم في الأسرة والبيت وغير ذلك وما جعل تحت أيدينا من الأموال وغير هذا، كلها لها آجال محددة، وهي عند الأجل تقبض كما تقبض الروح، فإذا لم يستغلها الإنسان فات الأوان.

    أقسام الناس مع النعمة

    ولذلك فإن الناس في النعم على أربعة أقسام:

    القسم الأول: لا يعرفون النعمة بوجودها وإنما يعرفونها بزوالها، ما دام أحدهم صحيح الجسم، لا يشكو سراطاناً في الكبد ولا ضعفاً في عضلة القلب ولا فشلاً في الكلى ولا جلطة في المخ؛ لا يحس بالعافية، فإذا أصيب بمرض من هذه الأمراض وشخص له الطبيب المرض ذكر هذه النعمة بعد أن فات الأوان وزالت، متى يشكرها لله؟ لم يعرفها إلا بعد زوالها.

    والنوع الثاني: يعرفون النعمة بوجودها، ولكن لا يعرفون من أين أتت، فهم يعرفون أنهم متميزون، لديهم علم ولديهم جاه ولديهم مال ولديهم مكانة، فلا يدرون من أين جاءتهم هذه النعم، يظنون أنها من كدهم وكسبهم وجدهم واجتهادهم، أو ورثوها عن آبائهم وأجدادهم؛ فهم يتسورون بها على عباد الله ويفخرون بها، لا يدرون من أين أتت، حالهم حال قارون الذي قال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ المُجْرِمُونَ[القصص:78].

    والنوع الثالث: يعرفون النعمة بوجودها لا بزوالها، ويعرفون أنها من عند الله لا من تلقاء أنفسهم، ولكنهم ينشغلون بالنعمة عن شكرها، منغمسون في النعمة الليل والنهار؛ فالصباح الباكر يدخلون في أعمالهم الدنيوية ويستغلون ضوء النهار جميعاً في هذه الأعمال، وإذا جاء الليل ناموا، وتفكيرهم كله منصب على عملهم في الصباح، فهؤلاء عرفوا النعمة وعرفوا أنها من عند الله لا من عند أنفسهم، ولكنهم انشغلوا بالنعمة عن شكرها، حالهم حال المخلفين من الأعراب: سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا[الفتح:11]، وهذا الحال حذر الله منه، فقد قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[المنافقون:9-11].

    والنوع الرابع: يعرفون النعمة بوجودها لا بزوالها، ويعرفون أنها من عند الله لا من تلقاء أنفسهم، ولا ينشغلون بها عن شكرها، بل يصرفونها في مرضات الله، فهم يستغلون ما أنعم الله به عليهم فيما أذن به، إذا أنعم عليهم بساعة من العمر لم تذهب هباءً منثوراً، كحال كثير من الناس ينعم الله عليهم بالساعات الطوال فتذهب هذه الساعات دون أن تكون في كفة الحسنات، وهذه خسارة كبرى؛ لأن رأس المال هو العمر؛ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ )، وقد قال أحد الحكما:

    خسر لذي عقل لبيب مؤمن وقت يمر ولم يزد حسناته

    فالعمر مدته كمثل دراهم بيد الفتى يقضي بها حاجاته

    فإذا أنعم الله على الإنسان من هذا النوع من عباد الله بساعة نظر إلى أربح الصفقات مع الله؛ فاستغلها فيها، أربح الصفقات هي الفرائض، فإذا كان الوقت ليس فيه فريضة فهي النوافل، ( وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه )؛ فهذا المقام الذي يطلبه هؤلاء ويتنافسون فيه هو الوصول إلى المحبة الله وحضرة القدس؛ حتى يكونوا من أولياء الله، هذا النوع من عباد الله هم الشاكرون وهم أقل عباد الله؛ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ[سبأ:13].

    1.   

    عمر الإنسان في البرزخ

    وهذا العمر القصير هو كذلك المؤثر في ما بعده من الأعمار، فالعمر الثالث هو عمر الإنسان تحت الأرض في البرزخ، وهذا عمر عظيم، بدايته انتزاع الروح من الإنسان، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم صورة ذلك، فقال: ( إن العبد إذا كان في منقطع من الدنيا وإقبال من الآخرة أتاه ملك الموت حتى يجلس عند رأسه )، فإن كانت نفسه طيبه ناداه فقال: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي[الفجر:27-30]؛ فتتهوع إليه كما تتهوع القطرة من في السقاء، فلا تمكث في كفه طرفة عين حتى يسلمها إلى ملائكة قد جلسوا مد البصر كأن وجوههم الشموس، فيجعلونها في كفن من أكفان الجنة ويجعلون عليها من عطر الجنة، ثم يرتفعون بها إلى سماء الدنيا فيستأذنون فيقال: مرحباً بالنفس الطيبة؛ فتفتح لها أبواب السماء حتى تخر ساجدة تحت العرش.

    وإن كانت نفسه خبيثة ناداه فقال: يا أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وعقوبة؛ فتتفرق في البدن فينتزعها منه كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فلا تمكث في كفه طرفة عين حتى يسلمها إلى أولئك الملائكة، وهم باسطوا أيديهم: أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ * وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ[الأنعام:93-94]؛ فيجعلونها في سفط من أسفاط النار ويجعلون عليها من قطران النار، ويرتفعون بها إلى السماء فيقال: لا مرحباً بالنفس الخبيثة، لا تُفَتَّحُ لَهمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُجْرِمِينَ * لَهمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ[الأعراف:40-41].

    فأول منازل الآخرة هو قبر الإنسان، سواءً كان مقبوراً في الأرض أو أكلته السباع أو غرق في المياه فأكلته الحيتان؛ فقبر الإنسان مستقره، وهذا القبر في الواقع هو وطن الإنسان، ويقول الشيخ محمد عالي رحمة الله عليه:

    سر في البلاد وصاحب إن تنل فطناً فيها دليلاً وجانب ضيق العطن

    ولا تبيتن فيها آلفاً وطناً فلم يكن لك قبل القبر من وطن

    هو الوطن الحقيقي للإنسان، وهذا القبر هو أول منازل الآخرة، وهو أعظم من كل ما قبله وأعظم منه كل ما بعده، لا يجد الإنسان في هذه الحياة أي ضيق ولا أية سعة إلا أنساه فيها القبر، وأول ما يجده فيه الإنسان الضجعة الأولى عندما يوضع في قبره فيبدو من الله ما لم يكن يحتسب، وتزول الغشاوة عنه فيرى أمر الآخرة عياناً بياناً بين يديه، وهو محجوب عنا الآن، لا نراه؛ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ[ق:19-22].

    وبعد ذلك ضمة القبر التي تختلف منها الأضلاع وتزول منها الحمائل، والحمائل هي ما فضل من الخصرين عن الظهر، تختلف منها الأضلاع وتزول منها الحمائل، وهي ضمة شديدة، وهي تهيئة لسؤال الملكين: منكر ونكير، ثم بعد ذلك سؤال الملكين، يجلسانه إلى ركبتيه فيقولان: ما ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: ربي الله وديني الإسلام والرجل المبعوث فينا محمد صلى الله عليه وسلم، هو محمد.. هو محمد.. هو محمد، ثلاثاً، جاءنا بالبينات والهدى فآمنا واتبعنا، فيقولان له: صدقت وبررت، قد علمنا إن كنت لموقنا، نم نومة عروس، ويملآن عليه قبره خضراً ونوراً، وأما المنافق أو المرتاب فيقول: هاه.. هاه! لا أدري، كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيقولان له: لا دريت ولا تليت، ويضربانه بمرزبة معهما لو اجتمع عليها أهل منىً ما أقلوها، فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الإنس والجن.

    ويبدأ بعد ذلك نعيم القبر أو عذابه، ونعيم القبر هو بتوسعته مد البصر وبإنارته، وأن يملأ على الإنسان خضراً، وأن يعرض عليه مقعده من الجنة، وبعد ذلك عذاب القبر - نسأل الله السلامة والعافية - لمن هو له أهل، وهو أنواع كذلك؛ فمنه العطش الشديد ومنه الرائحة المنتنه، ومنه كذلك الحيات والتنانين، وغير ذلك من أنواع ما يجده المعذب في قبره من أنواع العذاب.

    وبعد هذا عرض الأعمال، إن كان الإنسان محسناً أتاه عمله في أحسن صورة وأحسن رائحة فيقول: أبشر بخير؛ فيقول: وجهك الوجه الذي يبشر بخير، فمن أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح وأنا أنيسك في غربتك، وإن كان مسيئاً جاءه عمله في أقبح صورة وأنتن رائحة، فيقول: أبشر بسوء، فيقول: وجهك الوجه الذي يبشر بسوء، فمن أنت؟ فيقول: أنا عملك السيئ وأنا صاحبك في غربتك، الرجل يأتيه عمله في صورة رجل والمرأة يأتيها عملها في صورة امرأة، ويبقى هذا الأنيس صاحباً في القبر، إن كان العمل حسناً كان أحسن صورة وأحسن رائحة، وإن كان العمل سيئاً كان أقبح صورة وأقبح رائحة، وهكذا.

    وهذا العمر طويل جداً؛ فآباؤنا الذين عاش بعضهم فوق الأرض مائة سنة وبعضهم خمسين سنة وبعضهم سبعين سنة يمضي عليهم القرون على القرون في هذا العمر الثالث، وهو عمر البرزخ، تحت الأرض.

    1.   

    عمر الإنسان في أرض المحشر

    ثم بعد ذلك العمر الرابع، وهو عمر الإنسان فوق الساهرة في المحشر، وهو عمر القيام؛ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ[المطففين:6]، ليس فيه اضطجاع ولا اتكاء، كل هذا العمر وقوف؛ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ[الحج:47]، وبدايته عندما يحشر الناس إلى الساهرة، عندما تبدل الأرض غير الأرض؛ فتبس بساً، أي: تحرك وترج رجاً وتزلزل زلزالها، فتنفض كما ينفض الجراب، أي: الظرف فيخرج ما فيها من المعادن وما فيها من الأجداث - أي: القبور- وما فيها من الكنوز، وتزول جبالها فتكون كالعهن المنفوش - كالصوف - الذي تذهب به الرياح يميناً وشمالاً، وتزول أوديتها فتستوي، ثم بعد ذلك تتشقق السماء فهي يومئذ واهية، ويسمع الناس فيها الأصوات المرعبة المروعة، أصوات تشقق السماء، والملائكة يطوونها، وهم الآن فوقها.

    فيها تلاميذ على صهواتها حبسوا قياماً والفرائص ترعد

    ( أطت السماء وحق لها أن تئط؛ فما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك لله فيه ساجد أو راكع )، وهم يطوونها طياً في ذلك الوقت، ثم ينادى في الناس: هلموا إلى ربكم؛ فيخرجون من الأجداث إلى ربهم ينسلون، وحينئذ يجتمعون جميعاً في الساهرة، وهي أرض كالكرسفة البيضاء، يقف الواقف على طرفها فيرى طرفها الآخرة، ويأتيها الناس كالجراد المنتشر؛ فيجتمعون فيها جميعاً من أولهم إلى آخرهم، وهم حفاة عراة غرل مشاة، لا يستظل أحد منهم إلا بظل صدقته، فمن مستقل أو مستكثر، وتدنو الشمس فوق رؤوسهم حتى تكون كالميل، ويشتد العرق، ويؤتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام، في كل زمام سبعون ألف ملك، أي: أربع مليارات وتسعمائة مليون من الملائكة يجرون جهنم جراً حتى تحيط بالساهرة من كل جانب، والناس يرونها يركب بعضها بعضاً، ويرون سوادها، ويسمعون أصواتها المروعة المفظعة، ويشتد العرق حتى يسيح في الأرض سبعين ذراعاً، ثم يعلو فوقها، فمن الناس من يصل إلى كعبيه، ومنهم من يصل إلى ركبتيه، ومنهم من يصل إلى حقويه، ومنهم من يصل إلى سرته، ومنهم من يصل إلى ثدييه، ومنهم من يصل إلى ترقوتيه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً.

    وهذا العمر طويل جداً؛ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ[الحج:47].

    1.   

    العمر الأبدي في الجنة أو النار

    ثم بعده العمر الخامس، وهو عمر الإنسان الأبدي السرمدي إما في جنة أو في نار.

    الجنة ونعيمها

    فإن كان في الجنة ففيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، يأتي أهلها فإذا تجاوزوا الصراط رأوا شجرة عظيمة فيأوون إليها فإذا فيها نهران أحدهما داخل والآخر خارج فيؤمرون فيشربون من النهر الداخل، فإذا شربوا منه زال كل ما في داخلهم من الأمراض والأعراض الدنيوية، يزول عنهم كل ما في بطونهم من الأسواء، ثم بعد ذلك يؤمرون بالانغماس في النهر الخارج فينغمسون فيه فيزول كل ما في ظاهر أجسامهم من العيوب، لا يبقى فيهم جرح ولا أثر مرض ولا عيب خلقي ولا نقص، من كان أعمى عاد إليه بصره، ومن كان أصم عاد إليه سمعه، ومن كان قصيراً عادت قامته، ومن كان أسود زال سواده، يعودون جميعاً على صورة واحدة من هذا النهر، والذي خدش في الصراط فسقط شدقه أو عينه أو أذنه أو يده أو رجله يعود إليه ما نقص منه من ذلك النهر.

    ثم إذا تجاوزوه اجتمع عليهم ولدان الجنة يغنون ويرحبون، كل أحد منهم يأتيه ولدانه، وهو في الجنة أدرى بمنزله من منزله في الدنيا، أدل على منزله في الجنة؛ ( والله لأحدكم يوم القيامة أدل على منزله في الجنة من منزله في الدنيا )، فيأتي ولدانه ثم يرجعون إلى أهله من الحور العين في منزله فيقولون: جاء أهل الجنة وفيهم فلان، فيقول نسائه: أنت رأيته؟ فيقولون: نعم، أنا رأيته، وهو على أثري، فإذا دخل منزله في الجنة استقبلته إحدى نسائه، وفي الحديث أنه يضع إحدى يديه بين كتفيها فيرى أصابعه بين ثدييها، وعليها سبعون حلة من حلل الجنة.

    وفي الجنة من أنواع النعيم ما لا يمكن أن يخطر على بال؛ ( أعددت لعبادي ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر )، فيها القباب التي يسير الراكب في ظلها مائة عام وهي من جوهرة واحدة منحوتة، وفيها الجدران التي لبنة منها ذهب ولبنة فضة، وترابها المسك والكافور، وفيها من أنواع الفواكه والنبات ما لا يمكن أن يخطر على بال، وفيها الأنهار؛ نهر من لبن لم يتغير طعمه، ونهر من خمر لا يسكر صاحبه ولا يصدع عنه؛ لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ[الواقعة:19] معناه: لا يسكرون، وفيها أنهار من ماء غير آسن لا يتغير طعمه ولا لونه أبد الآبدين، وفيها ما ذكر في نسائها؛ فلو أن إحداهن سفرت عن وجهها لأشرق لها ما بين المشرق والمغرب، ولو بصقت في البحر لصار عذباً من بصاقها، ويرى مخ ساقها من خارجه، وأهدابها كجناح النسر وحاجبها كالهلال في الاستقواس والسعة.

    وعندما يدخلونها يناديهم المنادي: يا أهل الجنة! إن لكم أن تشبوا فلا تهرموا، وأن تصحوا فلا تسقموا، وأن تنعموا تكرموا، فهم يشبون أبداً على تطاول الآماد، يمر عليهم مليارات السنين وهم على شبابهم، وهم يصحون فلا يألمون من أي مرض، لا يشكون أي مرض، لا مرض نفسي ولا مرض جسمي.

    وكل ما فيها من الشهوات لا ينقطع، فاللذة الأولى التي ينالها الإنسان عندما يصل إليه شيء من روحها وريحانها تبقى ولو جاء بعدها مليارات اللذات، نفس اللذة ما انقطعت، واللذة التي بعدها ما انقطعت، واللذة التي بعدها ما انقطعت، لذات الدنيا لا يستطيع الإنسان أن يجمع غالباً بين اثنتين منها؛ لسرعة انقطاعها، بينما لذات الجنة يجمع الإنسان بين المليارات منها، كل لذة لا تنقطع.

    كذلك لا يمل شيء مما فيها، كل ما في الدنيا من المحبوب مملول، والجنة لا يمل شيء مما فيها؛ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا[البقرة:25].

    وأبلغ ما فيها من النعيم المقيم لذة النظر إلى وجه الله الكريم، ( بينما أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع عليهم نور من فوقهم فإذا الرب جل جلاله يناديهم من فوقهم: سلام قولاً من رب رحيم، فلا ينظرون إلى شيء مما هم فيه ما داموا ينظرون إلى وجه الله الكريم )، وهذا السلام الذي وعدهم الله به؛ فقد وعدوا بتحية وسلام؛ فتحيتهم تحية الملائكة عندما يقولون لهم: ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ[الحجر:46]، سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ[الزمر:73]، هذا سلام الملائكة وهو التحية، أما السلام فهو سلام الرحمن جل جلاله يناديهم من فوقهم: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ[يس:58]، وهم يرونه كما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته، ويستزيرهم الرب جل جلاله يناديهم فيأتونه في زيارة على كثبان الجنة، فإذا خرجوا أرسل عليهم ريحاً طيبة زادت حسنهم وزادت طيب رائحتهم وحسنت ملابسهم وثيابهم، فإذا رجعوا إلى أهلهم قالوا: تالله لقد ازددتم حسناً بعدنا فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم حسناً بعدنا.

    وولدانهم مخلدون، أي: مزينون بالخلدة أو مبقون على حالهم دائما ولدان، يمر عليهم مليارات السنين وهم ولدان دائماً، لا يبلغون؛ لأنهم إذا لم يخلدوا استحيا الإنسان أن يخدمه كبير السن أشيب؛ فتركوا دائماً على هذا الحال دائماً؛ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ[الواقعة:17].

    النار وعذابها

    وإن كانت الأخرى نسأل الله السلامة والعافية؛ فإن النار فيها من أنواع العذاب والهوان ما لا يخطر على بال أحد، فيها الجحيم: الحر الشديد المهلك، وفيها الزمهرير: البرد الشديد المهلك، وأوديتها كل طبقة منها تنسي التي فوقها، والإنسان عندما يسمع صوتها من بعيد يرتاع لها وهي تتوعده؛ إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا[الفرقان:12-14]، وشرابهم فيها الغسلين، الذي إذا مس الأمعاء تقطعت له، وجلودهم كلما نضجت بدلوا جلوداً أخرى، تكبر أجسامهم وتنفخ؛ ( لمقعد أحدهم في النار كما بين مكة والمدينة، ولضرس أحدهم في النار كجبل أحد، وإن أقدامهم في السلاسل لمثل الجبال السود المتراكمة )، تقوى أجسامهم على هذا العذاب قوة عجيبة وتكبر كبراً غير طبيعي، مقعد أحدهم في النار كما بين مكة والمدينة أربعمائة وستة عشر كيلو، مجرد مقعد أحدهم، وأبلغ ما فيها من أنواع العذاب أنهم لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم، نسأل الله السلامة والعافية! يمكثون مدة طويلة وهم ينادون مالكاً خازن النار فيقولون: يا مالك ! نضجت منا الجلود، يا مالك ! أخرجنا منها فإنا لا نعود؛ فينتظرون جوابه أربعين سنة فيقول: إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ[الزخرف:77]، هذا الجواب الذي ينتظرونه أربعين سنة: إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ[الزخرف:77] نسأل الله السلامة والعافية! لا يكلمهم الله كلام رحمة وإنما يقول لهم: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ[المؤمنون:108]، نسأل الله السلامة والعافية!

    إذا عرفنا هذا المصير، وهو إما في جنة وإما في نار؛ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ[هود:105-108]، إذا عرفنا هذا المصير الحتمي؛ فلابد أن نسعى في أن نكون من أهل الجنة وأن نكره أن نكون من أهل النار، ولا ينال الإنسان حلاوة الإيمان ولا يحس به إلا بذلك، قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار )، لابد أن نحرص جميعاً على ما ينجينا من عذاب الله وأن نحرص جميعاً على ما يقربنا من رضوانه، والأمر ميسور في هذه الحياة والفرص متاحة، والله سبحانه وتعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها، وقد نادانا نداءً كريماً يحثنا فيه على التوبة فقال: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ المُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المُحْسِنِينَ[الزمر:53-58]، لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً[الزمر:58] أي: رجعة إلى الدنيا مرة أخرى؛ فَأَكُونَ مِنَ المُحْسِنِينَ[الزمر:58]، وهذا هو الندم حيث لا ينفع الندم.

    لذلك لابد أن نحرص جميعاً على أن نجدد عهدنا مع الله سبحانه وتعالى وأن نتوب إليه توبة نصوحاً، وأن نغير حياتنا حتى تكون موافقة لمرضات الله جل جلاله، ولا شك أن كل إنسان منا يعرف أنه فرط في جنب الله كثيراً وقصر وأهمل، وأنه أمضى كثيراً من أوقات عمره في غير طائل، وهو يعلم أن كل هذا العمر إما أن يوزن في كفة الحسنات وإما أن يوزن في كفة السيئات، وسائر الميزان نصب عينيه له كفتان ولسان، وأعماله جميعاً إما في إحدى الكفتين ولا ثالثة لهما؛ فلذلك لابد أن نبادر إلى التوبة وأن نجعلها توبة نصوحاً خالصة لوجه الله الكريم، وأن نقصد وجه الله والتقرب إليه.

    نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يجعل ما نقوله ونسمعه حجة لنا لا علينا، وأن يلهمنا رشدنا وأن يعيذنا من شرور أنفسنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767581294