إسلام ويب

الإحسان [2]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • مقام الصبر، هو أن يتحلى الإنسان بصفة الصبر، وهو على ثلاث شعب: أولها: الصبر عن معاصي الله، وثانيها: الصبر على طاعة الله، وثالثها: الصبر على قضاء الله وقدره. فالصبر عن معصية الله هو الذي يجاهد الإنسان به الشهوات، فإذا دعته الشهوة إلى معصية صبر عنها واستطاع أن يكف نفسه. والصبر على طاعة الله ثلاثة أقسام: الصبر عليها قبلها، والصبر عليها في أثنائها، والصبر عليها بعدها.

    1.   

    التحلي بصفات النفس المطمئنة

    التحلي بالتوبة وأثرها على الإحسان

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فبعد أن يتطهر الإنسان من أمراض القلوب المختلفة عليه أن يتحلى بصفات النفس المطمئنة:

    فأولها: التوبة إلى الله سبحانه وتعالى، والله تعالى يقول: وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[النور:31]، فالتوبة شرط للفلاح، وكل إنسان أياً كان يجب عليه أن يتوب إلى الله حتى لو كان معصوماً، فالرسول صلى الله عليه وسلم مخاطب بهذه الآية، كما خُوطب بها من سواه، فالتوبة ثلاث درجات:

    الأولى: أن ييسر الله لعبده أن يتوب إليه وينيب، وهذه توبة الله، فهي سابقة على توبة العبد، ثم بعدها توبة العبد أن ينيب إلى ربه ويندم على ما فرط فيه من جنب الله.

    الدرجة الثالثة: توبة الله، وهي قبوله لتوبة عبده، فهذه ثلاث درجات، كما قال تعالى: لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[التوبة:117]، فتوبة الله الأولى: هي توفيقهم للتوبة، وتوبتهم الثانية: هي قبوله لتلك التوبة، كما قال تعالى: ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا[التوبة:118]، وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا[التوبة:118]، التوبة الأولى هي: توبة الله عليهم ليتوبوا إليه، وتوبة الله الأخيرة هي توبته بقبول توبتهم وإنابتهم.

    ومن هنا فلن يتوب الإنسان إلا إذا سبقت توبته توبة ولحقتها توبة، تسبقها توبة الله وتعقبها توبة الله، وهذه من أبلغ النعم، فالتائبون هذا الوصف هو أول أوصاف تحلية النفوس، ولهذا قال الله تعالى: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ[التوبة:112]، فهذه الصفات العشر إذا حققها الإنسان فقد تحلى بتحلية النفوس الطيبة، وإذا لم يتحلّ بها فإنه لم يحرز الإحسان، فلا يمكن أن يكون محسناً إلا إذا تحلى بهذه الصفات.

    التحلي بصفة الصبر وأثره على الإحسان

    ثم بعد ذلك يأتي مقام الصبر، على الإنسان أن يتحلى بصفة الصبر، والصبر ثلاث شعب:

    أولها: الصبر عن معاصي الله، وثانيها: الصبر على طاعة الله، وثالثها: الصبر على قضاء الله وقدره.

    فالصبر عن معصية الله هو الذي يجاهد الإنسان به الشهوات، فإذا دعته الشهوة إلى معصية صبر عنها واستطاع أن يكف نفسه.

    والصبر على طاعة الله ثلاثة أقسام: الصبر عليها قبلها، والصبر عليها في أثنائها، والصبر عليها بعدها.

    فمن أمثلة الطاعة: الصلاة، فالصلاة تحتاج إلى ثلاثة أنواع من أنواع الصبر، والله تعالى يقول: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ[طه:132]، والاصطبار على الصلاة ينبغي أن يعرفه كل مصلٍ وهو ثلاثة أقسام: الصبر عليها قبلها بتهيئة شروطها والعزم عليها وحضورها في جماعة، أن لا يأتي الوقت إلا والإنسان عازم أن يؤدي فيه حق الله، وهو متهيئ لذلك بالطهارة مستعداً له، فهذا هو الصبر عليها قبلها.

    والصبر عليها في أثنائها: هو أن لا يدخل فيها مدخلاً لغير الله، وأن لا يجعل من صلاته شيئاً لغير الله، فإن التفت فيها فقد جعل فيها شركاً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يزال الله مقبلاً على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت أعرض عنه، وقال: يا بن آدم إلى من تلتفت؟ أنا خير مما التفت إليه)، يقاسون على التفاتهم فقال: (اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة أحدكم)، فالصبر على الصلاة في أثنائها يقتضي الحضور والخشوع، وأن يجعل الإنسان هذا الوقت الذي خصصه للصلاة كالصلاة فعلاً، كثير من الناس يأتي هنا فيصبر على الصلاة قبلها، لكنه إذا دخل الصلاة ذهب الشيطان بقلبه كل مذهب، وهذا الوقت الذي خصصه للصلاة وهو عشر دقائق أو خمس دقائق لم تنل الصلاة منه إلا شيئاً يسيراً، كما جاء في سنن أبي داود بإسناد حسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد ليصلي الصلاة وما كتب له إلا نصفها، ثلثها، ربعها.. )، حتى انتهى إلى العشر، يشغله الشيطان عن صلاته فلا يزال يقتطع منها الأجزاء حتى لا يخلص للإنسان منها في كثيرٍ من الأحيان إلا العشر، عشر دقائق دقيقة واحدة منها هي التي يستحضر الإنسان ماذا عمل فيها في الصلاة.

    ثم بعد هذا الصبر على الصلاة بعدها، الصبر على العبادة بعدها: هو عدم إبطالها بما يأتي بعدها من الذكر والسمعة والرياء، وكذلك ما يأتي بعد الصدقة من المن والأذى فهو مبطل لها بعدها، فإذا صبر الإنسان عن هذه الأمور ولم يأتي بما بعدها فقد صبر عليها، فإذاً هذه ثلاثة أقسام في الصبر على طاعة الله.

    أما الصبر على قضاء الله وقدره، فإن الإنسان ممتحن بكثيرٍ من الأعراض والأمراض وهو عرضة لها، إن أصابه هذا فبها، وإن لم يصبه فسيصيبه آخر، فإذا أخطأه هذا أصابه هذا، ومن هنا فإن عليه أن يستعد بقلبه للصبر على أقدار الله عز وجل، فإذا جاءته فتنة وجدته ثابتاً صابراً لا يعبد الله على حرف، وكثير من الناس يعبد الله على حرف: فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ المُبِينُ[الحج:11]، فعبادة الله على حرف معناها: على طرف إيمان، صاحبها غير ثابت كالذي يمشي على حرف الجبل يخاف أن يزل به قدمه، فهذا خطره شديد وصاحبه معرض للانقلاب والسقوط في أي وقت، لكن الذي يعبد الله بكل طمأنينة، ويحاول أن يستقبل كل ما أتى من عند الله بكل رضىً، فهو يرضى بكل ما قدره الله عليه ويؤمن بقضاء الله وقدره، ويؤمن بأن ما أصابه لم يكن ليخطأه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأنه قد رفعت الأقلام وجفت الصحف عما هو كائن، فهذا سيطمئن لكل قدرٍ أصابه، وإن أتاه أي شيءٍ كان خيراً له، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن، كل أمر المؤمن له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن).

    ومن هنا فإن كثيراً من الناس إذا أصابته مصيبة أياً كان، وأياً كانت تلك المصيبة تنكر لنعمة الله عليه، ودعا بالويل والثبور، وفي كثير من الأحيان يتأثر عقله بسبب تلك المصيبة، وهؤلاء يعبدون الله على حرف، وإذا جاءتهم أيّة فتنة انقلبوا على وجوههم خسروا الدنيا والآخرة، أما المؤمن المطمئن فإن جاءته أيّة مصيبة قال: الحمد لله قد دفع الله عني أعظم منها، وإن صبرتها فلي عند الله ما هو أعظم منها وأكبر، وبذلك يستعد لأقدار الله سبحانه وتعالى ويصبر عليها، وكذلك إذا جاءته سراء لم يغتر بها، فكثير من الناس يغتر بالسراء وينسى أنها فتنة، والله تعالى يقول: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ[الأنبياء:35]، كثير من الناس إذا تواترت عليه النعم نسي النقمة، وظن هذه النعم ضربة لازب، وكان كحال قارون الذي قال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي[القصص:78]، أو كحال الرجل الذي قال حين دخل جنتيه وهو ظالم لنفسه: أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا* وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا[الكهف:35-36]، فهذا خسر؛ لأنه ظن نعمته دائمة لن تزول، والنعم لا تدوم، ولذلك سخط الله عليه وأحل عليه هذه العقوبة الدنيوية العاجلة، فترك جنتيه خاويتين، لو أنفق كل أمواله ما زرع فيهما ولا عاد إليهما ماء ولا ثمر، ولم يجد من ينتصر له، ولا يمكن أن ينتصر له، فإن أيّة مصيبة تنزل مثالها الصادق هو قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ[الحج:73]، مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ[الحج:74].

    فهذا الصبر يلزم أن يتحلى به الإنسان، والإنسان المتحلي له قد تحصن بالنصح لمكايد الشيطان؛ لأن مكايد الشيطان تنقسم إلى قسمين: إما شهوات وإما شبهات، فالشهوات تنقسم إلى قسمين: شهوات حسية، وهي مثل: شهوة الفم والبطن وشهوة الفرج. وشهوات معنوية، وهي مثل: حب الرئاسة وحب الشهرة وغير ذلك، فهذه الشهوات هي نصف مكايد الشيطان.

    أما الشبهات وهي القسم الثاني من مكايد الشيطان فهي أيضاً قسمان: شبهات في التعامل مع الله كالشبهات في العقيدة، وكالوسوسة في الطهارة والصلاة وغير ذلك، وشبهات في التعامل مع الناس وهي الاتهامات والظنون التي هي ظن السوء، الذي قال الله فيه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ[الحجرات:12]، فهذه الشبهات تفسد علاقات الناس في ما بينهم، وهي من وحي الشيطان وإلقائه، والشبهات إنما تعالج باليقين، فاليقين أخو الصبر، واليقين مقتضٍ للانطلاق من الدليل: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ[البقرة:111]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا[الحجرات:6]، فيتبين الإنسان ويتثبت، (يتثبت) في قراءة ابن كثير وهي في قراءة السبع، ومعناها فتبينوا وهي قراءة الجمهور، ولا فرق بينهما في المعنى، فلذلك إذا جاءت الإنسان أية قضية أو عُرض عليه أي قول، فعليه أن يتثبت حتى يبحث عن دليل ذلك، وحتى ينطلق من دليل، فإذا ألقى إليه الشيطان شبهةً وقال: فلان من الناس يبغضك ويحسدك تثبت وتبين، حتى يعلم هل هذا صحيح وما سبب ذلك؟ وما الذي دعاه إليه؟ هل ظلمته أنا؟ فيكون معذوراً لأنني أنا المتسبب.

    وكذلك في الشبهات في التعامل مع الله ينطلق من هذا الأصل: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ[البقرة:111]، فاليقين أخو الصبر، وإذا جمع الإنسان بينهما جمع بين الصبر واليقين نال الإمامة في الدين، كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ[السجدة:24]، فحين جمعوا بين الصبر واليقين نالوا الإمامة في الدين.

    التحلي بصفة الشكر وأثرها على الإحسان

    ثم بعد هذا الشكر: والشكر لله عز وجل التحلي به تحلي بوصف من أعظم الأوصاف، ولهذا جعل الله تعالى الشاكرين قليلاً من عباده: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ[سبأ:13]، فأهل الشكر من عباد الله قلة؛ لأن الشكر هو صرف العبد جميع ما أنعم الله عليه به في طاعته، فإذا تذكر قوة بدنه وقوة حجته وقوة لسانه ومهارته السياسية تذكر: رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ[القصص:17]، وإذا تذكر المال الذي تحت يده وأنه نعمة من نعم الله أنعم بها عليه تذكر أنه لا يمكن أن يصرفه في معادات الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا تذكر الأولاد الذين جعل الله تحت يده، وآتاه وقد حرم كثير من الناس منهم بادر إلى شكر هذه النعمة بصرفها في الوجه الصحيح وأداء الحقوق الشرعية فيه، وهكذا حتى تكون كل النعم متجهةً إلى وجهها الصحيح، وهذا هو الشكر، ومن اتصف بهذه الصفة فقد تحلى بوصف عظيم، ولهذا وصف الله عز وجل داود عليه السلام بأنه كان من عباده الشاكرين، وألهم آل بيته الشكر، وذلك بتربية داود لهم، فإن الله أثنى عليهم بالشكر، وقد رباهم داود عليه، فكانوا يقطعون ساعات الليل والنهار بالطاعات، فالوقت الذي ينام فيه بعض أفراد الأسرة يقوم فيه البعض الآخر، فإذا تعبوا أيقظوا هؤلاء فناموا وقام أولئك، ويقع التبادل بينهم دائماً، ومن هنا فإن من جعل الله تحت يده بعض عباده فآتاه زوجةً وأولاداً وبعض الأقارب عليه أن يربيهم على طريقة الشكر، وعليه أن يقول لهم: نحن آل هذا البيت قد أنعم الله علينا، فينبغي أن نشكر نعمة الله هذه الليلة، وننطلق في ليلة واحدة لعلنا نشكر نعمة الله ليلةً واحدةً في العمر كله، فأنا الآن سأشتغل بذكر الله تعالى، وهذا الإنسان الآخر يشتغل بإيصال الحقوق والنفقات الواجبة في البيت، وهذا الآخر يشتغل بالصلاة، وهذا الآخر يشتغل بعلم يتعلمه، وهذا الآخر بخدمة للآخرين، وهكذا فيكون التوزيع توزيع الأدوار بينهم كفيلاً بأن تمر الساعات كلها، وقد شكروا نعمة الله فيها، فأنا سأنام شكراً لله على هذه النعمة التي آتاني، فأحتسب في نومتي ما أحتسب في قومتي، وهذه الزوجة تصلي وإذا غلبها النعاس أيقظتني، فأصلي أنا وتنام هي وهكذا، فهذا من كمال الشكر.

    التحلي بصفة الخوف من الله وأثرها على الإحسان

    ثم بعد هذا يأتي الخوف: والتحلي بالخوف تحلٍ كذلك بصفة عظيمةٍ ينبغي أن لا يفقدها مؤمن، فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ[الأعراف:99]، لا بد أن يخاف الشخص بطش الله ونقمته، فإن بطش الله تعالى ونقمته أعظم من كل ما يتصوره الإنسان من الوسائل، ولذلك فإن الملائكة الذين يرتفعون إلى ربهم إذا حفوا حلق الذكر بأجنحتهم يسألهم ربهم جل وعلا، فيقول: ( مم ماذا يستعيذون بي؟ فيقولون: يستعيذون بك من النار، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا، فيقول: فكيف لو رأوها؟ فيقولون: وعزتك وجلالك لو رأوها لكانوا منها أشد خوفاً ).

    إن ما عند الله تعالى من أنواع العذاب والبلاء لا يمكن أن يتصوره قلب أحد منا، فنحن إذا أردنا تصور حرارة النار، ونحن نعلم أن هذه النار الدنيوية لا تساوي شيئاً إذا قيست في مقاييس النار الأخروية، ومع ذلك لا يسر أحد منا أن تمسه لذعة واحدة من نار في هذه الدنيا، مع أن هذه النار لا تساوي شيئاً من حرارة الشمس، فحرارة الشمس أربعة عشر مليون درجة حرارية، والشمس لا تساوي شيئاً من نار الآخرة، ومن هنا فإن أبواب نار جهنم وما في السعير أنواع العذاب ينبغي أن يستحضره الإنسان حتى يخاف الله تعالى، وينبغي أن يتذكر الإنسان حال أهل النار عندما يرمون في نار جهنم في أضيق من سم الخياط، وهم يصطرخون فيها، يتذكر حالهم مقرنين في الأصفاد: سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ[إبراهيم:50]، ويستحضر حالهم وهم يسحبون على وجوههم في نار جهنم، ويستحضر حالهم عندما يسود الله وجوههم ويقطع عنهم النور، فيقولون: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ[الحديد:13]، يستحضر حالهم وقد أعرض الله عنهم ولم يكلمهم بكلام رحمته واحتجب عنهم، كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ[المطففين:15]، يستحضر هذا فيدرك ما لدى الله تعالى من أنواع البطش، فمن استحضر ذلك خاف الله عز وجل.

    ثم إذا استحضر ما لديه من العذاب الأخروي استحضر كذلك عذاب القبر، واستحضر التنانين والشجاع الأقرع، واستحضر حيات القبور وعقاربها وظلمتها، واستحضر ما يصل إليها من فيح جهنم ورائحتها المنتنة، ثم يستحضر كذلك آفات هذه الدنيا وما جعل الله فيها من أنواع النقم والبلايا، وشرها البلاء في الدين، فشر البلية البلاء في الدين، يرى قوماً قد ابتلاهم الله بالكفر وهو غير آمن من ذلك، لا يأمن أن يكفر، ويرى أقواماً آخرين قد ابتلاهم الله بالفجور والفسوق وهو غير آمن من ذلك إلا بالخوف من الله، ورأى أقواماً آخرين قد ابتلاهم الله تعالى برقة الدين وعدم المبالاة، ورأى آخرين قد ابتلاهم في عقولهم، وآخرين قد ابتلاهم في سمعتهم، وآخرين قد ابتلاهم في أبدانهم، وآخرين قد ابتلاهم في أموالهم وأهليهم، يشاهد أنواع البلاء فيخاف الله عز وجل، يستحضر ما لديه ويعلم أنه: لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ[يونس:44]، َمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ[الشورى:30]، يستحضر هذا الأخذ الشديد الذي بيد الله سبحانه وتعالى، فيحصل بذلك على خوف الله عز وجل.

    والإنسان مطالب بأن يكون خائفاً وجلاً من الله سبحانه وتعالى على كل الأحيان، فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر كان أشد هذه الأمة خوفاً لله وخشيةً له، وقد ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أعلمكم لله وأخشاكم لله أنا)، وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا رأى المطر خاف وعرف الخوف في وجهه، فلا يزال يخرج ويدخل، فقيل له في ذلك فقال: خشيت أن يكون كما قال أصحاب هودٍ: عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الأحقاف:24]، فإذا رأى أي ظاهرة من هذه الظواهر التي لا نعدها شيئاً، فالإنسان منا اليوم إذا رأى أيةَ ظاهرة ٍكونية لا يعدها أي شيء، لكن أهل القلوب الحية وأهل الإيمان إذا رأوا أية ظاهرة خافوا خوفاً شديداً، كما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى كسوف الشمس، فجاء مرتاعاً يجر رداءه من الخوف، وفزع إلى الصلاة، وخطب الناس خطبته البليغة التي قال فيها: (ما من شيء لم أكن أريته إلا رأيته في موقفي هذا حتى الجنة والنار)، وأخبرهم بحكمة كسوف الشمس والقمر، فقال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة، وإنهما لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته)، وكذلك فإن الله سبحانه وتعالى يقول: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا[الإسراء:59]، فنحن نرى البرق والرعد ونرى الفجر يطلع، ونرى الشمس تطلع ونراها تغرب، ونرى الليل يقبل بظلامه، ونرى الآيات الكونية العجيبة، ومع هذا كثيراً ما تغفل قلوبنا عن خوف الله عز وجل وخشيته بهذه الآيات العجيبة الدالة على علو شأنه، وقد قال مالك رحمه الله تعالى في الليل: الليل خلق عظيم، حين سُئل عن من يشتري دابة قد غابت عنه، ولكنه رآها وذات ليلة حال بينه وبينها سواد الليل، هل يجوز أن يشتريها؟ فقال: الليل خلق عظيم.

    إن كثيراً من الناس لا يستحضر عظمة هذا الكون والآيات البينات التي فيه.. والتي لا يرسل الله بها إلا تخويفاً، فلا تراه يتأثر إذا كُسفت الشمس أو كُسف القمر، أو جاء القحط واحتبس المطر، ولا تراه يخاف إذا رأى المطر مقبلاً خشيةً أن يكون قد أجل العذاب، ولا تراه يتأثر قلبه بهذه المصائب، والله تعالى يقول: فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[الأنعام:43].

    إن علينا أن نستحضر حال موسى كليم الله عندما أخذت قومه الرجفة، فقد حكى الله عنه كلاماً عجيباً في تعامله مع الله في ذلك الوقت: فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ[الأعراف:155-156]، علينا أن نستحضر تعامل الأنبياء مع ربهم فهم الذين يعرفونه، ونحن نريد معرفة الله، ولا يمكن أن نعرفه إلا بسلوك طريق هؤلاء الأنبياء: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ[الأعراف:155-156].

    وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ( كان إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة )، إذا حزبه: معناه أهمه أمر أياً كان بادر إلى الصلاة، فبها يستريح ويناجي الله عز وجل، يريه الخضوع والخشوع بين يديه والتذلل له في أي أمر، فإذا جاءت زلزلة سجد، وإذا جاءت أية آية سجد، وقد ربى أصحابه على هذا، فهذا ابن عباس رضي الله عنهما عندما قيل له: إن ميمونة بنت الحارث قد ماتت، خر ساجداً لله تعالى، فقيل له: ولمَ تسجد؟ فقال: وأية آية أعظم من فراق أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هي آخر زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الحياة وقد ماتت، فخر ساجداً لله تعالى، فأي خبر أتاه يشق عليه يبادر إلى السجود، لأنه آية من آيات الله.

    إن الخوف من الله سبحانه وتعالى هو مدعاة عبادته، وإن علينا أن نزداد خوفاً من الله تعالى، فلا يمكن أن نحول بين أنفسنا وبين الوقوع في معصيته إلا بتذكر خوفه واستحضاره، وإن وسيلة تقوية هذا الخوف في نفوسنا أن نستحضر مواقف الذين عرفوه، وهؤلاء الأنبياء الذين عرفوا الله تعالى كان خوفهم له بهذه المثابة، فكيف لا نخافه نحن ولم يتعهد لأحدٍ منا بأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

    التحلي بمقام الرجاء وأثرها على الإحسان

    وبعد الخوف يأتي مقام آخر وهو مقام الرجاء، والإنسان محتاج إلى أن يعلق أمله بالله وأن لا يريد حاجةً ممن سواه، وعلى الإنسان أن يكون راجياً لما عند الله، ويكون في حياته بين الخوف والرجاء، فلا يغلب واحداً من الجانبين على الآخر؛ لأنه إذا غلب الرجاء ربما دخل عليه الشيطان من هذا المدخل، فظن أنه قد غُفر له، وأن مغفرة الله أوسع من ذنبه وهذا يكفي، وإذا غلب الخوف كذلك ربما أوهمه الشيطان أن ذنبه أعظم من المغفرة، وكلامهما مزلقة ومزلة للأقدام، لكن إذا كان بين الخوف والرجاء يخاف الله، يخاف عقوبته ويرجو ثوابه، فهذا هو الوجه الصحيح في التعامل معه، ومن هنا فإن الله سبحانه وتعالى إذا أوعد في القرآن فإنه لا يوعد إلا على أقصى درجات المعصية، وإذا وعد فلا يعد إلا على أقصى درجات الطاعة، قال تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى[الليل:14-15]، أشد الناس شقاوة إلا الأشقى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى[الليل:16]، إذاً هذا أوعد على شر الأنواع، فأنت إذا قرأت هذه تقول: الحمد لله لست كذلك، فلست مكذباً ولا متولياً، لكن إذا جاء الوعد أيضاً: وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى[الليل:17-21]، تقول: أنا لست كذلك أيضاً، فتبقى بين الخوف والرجاء، لست بالأول ولست بالثاني فأنت بين الأمرين، فهذا المطلوب طيلة الحياة إلى أن يصل الإنسان إلى حال الغرغرة وحال الموت وفراق هذه الدنيا، فإذا أقبل على الآخرة أدبر عن الدنيا فإنه ينبغي أن يقوي رجاءه بالله، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يموتن أحد منكم إلا وهو يحسن ظنه بالله)، ومن هنا فإن الله تعالى قال كما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: (أنا عند حسن ظن عبدي بي )، فإن أحسن ظنه بالله عز وجل في حال الانتقال عن هذه الدنيا كان إلى الرحمة؛ لأنه سيحقق إيمانه ولن يجد الشيطان مدخلاً عليه، وأما إذا أساء ظنه بالله وتذكر سيئاته فهو الآن ضعيف القلب، ضعيف التفكير، فربما سولت له نفسه أو شيطانه أن ذنبه أعظم من الرحمة والمغفرة، فيموت على الكفر بالله، فمن هنا كان عليه في ذلك الوقت أن يرجح جانب الرجاء.

    وكذلك يذكر العلماء أن بعض الساعات التي تمر على الإنسان ينبغي أن يرجح فيها أحد الجانبين، فإذا وجد النفس مقبلة على معصية معينة رجح جانب الخوف في هذا الوقت؛ ليقطع على الشيطان سبيله ويتذكر هادم اللذات، فهذا الوقت بمثابة خاتمته، لأن الوقت لا بد أن تعمره بالطاعة، وإذا أقبل على المعصية وتهاوى عليها فكأنه قد مات وأقبل على الآخرة، يستحضر هذا فيذكر سرعة نقمة الله، وكذلك فإنه إذا رغب في طاعة من النوافل فوجد نفسه بالإمكان أن يتباطأ عنها فإن عليه أن يرجح جانب الرجاء ويسعى لإقامة هذا العمل؛ لأن كثيراً من المشاريع التي يريد الإنسان إنجازها مما يقربه إلى الله يقطعها ويحول دونها قصر أمله وقصر نظره، ومن هنا فإن على الإنسان أن يعمل لآخرته كأنه يموت غداً، وعليه أن يعمل لدنياه كأنه يعيش أبداً.

    التحلي بصفة التوكل وأثرها على الإحسان

    فبعد الخوف والرجاء والموازنة بينهما يأتي جانب آخر من جوانب معاملة الله سبحانه وتعالى والتحلي بهذا الوصف الحميد وهو التوكل، فالتوكل على الله عز وجل مقام رفيع، يقتضي من الإنسان أن لا يعتمد على الأسباب، وأن ينظر إلى مسبب الأسباب، وأن يعلم أن عقله وتدبيره وتفكيره لا يمكن أن يوصله إلى نتيجة ما لم تكتب له تلك النتيجة، ومن هنا يزداد توكله على الله تعالى ومعرفته بحقيقة الأسباب، فمن عرف أن الله تعالى يرزق أجناس البهائم والحشرات التي تكون في قعر الأرض، يحفر أحدنا حفيراً هنا عدة أمتار في قلب الأرض، فيجد فيه حيوانات تعيش وتتنفس ويدخل إليها رزقها، ويدخل إليها الأكسجين في قعر الأرض، ويصلها رزقها في المكان الذي هي فيه، يشاهد الحيتان التي تعيش تحت الماء في المحيطات، ويرى في الفيافي البعيدة الذئاب التي تعيش دون ماء، ويرى الغزلان التي تعيش في رءوس الجبال وقممها دون أن يكون لها أي شرب، فيتذكر قول الله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ[هود:6]، فيتوكل على الله تعالى حق التوكل، وذلك غير منافٍ لمباشرة الأسباب، بل هو معين على الأخذ بهذه الأسباب، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو توكلتم على الله حق التوكل لرزقتم كما ترزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، (تغدو خماصاً) معناه جياعاً ليس في بطنها شيء، و(تروح بطاناً) قد أخذت رزقها، والطير لا تبقى في وكناتها حتى يأتيها رزقها بل تخرج وتلتقط، فكذلك على الإنسان أن يباشر الأسباب، ومع ذلك يتوكل على الله سبحانه وتعالى.

    ومن مظاهر التوكل البارزة قضية الزرع، فالإنسان يأتي إلى أرضٍ قاحلة فيصلحها ويضع فيها البذور توكلاً على الله؛ لأنه غير قادر على أن يأتيها بالمطر، ويبقى بين الرجاء والخوف، فإذا أمطرها الله تعالى علم أنه لم يكن هو الذي زرع، وإنما الله هو الذي زرع هذا الزرع، ولذلك قال تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ[الواقعة:63-67].

    كذلك من أوجه التوكل: المخاطرة في الأمور كلها في الأسفار، مخاطرات والإنسان فيها يتعرض للموت يسافر في الجو فوق ستة وثلاثين ألف قدم، يعبر المحيطات وهو في هذا الريش المعرض للسقوط والهوي في كل لحظات، يبحر المياه في البواخر، وحتى في الحياض الصغيرة، يسافر في السيارات على طرقه عرضة لحصول الحوادث، لكن الذي جعله يسير على ذلك إن كان من أهل الإيمان هو قوة توكله على الله سبحانه وتعالى، وأما ناقص الإيمان فإنهم يتوكلون على الأسباب، فإذا أتقنوا السيارة وأتقنوا لوازمها ظنوا أنها قد تنجيهم من كل ما تتعرض له، وهم يتوكلون على الأسباب، وهؤلاء سيخسرون ولا يمكن أن يرفع عنهم هذا شيئاً، وكم شاهدنا من الذين بالغوا في إتقان الأسباب رأى أن هذه الأسباب لا تنفع ولا تؤخر شيئاً ولا تقدمه.

    إن مقام التوكل على الله سبحانه وتعالى مقتضٍ لأن يعامل الإنسان ربه معاملتين: إحداهما: في ما بينه وبينه، والأخرى: في ما بينه وبين خلقه، فالمعاملة التي بينه وبين الله سبحانه وتعالى هي بالإيمان به، ومعرفة أن ما كتبه لا بد أن يقع وأن قدره نافذ، والمعاملة الأخرى هي بتنفيذ أوامره بالتعامل مع الناس، فلا يتوكل على هذه الأسباب ولا يتركها، بل يؤدي الحقوق إلى ذويها، ويباشر في ذلك ما أمره الله به ويترك ما نهاه عنه، ثم يتوكل بعد هذا، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي سأله عن قيد ناقته فقال: ( يا رسول الله! إن الله قد كتب ما هو كائن أفأقيد ناقتي؟ فقال: نعم، قيدها وتوكل)، فيجمع بين الأسباب والتوكل على الله، يقيد ناقته؛ لأن هذا من عمل الأسباب التي أمر الله بها، ويتوكل بعد ذلك على الله ليعلم أن القيد لم يكن ليرد عليه ناقته.

    1.   

    أهمية التربية الحقيقية للنفس

    إن التحلي بهذه الصفات بعد التخلي عن تلك الصفات السابقة هو الذي يسمى بالتربية، وإن استطاع الإنسان أن يربي نفسه على هذا الحد فبها ونعمت، وسيصل إلى المقام المطلوب الذي هو إحسان التعامل مع الله حتى يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يستطع الإنسان إذهاب الصفات السابقة عن نفسه والتخلي عنها، ولم يستطع التحلي بهذه الصفات بنفسه، فإن عليه أن يصحب الصالحين من الذين ينافسونه في عمل الطاعات ويحضونه عليها، ولا يراهم يعصون الله تعالى، ويراهم مقبلين على الله فيذكرونه بالله، إذا رأى أحداً منهم لا يراه إلا في طاعة لله، فمن رأى إنساناً هكذا ويوثق به فإن مجرد مخالطته حتى لو لم يسمع منه كلمةً واحدةً معينة على الالتزام بهذا، ومن هنا فإن ما يسميه الناس بالتربية الروحية وهو الذي اشتهرت تسميته بالتصوف منه مقبول ومردود، فما كان منه على الوجه الذي ذكرناه تخلياً عن الأوصاف الذميمة وتحلياً بالأوصاف الحميدة، ومراقبةً لخواطر النفوس، وما يمكن أن ينزلق فيه الإنسان من أنواع الوساوس فهذا هو التصوف المحمود، ولا بد منه وهو داخل في الإحسان بالدرجة الأولى، ولا يمكن أن يتم دون شخصٍ دونه، لكن لا مشاحة في الاصطلاح، فلك أن تسميه سلوكاً ولك أن تسميه تربيةً ولك أن تسميه تصوفاً، والألفاظ مسلوبة الدلالة ولا مشاحة في الاصطلاح.

    أما ما خالط هذا من الخرافات والخطأ في التربية والخلل فيها، والاعتماد على أشخاصٍ لم يربوا أنفسهم في تربية الآخرين، أن تأتي إلى شخصٍ عاصٍ لله تعالى فتريد منه أن يربيك على طاعته وأنت تشاهد معصيته، إن فاقد الشيء لا يعطيه، بل هو عاصٍ لله غير عارف بالله، لا يعرف الوحي الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ويعرض عنه، ولا يقرأ كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فكيف يطلب عندهم التوصيل إلى هذه الهداية؟ لا يمكن أن يتم هذا، فالذي لا يذكر الله إلا قليلاً، ويجعل كل وقته في جمع الدنيا وحطامها، ويأخذ من الناس ما لديهم، ويجعل لنفسه الحقوق على الآخرين، ويتلهى في كل أوقاته بملذات الدنيا وشهواتها، هذا لا يكون شيخاً ولا مربياً، وتصوفه هو التصوف المردود الذي لا يمكن أن يقبل، لكن الذي يطلب الهداية من موقعها الحقيقي، ويأخذها من الوحي ويلتزم هو بها، ويمارسها تطبيقاً في نفسه، ويتخلى عن الأوصاف الذميمة ويتحلى بالأوصاف الحميدة، ولا تجده على معصيةٍ، ولا تراه إلا مشتغلاً بطاعةٍ، فهذا يستحق أن يكون من أهل التربية؛ لأنه قد ربى نفسه ونجح فيها، فيستحق أن يربي الآخرين إن احتاجوا إليه، حتى لو لم يكلهم، ولكن ينبغي أن لا يكون ذلك على أساس استعباد لعباد الله والاستغلال لهم، بل هو مجرد تعاون على البر والتقوى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ[المائدة:2]، ولا يقتضي جزاءً ولا شكورا، ولا يحل أخذ الأجرة على التربية، فالتربية لا يحل أخذ الأجرة عليها؛ لأن أخذ الأجرة عليها أخذ أجرة على واجب وهو مما لا يجوز، فكيف تأخذ الأجر على واجب عليك كصلاتك وصيامك؟

    فلذلك ما شاع في الأزمنة المتأخرة من أخذ كثيرٍ من الذين يدعون التربية الأجرة على الناس بالهدايا وغير ذلك وحتى بالأمور المشروطة أن يسلم نفسه وماله، وأن يكون كالميت بين يدي غاسله، فهذه الأمور ما أنزل الله بها من سلطان، ولا يمكن أن تصلح تربيةً، بل هي من كيد الشيطان وعمله، ومن شرطها ومارسها فليس هو متربياً، فهو الذي يحتاج إلى التربية قبل غيره، وكذلك فقد خالط هذا الباب كثير من الانحراف الآخر في مجال العقدي، كذلك أن التوازن مطلوب شرعاً، فلا بد قبل هذه التربية من الإيمان، ولا بد بعد الإيمان من الإسلام، ثم يأتي الإحسان في المرتبة الثالثة، فالذي يعكس الترتيب ويريد الإحسان قبل الإسلام وقبل الإيمان لا يمكن أن ينجح.

    نحن نعلم أن الوضوء وهو تعبد عادي من عكسه فبدأ برجليه قبل غسل يديه وقبل غسل وجهه، هل فعل ما أمر الله به؟ فالدين كذلك لا يمكن أن يُعكس من أصله ويؤتى بآخره قبل أوله، إن من لم يحقق الإيمان ويجتهد في لزوم منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإيمانيات، ولم يحقق الإسلام فلم يجتهد في استكمال الدعائم والباقيات الصالحات، لا يمكن أن يصل إلى درجة الإحسان، فهي الدرجة الثالثة، ومن هنا فإن كثيراً من الناس ينعكس عليه الترتيب فيبدأ بمحاولة الإحسان، وكثيراً ما يضل سواء الطريق فيغلط غلطات في مجال الإيمان تصل به نعوذ بالله إلى حد الإشراك والكفر؛ لأنه جهل الإيمان، وكذلك يغلط في التصرفات العملية في الإسلام، فيأتي بأغلاط فاحشة؛ لأنه بدأ بالإحسان قبل الإسلام، لكن التصور الصحيح أنه يبدأ الإنسان بالإيمان ثم بالإسلام ثم بالإحسان، ولهذا فإن مشايخ التصوف الكبار بدءوا أولاً بالعلم ثم بالعمل في أنفسهم، ثم بعد ذلك ربوا الناس بعد أن استقام حالهم، ومن هؤلاء عبد القادر الجيلاني وقبله الجنيد أبي القاسم ، هؤلاء بدءوا أولاً بالعلم، ولم يبدأ أحد منهم عن جهلٍ، بدءوا بالإيمان ثم بالإسلام ثم بالإحسان، وهذا المطلوب، أما المدعون فيعكسون الترتيب ويأتون جهلةً، فلا يمكن أن يعتمد عليهم في أي شيء.

    إذاً فمن التصوف ما هو مقبول ومنه ما هو مردود، ولا بد من التفريق بينهما، والتفريق بينهما دقيق جداً، يحتاج الإنسان فيه إلى أن يكون ذا فرقان يميز به بين الحق والباطل، فالمقبول منه كما ذكرنا ما كان قبله إيمان وبعد ذلك الإيمان إسلام ثم الإحسان ثالثاً، ويكون بالتخلي قبل التحلي، التخلي عن الأوصاف الذميمة، ثم التحلي بالأوصاف الحميدة، وما كان مردوداً منه وما خالطته الخرافة والدجل وخالطه الزلات العظيمة في مقام الإيمان والزلات العظيمة في مقام الإسلام، فهذا مردود على أصحابه لا يمكن أن يقبل.

    وقد اشتهر في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان أصحابه وأتباعه ترابط هذه التربية، فلم يشتهر من الصحابة ولا من التابعين ولا من أتباع التابعين من يتبحر للتربية الروحية، بل الإنسان الذي يربي الناس يربيهم بالعلم والعمل والإحسان، فتكون تربيته متكاملة على الدين كله، فليس أحد من الصحابة شيخاً في التربية فقط وليس شيخاً في العلم، وليس شيخاً في العمل، بل لا بد أن يجمع الإنسان إذ ذاك بين هذه الأمور كلها.

    وما وقع فيه المتأخرون من البحث عن التخصصات إنما جاء بعد القرون المزكاة وبعد القرون الأولى، قول ابن عاشر رحمه الله:

    في عقد الأشعري وفقه مالك وفي طريقة الجنيد السالك

    هذه تخصصات ما طرأت إلا في عصور متأخرة جداً جداً، ولو أنه قال في عقد مالك وفقه مالك وفي طريقة الإمام مالك لكان مصيباً؛ لأن مالكاً أيضاً كما هو شيخ في الفقه هو شيخ في العقيدة والإيمان، وهو شيخ في السلوك والتربية، فكذلك كل أولئك المرضيين من القرون الأولى ليس أحد منهم غير مرضي في السلوك أو غير مرضي في العقيدة، بل هم أئمة في كل هذه الأمور، مالك إمام في العقائد وفي الفقه وفي السلوك، ولا يمكن أن تقول غير مرضي في هذا الجانب ومرضي في الجانب الآخر، لماذا اخترت جانبه الفقهي ولم تختر جانبه السلوكي أو جانبه العقدي؟ ليس لذلك أي مبرر.

    1.   

    الإحسان في التعامل مع الناس

    بعد هذا نصل إلى الجانب الثاني من جوانب الإحسان، ويتمثل ذلك في:

    الأخذ بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الأحداث

    الأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الأحداث وفي قوة الالتزام بالدين وفي إنكار المنكر، لا بد أن يأخذ بسنته أيضاً في الأخلاق، وإن ما نراه من التشدد في الناس أو التساهل فيهم كله منحرف مخالف للسنة، الذي يتشدد في التغيير ويخاطب الناس بما يكرهون لم يسلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خاطب إنساناً قط بما يكره، وما واجهه إنساناً قط بما يكره، إذا رأى ما ينكره وقف على المنبر فقال: (ما بال أقوام يفعلون كذا؟)، فإذا أردت الالتزام بسنته فلا تترك خلقه، فإن الله يقول: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ[القلم:4].

    إن كثيراً من المتحمسين للسنة إذا رأوا ما يغايرها جهلوا خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فأساءوا التعامل مع الناس وتشددوا وتشنجوا وأهملوا الخلق، مع أن الذي يحضهم على الالتزام بتلك السنة هو الذي يحضهم على الالتزام بالسنة الخلقية، وهذا أهم ما يمكن أن نصل إليه من الجمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم العملية وسنته الخلقية، وأن لا نعزل الأخلاق فنبعدها من السنة.

    وقد ذكرنا سابقاً بعض هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه من التواضع وحسن الخلق، ولين الجانب للناس، وبساطة الوجه لهم، وهذه الأمور ينبغي أن يتلحى بها كل المتبعين لسنته صلى الله عليه وسلم، فما كان صلى الله عليه وسلم متشنجاً أبداً، يقول أنس بن مالك رض الله عنه: ( خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي لشيء فعلته: لمَ فعلت؟ ولا لشيء تركته: لمَ تركته؟ ).

    ويقول الأعرابي الذي دعاه حينما بال في المسجد فقال: (لا تزرموه لا تزرموه فأمر بذنوب من ماءٍ فأريق على بوله، ثم دعاه فقال: إن هذه المساجد لم تبنَ لهذا، إنما بنيت لذكر الله وإقامة الصلاة)، ويقول الآخر: ( فوالذي نفسي بيده ما رأيت قبله ولا بعده معلماً أحسن منه، فو الله ما ضربني ولا كهرني، وإنما قال: إن هذه الصلاة لا يصلح لها شيء من كلام الناس، إنما هي لذكر الله وقراءة القرآن)، فيغير ولا يسكت على المنكر، لكن بأسلوب حسن هادئ غير متشنج، وهذا هو المطلوب وهو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلقه.

    إن الابتسامة في الوجه طابع من طوابع الخلق النبوي، وإن عبوسة الوجه طابع من طوابع المبتدعة، فأول من أظهر عبوسة الوجه في الإسلام هم القدرية والمرجئة، فكانوا أشداء على أهل الإيمان وأذلة على أهل الكفر، ولذلك حين جاء الخوارج إلى عبد الله بن خباب بن الأرت فامتحنوه في عقيدته فلم يقر بالخطأ وأقر بالصواب، فأرجعوه على شاطئ دجلة وذبحوه فاستطال الدم حتى قطع النهر، واستظلوا بظل شجرة ليهودي، فقال بعضهم لبعض: إنكم قد ضيعتم ذمة نبيكم، فإن هذا اليهودي من أهل الذمة ويؤدي الجزية فادفعوا إليه أجرة ظل شجرته، فجاءوه فقالوا: بكم تبيع ظل شجرتك فقد جلسنا في ظلها؟ فقال: عجباً لقوم لا يتورعون من ذبح عبد الله بن خباب بن الأرت ويتورعون من ظل نخلة لرجل يهودي!

    فهذا النوع من التشدد في الدين مخالف لهدي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فشأن المؤمن أن يكون ذليلاً على المؤمنين عزيزاً على الكافرين، والذين يتشددون على أهل الإيمان ويتشددون على أهل الدعوة، ويتشددون على أهل الخير الذين ما عرفوهم إلا بالخير، ويتساهلون مع من سواهم، فالفساق لا يكلمونهم بكلمة سيئة، يقولون: لا، هؤلاء نريد هدايتهم فلا نكلمهم بكلمة سيئة، وأهل الصلاح والخير إذا غلط واحد منهم، ووقع في أي غلط محتمل أن يكون صواباً بادروا إلى نقدهم، وهذا مخالف لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وسلوكه.

    فلذلك حين أتاه عبد حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه وقد منعه عشاءه بسبب مخالفةٍ له، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً أن يؤدي إلى العبد حقه أو يعتقه، فقال العبد: ( يا رسول الله! والله لا يدخل حاطب الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبت، والله الذي لا إله إلا هو لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة)، فمن أخطأ فإن ذلك لا يمحو حسناته السالفة، و( كل بني آدم خطاءون وخير الخطائين التوابون )، فلا بد من الإحسان في معاملة الناس.

    وقد أخرج عبد الرزاق في المصنف عن ابن جريج أنه كان في مجلس عطاء بن أبي رباح ، فأتاه رجل فقال: يا عطاء ! إنك يجتمع إليك أصناف الناس وإني أقول لهم قولاً شديداً، ولا أراك تفعل ذلك، فقال: إني سمعت قول الله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا[البقرة:83]، فيدخل في ذلك اليهودي والنصراني ومن سواهما. فهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سلوكه، وعلى من يريد اتباع سنته في التعامل مع الناس أن يقول للناس حسناً، وإذا أراد التغيير فنحن لا نريد من يسكت على المنكر، فليس هذا من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن إذا أراد الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر فليكن ذلك بالمعروف، وليكن بهدوء بالٍ وبعدم تشنجٍ وبعدم تقتطب في الوجه، وليكن بحسن خلق، وحرصٍ على هداية الآخرين.

    إن الخلق الحميد أمر عظيم، فهو الذي امتدح الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو أول ما يوضع في الميزان، وهو الذي يقرب الناس من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، ما من أحدٍ من المسلمين إلا وهو يحب مجاورة الرسول صلى الله عليه وسلم في الجنة، وإنه صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا أخبركم بأحبكم إليّ، وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟ أحاسنكم أخلاقاً الموطئون أكنافاً الذين يألفون ويُألفون)، فأحسن الناس خلقاً أقربهم مجلساً من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، وقد شرح لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حسن الخلق حين سأله أصحابه، فقالوا: ( وما حسن الخلق الذي تعني يا رسول الله؟ قال: أن تعفو عن من ظلمك، وأن تصل من قطعك، وأن تحسن إلى من أساء إليك)، فهذا هو الخلق الحسن الذي درب الله عليه رسوله صلى الله عليه وسلم في قوله: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ[فصلت:34-36]، فعلى الإنسان أن يدفع السيئة إذا واجهه بها أي إنسان يدفعها بالتي هي أحسن، ويواجهه بما هو خير منها، فإن ذلك مدعاة لتندمه ورجوعه، أو على الأقل يبوء هو بإثمه، وقد روي أن الحسن بن علي رضي الله عنهما أتاه رجل فوجه إليه كلاماً سيئاً قبيحاً يعيبه به، فرفع الحسن يده إلى الله، وقال: اللهم إن كان صادقاً فاغفر لي، وإن كان كاذباً فاغفر له. وكذلك جاءه رجل يريد مخاصمته في دار له فقال: يا أبا محمد ! إني شكوتك إلى القاضي في الدار التي في المكان الفلاني، فقد أخذتها وهي داري، فقال: إن كانت لي فهي لك، وإن كانت لك، فخذها ولا حاجة لنا إلى القاضي. فهذه تربية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه آثارها، وهذا الإنصاف من شأن الأشراف وهو وصف حميد يحتاج الناس إليه، ولذلك يقول الحكيم:

    لو أنصف الناس استراح القاض وراح كل على أخيه راضي

    لو عمل الناس على الإنصاف لم ترَ بين الناس من خلافِ

    تفاوت الناس في المعاملة بحسن الخلق

    فهذا الخلق الكريم يتفاوت تأكيده شرعاً بحسب من تواجهه، فأحق الناس بحسن خلقك والداك، ثم أدناك أدناك، وكذلك ذو الشيبة من المسلمين والإمام العادل منهم والعالم المحق، وكذلك الجار، فهؤلاء أحق بحسن التعامل ممن سواهم، ثم بعد ذلك المؤمنون أحق بحسن التعامل من الكافرين، وأعلى الناس منزلةً في الإيمان أحق بحسن التعامل من أدناهم، وهكذا فيتفاوت الناس هذا التفاوت.

    وقد قالت عائشة رضي الله عنها: ( أمرنا أن ننزل الناس منازلهم ) أي: أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينزلوا الناس منازلهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من الإيمان توقير ذي الشيبة المسلم)، فمن كان ذا شيبة في الإسلام فتوقيره من الإيمان، وكذلك إكرام صاحب العلم المحق وصاحب السلطان العادل فإكرامهما من الإيمان، ولهذا فإن خُلق الرحمة هو خُلق الإسلام، فالرحمة عنوان المسلمين، فإن الله تعالى كتبها على نفسه، قال تعالى: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ[الأنعام:12]، والرسول صلى الله عليه وسلم وصفه الله بها في قوله: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[التوبة:128].

    وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المسلسل بالأولية، الذي يرويه سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار، عن أبي قابوس ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)، وكذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما في صحيح البخاري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما يرحم الله من عباده الرحماء)، فهذه الرحمة ينبغي أن تكون في القلوب، وأن يرحم الإنسان أصناف خلق الله تعالى، فذلك داخل في مسمى الإحسان، ولهذا روى شداد بن أوس وأبو ذر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)، فهذا الإحسان على كل شيء، فالذي تريد أن تقتله ولو كان كافراً تريد أن تقتله فإنك تحسن قتلته ولا تشوهه، كما علم الله تعالى الملائكة قتل الكفار، فقال: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ[الأنفال:12]، هذا أسرع في إنفاذ الروح، وأقل تعذيباً، فإنه إذا قُطع نخاعه ضُرب فوق عنقه انقطع نخاعه، وإذا انقطع نخاعه انقطع الألم فهو لا يُعذب بذلك، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُقتل الحيوان صبراً، ومعنى قتله صبراً: أن يُمسك ويُضرب حتى يموت أو يبنى غرضاً، ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من بنى شيئاً فيه الروح غرضاً يُرمى، فلذلك هذه الرحمة شاملة لكل هذه الجوانب، وفيها يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن تزال أمتي بخير ما دام كبيرها يرحم صغيرها، وصغيرها يوقر كبيرها)، وفيها يقول الحكيم:

    ارحم بني جميع الخلق كلهمُ وانظر إليهم بعين الرفق والشفقة

    وقر كبيرهمُ وارحم صغيرهمُ وراعِ في كل خلق حق من خلقه

    فهو مخلوق لله عز وجل، يستحق أن يُرحم برحمة الله الشاملة.

    مقتضيات حسن الخلق

    إن هذا الخلق الحسن مقتضٍ من الإنسان في ثلاثة أمور:

    أولها: الإنصاف من نفسه، أن يجعل نفسه دائماً في قفص الاتهام، وأن يعلم أنها أمارة بالسوء، وأنها ذات حظوظ، ويحاول أن يخرج منها الآخرين، وبهذا لا يكون الإنسان مطففاً؛ لأن المطفف هو الذي إذا اكتال لنفسه استوفى، وإذا اكتال إلى الآخرين أخسر الميزان، والله تعالى يقول: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ[المطففين:1-3]، وهؤلاء لا يؤمنون بيوم الحساب؛ لأن الله تعالى يقول: أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ[المطففين:4-6]، فعلى الإنسان أن يتهم نفسه بالتعامل مع الآخرين، وهذه أول درجة.

    ثانياً: أن لا ينتصف لنفسه، بأن لا يأخذ لها كل حقوقها، أن ينصف منها وألا ينتصف لها، وحظوظ النفس مقتضية من الإنسان إذا ظُلم أن يبادر لأخذ حقه؛ لئلا يرضى بظلم، وقد خير الله تعالى المظلوم في أن يعفو وأن يأخذ حقه: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ[الشورى:39-40]، لكن هذا التخيير حكم الله في نهايته لصالح الذين يعفون ويصلحون، فالعفو خير ولن يأتي بشر، ( ما زاد الله بعفوٍ عبداً إلا رفعةً ومجداً )، ولذلك قال الله تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ[آل عمران:133-134]، فجعل هذا من الإحسان، وهذا هو الحق الثاني.

    والحق الثالث: الخوف من غوائل النفوس، أي: أن يستشعر الإنسان أن نفسه هذه معرضة للفتن، وأنه في كل وقت يمكن أن تنقل أمانته من قلبه فيبقى أثرها كالوكت، أي: كجمرٍ دحرجته على رجلك فنبط وانتفخ، فتراه منتبراً وليس فيه شيء، فيخشى أن تذهب الأمانة في نومة نامها، ومن هنا يراجع ديونه ويراجع حقوقه؛ لئلا تكون أمانته قد نزعت من قلبه، فعلى الإنسان أن يتهم نفسه في هذا الباب، وإذا فعل ذلك فسيصل إلى الإحسان الذي يجعله يعبد الله كأنه يراه، وهذه هي المراقبة: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

    1.   

    أهمية الإتقان في العمل والتحذير من عكس مراتب الدين

    إن من يشعر برقابة الله تعالى على أعماله كلها، إذا كان يحب الله حق المحبة، ويخافه حق الخوف، لا بد أن يتقن عمله، وهذا يشمل كل الأعمال، يشمل أعمال التعبدات وأعمال المعاملات، والله تعالى يحب عبداً إذا ولي عملاً أتقنه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالإتقان مطلوب شرعاً لكل عمل، ولهذا فإن حال المراقبة هو أبلغ الحوافز على إتقان العمل الذي تعمله، من أدرك مراقبة الله له واطلاعه على حركاته وسكناته، واطلاعه على ما في نفسه وأنه أقرب إليه من حبل الوريد، وأن القلوب كلها بين إصبعين من أصابعه جل وعلا، فإنه بهذا سيخاف الله تعالى، ويتقن عمله، وهذا هو الإحسان المطلوب، وبذلك يستكمل دينه، ( أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ).

    إن كثيراً من الناس إذا عكس الترتيب الذي ذكرناه يغلطون في تصور حديث جبريل هذا، فإذا فسروا الإحسان يقفزون كلمة أن تعبد الله، فيصلون إلى (كأنه يراك) فقط، وبهذا يبحثون بالتطلع على صقل العاطفة حتى تتغلب الروح على العقل والبدن، ويبحثون على الرياضات الروحية التي تقتضي تضعيف البدن وتضعيف العقل حتى تكون الروح أقوى منهما، لكنهم يغفلون على أن الإحسان شرطه العبادة لله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، مجرد تخيلك العاطفي أن الله يراك بين أن تعبده، وبين أن تلتزم بأوامره ونواهيه ليس إحساناً، فكثير من الناس الذين يمارسون الرياضات عن طريق الفلسفات المختلفة، يصلون إلى مستوى هذا التصور بعواطفهم، فيقول أحدهم: أنا لا أقول: لا إله إلا الله بعقلي ولا بلساني، لكن أقولها بعاطفتي، فقد حصل في عاطفتي كمال المحبة لله، ومن هنا أقتصر على ذلك، فلا أحتاج إلى أعمال، إن هذا ليس محسناً؛ لأنه لم يعبد الله، ولم يأتِ الطريق من بابه، فقد تسور ودخل من الخلف.

    ومن هنا فإن وجه الإحسان ليس بهذه الرياضات، وليس بإهانة النفوس ولا تضعيف العقول، وليس بتكرير الكلمات التي لا يفهمها الإنسان، وليس بالتعود على روتين خاصٍ في الحياة يقتضي الانعزال والانكماش وعدم مشاركة الناس في حياتهم، وليس بعدم التوفير في عباد الله وعدم المشاركة في نصرة دين الله كما يتوهمه الكثير من الناس.

    إن كثيراً من الناس يظن أن من أراد أن يكون صوفياً لا بد أن ينعزل عن الناس وأن يتركهم وما هم فيه، وأقرب الناس إليه يكون فاسقاً، وأولاده وأهل بيته لا يعنيه شيء من أمرهم، وهذا غلط فادح، إن كان صوفياً ينبغي أن يكون أولى الناس بتربية هؤلاء، ولا يكون مربياً لنفسه حتى يتعاون مع أهل بيته على تربيته، كذلك فإن الانعزال عن شئون الناس وعن أمور الحياة سلبي فالذي نراه معتزلاً لشئون هذا العالم، ولا يعرف شيئاً عن أخبار المسلمين ولا يهتم بأمورهم، ولا يشارك في نصرة دين الله تعالى، ونراه يتعبد التعبدات الظاهرة فقط، فهذا إيمانه ناقص بقدر ما نقص من اهتمامه بأمر المسلمين وعنايته بهم، والمشاركة في نصرة الدين، فلا يكون صوفياً على التصوف الصحيح الذي شرحناه إلا إذا كان مهتماً بأمور المسلمين، معتنياً بهدايتهم، ساعياً لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه، مشاركاً في تربيتهم على الوجه الصحيح.

    وإن بعض ما حصل في زمان المتأخرين في مجال التربية داخل في تعريف العلمانية، وهي فصل الدين عن حياة الناس، وعزله في زاوية محصورة، كالعبادات المسجدية فقط، وإن العصور المتأخرة فُصل فيها التطبيق عن الأمور النظرية، فأصبح شيخ المحبرة يدرس العلم النظري ولا يعتني بأخلاق الناس ولا بالتزامهم ولا بتعبداتهم، وأصبح الشيخ الصوفي إذا كان محقاً سابقاً يعتني بأخلاق الناس وتربيتهم ولا يعتني بعلمهم، وقل من يجمع بين الأمرين، والواقع أن كل واحد منهما شرط للآخر، لا يكون الإنسان مربياً إلا إذا كان عالماً معلماً، ولا يكون عالماً معلماً إلا إذا كان مربياً، كما قال تعالى: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ[آل عمران:79]، والقراءة الأخرى: ((بِمَا كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ))، قال ابن عباس: الربانيون: هم الذي يعلمون الناس صغار العلم قبل كباره، وهذا يقتضي العناية بالسلوك والأخلاق.

    فعلينا أن نعتني بسلوكنا وأخلاقنا، وأن نعتني في نفس الوقت بعلمنا وعبادتنا، وإذا جمعنا بين هذه الجوانب المتعددة فإن إحساننا يكون صحيحاً، ويكون تصوفنا صحيحاً، وتكون تربيتنا صحيحةً، أما إذا أخذنا جانباً واحداً منها فسيختل كل هذا الأمر، وستقع البغضاء بيننا، وستقع الخلافات وسينكر بعضنا على بعضٍ، وتقع المشكلات لأن الخلل موجود، لكن إذا كان المربي عالماً سنياً ملتزماً في نفسه، باذلاً لجهده في هداية الناس، فإنه لا ينكر عليه أحد، ولا تقع المشاحنات بينه وبين أحد، هذا الذي نريده نحن، نريد إزالة الضغينة، ونريد إزالة البغضاء بين الناس، ونريد أن يكون المسلمون على قلب رجلٍ واحد، فهم أحوج ما يكونون إليه في مثل زماننا هذا الذي تكالبت عليه فيه الأمم، وجُعلوا كالشاة يتقاسمها الأكلة، كما وعد الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قيل: أو من قلة نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ويوشك أن يدب في نفوسكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)، وإن ما نراه اليوم من الخلافات والشقاق والشحناء بين عباد الله تعالى، والذين ينبغي أن يكونوا يداً واحدةً على من سواهم، وينبغي أن يعلوا كلمة الله تعالى، ويتعاونوا على اعزاز دينه، ويتعاونوا على سد الخلل، فكل شخصٍ منهم على ثغرة من الثغور، فالذي يعرف يوصل ما يعرفه إلى من لا يعرف، والذي يطبق يشارك غيره في ذلك التطبيق ويعينه عليه، وهم يتعرضون لهذا السيل الجارف الذي يمكن أن يقتلع بناءه من أصله، عليهم أن يوحدوا صفوفهم، وأن يرجعوا إلى سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وأن يلتزموا بالمنهج الصحيح، وأن يتركوا مجانبة الطريق، وأن يعلموا أن إيثار الدنيا على الآخرة هو أصل كل فساد، وأن الذي يجعل أمور الآخرة وسيلةً إلى أمور الدنيا، فيتظاهر بالتربية أو يتظاهر بالعلم ليأخذ بعض ما في أيدي الناس، فهو أصل كل فساد، بل هو من جهود إبليس، وعلى الناس أن يحذروه.

    إننا مطالبون جميعاً بأن نرجع إلى هذا المنهج الصحيح للتربية، وأن نلتزم هذا الإحسان الذي هو العنصر الثالث من عناصر الدين، وأن نحقق بذلك حسن تعاملنا مع الله وأدبنا معه وبخشيته وعبادته، وأن نحقق كذلك حسن تعاملنا مع الناس بحسن الخلق وبساطة الوجه، والابتسام في وجه إخواننا من المسلمين، واللين في أيديهم، ولين الجانب لهم، حتى نحقق مرضاة ربنا وحتى نحقق سنة نبينا.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، ونسأل الله سبحانه وتعالى ألا نكون من الذين يقولون ما لا يعملون، وأن يكون ما نقوله ونسمعه حُجةً لنا لا علينا، ونسأله أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا.

    والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على النبي محمد وآله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767425349