بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه, ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى, شرف هذا النوع البشري بأنواع التشريف, فخلق آدم بيمينه, ونفخ فيه من روحه, وأسجد له ملائكته, وجعله خليفته في الأرض, وكرم ذريته كذلك بأنواع التكريم, فقال سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا [الإسراء:70], ومن هذا التكريم الذي شرفه الله به بني آدم, تشريفهم بالدين, فقد رضي الله لهم الدين منهجاً، ينظم علاقاتهم فيما بينهم وعلاقاتهم بربهم, ويكفل لهم كل مصالحهم, ويحقق لهم كل آمالهم, وكل ما يريدونه مما فيه خير لهم, عندما اهبط الله آدم و حواء إلى هذه الأرض, بدأ المجتمع البشري من ذلك الوقت الحياة على هذه الأرض, فجاءه من التشريع ما يتناسب مع الطور الناشئ, حيث كان كل الاحتياجات يستورد من خارج الأرض, كما قال الله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ[الأعراف:26].
وكلما تطورت هذه البشرية, أنزل الله عليها من الدين ما يتناسب مع الطور التي تمر به, حتى خاضت جميع التجارب واستكملت جميع أدوارها وأطوارها, فبعث إليها محمداً صلى الله عليه وسلم بهذا الدين، الذي كان كل الأديان إعداداً له, فجاء بهذا الدين الكامل، الذي تميز عن غيره من الأديان بكثير من الميزات والخصائص, من بينها:
أن الأديان السابقة إنما كانت تصلح لمدة زمنية محددة في علم الله لا تصلح لما سواها, ولا يمكن أن تتعداها, ومن أمثلة ذلك أنه في زمان آدم, أباح الله نكاح الأخوات لاستمرار الجنس البشري, ولو استمر التشريع كذلك, لحصل من المضار ما هو معروف لديكم.
جاء محمد صلى الله عليه وسلم بهذا الدين على فترة من الرسل، واقتراب من الساعة وجهالة من الناس, ففتح الله به أعيناً عميا, وآذاناً صما, وقلوباً غلفا, وجعل الله هذا الدين الذي آتاه, هو الدين الحقيقي عند الله, قال الله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ[آل عمران:19], وقال تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( والذي نفس محمدٍ بيده! لا يسمع بي من هذه الأمة، لا يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي, إلا كبه الله على وجهه في النار ), وقال لـعمر بن الخطاب حين رأى ورقة من التوراة: ( أفي شكٍ أنت يا ابن الخطاب , فلو أن موسى بن عمران حي ما وسعه إلا اتباعي ).
جاء هذا الدين كاملاً من كل جوانبه, متماسكاً, شاملاً لحاجات البشر؛ لأنه تشريع الحكيم الخبير, أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14], فلو وكل التشريع إلى اجتهادات الناس أو أهوائهم, لكان يحتاج إلى التغيير والتعديل في كل يوم, كما تسمعون في تعديل القوانين الوضعية, فتسمعون المرسوم رقم كذا المنظم لكذا, المعدل بالمرسوم رقم كذا بتاريخ كذا وهكذا, وذلك أن البشر لا يعرفون مصالحهم, يمكن أن يظهر للإنسان بعض مصالحه الآنية المؤقتة, ولكنه سرعان ما تتغير اجتهاداته, ويعلم أن ما كان يظنه مصلحةً له هو عين الخطأ في حقه, وهو المفسدة, وأول ما تعرف به ربك نقض العزائم, فينقض الإنسان عزيمته, ويغير اجتهاده ورأيه في كل وقت, وكم من إنسان منكم اليوم لو راجع نفسه ورجع إلى تاريخه قبل سنةٍ من الآن، لرأى أن ما كان يفكر فيه أنه مصالح له، قد تغير كثير منه, وأصبح يعده في لائحة المفاسد, هذا يدلنا على أن البشر لا يمكن أن يوكل إليهم التشريع, بل لا بد أن يكون التشريع من عند العليم الخبير الذي لا تخفى عليه خافية, ولا يفوته شيء من أخبار الناس, من أجل هذا لم يكل الله الناس إلى اجتهادهم وأهوائهم, بل شرع لهم الشرائع, وأنزل بها الوحي المعصوم, وجعل هذه الشرائع تتناسب مع الأطوار التي تمر به البشرية, فجاء هذا التشريع الذي سماه الله الإسلام متكاملاً يشمل جميع جوانب الحياة, فمنه ما ينظم علاقات العباد فيما بينهم, ومنه ما ينظم علاقاتهم بربهم, ومنه ما يبين الأصول العقدية التي على أساسها ينبني العمل كله, ومنه كذلك ما يهذب الأخلاق, ومنه ما يكفل مصالح الدنيا, ويجعلها منصبة في بوتقة مصالح الآخرة.
إن هذا التكامل في هذا الدين هو عامل البقاء والاستمرار, حيث جعل الله سبحانه وتعالى قواعد الدين مرنة، قابلة للتطويع في كل زمان ومكان, وجعل خصائص هذا الدين عظيمة، من أعظمها: حفظ رسالته, فهذا الكتاب الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على محمد صلى الله عليه وسلم, اختص من بين الكتب السابقة بحفظ الله له من التغيير والتبديل, فلا يمكن أن يبدله ملك، ولا راهب ولا عالم ولا أن يغير فيه حكماً واحدا, بل هو محفوظ من ذلك عند الله تولى الله حفظه بنفسه, ولم يكل حفظه إلى العباد, وقال فيه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].
أما الرسائل السابقة, فقد كانت كتبها توكل إلى حفظ البشر, كما قال تعالى: َيحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ [المائدة:44], فالكتب السابقة استحفظها الناس, وهذا الكتاب تولى الله حفظه بنفسه: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42].
كذلك أن الله سبحانه وتعالى أنزله بالتدريج منجماً في ثلاثٍ وعشرين سنة، بخلاف الكتب السابقة، فكانت تنزل دفعة واحدة على أصحابها, فـموسى أوتي التوراة مكتوبة بالألواح, و عيسى أنزل عليه الإنجيل في الصحف, و داود كذلك سلم إليه الزبور في الصحف, أما هذا القرآن فأنزل على قلب محمدٍ صلى الله عليه وسلم منجماً في ثلاثٍ وعشرون سنة, وبين الله حكمة ذلك في قوله: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا * قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا [الإسراء:106-108], وقال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا [الفرقان:32] , وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا [الفرقان:33].
وكذلك من هذه الخصائص: أن الله جعل معجزات الرسل السابقين معجزات مادية لا تقوم بها الحجة إلا على من رآها، أو نقلت إليه تواترا، كناقة صالح , وعصا موسى , ميلاد عيسى من غير أبٍ, وإبرائه للأكمه والأبرص وإحيائه للموتى، وخلقه من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله, هذه الأمور لو رأتها البشرية جميعاً لآمنت بها, ولكنها لا تقوم بها الحجة إلا على من رآها أو نقلت إليه تواترا.
ولذلك أخرج البخاري في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: ( ما من نبي بعثه الله قبلي إلا أوتي ما مثله آمن عليه البشر, وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فإني لأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة ), فخصه الله سبحانه وتعالى, بأن جعل معجزته ليست ماديةً كالمعجزات السابقة، بل هي هذا القرآن الباقي المحفوظ الذي يحفظ في الصدور, ويبقى بين الناس يتناقله الأجيال, فهو معجزة تقوم به الحجة, تحدى الله به الثقلين الجن والإنس أن يأتوا بسورة من مثله.
كذلك من ميزات هذا الشرع المطهر, أن الله سبحانه وتعالى, راعى فيه مصالح مختلف الشرائح, فما من شريحة من شرائح سكان الأرض, إلا وقد روعيت مصلحتها في هذا التشريع, ومن ذلك عقد الروابط بين البشر, وتحقيق الصلات بينهم, فإنه ما من شريعة من شرائع الإسلام إلا روعي فيها ذلك.
فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, هي أم الدعائم, هي المبدأ العقدي الذي على أساسه يتم توحيد البشرية, حين تستجيب لهذا المبدأ، ولذلك فالناس جميعاً مدعوون إلى هذا المبدأ، ومن استجاب منهم كان أمة الإجابة, ومن لم يستجب كان من أمة الدعوة.
ثم الأصل الثاني: الصلاة التي يجتمع فيها المستجيبون, فيأتون المساجد فيصفون صفاً واحدا, يستقبلون بيتاً واحداً, ويأتمون بإمام واحد, ويستوي في الصف غنيهم وفقيرهم, وكبيرهم, وصغيرهم, وصحيحهم, وسقيمهم, وبذلك يحققون الإخاء فيما بينهما.
وثالثة الدعائم: الزكاة، التي أصل مشروعيتها تحقيق التكافل الاجتماعي بين الناس, وحتى يحس الأغنياء بمسؤوليتهم عن الفقراء, وحتى لا يستشعر الفقراء انقطاعهم عن المجتمع، وعدم حاجة المجتمع إليهم, فالمجتمع كله متكافل, فالغني محتاج إلى من يأخذ عنه صدقته ويأخذ عنه زكاته, والفقير كذلك محتاج إلى من يواسيه, فيقع التكافل بين الطائفتين.
وكذلك رابعة الدعائم: وهي صيام شهر رمضان، فإن من حكم مشروعية الصيام إحساس الأغنياء كذلك بمرارة الحرمان, حتى يحنوا ويرحموا الفقراء, ولذلك قال حاتم الطائي :
لعمري لقد عضني الجوع عضةً فآليت ألا أمنع الدهر جائعا
وكذلك الدعيمة الخامسة: وهي حج البيت الحرام، فإنها مؤتمر عام للمسلمين يجتمعون فيه من مختلف أصقاع الأرض, يلبسون زياً موحداً, ويهلون بتلبية موحدة, ويؤدون مناسك موحدة, في وقت موحد, وبذلك تتآلف القلوب, ويطلع بعضهم على أحوال بعض, ويعلموا أن هذا الدين ليس مختصاً بشريحة واحدةٍ ولا بمجتمعٍ واحد, ولذلك فإن الطائفة المدعية التي ظهرت في أمريكا في القرن الماضي, وادعى صاحبها أن الإسلام مختص بالسود فقط, وأن كل أبيض دخل الإسلام يجب ذبحه, عندما ذهب قائدها إلى الحج، فرأى المسلمين من مختلف أصقاع الأرض تراجع عن هذه النحلة, ودعا إلى ما يسمى بأمة الإسلام, وجعلها مفتوحة أمام البيض والسود, بينما كانت فكرتهم الأولى أن الإسلام يختص بالسود فقط، وأن أي أبيض دخل الإسلام يجب ذبحه.
فهذه الدعائم نظر فيها إلى تحقيق الإخاء والتآلف والترابط بين المجتمع إيجاباً وسلبا, فلذلك جعل الله الأصل العقدي هو المفرق المميز بين الناس, قال الله تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ[المجادلة:22], وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ[التوبة:23-24].
فجعل الله هذا الأصل العقدي فرقاناً بين الحق والباطل يميز بين الناس, وجعل تفاوت الناس في الولاء والبراء على أساس تحقيق ما دونه من الأصول, فما من أحدٍ دون ذلك إذا حقق الأصل العقدي، إلا ويحب على قدر ما فيه من محبة الله واتباع دينه, ويبغض كذلك على قدر ما فيه من بغض الله وعداوته, ولهذا يجتمع في الفاسق الولاء والبراء, فيوالى على أساس ما معه من الدين، ويعادى على أساس ما معه من الفسق, وأما الكافر والمنافق فليس لهما إلا العداء, وأما المؤمن الكامل الإيمان فليس له إلا الولاء, فهذا الأساس العقدي هو المنطلق فيما يتعلق بالصلات بين الناس, ولهذا فإن ما سواه من أسس الاتصال بين البشر يعود إليه، فإن كل الأسس منقطعة يوم القيامة إلا هذا الأساس وحده, ولذلك قال الله تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101], وقال في وصف أهل الجنة: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47], فأخوتهم الدنيوية المذكورة في قول الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ[الحجرات:10], تستمر كذلك يوم القيامة، فهم إخوان في الدنيا إخوان يوم القيامة, بخلاف كل الأُخُوّات الأخرى القائمة على غير أساس الدين، فإنها منقطعة مردودة على أصحابها لا يمكن أن تستمر.
إن تفصيل أسس هذا الدين حتى يعلم أنه منهج للحياة فعلاً, يمكن أن يسار فيه على منهجين أو على طريقتين: الأولى طريقة مختصة بالفرد، والأخرى طريقة مختصة بالمجتمع.
أما الطريقة المختصة بالفرد، فإن كل إنسانٍ بالإمكان أن يعد أربعاً وعشرين ساعة عمراً كاملاً, فليبدأ عندما يستيقظ فلينظر ماذا خاطبه الشارع به في أول يقضته, فإن الإسلام لم يهمل وقتاً واحداً من أوقاته من خطاب, ولهذا قال المواق رحمه الله في كتابه: سنن المهتدين, حقوق الأوقات لا يمكن قضاؤها؛ إذ ما من وقت يمر إلا ولله عليك فيه خطاب جديد، وأمر أكيد, فكيف تقضي فيه حق غيره وأنت لم تؤدِّ حق الله فيه؟
عندما يستيقظ الإنسان فيرى صداع المنذر أول ما يطلع الفجر, يتذكر نعمة الله عليه بإعادته إلى هذه الحياة, وخطاب الله له أن يبدأ بذكر الله حياته من جديد, كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، فيقول: ( الحمد الله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور, الحمد لله أمات وأحيا, الحمد لله الذي يحي الموتى، وهو على كل شيء قدير ), ويذكر الله سبحانه وتعالى, ثم يأتي بعد ذلك الاستعداد لصلاة الفجر, وهي أول الواجبات اليومية, ومن استعداداتها ما بين الشارع أحكامه, ولذلك جاء يهودي إلى سلمان الفارسي رضي الله عنه، فقال: إن نبيكم علمكم كل شيء حتى الخراءة، أي: دخول الخلاء, فقال: ( أجل، علمنا أن لا نستقبل القبلة ببول ولا غائط, وأن نستنجي بثلاثة أحجار ), فلم يترك شيئاً إلا علمنا إياه, وبذلك نعلم أن هذا المنهج يأتي على صغير الأمر وكبيره, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم, لـمعاذ حين أرسله إلى اليمن : ( ادعوهم إلى كبير الإسلام وصغيره ), فكبيره أركان الدين وفرائضه, وصغيره ما دون ذلك من السنن والمندوبات التي يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها, ومثل ذلك من كبيره الازدجار عن المحرمات, كالكبائر والفواحش, وترك ما دونها من الصغائر كاللمم والمكروهات وخلاف أولى, فكل ذلك داخل في قوله: ( ادعوهم إلى كبير الإسلام وصغيره ).
ولذلك إذا تجاوز الإنسان صلاة الفجر في حياته, فلينظر إلى الخطاب الموجه إليه, وهو أن يصرف هذا العمر الذي أوتيه في الحق, والحق إما حسنة للمعاد أو درهم للمعاش, إما حسنة للمعاد يجدها أمامه يوم القيامة, وإما درهم للمعاش ينتفع به في حياته, وكل ذلك رتبه الشارع، ونظمه تنظيماً دقيقاً يعرف فيه المسلم الفرق بين دائرتين: دائرة الحلال ودائرة الحرام, وإذا عرف الفرق بينهما عرف أن دائرة الحلال هي دائرة الإذن، وأن دائرة الحرام هي دائرة الحضر, ففيها كل مفسدة عليه، سواء كانت تلك المفسدة في الدين أو في الدنيا، أو كانت مفسدة باطنية قلبيه, وإذا عرف دائرة الحلال عرف كذلك أنها إما أن تحقق له المصلحتين معاً، الدينية والدنيوية, أو أن تحقق له إحداهما, ولا بد، كما قال ابن عباس : (إذا سمعت الله يدعوك فاعلم أنه إما إلى خيرٍ يقدمك إليه, أم إلى شرٍ يصرفك عنه), فلا بد أن يعلم الإنسان حينئذٍ إذا جاءه الخطاب من عند الله سبحانه وتعالى, أنه منادىً إلى خيرٍ يقدمه الله إليه, أو إلى شرٍ يصرف عنه بالنهي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ [البقرة:278], ويأتي بعدها أمر أو نهي في القرآن كله.
كذلك ما بعد هذا يفصل الوقت كله بالواجبات وما بينها من السنن والمندوبات، ألا ترون أن الفرائض الخمسة مثلاً: تقطع اليوم كله لئلا يغفل الإنسان عن بارئه سبحانه وتعالى, وليجدد العهد به في كل الأوقات, ولذلك قال أهل العلم: من حكم مشروعية الصلاة تجديد ذكر الله في الأوقات, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن هذه الصلاة لا يصلح لها شيء من كلام الناس، إنما هي لذكر الله وقراءة القرآن ), فذكر الله من أجله شرع كثير من الأحكام لإقامته, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله ), فنحن محتاجون إلى إقامة ذكر الله, فلهذا ذكرنا الله بعبادته بسماعنا لصوت المؤذن ينادي في الأوقات كلها: الله أكبر الله أكبر, فيذكرنا هذا بربنا سبحانه وتعالى, فنذكره ونجيب داعيه عندما ينادي: حي على الصلاة، حي على الفلاح.
وهكذا في تفصيلات أمور حياة الفرد, فإذا عرض بين يدي الإنسان أي شيء، لا بد أن يعلم أن لله فيه حكم، إما أن يكون مأموراً به أو أن يكون منهياً عنه, وما عليه إلا أن يتعلم حكم الله فيجد الأمور كلها ملونة مفصلة, بينما هو مأذون له فيه، وما هو ممنوع عليه محظور, وليعلم الإنسان حينئذٍ إذا تعلم حكم الله في أمور ما حظره الله عليه، إنما حظر من أجل مصلحته هو, وما أوجب الله عليه إنما أوجب عليه من أجل مصلحته هو, فإن الله سبحانه وتعالى لا ينتفع من خلقه بشيء: ( يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبغوا نفعي فتنفعوني ), فالمنتفع هو العبد الذي يعمل, ولذلك فالضرر الحاصل بالمعصية, إنما يحيق بصاحبه فقط، وَلا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر:43].
ولهذا قال الله تعالى فيما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: ( يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً, يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً ), فالتشريع إنما يراد به مصلحة بني آدم, ولذلك جعل الله سبحانه وتعالى الأحكام مقيدة بعدم الاضطرار، فكلما حضر أمراً وحرمه يقول بعده، يستثني بعده أمر الضرورة، كقوله تعالى بعد أن ذكر المحرمات من المطعومات في سورة الأنعام: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:145], وبعد أن ذكر المحرمات كذلك من المأكولات في سورة المائدة قال: إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ[الأنعام:119], وكذلك في سورة الأنعام بعد أن ذكر المحرمات من المأكولات في قوله: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ[الأنعام:145], قال بعدها: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:145], وقال كذلك: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ[الأنعام:119].
وجعل الشرع في حق الإنسان محفوفاً بجدارين: أحدهما: جدار العزيمة, والأخرى: جدار الرخصة, فما بينهما هو الشرع, فإذا سمعتم خلافاً بين أهل العلم في تحديد مسألة، هل هي من باب المباحات أومن باب المحظورات؟ فاعلموا أن النظر اختلف إلى هاذين الجدارين، فبعضهم نظر إلى جهة العزيمة فشدد في الحكم, وبعضهم نظر إلى جهة الرخصة فتساهل في الحكم, ولذلك لا يخلو الحكم الشرعي من أن يخرج من بين هذين الجدارين، فإما أن يكون داخلاً في العزائم, وما أن يكون داخلاً في الرخص.
ثم إذا رجعنا إلى مراجعة الإنسان لهذا المنهاج بخاصة نفسه، فليعلم أن تهذيب خلقه هو أساس نفي كل الشرور عنه، فإن الإنسان لا يمكن أن يقدس ولا أن يطهر، ولا أن يستحق الجنان العالية, إلا إذا تطهر من أدران الرذيلة في هذه الحياة الدنيا, ولا يتم له ذلك إلا بمتابعة منهج الله سبحانه وتعالى الذي شرع له وبين, ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً ).
ثم أن نذهب إلى المنهج العام للاجتماع الذي يشمل المجتمع كله, فإن للشارع نوعين من أنوع التكاليف: النوع الأول: مختص بالأعيان، وهو الذي يسمى في الاصطلاح الفقهي: بالفرائض العينية والسنن العينية، والمندوبات العينية.
والقسم الثاني: هو المختص بالمجتمع، وهو الذي يسمى في الفقه: بفروض الكفايات وسنن الكفايات ومندوبات الكفايات, فالفروض تكون عينية وتكون كفائية, والسنن تكون عينية وتكون كفائية, والمندوبات كذلك تكون عينية وتكون كفائية, فالفرائض والسنن والمندوبات العينية, هي داخلة في المنهاج الأول الفرضي الذي سبق بيانه, والفرائض والسنن والمندوبات الكفائية هي داخلة في المنهج الثاني المختص بالمجتمع, ولهذا فإن حياة المجتمع كلها مربوطة بهذا التشريع, فقد بين الله سبحانه وتعالى ما يقتضي سلامة المجتمع في الدين، وفي العقل، وفي النفس، وفي العرض، وفي المال، وفي النسب, وهذه ضروريات البشر الست, فهذه الضروريات حماها الشارع بأنواع الحمايات, فإذا نظرتم إلى حدود الله عز وجل من الزواجر والجوابر، فستجدونها أنها حماية لهذه الأصول الستة.
فحد الردة -أجارني الله وإياكم- حماية للدين, وحد الخمر حماية للعقل, وحد القصاص حماية للنفس, وحد القذف حماية للعرض, وحد السرقة حماية للمال, وحد الزنا حماية للنسب.
فالحدود تحتاج إليها البشرية جمعاء حاجة عظيمة, ولذلك فالذين يستنكرون إقامة الحدود ويرونها مخالفة لحقوق الإنسان، إنما ينظرون إلى الفرد الذي سيقام عليه الحد وحده, ولا ينظرون إلى حال المجتمع بكامله، فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الحاجة في الحدود ليست حاجة فردية, وإنما هي حاجة جماعية للناس, فقال صلى الله عليه وسلم: ( لحد واحد يقام على الأرض خير لأهلها من أن يمطروا سبتاً )، معناه أن يمطروا أسبوعاً كاملاً.
فهذه الحدود يدرأ بها الله سبحانه وتعالى عن هذه الأصول التي تحتاج إليها البشرية، ولا يمكن أن تستقيم أمورها بدونها, فلهذا لا يمكن الحفاظ على الدين إلا إذا حقق حد الردة, ولا يمكن الحفاظ على النفس إلا بحد القصاص, ولا يمكن الحفاظ كذلك على العقل إلا بحد الشرب, ولا يمكن الحفاظ على العرض إلا بحد القذف, ولا يمكن الحفاظ على المال إلا بحد السرقة, ولا يمكن الحفاظ على النسب إلا بحد الزنا, وإذا أهمل شيء من هذه الحدود, تضررت البشرية تضرراً شاملا, وفشا فيها من أنواع الأوبئة والأضرار الشيء الكثير, ولذلك أخرج ابن ماجه في السنن بإسناد صحيح, وكذلك أحمد في المسند عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يا معشر المهاجرين أعيذكم بالله أن تدركوا خمساً: فما ظهرت الفاحشة في قومٍ فأعلنوا بها، إلا ظهرت فيهم الأمراض والأوجاع التي لم تكن فيمن مضوا في أسلافهم, ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وعسف السلطان ونقص المئونة, ولا نقض قوم عهد الله وميثاقه إلا سلط الله عليهم عدواً من سواهم فأخذ بعض ما في أيديهم, ولا منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا, وما حكمت أئمتهم بغير ما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم ).
إن هذه الأحكام الشرعية يرفع الله بها البأس عن الناس, ويحقق بها الرخاء في الأرض, والبشرية تحتاج إليها في كل شئونها, ألا ترون أنه عندما يباح الربا بين الناس ستنتشر بينهم الضغائن والبغضاء حتى يعتدي الأخ على أخيه, وحتى يتنازع أفراد الأسرة الواحدة عندما تترسخ الأمور المادية في النفوس, إن النظرة المادية التي ترسخت في مجتمعنا اليوم، إنما ترسخت بسبب انتشار الربا, ولهذا لم يعد لدى الناس من القيم إلا ما كان قيمة مادية واضحة بين الناس, فلو أن إنساناً وقف على الملأ الآن فأعلن ردته على الإسلام، فلن يهتم أحد من الناس بذلك، ولن يقيم عليه حداً ولن يضربه, لكنه لو خرج إنسان من بين الحاضرين فسرق مائة أوقية لأحدٍ، فإن الناس جميعاً سيتكالبون عليه يقولون: سارق سارق, لماذا؟ هل السرقة أعظم من الردة؟ لا ليست السرقة أعظم من الردة، ولكن الناس لم يعودوا يزنوا إلا بميزان المادة, ولذلك فإن دوائر التصور الإسلامي لدى الفرد، تركت فيه العلمانية شرخاً عظيما, ومن أعظم ذلك الشرخ عدم التمييز بين دائرة الحلال والحرام في تصور المسلم, فإذا عرضت على المسلم نازلة أو مسألة لم يتوقف حتى يعلم حكم الله فيها, وإن كان عالماً بالحكم فـقل أن يتوقف عند حدود الله.
ألا ترون أن الناس إنما يبحثون عن تحقيق المصالح الدنيوية المادية العاجلة في شئونهم ولا يبحثون بعد ذلك هل مصير هذا إلى النار أو إلى الجنة, هل هو ممن يوضع في كفة الحسنات أو في كفة السيئات يوم القيامة؟ إن أسلافنا كانوا يفكرون قبل الإقدام على عملٍ بهذا التفكير, ولذلك فإن المختار بن بونا رحمه الله كان يستعمل الدخان, وقد حاول عدد من طلابه إقناعه بتركه فلم يقتنع, وكان سيدي عبد الله الحاج إبراهيم رحمه الله من الأذكياء النبهاء, فأراد أن يثني الشيخ المختار عن شرب الدخان، فأهدى إليه هدية جزلة، وأرسل معه طالباً له مؤدبا, فقال: إذا حان وقت الظهيرة فقال الشيخ: فاقترب إليه وتتلطف به واسأله هل التدخين يوم القيامة في كفة الحسنات أم في كفة السيئات؟
فذهب الطالب وأدى ما أمره به سيدي عبد الله ، فلما جلس المختار تحت ظل الشجرة في وقت الظهيرة اقترب إليه الطالب وتلطف به، ثم سأله فقال: أرأيت هذا التدخين أيكون يوم القيامة في كفة الحسنات أم في كفة السيئات؟
فقال: ليس السؤال لك إنما هو لسيدي عبد الله وأخبره أنه في كفة السيئات، ورمى ما معه من الدخان وتخلص منه, إن أهل الإيمان إذا جاءهم نذير من عند الله تعالى أو جاءتهم موعظة من عنده تراجعوا، وعرفوا أن ذلك الخطاب إنما هو لمصلحتهم, فما أحوجنا إلى مثل هذا اليوم.
ما أحوجنا إلى أن يتحقق فينا تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه على هذا الإسلام منهجاً كاملاً في حياتهم, فإنه دخل عليه رجلاً من أصحابه وفي يده خاتم من ذهب، فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم نظرة مغضب وقال: ( أيسرك أن لك به جمرة من نار يوم القيامة، فخلعه الرجل ورمى به، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من المجلس، قيل للرجل: خذ خاتمك فبعه فانتفع به، فقال: والله لا أنتفع به، وقد خرجت منه لله عز وجل ), ما أحوجنا إلى تحقيق هذا المنهج في حياتنا كلها.
فإذا رجع الإنسان إلى نفسه سيجد أن الذي بقي من آثار هذا المنهج لدى الناس هو بعض المعاملات مع الله فقط في الغالب, أما المعاملات مع الناس فقلما يرجع الناس فيها إلى المنهج الإسلامي الكامل.
نجد الإنسان إذا كتب الله له أن يصلي ذهب فصلى صلاته, وإذا كتب له صيام صام, لكن مع ذلك نجده يأكل الربا, ومن المؤسف أنه يكون هو المؤذن أو الإمام الذي يصلي بالناس، ومع ذلك يعقد الصفقات الربوية, إن الذي تدعو إليه وتصلي له هو الذي حرم عليك الربا ونهاك عنه, وهو الذي حرم عليك الغيبة, وهو الذي حرم عليك أكل مال الناس بالباطل, وهو الذي حرم عليك كل المحرمات, وهذه الصلاة التي تفعلها هي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي التي أردت بها إقامة ذكر الله, وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45].
إن هذا المجتمع لا يصلحه إلا هذا المنهج المتكامل الذي رضي له بارئه وخالقه, ولذلك قال مالك رحمه الله: (إن آخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها), فلا يمكن أن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها, وتذكروا قول العلامة بابا بن شيخ سيدي رحمه الله:
فما كفى أولنا أليس يكفي الآخر كن للإله ناصــــــراً وأنكر المناكر
وكن مع الحق الذي يرضاه منك دائر ولا تعد نافعاً سوى هو أو ظائر
واسلك سبيل المصطفى ومت عليه سائراً فما كفى أولنا أليس يكفي الآخــــــــــر
فهو كافٍ لا محالة أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36], فعلى المسلم أن يراجع هذا المنهج في حياته هو وأن يتخذ منه أصلاً في كل شئونه, وعلى المجتمع كذلك أن يراجعه في شئونه فمن المؤسف أن يكون المجتمع ينتسب إلى الإسلام ويريد أن يحقق الإسلام في نفسه, ويريد أن يبعث تحت لواء محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة, ومع ذلك يتحاكم الناس فيه إلى أعرافٍ وعاداتٍ هي مخالفة لشرع الله، مخالفة لما جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله, إن الذين يقدمون هذه العادات والأعراف والتقاليد على أمر النبي صلى الله عليه وسلم, معرضون لسخط الله كما قال الله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
إن من هذه العادات فيما يتعلق بسلوك الأفراد: ما نراه منتشراً لدى جمهور الناس من الإسبال إسبال الثياب, فتجد الرجل صاحب الورع والإيمان إذا اشترى ثوباً مثل هذا الثوب وسعه وأطاله حتى يساعد البلدية في تنظيف الشوارع المحتاجة إلى ذلك, ويخالف بهذا شرع الله, وما بينه رسوله صلى الله عليه وسلم في قوله: ( ما أسفل من الكعبين في النار ), وفي قوله:( إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه ), وفي قوله: ( من جر ثوبه خيلاء لم يرح رائحة الجنة ), وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة.
ومثل هذا مع العادات التي تحكمنا مع الأسف: أن كثيراً من الناس في تعامله مع والديه لا يحقق ما أمره الله به, بل لا يخفض لهما جناح الذل من الرحمة, ويظن أن غاية البر بهما إذا أدى إليهم نقوداً, أو أطاعهما بمحضرهما فقط, والواقع أن الله سبحانه وتعالى, أمره أن يخفض لهما جناح الذل من الرحمة، وأن يتواضع لهما غاية التواضع, وأن يطيعهما.. وأن يبرهما ويحسن إليهما, وعطف ذلك على الإيمان به في قوله: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا[النساء:36], وفي قوله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23].
ومثل ذلك: تعامل الزوجة مع الزوج، فإنه لا ينطلق من هذا المنهج الذي اقتضاه الله لعباده في كثير من الأحيان، فإن الزوجة تتكبر عن أن تطيع أوامر زوجها، وترى ذلك صغاراً ومهانةً، وبالأخص إذا كانت بين نظائرها أو بين أفراد المجتمع, فترى أن طاعتها للزوج مخالفة لسيادتها مزرية بمروءتها, وما هذا إلا من اتباع العادات التي أسر بها المجتمع أسراً وهي مخالفة لمنهج الله سبحانه وتعالى, فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحدٍ لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ).
وكذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن أي امرأةٍ دعاها زوجها إلى الفراش فأبت، فبات ساخطاً عليها باتت الملائكة تلعنها ), وحذر النبي صلى الله عليه وسلم النساء من مخالفة للأزواج تحذيراً بالغاً.
وكذلك المعاملة مع الأولاد، فإن كثيراً من الناس لا ينطلق في التعامل مع أولاده من المنهج الرباني الذي شرع الله, فهو ينسى أنهم أمانة الله عنده، وأنه مخاطب بتربيتهم على أحسن وجه, وقد رزقه الله سبحانه وتعالى هؤلاء الأولاد الذين حرمهم كثيراً من عباده، يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى:49-50], فمن وهبه الله هذه المنحة الربانية عليه أن يقوم لله فيها بما شرع, وأن لا يتعدى فيها حدود الله, إن كثيراً من الناس يفرط في تربية أولاده، أو يعاملهم على غير المنهج الذي شرع الله سبحانه وتعالى، فلا يقوم فيهم بالحق الذي ارتضاه الله سبحانه وتعالى له, ومن أجل هذا فإن الأولاد كثيراً ما يخرجون من أيدي الوالدين، وينسلخون من أوامرهم بمجرد أن يبلغوا، أو أن يجدوا بلغةً تكفيهم، فيرون أن استقلال شخصياتهم لا يتم إلا بالخروج من أيدي الآباء.
وقد حصلت لأحد تجار هذا البلد قصة مشرفة مع أولاده أذكرها لكم من هذا المكان، فإنه لما انتشرت الشيوعية في الأزمنة الماضية في هذا البلد دخل أولاده مع الشيوعيين، وكانوا يتأخرون في الليل ويتركون واجباتهم، فجمعهم ذات يومٍ وأغلق الغرفة بالمفتاح وجعل المفتاح في جيبه, وقال: أنا أريد أحد أمرين: إما أن تنخلعوا من كل ما أنتم فيه من الملابس وغيرها، فإنها من كسبي أنا ومن عرقي، وحينئذٍ لكم الحق أن تذهبوا حيث شئتم، وأن تتصرفوا فيما شئتم.
وأما أن تأخذوا ما عندي فأنا أكد وأجد من أجل القيام عليكم, لكن لا يمكن أن أكد وأجد على القيام لعدو لله يعادي الله سبحانه وتعالى بجهدي أنا وبمالي, فكان هذا مانعاً لهم من الانخراط في الشيوعية, وهذا الموقف المشرف ينبغي لكل أبٍ أن يقوم بمثله في حق أولاده, وأن يعلم أنهم سيخاصمونه بين يدي الله، وهم أول من يخاصمه، فيمسكون بيده فيقولون: يا رب وليت علينا عبدك هذا، فلم يرعَ أمانتك فينا، رآنا على المعصية فلم يغير، ورآنا نقصر في الفرائض فلم يغير، وهم أول من يخاصموه ويشكوه إلى الله يوم القيامة.
كذلك فإن المجالات المختلفة في حياة الناس قد أهمل فيها الرجوع إلى هذا المنهج المتكامل, ففي المجال السياسي مثلاً: شرع الله سبحانه وتعالى للناس منهجاً متكاملاً في الإسلام، ليس لأحد الخيار فيه, فحدد الله ولاء المسلم في قوله: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة:55-56], وفي قوله: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124].
وكذلك بينه النبي صلى الله عليه وسلم في عمله وسيرته وفي عددٍ كبيرٍ من الأحاديث الثابتة عنه، لكن الناس لم يعودوا ينطلقون من هذا المبدأ وهذا المنهج الذي اقتضاه الله لهم في مجال السياسة, فتجد الناس يظنون أنهم في السياسة بالخيار, وأنهم بالإمكان أن يعدلوا الأنظمة متى شاءوا، وأن يضعوا من الدساتير ما شاءوا، مع أن الدستور الذي اقتضاه الله للناس دستور محفوظ، لا يقبل التغيير ولا التبديل, دستور يقول الله فيه: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].
كذلك في مجال الاقتصاد: يظن الناس أنهم خلقوا من أجل جمع المال وكسبه فيجمعونه من غير حله, ويضعونه في غير محله, ويظنون أنهم لن يحاسبوا على ما جمعوا منه, ولا يجعل الإنسان لنفسه وقتاً لمحاسبة نفسه على ما اكتسبه, وهذا دليل على مجانبته للمنهج الرباني الذي اقتضاه الله لعباده، وهو المنهج الذي تضمنه هذا الدين الحنيف, فإن الله سبحانه وتعالى جعل الأموال في هذه الحياة الدنيا ملكاً لله سبحانه وتعالى، ليست ملكاً لمن هي تحت يده من الناس، بل قال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ[الأنفال:1].
فليست الأنفال ملكاً للناس, بل قال تعالى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ[الحديد:7], فقد جعلنا الله مستخلفين فقط في هذه الأموال، فالإنسان فيها يتصرف تصرف الوكيل، ينتظر العزل في كل حين, وعزله إما بالموت, أو بإجاحة ماله, أو بفقره أو بغير ذلك, ولهذا فعلى الإنسان أن ينظر إلى ماله هذه النظرة, وأن يعلم أن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخره, وأن المال ليس ملكاً له، بل هو ملك لله عز وجل وحده, وقد بين له أوجه الصرف وأوجه الأخذ, والوكيل معزول عن غير النظر, فليس له أن يتصرف في غير النظر في مال الله الذي جعل تحت يديه.
ولذلك جعل الله المال قسمين: سلعاً، وأثمانا, فالسلع جعلها الله سبحانه وتعالى, مجالاً للاستثمار والربح, والأثمان جعلها وسيطاً في التبادل, ولم يجعلها مجالاً للربح, فإن الأثمان ليس فيها نشاط, والله سبحانه وتعالى شجع النشاط الذي يقتضي استخلافاً في الأرض واستثماراً لما فيها من الخيرات, ولذلك حض النبي صلى الله عليه وسلم على الزراعة, وحض الله تعالى على السير في مناكب الأرض, وحض كذلك النبي صلى الله عليه وسلم على الغراس, وعلى استغلال الأرض كلها, وحض الله سبحانه وتعالى كذلك على الاتجار بالتجارة النافعة, وبين أنه ليس على الإنسان فيه حرج: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ[البقرة:198].
فهذه هي الأوجه التي يمكن أن يستثمر فيها المال, إما بالصناعة ويدخل فيه البناء وعمران الأرض, وإما بالزراعة ويدخل فيها الغرس, وإما بالتجارة بأنواع الاتجار, ومنها التنمية.
ولذلك فإن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين استوعبوا هذا المنهج الرباني, عرفوا تجزئته وأنواعه, حتى إن كلامهم كان في هذا الجانب نظريات اقتصاديةً متكاملة, فها هو عثمان رضي الله عنه يسأله سائل فيقول: يا أمير المؤمنين لقد خرجت من مكة مهاجراً وليس لك إلا سيفك ونراك غنياً، ونرى إخوانك من المهاجرين فقراء, فمن أين لك ذلك؟ فقال عثمان :كنت أعالج وأنمي، ولا أزدري ربحاً ولا أشتري شيخاً وأجعل الرأس رأسين.
(كنت أعالج) فهذا يشير إلى أهمية مجال التنمية, و(أنمي) البهائم والمواشي, (ولا أزدري ربحاً في التجارة) فأي ربحٍ ولو كان يسيراً يبيع به تسهيلاً على الناس, وتقدماً في التجارة؛ لأنه بمجرد أن تزداد السيولة بجزء يسير يقتضي ذلك زيادة التفكير في الإنتاج, (ولا أزدري ربحاً ولا أشتري شيخاً), فما ليس له إقبال لا يشتريه؛ لأنه لم يعد نافعاً في الاستثمار.
(وأجعل الرأس رأسين), أجعل الرأس من كل شيءٍ رأسين, فإن كان له قصر متسع باعه واشترى منه أرضين أو دارين, وإن كان له فرس باعها واشترى منها فرسين.. وهكذا, فإذا أجيحت إحداهما بقيت الأخرى.
كذلك في المجال الاجتماعي: فإن هذا الدين أتى بكل ما يؤدي إلى تحقيق الصلات بين الناس، فحض الله سبحانه وتعالى على صلات الأرحام وحرم قطيعتها, ولذلك قال الله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22-23], وحض الله سبحانه وتعالى كذلك على التزاور والتحابب فيه, فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه يقول: ( وجبت محبتي للمتحابين في، والمتزاورين في، والمتجالسين في، والمتبادلين في ).
وكذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: يقول الله تعالى يوم القيامة: ( أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلالي يوم لا ظل إلا ظلي ), ولهذا حرم الشارع كلما يؤدي إلى القطيعة والنفرة بين الناس, وانظروا إلى سورة واحدة من كتاب الله حققت المنهج الاجتماعي الكامل, فأتى فيها ما يؤدي إلى الترابط بين المجتمع، وقطع فيها كلما يؤدي إلى النفرة والبغضاء, وهي سورة الحجرات التي افتتحها الله سبحانه وتعالى بالأدب مع الله ورسوله، والتحذير من الاعتداء والتجاوز للصلاحيات, ثم ذكر بعد ذلك التثبت في الأمر، وعدم الصدور عن إخبار غير العدل, ثم ذكر بعد ذلك ما يحصل من البغي بين الناس وذكر علاجه، ثم حذر من ظن السوء بالناس, ثم حذر كذلك من الكبر والعجب, وحذر كذلك من الطعن في الناس، كالطعن في أنسابهم والغمز فيهم, وحذر كذلك من التنابز بالألقاب, وحذر من النميمة, وحذر من الغيبة, وبين أن الناس من أصلٍ واحدٍ, وأن أكرمهم عند الله هو أفضلهم, كل هذا في سورة واحدة تناولت دستورا، الدستور الاجتماعي للبشرية، وهو المنهج الإسلامي الاجتماعي الواضح في هذه السورة.
وكذلك فيما يتعلق بالسير الفردي وتعامله مع الناس، بين أيضاً في خواتيم سورة الفرقان في قول الله تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا * وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا * وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا * أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا [الفرقان:63-75], فهذا المنهج المتكامل إذا صار عليه الإنسان حقق كلما فيه مصلحة له في دينه ودنياه, وإذا أهمل جانباً منه فبقدر ذلك يكون النقص في حياته, إن هذا الإسلام يكفل للناس السعادة الكاملة, فمن لزمه وانطلق منه في حياته كان سعيداً في هذه الحياة, ليس بينه وبين الناس عداوات ولا شحناء ولا بغضاء، إلا على أساس هذا الدين الذي يكفل له كل مصالحه.
وكذلك عاش منعماً في حياته متصلاً بالله, فهو لا ييأس على ما فاته، ولا يفرح بما أوتي، وينعم بالاتصال بالله سبحانه وتعالى, ويتعزى به عن كل ما دونه، ويتقوى بالله سبحانه وتعالى على كل من سواه، فمن لزم هذا كان سعيداً في هذه الحياة الدنيا, لا تنتابه النوبات القلبية ولا الأزمات، ولا يمكن أن ينتحر عندما تشدد الأزمات على أهل الأرض، أما من ترك شيئاً من هذا المنهج, وانطلق من المناهج الأخرى وطلب السعادة في غير موضعها، فكثيراً ما يصاب بأزمة أو نوبة قلبية، أو يضطر إلى أن ينتحر ويقتل نفسه, ونسأل الله السلامة والعافية.
فلذلك علينا أن نراجع أنفسنا, فمن كان سلوكه لهذا المنهج الرباني ناقصاً فعليه أن يبادر لسلوكه, وليعلم أن ذلك متدرج في أربع خطوات:
الخطوة الأولى: هي أولاً: تعلم هذا المنهج, أن يتعلم ما جاه به الرسول صلى الله عليه وسلم, وكل أحد منكم مخاطب بأن يجعل من وقته جزءً لتعلم ما جاء النبي صلى الله عليه وسلم, ولو كان ذلك الوقت يسيراً, وإنما يكون ذلك الوقت بما لا يضر به في بدنه وما لا يفسد عليه في معاشه, ويمكن أن يتعلم من خلال سؤال أهل العلم، أو من سماع الأشرطة أو من قراءة الكتب، أو من الجلوس إلى أهل العلم، أو من شهود الصلاة في الجماعة وما يسمع معها من العلم, فالعلم ميسر سهل, ومن ازداد يومياً ولو بكلمةٍ واحدة مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقد اكتسب خيراً كثيرا، ومن لم يفعل فإنه لم يبارك له في ذلك اليوم, ولهذا جاء في الحديث: ( أي يومٍ لا أزداد فيه علماً فلا بورك في طلوع شمس ذلك اليوم ), وقد أمر الله رسوله الله صلى الله عليه وسلم بالازدياد من العلم فقال: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114].
الخطوة الثانية: هي العمل بكل شيء بلغ مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا بلغت الإنسان موعظة من ربه فعليه أن يبادر للأخذ بها, إذا جاءه أمر بادر إليه, وإذا جاءه نهي ابتعد منه، ويكون حينئذٍ أذنه عند لسانه الذي يقرأ به، وقلبه عند أذنه، وجوارحه عند قلبه, كيف يكون ذلك؟ عندما تقرأ القرآن تمره من خلال فمك على أذنك، فتنقله الأذن بكل أمانةٍ إلى القلب، فيفكر به القلب فما مررت به من أمرٍ نظرت هل أنت مطيع فيه أو عاصٍ؟ فإن كنت مطيعاً فهي نعمة تستحق الشكر, وإن كنت عاصياً فهي معصية تستحق التوبة, فتبادر حينئذٍ للشكر أو التوبة.
وإذا مر بك نهي عرضته كذلك على قلبك، فإن كنت مجتنباً له فهي نعمة تستحق الشكر, وإن كنت غير مجتنبٍ فهي معصية تستحق الاستغفار والتوبة, وإن جاءت موعظة بادرت إلى الانتفاع بها, وإن جاء فيه إرشاد بادرت إلى قبوله, وهكذا حتى تكون عائشاً في ضلال القرآن سائراً معه، غير محرومٍ من أنوار هذا الكتاب العزيز، المحفوظ بحفظ الله عز وجل.
ولهذا قال العلامة الشيخ محمد عالي رحمه الله:
ختم الكتاب تابع لحالي تاليه في الحل والارتحال
كثاقب الفهم الذي يعاني بفهمه لطائف المعاني
ومثله مدرس العلوم ونحوه كفاصل الخصومِ
فهؤلاء ختمهم بما لا يكون في أعمالهم إهمالا
ويقرأ التالي بالاستقلالي ما لا يجره إلى الملالِ
قراءة بينةً ومحكمة بدون تنطيط ودون هذرمة
والأذن عند اللفظ و القلب لدى أذني
ليرعى حق ما تقلدا من واجب الشكر أو المتأبِ
بحسب الوارد في الكتابِ.
فيعرض نفسه على هذا القرآن فإن وجد تقصيراً في جانب من الجوانب بادر لسده قبل أن تفوت الفرصة, فنحن نعلم أننا ممتحنون بهذا الكتاب، وبهذا الرسول صلى الله عليه وسلم، كما أخرجه مسلم في الصحيح من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم غير بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك ), فقد ابتلاه الله بتبليغ الرسالة فنجح وبلغ، وقال الله له: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ [الذاريات:54], وقال: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54], ثم بقي امتحاننا نحن بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، فهل ننجح في الامتحان الذي لا يسرق ولا يباع أو لا ننجح فيه؟ هذا السؤال ينبغي أن يراجع كل إنسانٍ منا نفسه فيه, وأن يعلم أن نجاحه في هذا الامتحان الذي هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي امتحنا به امتحان شاق، يحتاج فيه الإنسان إلى هاتين الدرجتين السابقتين إلى درجة التعلم وإلى درجة العمل.
ثم تأتي الدرجة الرابعة: وهي الدعوة إلى ما تعلمه الإنسان وعلمه..
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر